الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع عشر في غزوة حمراء الأسد
اختلفوا في سببها، فقال ابن إسحاق ومتابعوه: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرهبا للعدوّ، وليبلغهم أنه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم.
وقال موسى بن عقبة، ومحمد بن عمر الأسلمي: السّبب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه إن أبا سفيان وأكثر من معه يريدون أن يرجعوا ليستأصلوا من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينئذ حثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الخروج في طلب العدوّ.
ويؤيّد هذا ما رواه الفريابيّ والنّسائي والطبراني بسند صحيح، عن ابن عباس قال: لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئسما صنعتم، ارجعوا.
فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فندب المسلمين، فانتدبوا. وذكر الحديث.
قال محمد بن عمر: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أحد، يوم السبت، باتت وجوه الأوس والخزرج على بابه خوفا، من كرّة العدوّ، فلمّا طلع الفجر من يوم الأحد أذّن بلال، وجلس ينتظر خروج النبي صلى الله عليه وسلم، فأتى عبد الله بن عمرو بن عوف المزنيّ يطلب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج قام إليه وأخبره أنه أقبل من أهله، حتى إذا كان بملل [ (1) ] إذا قريش قد نزلوا، فسمع أبا سفيان وأصحابه يقولون: ما صنعتم شيئا، أصبتم شوكة القوم وحدّهم ثم تركتموهم ولم تبيدوهم، فقد بقي فيهم رؤوس يجمعون لكم، فارجعوا نستأصل من بقي. وصفوان بن أمية يأبى ذلك عليهم، ويقول: يا قوم، لا تفعلوا فإن القوم قد حربوا وأخاف أن يجتمع عليكم من تخلّف من الخروج، فارجعوا والدولة لكم، فإنّي لا آمن أن رجعتم أن تكون الدولة عليكم،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرشدهم صفوان وما كان برشيد، والذي نفسي بيده لقد سوّمت لهم الحجارة ولو رجعوا لكان كأمس الذّاهب» .
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، فذكر لهما ما أخبره به المزنيّ، فقالا: يا رسول الله، اطلب العدوّ، ولا يقحمون على الذّرّيّة. فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصبح ندب الناس، وأمر بلالا أن ينادي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم بطلب عدوّكم، ولا يخرج معنا إلا من شهد القتال بالأمس. وقال أسيد بن حضير- وبه تسع جراحات وهو يريد أن يداويها لمّا سمع النّداء-: سمعا وطاعة لله ورسوله، ولم يعرّج على دواء جرحه، وخرج من بني سلمة أربعون جريحا، بالطّفيل بن النعمان ثلاثة عشر جرحا، وبخراش بن الصّمّة عشر
[ (1) ] ملل: موضع في طريق بمكة بين الحرمين [انظر مراصد الاطلاع 3/ 1309] .
جراحات وبكعب بن مالك بضعة عشر جرحا، وبقطبة بن عامر تسع جراحات، ووثب المسلمون إلى سلاحهم، وما عرّجوا على دواء جراحاتهم.
قال ابن عقبة: وأتى عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أنا راكب معك.
فقال: «لا» .
