الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود، والحارث بن زمعة، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له، وقد ذهب بصره:
انظر هل أحد انتحب؟ هل بكت قريش على قتلاها؟ لعليّ أبكي على أبي حكيمة- بضم الحاء المهملة وفتح الكاف- يعني زمعة فإنّ جوفي قد احترق، فلمّا رجع إليه الغلام قال: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلّته. قال عبّاد: فذاك حين يقول الأسود:
تبكّي أن يضلّ لها بعير
…
ويمنعها من النّوم السّهود
فلا تبكي على بكر ولكن
…
على بدر تقاصرت الجدود
على بدر شراة بني هصيص
…
ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكّي إن بكيت على عقيل
…
وبكّي حارثا أسد الأسود
وبكّيهم ولا تسمي جميعا
…
وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال
…
ولولا يوم بدر لم يسودوا
قال الزبير بن بكّار: يريد أبا سفيان بن حرب، كان رأس قريش في سيرهم إلى أحد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على الأسود هذا بأن يعمي الله تعالى بصره، ويثكل ولده، فاستجاب الله تعالى سبق العمى إلى البصر أولا، ثم أصيب يوم بدر بمن نفاه من ولده، فتمّت إجابة الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فيه.
ذكر فرح النجاشي بوقعة بدر
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن يزيد عن جابر، عن عبد الرحمن- رجل من أهل صنعاء- قال: أرسل النجاشي ذات يوم إلى جعفر بن أبي طالب وأصحابه فدخلوا عليه، وهو في بيت عليه خلقان، جالس على التراب. قال جعفر بن أبي طالب: أشفقنا منه حين رأيناه على تلك الحالة، فلما أن رأى ما في وجوهنا. قال: إني أبشّركم بما يسرّكم، إنه قد جاءني من نحو أرضكم عين لي، فأخبرني أن الله تعالى قد نصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأهلك عدوه فلان وفلان التقوا بواد يقال له: بدر، كثير الأراك، كأني أنظر إليه، كنت أرعى به لسيدي- رجل من بني ضمرة- إبله، فقال له جعفر: ما بالك جالس على التراب ليس تحتك بساط، وعليك هذه الأخلاق؟ قال: إنا نجد فيما أنزل الله تعالى على عيسى صلى الله عليه وسلم إن حقّا على عباد الله تعالى أن يحدثوا لله عز وجل تواضعا، عند ما يحدث لهم نعمة، فلما أحدث الله تعالى نصر نبيه صلى الله عليه وسلم أحدثت له هذا التواضع.
ذكر إرسال قريش في فداء الأسارى
روى ابن سعد عن الشعبي قال:
كان أهل مكة يكتبون وأهل المدينة لا يكتبون، فمن لم يكن له فداء دفع إليه عشرة غلمان من غلمان المدينة، يعلّمهم فإذا حذقوا فهم فداؤه، وكان زيد بن ثابت ممن علّم.
وروى أبو داود، عن ابن عباس رضي الله عنهما إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة، وادّعى العبّاس أنه لا مال عنده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، وقلت لها: إن أصبت في سفري هذا لبنيّ: الفضل، وعبد الله، وقثم؟»
فقال: والله إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا الشي ما علمه إلّا أنا وأمّ الفضل.
وروى البيهقي، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السّدّي، قال: كان فداء العبّاس، وعقيل ابن أخيه، ونوفل، كل رجل أربعمائة دينار.
قال ابن إسحاق: وكان أكثر الأسارى فداء يوم بدر فداء العبّاس، فدى نفسه بمائة أوقية من ذهب.
روى ابن سعد من طريق إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن أبيه قال: لما أسر نوفل يوم بدر قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «افد نفسك برماحك التي بجدة» ،
فقال:
والله ما علم أحد أنّ لي بجدّة بعد الله غيري، أشهد أنك رسول الله، ففدى نفسه بها، وكانت ألف رمح [ (1) ] .
