الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال تعالى:
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
بعد أن ساق القرآن الأدلة الأربعة من الجنين والنبات، والمطر، والنار
قدم دليلاً آخر على صدق البعث وهو القسم على أن هذا القرآن كريم وأنه منزل من عند الله. لأن نزول القرآن يلزم عنه صدق البعث.
وآيات القسم في القرآن كثيرة.
وقد أفردتها بالدراسة في الجزء الرابع من كتابى (حتى لا نخطئ فهم القرآن) ولا يفوتنا هنا أن نوجز القول عن آيات القسم التي تتعلق بموضوع السورة الكريمة.
القسم خطاب للفطرة:
وقع القسم على النفس كبير. خصوصا إذا كان هذا القسم قد صدر من عظيم.
والعرب بفطرتهم حتى المشركين منهم كانوا يؤمنون بعظمة الخالق وإن أخطأ بعضهم تصورها ، بنسبة الشركاء له سبحانه لذلك تعجب أعرابيٌّ عندما سمع قوله تعالى:(وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)
تعجب الأعرابب وقال: من أغضب رب العرش حتى جعله يقسم؟
فالقسم يؤكد المعنى المقسم عليه في نفوس المخاطبين.
وقد أقسم سبحانه على صدق البعث.
قال تعالى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ) (1)
- - - - - - - - - -
(1)
قال المرحوم الشيخ رشيد الخطيب الموصلى: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) العرف ضد النكر ، وهو قسم بآيات الله الهادية إلى العرف الذي لا نكرة فيه (فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الآيات المنذرة للمنكرين (وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا)
الآيات الناشرة للنور والهداية (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا) القرآن الذي أنزله الله ليفرق بين الحق والباطل (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا) عذرا أو نذراً آيات الوعد والوعيد والعذر الفوز والنجاح ، ومن المفسرين من فسر القسم بالرياح المرسلة ومنهم من فسره بالملآئكة والله أعلم
وأقسم سبحانه بمظاهر القيامة (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)
(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ)
كما أقسم بالقيامة نفسها (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)
وقد أقسم الله سبحانه على حتيمية مجيء القيامة ليؤكد أمرها.
قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)
كل هذا ليؤكد عقيدة الجزاء ويوصلها إلى النفس بشتى الطرق وهذا بعض أغراض القسم في القرآن. (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
هنا يقسم الله بالكون على نزول القرآن من عند الله. لأن القرآن عند ما تستقر قضية نزوله من عند الله في القلب والعقل فإن النفس تطمأن للبعث.
وقد تكرر القسم بالكون على نزول القرآن من عند الله.
قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)
والرسول الكريم في هذه الآيات هو ملك الوحي.
أما سورة الحاقة (38 إلى 43) فقد جائت فيها
آية جامعة لكل ما أقسم الله به في القرآن. لأن كل شيء أقسم الله سبحانه به إما مادى من شأنه أن تدركه الأبصار كالنجم والتين والزيتون والخيل العاديات في الجهاد ، وإما غير مادى لا تدركه الأبصار.
كالقسم بذاته سبحانه وملآئكته. ولكنه في سورة الحاقة أقسم الله بما نبصر وبما لا نبصر.
فهو أشمل قسم في القرآن لأنه مع إيجازه جمع كل ما أقسم الله به قال تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ)
والرسول الكريم هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم كما تدل على ذلك بقية الآيات.
وعلى هذا فيمكن أن نفهم الآية الكريمة فهماً آخر.
إنَّ كفار مكة كانوا ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيرون فيه يتيم قريش ولا يرون فيه النبوة.
فأقسم سبحانه بما يبصرون من اليتيم الأمي وبما لا يبصرون من النبوة والوحى. تكريما لمنبته ونبوته ، والله سبحانه عندما يقسم بالكون على نزول القرآن فإن ذلك يؤكد حقيقة كبيرة من حقائق العقيدة الإسلامية وهى أنه لا خلاف أبداً بين حقيقة كونية وآية قرآنية.
وأى خلاف بين حقيقة كونية وآية قرآنية سببه خطأنا في فهم القرآن.
لأن الذي خلق الكون هو الذي أنزل القرآن وكلام الله وخلقه لا يختلفان. (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)
هذا بالنسبة للحقائق الكونية:
أما النظريات المفسرة للكون والحياة فإن اختلفت مع القرآن فسبب ذلك هو قصور البشر في فهم أسرار الكون ، وما نجهله من أسرار الكون أضعاف ما نعرف.
