الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقوله تعالى: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
يؤكد أن العذاب يبدأ بصعود أرواحهم ، قبل أن يقبروا. فهو في القبر من باب أولى كما جاءت إشارة القرآن إلى عذاب القبر في قوله تعالى:(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)
(سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) .
اختلف المفسرون في المراد من العذاب الأول ، هل هو فضيحة المنافقين أو المرض والبلاء ، أو القتل والسبى ولكنهم لم يختلفوا في أن المراد من العذاب الثانى في الآية الكريمة هو عذاب القبر الذي يعقبه عذاب عظيم وهو عذاب الآخرة ، أما قوله تعالى في آل فرعون:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)
اعتبر العلماء هذه الآية هى الأصل في الاستدلال على عذاب القبر.
وفيها إشارة إلى ما ذهبنا إليه من أن قانون العذاب في القبر يختلف عن قانون الحياة الدنيا.
فلكل مرحلة قانونها. وآل فرعون (يعرضون) على النار في الدنيا. في مرحلة البرزخ - أما في الآخرة (فيدخلون) النار.
وفى خواطر فضيلة الشيخ محمد متولى الشعراوى. أن عذاب القبر (عرض) للعذاب.
أما عذاب الآخرة (فدخول) في العذاب.
وفى تفسير الفخر الرازي: الغدو والعشي - كناية عن كل الأوقات. كقوله تعالى عن أهل الجنة: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)
كيف يكون القبر مرقدا
؟
استدل الذين ينكرون عذاب القبر بقوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
قالوا: إن وصف القبر بأنه (مرقد) يتنافى مع وقوع العذاب فيه.
والواقع أن الكفار خرجوا من عذاب القبر فشاهدوا عذاب الآخرة فاعتبروا عذاب القبر كأنه (مرقدا) بالنسبة لعذاب الآخرة.
إنَّ عذاب الآخرة للروح وللجسد ولا نهاية له.
وعذاب الآخرة تبلى فيه السرائر ويفضح فيه ما في الصدور.
وبعد:
إن مرحلة البرزخ مرحلة غيبية. والغيب نقتصر فيه على ما أخبر صاحب الغيب.
ومرحلة البرزخ لها قانون خاص يختلف عن قانون الحياة الدنيا. ونحن في الدنيا نعلم أن لليقظة قانون وللنوم قانون. وما ذكرته من أن مرحلة البرزخ للروح فقط يجنبنا صعوبات كبيرة في التصور.
فكيف نتصور (سعة القبر) ماديا إلى منتهى البصر؟ لكن تصوره روحيا يتفق مع طبيعة الإسلام التي تحترم عقولنا. ويتفق مع طبيعة اللغة العربية التي تبيح الانتقال من المعنى الظاهر إلى المجاز اللغوي لقرينة مانعة من إرادة المعنى الظاهر. يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى:
(النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا)
يقول: دلت الآية على عرض الأرواح على النار غدوا وعشيا في البرزخ ، وليس في الآية دليل على اتصال تألمها بالجسد في القبر.
وهذا بالاضافة إلى ما سبق أن ذكرناه من نعيم الجنة وأن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسبح في السماء ، فدلالة هذه الأحاديث على الروحية واضحة ومع سبح الأرواح في الجنة.. فلم تنقطع صلتها بالأجساد.
فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يزور شهداء أحُد في قبورهم ، مع أنه أخبر أن أرواحهم تسبح في الجنة.
الله وحده يعلم سر هذه المرحلة ولكن الحياة هى حقيقة ، وقد استراح صحابة النبي صلى الله عليه وسلم عندما قبلوا هذه الحقائق
بمجرد أن أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بها ، دون سؤال أو مناقشة في تفصيلها ، ذلك لأنهم آمنوا بما هو أكبر منها ، وهو إيمان بالآخرة ، وما فيها من نعيم وعذاب للروح وللجسد.
وبعد:
فالروح أنت. وهى سرُّ حياتك ، ومقياس عظمتك الروح جوهرة ، والجسد صندوقٌ فاخرٌ يحميها فقط.