روى البخاري والبيهقي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله: ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه، قال:«لا والله لا تذرون منه درهما» ، قال: وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء الرجل أربعة آلاف إلى ألفين إلى ألف ومنهم من منّ عليه لأنه لا مال له [ (2) ] .
قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السّهميّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ له بمكة ابنا كيّسا تاجرا ذا مال، وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه» ،
فلما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسراكم، لا يأرب عليكم محمد وأصحابه. قال المطّلب بن أبي وداعة- وأسلم يوم الفتح-: نعم، صدقتم لا تعجلوا، وانسلّ من الليل فقدم المدينة، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به فكان أول أسير فدي، ثم بعثت قريش في فداء أسراها، فقدم جبير بن مطعم- وأسلم بعد ذلك- في فداء الأسرى، وقدم مكرز- بكسر الميم ويجوز الفتح أيضا وبسكون الكاف وفتح الراء- ابن حفص في فداء سهيل بن عمرو، وكان
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 4/ 1/ 31.
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 373 (4018) .
الذي أسره مالك بن الدخشم أحد [بني نبهان] بن عوف فقال: مالك:
أسرت سهيلا فلم أبتغ ب
…
هـ غيره من جميع الأمم
وخندف تعلم أنّ الفتى
…
سهيلا فتاها إذا يظلم
ضربت بذي الشّفر حتّى انثنى
…
وأكرهت نفسي على ذي العلم
وكان سهيل أعلم من شفته السّفلى، فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا:
هات الذي لنا، قال: اجعلوا رجلي مكان رجله وخلّوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائكم، فخلّوا سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا، وكان سهيل قد قام في قريش خطيبا عند ما استنفرهم أبو سفيان للعير كما تقدم،
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني أنزع ثنيّتي سهيل بن عمرو يدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيّا، وإنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمّه» .
وكان عمرو بن أبي سفيان بن حرب أسيرا في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر، أسره علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل لأبي سفيان: افد عمرا ابنك، قال: أيجمع عليّ دمي ومالي، قتلوا حنظلة وأفدي عمرا، دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم. فبينا هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكّال أخو بني عمرو بن عوف، ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مريّة له، وكان شيخا مسلما في غنم له بالنّقيع، فخرج من هناك معتمرا ولا يخشى الذي صنع به، لم يظن أنه يحبس بمكة، إنما جاء معتمرا، وقد كان عهد أن قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا أو معتمرا إلا بخير، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة، فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان:
أرهط ابن أكّال أجيبوا دعاءه
…
تعاقدتم لا تسلموا السّيّد الكهلا
فإنّ بني عمرو لئام أذلّة
…
لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا
فأجابه حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:
لو كان سعد يوم مكّة مطلقا
…
لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة
…
تحنّ إذا ما أنبضت تحفز النّبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروا خبره، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبي سفيان، فيفكّوا به صاحبهم، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلّى سبيل سعد.
وكان في الأسارى أبو العاص بن الربيع ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوج ابنته زينب، أسره
خراش بن الصّمّة،
فلما بعثت قريش فداء الأسرى بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص وأخيه عمرو بن الرّبيع بمال، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقّة شديدة، وقال:
«إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردّوا عليها مالها فافعلوا» ،
فقالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه وردّوا عليها الذي لها.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يخلّي سبيل زينب إليه، وكان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعلم ما هو، إلا أنه
لما خرج بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلا من الأنصار، مكانه، فقال:«كونا ببطن يأجح حتى تمرّ بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها» ،
فخرجا مكانهما، وذلك بعد بدر بشهر أو شيعه، فلما قدم أبو العاص مكّة أمرها باللّحوق بأبيها، فخرجت تجهّز، فكان ما سيأتي في الحوادث.