إنَّ معجزة القرآن العلمية يمكن أن أوجزها في كلمة واحدة وهى: أنَّ العلم الحديث استطاع أن يخطأ أو يصوب كل تفسير
للكون قاله العلماء قديما ولكنه لم يستطع أن يخطأ تفسير واحداً للكون والحياة قاله القرآن: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
(فَلَا أُقْسِمُ) كلمة لا في اللغة العربية تزاد وتحذف.
تزاد لتقوية الكلام وتوكيده. نحو قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ)
(مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) : أى ليعلم.
وجاءت في الشعر العربى:
وتلحينى في اللهو أن لا أحبه
…
وللهوى داع دائب غير غافل
فاللام تزاد للتوكيد. فهل (لا) في قوله تعالى: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ)
هل هى زائدة للتوكيد؟ أم نافية؟
وإذا كانت نافية فأي شيء نفته؟
قيل: هى نافية ومنفيها شيء تقدم الحديث عنه كثيراً في القرآن.
وهو عكس المقسم عليه. وإنما صح ذلك لأن القرآن كالسورة الواحدة. بمعنى أن المنفى بها هنا هو إنكار نزول القرآن من عند الله.
والمنفى بها في أول سورة القيامة (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)
هو مجموع شبه المنكرين للبعث فكأن الله يقول لكل شبه المنكرين: (لا) ثم يقول أقسم بيوم القيامة.
وذكر ابن هاشم أن منفيها (أقسم) .
وذلك على أن يكون أخباراً لا إنشاء.
قال واختاره الزمخشرى. قال: والمعنى في ذلك أنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له.
بدليل قوله تعالى (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
فكأنه قال: إن تعظيمه بالإقسام به كلا إعظام.
أي أنه يستحق إعظام فوق الإعظام.
وقيل إنها زائدة لمجرد التوكيد كقوله تعالى: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)
والمعنى: ليعلم. ولا زائدة للإمعان في التوكيد
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
(بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) : التي أقسم بها لفْتَةٌ قرآنية لسرٍّ جديد من أسرار الكون ، لم تكن الدنيا تعرف عنه أي شيء ، عندما نزل هذا القرآن من عند الله.
لذلك قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
لكن الناس يومها لم تكن تعلم عنه أي شيء.
لأن دراسة مواقع النجوم لم تبدأ إلا في القرن الخامس عشر الميلادى.
وقد ذكر الشيخ نديم الجسر. في كتابه القيم (قصة الإيمان) : أن هناك علاقة رياضية ثابتة بين أبعاد النجوم هذه العلاقة تهدم كل قول بالمصادفة ، فالمتواليات الهندسية للأرقام.. صفر - 3 - 6 - 12 - 24 - 48 - 96 - وهكذا.
لو أضفنا لكل عدد منها الرقم 4 ثم ضربنا حاصل الجمع في 9 مليون. فسوف نحصل على الأبعاد التي بين الشمس وكواكب المجموعة الشمسية مع فروق قليلة.
فمثلا: صفر + 4 = 4 × 9 مليون = 36 مليون.
وهذه هى المسافة بين الشمس وعطارد.
3+4= 7×9مليون =63 مليون وهذه هى المسافة بين الشمس والزهرة.
6+4=10×9مليون =90 مليون
المسافة بين الشمس والأرض
12+4 =16 × 9 مليون = 144 مليون وهذه هى المسافة بين الشمس والمريخ.
24+ 4 = 28 × 9 مليون = 252
وجدوا مجموعة كويكبات صغيرة تدور في الفراغ
48 +4 = 52 × 9 مليون = 468 مليون
متوسط المسافة بين الشمس والمشترى
96 + 4 = 100 × 9 مليون = 900 مليون
متوسط المسافة بين الشمس وزحل
192 + 4 = 196 × 9 مليون = 1764 مليون
متوسط المسافة بين الشمس وأورانوس
384 + 4 = 388 × 9 مليون = 3492 مليون
وهى متوسط المسافة بين نبتون والشمس
إنَّ العلاقة الثابتة بين مواقع النجوم تؤكد عظمة القرآن في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)
ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
يقول الأستاذ على عبد العظيم في مقال نشر بمجلة
(الوعي الإسلامي) : ونحن نعلم أن المجموعة الشمسية بكواكبها التسع وأقمارها العديدة وما تضمه من مذنبات مثل مذنب (هالي) هى جزء من المجرة ، وأن المجرة تضم نحو مائة ألف مليون مجموعة شمسية في كل منها كواكب عديدة وأقمار كثيرة ومذنبات وغبار كوني ، وأن الكون الفسيح يضم نحو ألف مليون مجرة ، وأقرب المجرات إلينا تبعد نحو سبعمائة ألف سنة ضوئية ، والسنة الضوئية تقدر بما يقطعه الضوء من مسافات مقدارها ثلاث مائة ألف كيلوا في الثانية الواحدة.
