الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مشيخته: أخذ القرآن عن الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، وروى عن أبي يحيى بن عبد الرحيم، وأبي الوليد العطار، وأبي القاسم بن ربيع، وأبي الخطار بن خليل، وأخذ عن أبي عمر بن حوط الله بمالقة، وابن أبي ريحانة. وبسبتة على أبي بكر بن مشليون. وأجاز له أبو بكر بن محرز، وأبو الحسن الشّاري. وأخذ عن الأستاذ الناقد أبي الحسن علي بن محمد الكناني.
مولده: ولد بغرناطة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي قعدة سنة ثلاث وأربعين وستمائة.
وفاته: توفي بها سحر أول يوم من ذي قعدة سنة ثلاث وثمانين وستمائة.
عبد الله بن موسى بن عبد الرحمن بن حمّاد الصّنهاجي
يكنى أبا يحيى.
حاله: طالب نبيل فاضل، ورع زاهد، مؤثر في الدنيا بما تملّكه، تال لكتاب الله في جميع الأوقات.
أخباره في الإيثار: وجّه له السيد أبو إسحاق ابن الخليفة أبي يعقوب «1» خمسمائة دنير ليصلح بها من شأنه، فصرف جميعها على أهل السّتر في أقلّ من شهر. ومرّ بفتى في إشبيلية، وأعوان القاضي يحملونه إلى السّجن، وهو يبكي، فسأله، فقال: أنا غريب، وطولبت بخمسين دنيرا، وبيدي عقود، وطولبت بضامن فلم أجده، فقال: له الله، قال: نعم، قال: فدفع له خمسين دنيرا، قال: أشهد لك بها، فضجر وقال: إن الله إذا أعطى عبده شيئا لم يشهد به عليه، وتركه وانصرف لشأنه، وكانت عنده معرفة وأدب.
مولده: بغرناطة في سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
ومن ترجمة الكتّاب والشعراء بين أصلي وطارىء
عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي
«2»
من أهل بلّش، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن المرابع.
حاله: من نبهاء أدباء البادية، خشن الظاهر، منطو على لوذعيّة متوارية في مظهر جفوة، كثير الانطباع عند الخبرة، قادر على النظم والنثر، متوسّط الطّبقة فيهما، مسترفد بالشعر، سيّال القريحة، مرهوب الهجاء، مشهور المكان ببلده، يعيش من الخدم المخزنيّة، بين خارص وشاهد، وجدّ بذلك وقته، يوسّط رقاعته، فتنجح الوسيلة، ويتمشّى له بين الرّضا والسّخط الغرض.
وجرى ذكره في «التاج» بما نصّه «1» : «طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنّه بعقائل القوافي، شاب في الأدب وشبّ، ونشق ريح البيان لمّا هبّ، فحاول رفيعه «2» وجزله، وأجاد جدّه، وأحكم هزله. فإن مدح صدح، وإن وصف أنصف، وإن عصف قصف، وإن أنشأ ودوّن، وتقلّب في أفانين البلاغة وتلوّن، أفسد ما شاء الله وكوّن، فهو شيخ الطريقة الأدبيّة وفتاها، وخطيب حفلها كلّما أتاها، لا يتوقّف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترض. ولم تزل بروقه تتألّق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلّق، حتى برّز في أبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب لسطوة «3» لسانه، وألقت إليه الصّناعة زمامها، ووقفت عليه أحكامها. وعبر البحر منتجعا بسعره «4» ، ومنفقا في سوق الكساد من شعره «5» ، فأبرق وأرعد، وحذّر وتوعّد «6» ، وبلغ جهد إمكانه، في التّعريف بمكانه، فما حرّك ولا هزّ، وذلّ في طلب الرّفد وقد عزّ، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتاده.
