الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي الرَّهْن
وَهُوَ لُغَة الثُّبُوت وَمِنْه الْحَالة الراهنة
وَشرعا جعل عين مَالِيَّة وَثِيقَة بدين يسْتَوْفى مِنْهَا عِنْد تعذر وفائه
وَالْأَصْل فِيهِ قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {فرهان مَقْبُوضَة} قَالَ القَاضِي مَعْنَاهُ فارهنوا واقبضوا لِأَنَّهُ مصدر جعل جَزَاء للشّرط بِالْفَاءِ فَجرى مجْرى الْأَمر كَقَوْلِه تَعَالَى {فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة} وَخبر الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عليه وسلم رهن درعه عِنْد يَهُودِيّ يُقَال لَهُ أَبُو الشَّحْم على ثَلَاثِينَ صَاعا من شعير لأَهله
والوثائق بالحقوق ثَلَاثَة شَهَادَة وَرهن وَضَمان فالشهادة لخوف الْجحْد والآخران لخوف الإفلاس
أَرْكَان الرَّهْن وأركانه أَرْبَعَة مَرْهُون ومرهون بِهِ وَصِيغَة وعاقدان وَقد بَدَأَ بِذكر الرُّكْن الأول وَهُوَ الْمَرْهُون فَقَالَ (وكل مَا جَازَ بَيْعه) من الْأَعْيَان (جَازَ رَهنه) فَلَا يَصح رهن دين وَلَو مِمَّن هُوَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غير مَقْدُور على تَسْلِيمه وَلَا رهن مَنْفَعَة كَأَن يرْهن سُكْنى دَاره مُدَّة لِأَن الْمَنْفَعَة تتْلف فَلَا يحصل بهَا استيثاق وَلَا رهن عين لَا يَصح بيعهَا كوقف ومكاتب وَأم ولد
وَيصِح رهن الْمشَاع من الشَّرِيك وَغَيره وَيقبض بِتَسْلِيم كُله كَمَا فِي البيع فَيكون بِالتَّخْلِيَةِ فِي غير الْمَنْقُول وبالنقل فِي الْمَنْقُول وَلَا يجوز نَقله بِغَيْر إِذن الشَّرِيك فَإِن أَبى الْإِذْن فَإِن رَضِي الْمُرْتَهن بِكَوْنِهِ فِي يَد الشَّرِيك جَازَ وناب عَنهُ فِي الْقَبْض وَإِن تنَازعا نصب الْحَاكِم عدلا يكون فِي يَده لَهما ويستثني من مَنْطُوق كَلَام المُصَنّف صُورَتَانِ لَا يَصح رهنهما وَيصِح بيعهمَا الأولى الْمُدبر رَهنه بَاطِل وَإِن جَازَ بَيْعه لما فِيهِ من الْغرَر لِأَن السَّيِّد قد يَمُوت فَجْأَة فَيبْطل مَقْصُود الرَّهْن
الثَّانِيَة الأَرْض المزروعة يجوز بيعهَا وَلَا يجوز رَهنهَا
وَمن مَفْهُومه صُورَة يَصح رَهنهَا وَلَا يَصح بيعهَا الْأمة الَّتِي لَهَا ولد غير مُمَيّز لَا يجوز إِفْرَاد أَحدهمَا بِالْبيعِ وَيجوز بِالرَّهْنِ وَعند الْحَاجة يباعان وَيقوم الْمَرْهُون مِنْهُمَا مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ حاضنا أَو محضونا ثمَّ يقوم مَعَ الآخر فالزائد على قِيمَته قيمَة الآخر ويوزع الثّمن عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ النِّسْبَة فَإِذا كَانَت قيمَة الْمَرْهُون مائَة وَقِيمَته مَعَ الآخر مائَة وَخمسين فالنسبة بالأثلاث فَيتَعَلَّق حق الْمُرْتَهن بِثُلثي الثّمن
ثمَّ شرع فِي الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الْمَرْهُون بِهِ فَقَالَ (فِي الدُّيُون) أَي وَشرط الْمَرْهُون بِهِ كَونه دينا فَلَا يَصح بِالْعينِ الْمَضْمُونَة كالمغصوبة والمستعارة وَلَا بِغَيْر الْمَضْمُونَة كَمَال الْقَرَاض وَالْمُودع لِأَنَّهُ تَعَالَى ذكر الرَّهْن فِي المداينة فَلَا يثبت فِي غَيرهَا وَلِأَنَّهَا لَا تستوفى من ثمن الْمَرْهُون وَذَلِكَ مُخَالف لغَرَض الرَّهْن عِنْد البيع