وأقرب شمس إلينا هى (الفيا سينتيورى) وتبعد عنا نحو أربع سنوات ضوئية. فالكون مشحون بالمجرات والكواكب ، وكل كوكب له مجاله الذي يسبح فيه. والعلماء يذكرون أمراً عجيبا في حركة الكوكب يذكرون أن المجرات بملاين الكواكب التابعة لها يتداخل بعضها في بعض وترقص الكواكب حول نفسها وحول كواكب المجرة الأصل وتظل هكذا حتى تخرج هذه المجرة من مجال جارتها تخرج ومعها كل كواكبها.
كل هذا ولا يصطدم كوكب بكوكب..
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)
(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) ، لأن الذي تفضل به على عباده لهدايتهم اله كريم ورسول الوحي الذي أوصله إلى النبي ملك كريم. والنبي الذي تلقاه وبلغه للناس نبى كريم. والخلق الذي دعى إليه القرآن خلق كريم. ثم القرآن بعد كل هذا كتاب كريم لأنه يجود على كل دارس في ميدان تخصصه بعطاء ، يبدأ من حيث ينتهى تخصص العلماء.
(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
فى كتاب مكنون في الملأ الاعلى ، قبل نزوله على النبي صلى الله عليه وسلم وقد أشار القرآن إلى هذه المرحلة بقوله تعالى:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ
مَحْفُوظٍ)
ظل القرآن في لوح محفوظ لا يصل إليه علم البشر ولا يسعد بالنظر إليه سوى الملآئكة المقربون. وقد أكدت سورة عبس هذا المعنى.
قال تعالى: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
ولعل هذا سر قول الرسول صلى الله عليه وسلم (الذى يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذى يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران) متفق عليه
أما قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
فقد كاد فقهاء المسلمين أن يجمعوا على أن مس المصحف لا يجوز إلا للمتوضئ.
ومن أجاز ذلك بغير وضوء أجازه للتعليم فقط.
أما للتعبد بتلاوته فلابد من الوضوء. لأن دراسة القرآن عند المسلمين أوجبت هذا الحكم.
ولكن الخلاف بين الفقهاء ، يدور حول النقاط الآتية:
أولا: هل قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
هو مصدر الحكم في وجوب التطهر. أم هناك مصدر آخر أخذ منه الحكم؟
من استدل بالآية الكريمة على وجوب الوضوء اعترض عليه بأن لفظ الآية خبرى. وأن (لا) في قوله تعالى: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
نافية وليست ناهية. لأنها لو كانت ناهية لجزم الفعل بعدها.
وأجاب أصحاب هذا الرأي بأن الآية الكريمة وإن كانت خبرية لفظاً إلا أنها إنشائية معنى.
فلفظها الخبر ومعناها النهى، وهذا النوع من الآيات موجود كثيرا في القرآن الكريم ومن ذلك قوله تعالى:(وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)
فاللفظ خبرى والمعنى طلبى.
فمعنى الآية لا تنفقوا إلا ابتغاء مرضات الله.
ومنه أيضا قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)
والمعنى لا تسفكوا دمائكم فالمعنى نهى عن سفك الدماء وإن كان اللفظ خبرياً (1)
- - - - - - - - - -
(1)
قصد بالتعبير بالجمل الخبرية عن المعانى الإنشائية هو الإشعار بسرعة استجابة المأمورين بالأمر. فكأن الله سبحانه قال لهم لا تنفقوا إلا ابتغاء مرضات الله ، فاستجاب المؤمنون لأمره سبحانه فأخبر عن حالهم بعد الاستجابة بأنهم فعلا أصبحوا لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله.
وقد ورد هذا التعبير في السنة المطهرة في قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" فاللفظ خبرى والمعنى النهى.
ولكن هذا الرد مع وجاهته لم يسلم من الاعتراض.
فقد اعترض بأن نقل الآية من معناها الخبرى إلى المعنى الإنشائى لا يجوز إلا لضرورةٍ مانعةٍ من إرادة المعنى الأصلي ولا ضرورة هنا.
ثانيا: أن سورة الواقعة مكية وموضوعها هو تقرير عقيدة البعث وإثبات نزول القرآن من عند الله ، فلا يجوز صرفها عن موضوعها إلى حكم فرعى وهو مس المصحف.