شعره: قال في «التاج» : وقد أثبتّ من نزعاته، وبعض مخترعاته، ما يدلّ على سعة باعه، ونهضة ذراعه. فمن النسيب قوله «7» :[البسيط]
ما للمحبّ دواء يذهب الألما
…
عنه سوى لمم فيه ارتشاف لمى
ولا يردّ عليه نوم مقلته
…
إلّا الدّنوّ إلى من شفّه سقما
يا حاكما والهوى فينا يؤيّده
…
هواك فيّ بما ترضاه قد حكما
أشغلتني بك شغلا شاغلا فلم «8»
…
تناسى، فديتك، عنّي بعد ذاك لما؟
ملكت روحي فأرفق قد علمت بما
…
يلقى ولا حجّة تبقى لمن علما
ما غبت عنّي إلّا غاب عن بصري
…
بدرا إذا لاح يجلي نوره الظّلما
ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا
…
مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما
طوعا لطيعك لا أعصيك فافض بما
…
ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما
إنّ الهوى يقتضي ذلّا لغيرك لو
…
أفادني فيك قربا يبرّد الألما
سلمت من كل عيب يا محمد لا
…
كن قلب صبّك من عينيك ما سلما
ومن مخاطباته الأدبية، ما كتب به إلى شيخ الصّوفية ببلده مع طالع من ولده:
[الطويل]
مماليكم قد زاد فيكم مرابع
…
من الأفق الكوني باليمن طالع
بأنواركم يهدى إلى سبل الهدى
…
ويسمو لما تسمو إليه المطالع
فواسوه منكم بالدّعاء فإنه
…
مجاب بفضل الله للخلق نافع
أفاض عليه الله من بركاتكم
…
وأبقاكم ذو العرش ما جنّ ساجع
فوقّع له الشيخ المخاطب بها، أبو جعفر بن الزيات، رحمه الله، بما نصّه:
[الطويل]
عسى الله يؤتيه من العلم حصّة
…
تصوّب على الألباب منها ينابع
ويجعله طرفا لكلّ سجيّة
…
مطهّرة للناس فيها منافع
ويلحقه في الصالحات بجدّه
…
فيثني عليه الكلّ دان وشاسع
وذو العرش جلّ أسما عميم نواله
…
وخير الورى في نصّ ما قلت شافع
فما أنت دوني يا أباه مهنّأ
…
به فالسرور الكلّ بابنك جامع
وله يستدعي إلى الباكور: [الوافر]
بدار بدار قد آن البدار
…
إلى أكواس باكور تدار
تبدّت رافلات في مسوح
…
له لون الدّياجي مستعار
وقد رقمت بياضا في سواد
…
كأنّ الليل خالطه النّهار
وقد نضجت وما طبخت بنار
…
وهل يحتاج للباكور نار؟
ولا تحتاج مضغا لا وليس
…
عجيب لا يشقّ له غبار
فقل للخلق قل للضّرس دعني
…
ففي البلع اكتفاء واقتصار
وممّا وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره، مقطوعة سهلة وهي «1» :[المتقارب]
رعى الله عهدا حوى ما حوى
…
لأهل الوداد وأهل الهوى
أراهم أمورا حلا وردها
…
وأعطاهم السؤل كيف نوى «2»
ولمّا حلا الوصل صالوا له
…
وراموه مأوى وماء روى «3»
وأوردهم سر أسرارهم
…
وردّ إلى كلّ داء دوا «4»
وما أمل طال إلّا وهى
…
ولا آمل «5» صال إلّا هوى
وقال يرثي ديكا فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي من عدم أذانه، إلى غير ذلك من مستطرف شانه «6» :[البسيط]
أودى به الحتف لمّا جاءه الأجل
…
ديكا فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم
…
يثبت مع الحتف في بغيا لها «7» أمل
فقدته فلعمري إنها عظة
…
وبالمواعظ تذري دمعها المقل
كأنّ مطرف وشي فوق ملبسه
…
عليه من كلّ حسن باهر حلل
كأنّ إكليل كسرى فوق مفرقه
…
وتاجه فهو عالي الشّكل محتفل
مؤقّت لم يكن يحزى «8» له خطأ
…
فيما يرتّب من ورد ولا خطل «9»
كأنّ زرقيل «10» فيما مرّ علّمه
…
علم المواقيت فيما «11» رتّب الأول
يرحّل الليل يحيى بالصراخ فما
…
يصدّه كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهت «1» منه القوى فهوى
…
للأرض فعلا يريه الشّارب الثّمل
لو يفتدى بديوك الأرض قلّ له
…
ذاك الفداء «2» ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدّواء فلم يغن الدّواء «3» ولم
…
ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أمّلت فيه ثوابا أجر محتسب
…
إن قلت «4» ذلك «5» صحّ القول والعمل