قال ابن إسحاق وابن عمر: وأتى جابر بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن مناديك نادى ألّا يخرج معنا إلا من حضر القتال بالأمس، وقد كنت حريصا على الحضور، ولكنّ أبي خلّفني على أخوات لي سبع- وفي لفظ: تسع، وهو الصحيح- وقال: يا بني لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجل معهنّ، وأخاف عليهنّ وهن نسيّات ضعاف، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلّف على إخوتك، وأنا خارج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعل الله تعالى يرزقني الشهادة، وكنت رجوتها فتخلّفت عليهنّ، فاستأثر عليّ بالشهادة، فأذن لي يا رسول الله أسر معك، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر: فلم يخرج معه أحد لم يشهد القتال بالأمس غيري. واستأذنه رجال لم يحضروا القتال فأبى ذلك عليهم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلوائه، وهو معقود لم يحلّ من الأمس، فدفعه إلى علي بن أبي طالب، ويقال: دفعه إلى أبي بكر الصديق، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مجروح في وجهه إثر الحلقتين، وهو مشجوج في جبهته في أصول الشّعر ورباعيته قد شظيت، وشفته السفلى قد كلمت من باطنها، وهو متوهّن منكبه الأيمن، لضربة ابن قمئة- لعنه الله تعالى- وركبتاه مجحوشتان، فدخل صلى الله عليه وسلم المسجد، فركع فيه ركعتين والناس قد حشدوا، كما نزل أهل العوالي حيث جاءهم الخبر.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرسه «السّكب» على باب المسجد، ولم يكن مع أصحابه صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد فرس إلا فرس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقّاه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه وقد سمع المنادي فخرج ينظر: متى يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه الدّرع والمغفر، وما يرى منه إلا عيناه،
فقال: «يا طلحة، أين سلاحك؟» قال: قريب يا رسول الله فخرج فأتى بسلاحه، وإذا به في صدره تسع جراحات، وقال: ولأنا أهمّ بجراح رسول الله صلى الله عليه وسلم منّي بجراحي، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طلحة فقال:«أين ترى القوم الآن؟» ، قال: هم بالسّيّالة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذلك الذي ظننت، أما إنّهم يا طلحة لن ينالوا منّا مثلها حتى يفتح الله تعالى مكة علينا» .
وكان دليله صلى الله عليه وسلم، إلى حمراء الأسد ثابت بن ثعلبة الخزرجيّ.
وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم طليعة من آثار القوم: سليطا، ونعمان ابني سفيان بن طلق بن عوف بن دارم من بني سهم، ومعهما ثالث من بني عوير- بطن من أسلم- لم يسمّ لنا، فلحق اثنان منهم القوم، بحمراء الأسد، وللقوم زجل وهم يأتمرون بالرجوع، وصفوان بن أميّة ينهاهم عن ذلك، فبصروا بالرجلين فعطفوا عليهما فقتلوهما ومضوا.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، حتى عسكر بحمراء الأسد، فدفن الرجلين في قبر واحد، وهما القرينان.
وذكر ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، واللفظ له: إن عبد الله بن سهل ورافع بن سهل من بني عبد الأشهل رجعا من أحد، وبهما جراح كثيرة، وعبد الله أثقلهما من الجراح، فلما سمعا بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره به، قال أحدهما لصاحبه، والله إنّ تركنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لغبن، والله ما عندنا دابة نركبها، وما ندري كيف نصنع؟ قال عبد الله: انطلق بنا، قال رافع: لا، والله ما بي مشي، قال أخوه: انطلق بنا نتجارّ ونقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرجا يتزاحفان، فضعف رافع، فكان عبد الله يحمله على ظهره عقبة، ويمشي الآخر عقبة، ولا حركة به، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند العشاء، وهم يوقدون النيران،
فأتي بهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى حرسه تلك الليلة عباد بن بشر- فقال: «ما حبسكما؟» فأخبراه بعلّتهما، فدعا لهما بخير وقال:«إن طالت بكما مدة كانت لكم مراكب من خيل وبغال وإبل، وليس ذلك بخير لكم» .
ويقال: إن هذين أنس ومؤنس ابنا فضالة الظّفريّين، ولا مانع من أن يكون ذلك حصل للأولين والآخرين.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: وكان عامّة زادنا التمر، وحمل سعد بن عبادة رضي الله عنه ثلاثين بعيرا حتى وافت حمراء الأسد، وساق جزرا، فنحروا في يوم اثنين وفي يوم ثلاثة.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرهم في النهار بجمع الحطب فإذا أمسوا أمر أن توقد النّيران، فيوقد كلّ رجل نارا، فلقد أوقدوا خمسمائة نار حتى رئيت من مكان بعيد، وذهب ذكر معسكر المسلمين ونيرانهم في كل وجه، وكان ذلك مما كبت الله به عدوّه، فأقام بحمراء الأسد الاثنين والثلاثاء والأربعاء.
ولقي معبد بن أبي معبد الخزاعيّ وهو يومئذ مشرك.
وجزم عمرو بن الجوزي في التلقيح بإسلامه، وكانت خزاعة- مسلمهم وكافرهم- عيبة نصح للنبي صلى الله عليه وسلم، بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئا كان بها، فقال: يا محمد، والله
لقد عزّ علينا ما أصابك في نفسك وما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله تعالى أعلى كعبك، وأنّ المصيبة كانت بغيرك.