وقد استدل ابن تيمية رحمه الله على الحكم الشرعي من وجه لطيف. فقال: إن الآية الكريمة تدل على الحكم من باب (الإشارة) فإذا كان الله تبارك وتعالى يخبر أن المصحف المطهر في السماء لا يمسه إلا المطهرون فالمصحف الذي بين أيدينا كذلك ينبغى أن لا يمسه إلا طاهر.
وفى كتاب مدارج السالكين مناقشة لرأي ابن تيمية فقد نفى ابن القيم - غفر الله له - وجود أي علاقة بين الآية الكريمة وبين الحكم الشرعي ، والرأي الذي عليه الجمهور أن الحكم الشرعي مستفاد من السنن وليس للآية دخل فيه.
لأن الآية الكريمة تتكلم عن (الكتاب المكنون) والقرآن جزء منه.
قال تعالى: (فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ)
قال الإمام مالك في الموطأ أحسن ما سمعت في تفسير الآية الكريمة: (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
أنها مثل آية عبس التي ذكرتها ، وعلى هذا فالحكم الشرعي مصدره السنة المطهرة.
فقد ذكر أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى أهل اليمن وجاء فيها:.. وألا يمس القرآن إلا طاهر
وقصة إسلام عمر بن الخطاب. يستأنس بها فقد منعته أخته من لمس المصحف حتى يتوضأ فالحكم ثابت بالسنة.
والآية لا علاقة لها بهذا الحكم ، إلا بمقدار الإشارة كما قال ابن تيمية والمطهرون هم الملآئكة أما المؤمنون فمتطهرون قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)
(فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا)
فالآية تتحدث عن اللوح المحفوظ لأنه أقرب مذكور (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)
وفى قراءة الجنب للقرآن خلاف بين العلماء.
بقي أن نعرف شيء من الأحكام الفقهية التي تتعلق بالآية الكريمة.
قراءة القرآن للجنب والحائض:
لا أعرف خلاف بين المذاهب الأربعة في تحريم قرآءة القرآن الكريم على الحائض والجنب إلا ما ذكره الإمام الزركشي في كتابه البرهان في علوم القرآن بأن الإمام الشافعى أجاز قراءة القرآن الكريم للحائض إن خافت النسيان ثم قال الإمام الزركشي ما يفيد بأن هذا رأي قديم للشافعي رضى الله عنهما، وقد أجاز الأئمة رضوان الله عليهم للجنب أن يقراء من القرآن ما يجري على لسانه كالبسملة مع أنها من القرآن. ودعاء ركوب الدابة:
(سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ)
وأجاز المالكي أن يقراء الجنب آية أو أكثر ليستدل بها عن حكم شرعي أو يحصن نفسه من عدو.
وقد ذهب ابن عباس رضى الله عنهما إلى جواز قراءة القرآن الكريم للجنب. وقد ذكر ابن حجر أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ ورده من القرآن وهو جنب
وذكر ابن حجر أن الحديث المنسوب إلى ابن عمر رضي الله عنهما والذى يروى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم "لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن" ذكر ابن حجر أن هذا الحديث ضعيف من كل طرقه وتتبع الشوكاني في كتابه نيل الأوطار الأحاديث والآثار المروية في تحريم قراءة القرآن الكريم على الجنب وأخبر بضعفها ، وأنها لا تصلح لتكون دليلا على تحريم شيء هو من أعظم العبادات يعنى قراءة القرآن وذلك كحديث على ابن أبي طالب كرم الله وجهه والذى يقول فيه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأنا القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً.
فبعد أن ذكر الشوكاني أن هذا الحديث صححه الترمذى وأخرجه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والبزار والدارقطنى والبيهقى وابن السكن بعد ذلك عاد الشوكانى ونقل عن الإمام الشافعى أن هذا الحديث لا يثبت عند المحققين من علماء الحديث وأن الإمام أحمد يوهن هذا الحديث.
وذكر الشوكانى حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيء) رواه الدارقطنى.
ثم قال الشوكاني في رد سند هذا الحديث أن فيه محمد ابن الفضل وهو متروك ومنسوب إلى الوضع.
وقال البيهقى: هذا الأثر ليس بالقوى.
ولعلك أيها القارئ الكريم قد أدركت شيء من أسباب اختلاف الأئمة رضي الله عنهم وهو الطريق الذي وصلنا بها الحديث.
فقد يصل الإمام بطريق يثق في رجاله وقد يصل امام آخر بطريق لا يثق في رجاله.
المهم أن الأئمة لم يتعمدوا الاختلافات