تحتاج إلى غذاء وغذاؤها التقوى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)
ويلزمها كساء. ولباسها التقوى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ)
نظافتها التوبة: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
تأنس بحبيبها سبحانه وتسعد بمعيته: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)
الكلمات لا تقوى على نقل سرها ، لأن الورق موصل رديء للحرارة الروحية. ولكن.. من ذاق عَرف.
من غلبت عليه يرهق جسده ، فيشعر بلذة عالية.
ما سرُّ أن يحاول الحجيج العودة إلى بيت الله الحرام ، مع ما يعانونه من مشقة؟
لقد أدوا الفريضة.
فما سرُّ الإصرار على العودة؟
إنَّ أحرص الناس على السفر للحج هم الذين سبق لهم أداء الحج.
والشباب الذين يسافرون في رحلات الدعوة إلى الله سلوهم عن المتعة التي يشعرون بها وهم ينتقلون من بلد إلى بلد.
إن صوت الروح يعلوا كل نداء.
يقول أحدهم: نحن نشعر بلذة لو شعر بها الملوك لحاربونا عليها بالسهام.
ونحن الآن حصيلتنا من المعارف الدينية موفورة. ولكن نعاني خواء روحياً.
ما سرُّ ذلك؟ ما سرُّ البرود الروحى عند كثير من المتدينين؟
هل السبب هو المنهج (البدوي) الذي يدرس به الإسلام للشباب.
إنَّ كثير من الدعاة انشغلوا بتصحيح الانحرافات الفكرية ومقاومة البدع.
عن تغذية الروح، فنتج جيل من الشباب المتدين تلمس في عقله الذكاء وفى علمه سعة ، وفى قوله بلاغة ، ولكنه بارد الأنفاس ، بادي الجفوة ، غليظ القلب.
وقد أدرك الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت أن الجانب العقلى وحده لا يكفى لبناء المسلم، بل لابد من العنصر الروحى.
إنَّ الخليل إبراهيم وولده اسماعيل عليهما السلام أدركا أن تعليم الكتاب والحكمة لا يكفى في إصلاح الأمم وإسعادها.
حتى يقترن بالتربية على الفضائل ، والحمل على العمل الصالح عن طريق يوجب احترامه وتقديسه من القلب.
ويشعر الوجدان بقوته، فقال إبراهيم وإسماعيل:
(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)
فلابد من تعليم الكتاب والحكمة.
ولكن التزكية للنفس والعمل الدائم على تطهيرها ضرورة أكبر.
وقد استجاب الله لإبراهيم وأرسل نبينا صلى الله عليه وسلم.
وجعل معجزته الأولى هى القرآن ، والمعجزة الثانية نجاحه في تربية الأمة وتزكيتها:(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)
وقد صحح الله دعوة إبراهيم. وأعاد ترتيبها ، فقدم
(التزكية) على تعليم الكتاب والحكمة.
إنَّ الأمة بحاجة إلى خبراء في التربية الروحية.
يعيدون الشباب إلى منهج الله.
إنَّ الله رغب المؤمنين بالجنة وهو سبحانه أعلم بالنفوس.
والنبى صلى الله عليه وسلم عندما أخذ العهد على من حضر بيعة العقبة الثانية أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأولادهم، وأن ينصروا دعوته.
سأله أحدهم: فماذا لنا إن وفينا يارسول الله؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم -: الجنة.
وعدهم بالجنة، لأن الجنة بضاعة الأنبياء. لم يعدهم بالملك ولا الثراء. ولكن وعدهم بالجنة.
وقد أثمرت هذه التربية، فعندما نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر: لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
فقال عمير بن الحمام - وفى يده تمرات يأكلهن: قال: بخٍ، بخٍ.
أفما بينى وبين الجنة إلا أن يقتلوننى، ثم قذف بالتمرات من يده.
وأخذ سيفه وقاتل حتى قتل.
لقد أدت عقيدة الجزاء دورها.
فالروح إن نعلي شأنها نحظَ بطاقات لا نهائية من الخير.