ثم مضى معبد ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد، حتى أتى أبا سفيان بن حرب ومن معه الرّوحاء، وقد أجمعوا الرّجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أصبنا خير أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم لنكرّنّ على بقيّتهم فلنفرغنّ منهم، فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: هذا معبد وعنده الخبر: ما وراءك يا معبد؟ قال: تركت محمدا وأصحابه قد خرج يطلبكم في جمع لم أر مثله قطّ، يتحرّقون عليكم تحرّقا، وقد اجتمع معه من كان تخلّف عنه بالأمس، من الأوس والخزرج، وتعاهدوا ألّا يرجعوا حتى يلحقوكم، فيثأروا منكم، وغضبوا لقومهم غضبا شديدا، وندموا على ما فعلوا، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قطّ، قال:
ويلك! ما تقول! قال: والله ما أرى أن ترحل حتى ترى نواصي الخيل، قال: فو الله لقد أجمعنا الكّرة عليهم لنستأصل بقيتهم، قال: فإني أنهاك عن ذلك، وو الله لقد حملني على ما رأيت أن قلت فيهم أبياتا من شعر، قال: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي
…
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة
…
عند اللّقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدوا أظنّ الأرض مائلة
…
لمّا سموا برئيس غير مخذول
فقلت: ويل ابن حرب من لقائكم
…
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إنّي نذير لأهل البسل ضاحية
…
لكلّ ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة
…
وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
فثنى ذلك، مع كلام صفوان، أبا سفيان ومن معه، وفتّ أكبادهم، فانصرفوا سراعا خائفين من الطّلب.
ومرّ ركب من عبد القيس بأبي سفيان فقال: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينة. قال:
ولم؟ قالوا: نريد الميرة، قال: فهل أنتم مبلّغون عنّي محمدا رسالة أرسلكم بها إليه وأوقر لكم أباعركم زبيبا غدا بعكاظ إذا وافيتموها؟ قالوا: نعم، قال: إذا وافيتم محمدا فأخبروه أنّا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيّتهم وأنّا في آثاركم. فانطلق أبو سفيان، وقدم الراكب برسول الله صلى الله عليه وسلم، بحمراء الأسد، فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران 173] .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ذلك قبل رجوعه إلى المدينة معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية. وكان لجأ إلى عثمان بن عفان، فاستأمن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمّنه على إن
وجد بعد ثلاث قتل، فأقام بعد ثلاث وتوارى، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، وقال: إنكما ستجدانه بموضع كذا وكذا، فوجداه فقتلاه.
وأخذ أيضا أبا عزّة الجمحيّ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، ثم منّ عليه، فقال: يا رسول الله أقلني،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا تمسح عارضيك بمكة»
وتقول: خدعت محمدا مرتين، أضرب عنقه يا زبير، فضرب عنقه.
قال ابن هشام: وبلغني عن سعيد بن المسيّب إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين»
اهـ.
والحديث رواه البخاري وغيره عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وزاد الكشميهنيّ والسّرجينيّ من رواة الصحيح: «من جحر واحد» [ (1) ] .
وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن أقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء.
وقال البلاذريّ: غاب عن المدينة خمسا، وأنزل الله سبحانه وتعالى:
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. دعاءه بالخروج للقتال لمّا أراد أبو سفيان العود.
وتواعدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سوق بدر العام المقبل من يوم أحد.
مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ بأحد.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا [آل عمران، 172] بطاعته.
أَجْرٌ عَظِيمٌ هو الجنة.
الَّذِينَ بدل من الذين قبله أو نعت.
قالَ لَهُمُ النَّاسُ أي نعيم بن مسعود والأشجعيّ.
إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجموع ليستأصلوكم.
فَاخْشَوْهُمْ ولا تأتوهم.
فَزادَهُمْ ذلك القول إِيماناً تصديقا بالله تعالى ويقينا.
وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كافيا أمرهم.
وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران 173] المفوّض إليه الأمر هو.
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ بسلامة.
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 529 (6133) ومسلم 4/ 2295 (63- 2998) .