الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يدعو به، ثم نضح من ذلك الماء عليها، فيقول من حضرها: والذي بعثه بالحق إنها عادت كالكثيب المهيل ما تردّ فأسا ولا مسحاة، فأخذ المعول من سلمان، وقال:«بسم الله» ، وضرب ضربة فكسر ثلثها، وبرقت برقة فخرج نور من قبل اليمن فأضاء ما بين لابتي المدينة حتى كأنّ مصباحا في جوف ليل مظلم، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«أعطيت مفاتيح اليمن، إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني السّاعة، كأنّها أنياب الكلاب» ، ثم ضرب الثانية فقطع ثلثا آخر، وبرق منها برقة فخرج نور من قبل الرّوم فأضاء ما بين لابتي المدينة فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني الساعة» . ثم ضرب الثالثة فقطع بقية الحجر وبرق برقة من جهة فارس أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبّر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:«أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب من مكاني هذا، وأخبرني جبريل أنّ أمّتي ظاهرة عليها، فأبشروا بالنّصر» . فاستسرّ المسلمون، وقالوا: الحمد لله موعد صادق، بأن وعدنا النصر بعد الحصر، وجعل يصف لسلمان، فقال سلمان: صدقت يا رسول الله، هذه صفته، أشهد أنك رسول الله.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه فتوح يفتحها الله تعالى بعدي يا سلمان، لتفتحنّ الشّام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، وليفتحنّ هذا المشرق، ويقتل كسرى فلا يكون كسرى بعده»
[ (1) ] .
قال سلمان: فكلّ هذا قد رأيت.
قال أبو هريرة- فيما رواه بن إسحاق- حين فتحت هذه الأمصار زمان عمر، وزمان عثمان ومن بعده:«افتحوا ما بدا لكم، فو الذي نفس أبي هريرة بيده ما فتحتم من مدينة ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلا وقد أعطى الله تعالى محمدا مفاتيحها قبل ذلك» .
فقال المنافقون: يخبركم محمد أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى وأنها تفتح لكم وأنتم تحفرون الخندق، ولا تستطيعون أن تبرزوا، فأنزل الله تبارك وتعالى:
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 12] .
ذكر الآيات التي وقعت لما أصابتهم المجاعة في حفر الخندق
روى الشيخان، ومحمد بن عمر، والحاكم، والبيهقي عن جابر بن عبد الله، والطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهم:
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 303.
أن جابرا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عاصبا بطنه بحجر من الجوع وأنهم لبثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ذواقا. قال جابر: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزل فأذن لي، فذهبت فقلت لامرأتي: أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم خمصا شديدا، ما في ذلك صبر، فعندك شيء؟
قالت: عندي صاع من شعير وعناق، فأخرجت إناء فيه صاع من شعير، وذبحت العناق، وطحنت الشعير، وجعلنا اللّحم في البرمة، فلما انكسر العجين وكادت البرمة أن تنضج وأمسينا، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الانصراف- قال: وكنا نعمل نهارا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهلنا- قالت لي: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. فشبّك أصابعه في أصابعي وقال:
كم هو؟ فذكرت له، فقال: كثير طيّب لا تنزلنّ برمتكم ولا تخبزنّ عجينكم حتى أجيء، وصاح رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا أهل الخندق إن جابرا قد صنع لكم سورا فحيّ، هلا بكم» ، وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الناس، ولقيت من الحياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وقلت:
جاء الخلق، والله إنها للفضيحة على صاع من شعير وعناق، فدخلت على امرأتي فقلت:
ويحك! جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، فقالت: بك وبك، وفي رواية: هل سألك؟ قلت: نعم. وفي رواية: قالت: أنت دعوتهم أو هو؟ قلت: بل هو دعاهم. قالت: دعهم، الله ورسوله أعلم، نحن قد أخبرناه بما عندنا. فكشفت عنّي. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
«ادخلوا عشرة عشرة، ولا تضاغطوا» ، فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك، ثم عمد إلى برمتنا فبصق فيها وبارك، فقال لنا:«اخبزوا واغرفوا وغطّوا البرمة، ثم أخرجوا الخبز من التّنّور، وغطّوا الخبز» ، ففعلنا، فجعلنا نغرف ويغطّي البرمة، ثم يفتحها فما نراها نقصت شيئا، ويخرج الخبز من التّنّور، ثم يغطّيه فما نراه نقص شيئا، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللحم، ويقرّب إلى أصحابه ويقول لهم:«كلوا» . فإذا شبع قوم قاموا، ثم دعا غيرهم حتى أكلوا وهم ألف، وانحرفوا وإن برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو، فقال:«كلوا واهدوا، فإنّ الناس أصابتهم مجاعة شديدة» . فلم نزل نأكل ونهدي يومنا ذلك أجمع، فلّما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب ذلك [ (1) ] .
وروى ابن إسحاق، وأبو نعيم عن أبنة لبشير- بفتح الموحدة- ابن سعد أخت النعمان ابن بشير رضي الله عنه، قالت: بعثتني أمّي بجفنة تمر في طرف ثوبي إلى أبي وخالي عبد الله بن رواحة، وهم يحفرون في الخندق، فناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته فأخذ التّمر منّي في كفّه فما ملأها، وبسط ثوبا فنثره عليه فتساقط- وفي لفظ فتبدّد- في جوانبه، ثم قال
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 456 (4101) .