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النّصريين في بعض أسفاره، وقد نظر إلى شلير «6» ، وتردّى بالثلج وتعمّم، وكمل ما أراد من بزّته وتمّم، أن ينظم أبياتا في وصفه، فقال بديهة «7» :[الطويل]
وشيخ جليل القدر قد طال عمره
…
وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باهر السّنا
…
وليس بثوب أحكمته يد البشر
وطورا «8» تراه كلّه كاسيا به
…
وكسوته فيها لأهل النّهى عبر
وطورا تراه عاريا ليس يشتكي «9»
…
لحرّ «10» ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرّت الأيام وهو كما ترى
…
على حاله لم يشك ضعفا ولا كبر
فذاك «11» شلير شيخ غرناطة التي
…
لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر «12»
بها ملك سامي المراقي أطاعه
…
كبار ملوك الأرض في حالة الصّغر
تولّاه ربّ العرش منه بعصمة
…
تقيه مدى الأيام من كلّ ما ضرر
نثره: ونثره كثير ما بين مخاطبات، وخطب، ومقطعات، ولعب، وزرديّات شأنها عجب. فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية:
يقول شاكر الأيادي: وذاكر فخر كل نادي، وناشر غرر الغرر للعاكف والبادي، والرائح والغادي، اسمعوا مني حديثا تلذّة الأسماع، ويستطرفه الاستماع، ويشهد بحسنه الإجماع، ويجب عليه الاجتماع، وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلّا لمثلي، ولا ذكرت عن أحد قبلي، وذلك يا معشر الألبّاء، والخلصاء الأحبّاء، أني دخلت في هذه الأيام داري، في بعض أدواري، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري، على حسب أطواري، فقالت لي ربّة البيت: لم جئت، وبما أتيت؟ قلت: جئت لكذا وكذا، فهات الغذا، فقالت: لا غذا لك عندي اليوم، ولو أودى بك الصّوم، حتى تسل الاستخارة، وتفعل كما فعل زوج الجارة، طيّب الله نجاره، وملأ بالأرزاق وجاره.
قلت: وما فعل قريني، وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت: إنه فكّر في العيد، ونظر في أسباب التّعييد، وفعل في ذلك ما يستحسنه القريب والبعيد، وأنت قد نسيت ذكره ومحوته من بالك، ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك، وعيد الأضحى في اليد، والنّظر في شراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت: صدقت، وبالحقّ نطقت، بارك الله فيك، وشكر جميل تحفّيك، فلقد نبّهت بعلك لإقامة السّنة، ورفعت عنه من الغفلة منّة. والآن أسير لأبحث عمّا ذكرت، وأنظر في إحضار ما إليه أشرت، ويتأتّى ذلك إن شاء الله بسعدك، وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك، والجدّ ليس من الهزل، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت: دعني من الخرافات، وأخبار الزّرافات، فإنّك حلو اللسان، قليل الإحسان، تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان، فتهاونت بالنّساء، وأسأت فيمن أساء، وعوّدت أكل خبزك في غير منديل، وإيقاد الفتيل دون قنديل، وسكنى الخان، وعدم ارتفاع الدّخان، فما تقيم موسما، ولا تعرف له ميسما، وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض، وكلانا في طرفي نقيض، إلى أن قلت لها: إزارك وردائي، فقد تفاقم بك أمر دائي، وما أظنّك إلّا بعض أعدائي، قالت: ما لك والإزار، شطّ بك المزار؟ لعلك تريد إرهانه في الأضحية والأبزار، اخرج عني يا مقيت، لا عمرت معك ولا بقيت، أو عدمت الدّين، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة، لا أغفيت معك سنة، إلّا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي، وأرى لك الرّبح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت، وابتدرت وهرولت، وجالت في العتاب وصوّلت، وضمّت بنتها وولدها، وقامت باللّجج والانتصار بالحجج أودها، فلم يسعني إلّا أن عدوت أطوف السّكك والشوارع، وأبادر لما غدوت بسبيله وأسارع، وأجوب الآفاق، وأسأل الرّفاق، وأخترق الأسواق، وأقتحم زريبة بعد زريبة، وأختبر منها البعيدة والقريبة، فما استرخصته استنقصته، وما استغليته استعليته، وما وافق غرضي، اعترضني دونه عدم عرضي، حتى انقضى ثلثا يومي، وقد عييت بدوراني وهومي، وأنا لم أتحصل من
