الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر مّا» ، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشّرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله تعالى نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام، وهدانا له، وأعزّنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
وروى البزار والطبراني عن أبي هريرة رضي الله عنه نحو ذلك مختصرا قال: [جاء الحارث] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد ناصفنا تمر المدينة وإلا ملأتها عليك خيلا ورجالا، فقال حتى أستأمر السّعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وسعد بن الرّبيع، وسعد بن خيثمة، وسعد بن مسعود، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقالوا: لا، والله ما أعطينا الدّنيّة في أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله تعالى بالإسلام، فرجع إلى الحارث فأخبره، فقال: غدرت يا محمد [ (1) ] .
ذكر قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه عمرو بن عبد ود العامري
روى البيهقي عن ابن إسحاق، ومحمد بن عمر عن شيوخه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام مرابطا والمشركون يحاصرونه. قال ابن إسحاق: بضعا وعشرين ليلة قريبا من شهر، ولم يكن بينهم قتال لأجل ما حال من الخندق، إلا الرّمي بالسهام والحجارة، ثم إن رؤساء المشركين وسادتهم أجمعوا على أن يغدوا جميعا لقتال المسلمين فغدا أبو سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطّاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص ونوفل بن معاوية الدّيلميّ- وأسلموا بعد ذلك- ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد ود، في عدّة ومعهم رؤساء غطفان: عيينة بن حصن، والحارث بن عوف، ومسعود بن رخيل- بالخاء المعجمة والتصغير- وأسلم الثلاثة بعد ذلك. ومن بني أسد رؤوسهم، وتركوا الرجال خلوفا فجعلوا يطوفون بالخندق يطلبون مضيقا، يريدون أن يقحموا خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتيمّموا مكانا من الخندق ضيّقا قد أغفله المسلمون، فجعلوا يكرهون خيلهم ويضربونها حتى اقتحمت، فعبر عكرمة، ونوفل بن عبد الله، وضرار بن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد ود، وأقام سائر المشركين من وراء الخندق، ولم يعبروا، فقيل لأبي سفيان: ألا تعبر قال: قد عبرتم، فإن احتجتم لنا عبرنا، فجالت بالذين دخلوا خيلهم في السّبخة بين
[ (1) ] ذكره الهيثمي في المجمع 6/ 135 وعزاه للبزار والطبراني.
الخندق وسلع، وخرج نفر من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي أقحموا منها خيلهم، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عمرو بن عبد ودّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، وارتثّ فلم يشهد أحدا، فحرّم الدّهن حتى يثأر من محمد وأصحابه، وهو يومئذ كبير. قال ابن سعد: إنه بلغ تسعين سنة، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم المسمّين،
فلما كان يوم الخندق خرج ثائر الرأس معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيله دعا إلى البراز، فقام علي بن أبي طالب، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطاه سيفه وعمّمه، وقال:
«اللهمّ أعنه عليه» ، فمشى إليه وهو يقول:
لا تعجلنّ فقد أتا
…
ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نيّة وبصيرة
…
والصّدق من خير الغرائز
إني لأرجو أن أقي
…
م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يب
…
قى ذكرها عند الهزاهز
ثم قال له: يا عمرو إنك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحد إلى واحدة من ثلاث إلا قبلتها، قال: أجل، فقال على: فإني أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتسلم لرب العالمين، قال: يا بن أخي أخّر عنّي هذه، قال: وأخرى ترجع إلى بلادك، فإن يك محمد صادقا كنت أسعد الناس به، وإن يك كاذبا كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تحدّث به نساء قريش أبدا، وقد نذرت ما نذرت، وحرّمت الدّهن، قال: فالثالثة؟ قال:
البراز. فضحك عمرو وقال: إن هذه لخصلة ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومني عليها، فمن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال: يا بن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك، فإني أكره أن أهريق دمك، فقال علي رضي الله عنه: لكنّي والله لا أكره أن أهريق دمك.
فغضب عمرو، فنزل عن فرسه وعقرها، وسلّ سيفه كأنه شعلة نار، ثم أقبل نحو عليّ مغضبا، واستقبله عليّ بدرقته، ودنا أحدهما من الآخر وثارت بينهما غبرة، فضربه عمرو فاتّقى عليّ الضّربة بالدّرقة فقدّها، وأثبت فيها السيف، وأصاب رأسه فشجّه.
قال البلاذريّ: ويقال: إن عليّا لم يجرح قطّ وضربه عليّ على حبل عاتقه فسقط وثار العجاج، وقيل: طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقّه، فسقط. وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم التكبير فعرف أنّ عليّا قد قتله.
فثمّ علي رضي الله عنه يقول:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه
…
ونصرت ربّ محمّد بصوابي
فصدرت حين تركته متجدّلا
…
كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنّني
…
كنت المقطّر بزّني أثوابي
لا تحسبنّ الله خاذل دينه
…
ونبيّه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشّعر يشكّ فيها لعلي رضي الله عنه.
ثم أقبل علي رضي الله عنه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجهه يتهلّل، ولم يكن للعرب درع خير من درعه، ولم يستلبه لأنه اتّقاه بسوءته، فاستحياه، وخرجت خيولهم منهزمة حتى اقتحمت الخندق. قال ابن هشام: وألقى عكرمة بن أبي جهل رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو. فقال حسان بن ثابت في ذلك:
فرّ وألقى لنا رمحه
…
لعلّك عكرم لم تفعل
وولّيت تعدو كعدو الظّليم
…
ما إن تجور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا
…
كأنّ قفاك قفا فرعل
ورجع المشركون هاربين، وخرج في آثارهم الزبير بن العوام وعمر بن الخطاب فناوشوهم ساعة، وحمل الزبير بن العوام على نوفل بن عبد الله بالسيف حتى شقّه باثنين، وقطع أبدوج سرجه، حتى خلص إلى كاهل الفرس، فقيل: يا أبا عبد الله ما رأينا مثل سيفك، فقال: والله ما هو السيف، ولكنها الساعد.
وحمل الزّبير أيضا على هبيرة بن أبي وهب فضرب ثفر فرسه، فقطع ثفره، وسقطت درع كان محقبها الفرس، فأخذها الزّبير، فلما رجعوا إلى أبي سفيان قالوا: هذا يوم لم يكن لنا فيه شيء فارجعوا.
قال الحاكم: سمعت الأصمّ، قال: سمعت العطارديّ، وقال: سمعت الحافظ يحيى بن آدم يقول: ما شبّهت قتل عليّ عمرا إلا بقوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ [البقرة 251] .
قال ابن إسحاق، كما رواه البيهقي عنه: وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشترون جيفة عمرو بن عبد ودّ بعشرة آلاف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هو لكم لا نأكل ثمن الموتى» [ (1) ] .
وروى الإمام أحمد والتّرمذيّ والبيهقي عن ابن عباس قال: قتل المسلمون يوم الخندق رجلا من المشركين، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ابعث إلينا بجسده، ونعطيكم اثني عشر ألفا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا خير في جيفته ولا في ثمنه، ادفعوه إليهم فإنه خبيث الجيفة، خبيث الدّية» ، فلم يقبل منهم شيئا.
[ (1) ] انظر البداية والنهاية 4/ 107.