وقال جماعة من الأسارى لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العبّاس: إنا كنا مسلمين، وإنما خرجنا كرها فعلام يؤخذ منا الفداء؟ فانزل الله تعالى فيما قالوا: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ من الأُسارى وفي قراءة: الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً، إيمانا وإخلاصا يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ومن الفداء بأن يضعّفه لكم في الدّنيا ويثيبكم في الآخرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسارى خِيانَتَكَ بما أظهروا من القول فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ قبل بدر بالكفر فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ببدر قتلا وأسرا فليوقّعوا مثل ذلك إن عادوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ [الأنفال 70، 71] في صنعه.
وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، وأبو نعيم في الدّلائل، وإسحاق بن راهويه في سنده، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم والطبراني، وأبو الشيخ عن طرق، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن إسحاق، وأبو نعيم، عن جابر بن عبد الله بن رئاب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسر يوم بدر سبعين من قريش، منهم العبّاس وعقيل، فجعل عليهم الفداء أربعين أوقية من ذهب.
قال سعيد بن جبير: وجعل على العباس مائة أوقية، وقالوا أربعين، وعلى عقيل ثمانين أوقية، فقال العباس: لقد تركتني فقير قريش ما بقيت، فانزل الله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى [الأنفال: 70] الآية. قال العباس حين أنزلت: لوددت أنك كنت أخذت مني أضعافها فأتاني الله خيراً منها أربعين عبدا، كلّ في يده ماله يضرب به، وإني أرجو من الله المغفرة.
وروى البخاري وابن سعد عن أنس: «إن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمال من البحرين فقال: «انثروه في المسجد» ، فكان أكثر مال أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله
أعطني، إني فأديت نفسي وفأديت عقيلا، فقال:«خذ» . فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إليّ، قال:«لا» ، قال: فارفعه أنت عليّ، قال:«لا» ، فنثر منه، ثم ذهب يقلّه فلم يستطع، فقال: مر بعضهم يرفعه إليّ. قال: «لا» ، قال: فارفعه أنت عليّ، قال:«لا» ، فنثر منه، ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق وهو يقول: إنما آخذ ما وعد الله، فقد أنجز، فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا، عجبا من حرصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثمّ منها درهم [ (1) ] .
ومنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من الأسارى يوم بدر من قريش بغير فداء. منهم: أبو عزّة عمرو بن عبد الله الجمحيّ، وكان محتاجا ذا عيال، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لقد عرفت مالي من مال، وإني لذو حاجة وذو عيال فامنن عليّ، فمنّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ عليه ألّا يظاهر عليه أحدا، فقال أبو عزّة في ذلك يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر فضله في قومه:
من مبلغ عنّي الرّسول محمّدا
…
بأنّك حقّ والمليك حميد
وأنت امرؤ تدعو إلى الحقّ والهدى
…
عليك من الله العظيم شهيد
وأنت امرؤ بوّئت فينا مباءة
…
لها درجات سهلة وصعود
فإنّك من قاربته لمحارب
…
شقيّ ومن سالمته لسعيد
ولكن إذا ذكّرت بدرا وأهله
…
تأوب ما بي حسرة وقعود
وذكر ابن عقبة أنّ المسلمين جهدوا على أبي عزّة هذا أن يسلم عند ما أسر ببدر، فقال:
لا حتى أضرب في الخزرجيّة يوما إلى الليل.
قال أبو الربيع: وما وقع في شعره ومحاورته رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أعلم له مخرجا إن صحّ، إلا أن يكون ذلك من جملة ما قصد به أبو عزة أن يخدع به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاد على عدوّ الله ما قصد، ولم يخدع إلا نفسه وما شعر، وسيأتي بيان ذلك في غزوة حمراء الأسد، بعد أحد.
ومنهم: وهب بن عمير بن وهب الجمحيّ، قدم أبوه عمير في فدائه، وحاول الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، لاتفاقه مع صفوان بن أمية على ذلك فأظهر الله تعالى رسوله عليه فأعلمه به، فكان ذلك سبب إسلامه، كما سيأتي ذلك في المعجزات، إن شاء الله تعالى.
[ (1) ] أخرجه البخاري (421- 3165) .