الابتياع على فائدة، ولا عادت عليّ فيه من قضاء الأرب عائدة، فأومأت الإياب، وأنا أجد من خوفها ما يجد صغار الغنم من الذّئاب، إلى أن مررت بقصّاب يقصب في مجزره، قد شدّ في وسطه مئزره، وقصّر أثوابه حتى كشف عن ساقيه، وشمّر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه، وبين يديه عنز قد شدّ يديه في رقبته وهو يجذبه فيبرك، ويجرّه فما يتحرّك، ويروم سيره فيرجع القهقرى، ويعود إلى ورا، والقصاب يشدّ على إزاره، خيفة من فراره، وهو يقول: اقتله من جان باغ، وشيطان طاغ، ما أشدّه، وما ألذّه وما أصدّه، وما أجدّه، وما أكثره بشحم، وما أطيبه بلحم، الطّلاق يلزمه إن كان عاين تيسا مثله، أو أضحية تشبهه قبله، أضحية حفيلة، ومنحة جليلة. هنّأ الله من رزقها، وأخلف عليها رزقها. فاقتحمت المزدحم أنظر مع من نظر، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتّخمين، ولا أفرّق بين العجف والسّمين، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار، وهيكلا يخبرك عن صورة العمّار، فقلت للقصّاب: كم طلبك فيه، على أن تمهل الثّمن حتى أوفيه؟ فقال: ابغني فيه أجيرا، وكن له الآن من الذّبح مجيرا، وخذه بما يرضي، لأول التقضّي. قلت:
استمع الصوت، ولا تخف الفوت. قال: ابتعه مني نسيّة، وخذه هديّة، قلت: نعم، فشقّ لي الضمير، وعاكسني فيه بالنّقير والقطمير، قال: تضمن لي فيه عشرين دينارا، أقبضها منك لانقضاء الحول دنيّرا دنيّرا، قلت: إنّ هذا لكثير، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال: والذي فلق الحبّة، وبرّأ النّسمة، لا أنقصك من هذا، وما قلت لك سمسمة، اللهمّ إن شئت السّعة في الأجل، فأقضي لك ذلك دون أجل، فجلبني للابتياع منه الإنساء في الأمد، وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأي والد ولا ولد، ولا أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد، وقلت: قد اشتريته منك فضع البركة، ليصحّ النّجح في الحركة. فقال: فقيه بارك الله فيه قد بعته لك، فاقبض متاعك، وثبّت ابتياعك، وها هو في قبضك فاشدد وثاقه، وهلمّ لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التّوثيق، وابتدرت من السّعة إلى الضّيق، وأوثقني بالشادّة تحت عقد وثيق، وحملني من ركوب الدّين ولحاق الشّين في أوعر طريق. ثم قال لي: هذا تيسك فشأنك وإياه، وما أظنّك إلّا تعصياه، وأت بحمّالين أربعة فإنك لا تقدر أن ترفعه، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه، ولم يبق لك من الكلفة إلّا أن يحصل في محلّك، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمّال وقلت: هلم إليّ، وقم الآن بين يديّ، حتى انتهينا إلى مجزرة القصّاب، والعنز يطلب فلا يصاب، فقلت: أين التّيس، يا أبا أويس؟ قال: إنه قد فرّ، ولا أعلم حيث استقرّ. قلت: أتضيع عليّ مالي، لتخيب آمالي، والله لا يحزنك بالعصا، كمن عصا، ولا رفعتك إلى الحكّام، تجري عليك منهم الأحكام. قال: ما لي علم به، ولا بمنقلبه، لعلّه فرّ لأمّه وأبيه، وصاحبته
وبنيه، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق، وجيران الزّقاق، من ثقف لي تيسا فله البشارة، بعد ما أتى بالأمارة، وإذا برجل قد خرج من دهليز، وله هدير وهزيز، وهو يقول: من صاحب العنز المشوم؟ لا عدم به الشّوم، إن وقعت عليه عيني، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت: أنا صاحبه فما الذي دهاك منّي، أو بلغك عنّي. قال: إن عنزك حين شرد، خرج مثل الأسد، وأوقع الرّهج في البلد، وأضرّ بكل أحد، ودخل في دهليز الفخّارة فقام فيه وقعد، وكان العمل فيه مطبوخا ونيّا، فلم يترك منه شيا، ومنه كانت معيشتي، وبه استقامت عيشتي، وأنت ضامن مالي، فارتفع معي إلى الوالي، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور، ويكرّ كرّة العفريت المزجور، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدّهليز من الطّواجن والقدور، والخلق قد انحسروا للضجيج، وكثر العياط والعجيج، وأنت تعرف عفرطة الباعة، وما يحوون من الوضاعة، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع، وأروم الإطاعة من غير مطيع، والباعة قد أكسبته من الحماقة، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول: المحتسب، واعرف ما تكتسب، وإلى من تنتسب، فقد كثر عنده بك التّشكّي، وصاحب الدهليز قبالته يبكي، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى، وأيقن أنك كسرت الدّعوى، وأمر بإحضارك، وهو في انتظارك، فشدّ وسطك، واحفظ إبطك، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على الباعة ونصب لأرباب البراهين، على أرباب الشّواهين، ورفع على طبقة، ليملأ طبقة، ثم أمسكني باليمين، حتى أوصلني للأمين، فقال لي: أرسلت التّيس للفساد، كأنك في نعم الله من الحسّاد. قلت: إنه شرد، ولم أدر حيث ورد. قال: ولم لا أخذت ميثاقه، ولم تشدّد وثاقه، يا شرطي طرّده، واطرح يدك فيه وجرّده. قلت: أتجرّدني الساعة، ولست من الباعة؟ قال: لا بدّ من ذاك، أو تضمن ما أفسده هناك؟ قلت:
الضّمان الضّمان، الأمان الأمان. قال: قد أمّنت، إن ضمنت، وعليك الثّقاف، حتى يقع الإنصاف، أو ضامن كاف، فابتدر أحد إخواني، وبعض جيراني، فأدّى عني ما ظهر بالتّقدير، وآلت الحال للتّكدير. ثم أردت الانصراف بالتّيس، لا كان كيانه، ولا كوّن مكانه، وإذا بالشّرطي قد دار حولي، وقال لي: كلف فعلي بأداء جعلي، فقد عطّلت من أجلك شغلي، فلم يك عندي بما تكسر سورته، ولا بما تطفي جمرته، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجّهت لداري، وقد تقدّمت أخباري، وقدمت بغباري، وتغيّر صغاري وكباري، والتّيس على كاهل الحمّال يرغو كالبعير، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير، فلقت للحمال: أنزله على مهل، فهلال التّعييد قد استهلّ، فحين طرحه في الأسطوان، كرّ إلى العدوان، وصرخ كالشيطان، وهمّ أن يقفز الحيطان، وعلا فوق الجدار، وأقام الرّهجة في الدار، ولم تبق في الزقاق عجوز إلّا وصلت لتراه، وتسأل عمّا اعتراه، وتقول: بكم اشتراه، والأولاد قد دارت به
وأرهقهم لهفه، ودخل قلوبهم خوفه، فابتدرت ربّة البيت، وقالت: كيت وكيت، لا خلّ ولا زيت، ولا حيّ ولا ميت، ولا موسم ولا عيد، ولا قريب ولا بعيد، سقت العفريت إلى المنزل، ورجعت بمعزل، ومن قال لك اشتره، ما لم تره، ومن قال لك سقه، حتى توثّقه، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، ومتى تطبخ القدور، وولدك منه معذور، وبأيّ قلب تأكل الشّويّة، ولم تخلص لك فيه النيّة، ولقلّة سعدها، وأخلف وعدها، والله لو كان العنز، يخرج الكنز، ما عمر لي دارا، ولا قرب لي جوارا، اخرج عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السّمان، والضّأن الرّفيعة الأثمان، يا قليل التّحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التّفصيل، أدلّك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كلّ طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشّعير، ودبّر عليه أحسن تدبير، لا بالصّغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت: بيّني لي قولك، لأتعرّف فعلك، وأين توجد هذه الصّفة، يا قليلة المعرفة. قالت: عند مولانا، وكهفنا ومأوانا، الرئيس الأعلى، الشّهاب الأجلى، القمر الزّاهر، الملك الظّاهر، الذي أعزّ المسلمين بنعمته، وأذلّ المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.
وفاته: في كائنة الطاعون ببلده بلّش في أواخر عام خمسين وسبعمائة، ودفن بها.
عبد الله بن إبراهيم بن وزمّر الحجاري «1» الصّنهاجي
الأديب المصنّف، يكنى أبا محمد.
حاله وأوليته: أبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة «2» ، المصنّف للمأمون بن ذي النون «3» كتاب «مغنيطاس الأفكار، فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر
والأخبار» . وكان أبو محمد هذا ماهرا، كاتبا، شاعرا، رحّالا. سكن مدينة شلب «1» بعد استيلاء العدو على بلاده بالثّغر. وله «2» في التّحوّل أشعار وأخبار. قدم غرناطة وقصد عبد الملك بن سعيد، صاحب القلعة «3» من بنيّاتها، واستأذن عليه في زيّ موحش، واستخفّ به القاعدون ببابه، إلى أن لاطف بعضهم، وسأله أن يعرّف به القائد، فلما بلّغ عنه، أمر بإدخاله، فأنشده قصيدة مطلعها «4» :[الوافر]
عليك أحالني الذّكر الجميل
…
فجئت ومن ثنائك لي دليل «5»
أتيت ولم أقدّم من رسول
…
لأنّ القلب كان هو الرّسول
منها في وصف زيّه البدوي المستقل وما في طيّه:
ومثّلني بدنّ فيه خمر «6»
…
يخفّ بها «7» ومنظره ثقيل
فأكرم نزله، وأحسن إليه، وأقام عنده سنة، حتى ألّف بالقلعة كتاب «المسهب، في غرائب «8» المغرب» ، وفيه التّنبيه على الحلى البلادية والعبّادية. وانصرف إلى قصد ابن هود بروطة، بعد أن عذله عن التّحوّل عنه، فقال: النّفس توّاقة، وما لي بالتّغرّب طاقة، ثم أفكر وقال:[الطويل]
يقولون لي: ماذا الملال تقيم في
…
محلّ فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم: مثل الحمام إذا شدا
…
على غصن أمسى بآخر نازلا
نكبته: قال علي بن موسى بن سعيد «9» : ولمّا قصد الحجاري روطة، وحلّ لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود «10» ، وتحرّك لغزو من قصده من
البشكنس، فهزم جيشه، كان «1» الحجاري أحد من أسر في تلك الوقيعة، فاستقرّ ببسقاية «2» ، وبقي بها مدّة، يحرّك ابن هود بالأشعار ويحثّه على خلاصه من الإسار، فلم يجد عنده ذمامة، ولا تحرّك له اهتمامه، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله:
[السريع]
أصبحت في بسقاية مسلما
…
إلى الأعادي لا أرى مسلما
مكلّفا ما ليس في طاقتي
…
مصفّدا منتهرا مرغما
أطلب بالخدمة، وا حسرتي!
…
وحالتي تقضي بأن أخدما
فهل كريم يرتجى للأسير
…
يفكّه، أكرم به منتمى
وقوله: [الخفيف]
أرئيس الزمان أغفلت أمري
…
وتلذّذت تاركا لي بأسر؟
ما كذا يعمل الكرام ولكن
…
قد جرى على المعوّد دهري
فاجتهد في فدائه، ولم يمرّ شهر إلّا وقد تخلص من أسره، واستقرّ لديه، فكان طليق آل سعيد، وفيهم يقول «3» :
وجدنا سعيدا منجبا خير عصبة
…
هم في بني أعصارهم «4» كالمواسم
مشنّفة أسماعهم بمدائح «5»
…
مسوّرة أيمانهم بالصّوارم
فكم لهم في الحرب من فضل ناثر!
…
وكم لهم في السّلم من فضل ناظم
تواليفه: وتواليف الحجاري بديعة، منها «الحديقة» في البديع، وهو كتاب مشهور، ومنها «المسهب في غرائب المغرب» ، وافتتح خطبته بقوله:«الحمد لله الذي جعل العباد، من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد، والأسياف من الأغماد» . وهو في ستة مجلدات.