تَنْبِيه يُؤْخَذ من ذَلِك مَسْأَلَة كَثْرَة الْوُقُوع وَهِي أَن الْوَاقِف يقف كتبا ويشرط أَن لَا يخرج مِنْهَا كتاب من مَكَان يحبسها فِيهِ إِلَّا برهن وَذَلِكَ لَا يَصح كَمَا صرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَإِن أفتى الْقفال بِخِلَافِهِ وَضعف بَعضهم مَا أفتى بِهِ الْقفال بِأَن الرَّاهِن أحد الْمُسْتَحقّين والراهن لَا يكون مُسْتَحقّا إِذْ الْمَقْصُود بِالرَّهْنِ الْوَفَاء من ثمن الْمَرْهُون عِنْد التّلف وَهَذَا الْمَوْقُوف لَو تلف بِغَيْر تعد وَلَا تَفْرِيط لم يضمن وعَلى إِلْغَاء الشَّرْط لَا يجوز إِخْرَاجه برهن وَلَا بِغَيْرِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا يخرج مُطلقًا
نعم إِن تعذر الِانْتِفَاع بِهِ فِي الْحل الْمَوْقُوف فِيهِ ووثق بِمن ينْتَفع بِهِ فِي غير ذَلِك الْمحل أَن يردهُ إِلَى مَحَله بعد قَضَاء حَاجته جَازَ إِخْرَاجه كَمَا أفتى بِهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
وَيشْتَرط فِي الدّين الَّذِي يرْهن بِهِ ثَلَاثَة شُرُوط الأول كَونه ثَابتا فَلَا يَصح بِغَيْرِهِ كَنَفَقَة زَوجته فِي الْغَد لِأَن الرَّهْن وَثِيقَة حق فَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهِ
وَالثَّانِي كَونه مَعْلُوما للعاقدين فَلَو جهلاه أَو أَحدهمَا لم يَصح
وَالثَّالِث كَونه لَازِما أَو آيلا إِلَى اللُّزُوم فَلَا يَصح فِي غير ذَلِك كَمَال الْكِتَابَة وَلَا بِجعْل الْجعَالَة قبل الْفَرَاغ من الْعَمَل وَيجوز الرَّهْن بِالثّمن فِي مُدَّة الْخِيَار لِأَنَّهُ آيل إِلَى اللُّزُوم وَالْأَصْل فِي وَضعه اللُّزُوم بِخِلَاف مَال الْكِتَابَة وَجعل الْجعَالَة وَظَاهر أَن الْكَلَام حَيْثُ قُلْنَا ملك المُشْتَرِي الْمَبِيع ليملك البَائِع الثّمن كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الإِمَام وَلَا حَاجَة لقَوْل المُصَنّف (إِذا اسْتَقر ثُبُوتهَا) أَي الدُّيُون (فِي الذِّمَّة) بل هُوَ مُضر إِذْ لَا فرق بَين كَونه مُسْتَقرًّا كَثمن الْمَبِيع الْمَقْبُوض وَدين الْمُسلم وَأرش الْجِنَايَة أَو غير مُسْتَقر كالأجرة قبل اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة
وَسكت المُصَنّف عَن الرُّكْنَيْنِ الْأَخيرينِ
أما الصِّيغَة فَيشْتَرط فِيهَا مَا مر فِيهَا فِي البيع فَإِن شَرط فِي الرَّهْن مُقْتَضَاهُ كتقدم الْمُرْتَهن بالمرهون عِنْد تزاحم الْغُرَمَاء أَو شَرط فِيهِ مصلحَة لَهُ كإشهاد بِهِ أَو مَا لَا غَرَض فِيهِ كَأَن يَأْكُل العَبْد الْمَرْهُون كَذَا صَحَّ العقد ولغا الشَّرْط الْأَخير وَإِن شَرط مَا يضر الْمُرْتَهن أَو الرَّاهِن كَأَن لَا يُبَاع عِنْد الْمحل أَو أَن منفعَته للْمُرْتَهن أَو أَن تحدث زوائده مَرْهُونَة لم يَصح الرَّهْن فِي الثَّلَاث لإخلال الشَّرْط بالغرض مِنْهُ فِي الأولى ولتغير قَضِيَّة العقد فِي الثَّانِيَة ولجهالة الزَّوَائِد وَعدمهَا فِي الثَّالِثَة
وَأما العاقدان فَيشْتَرط فيهمَا أَهْلِيَّة التَّبَرُّع وَالِاخْتِيَار كَمَا فِي البيع وَنَحْوه
فَلَا يرْهن الْوَلِيّ أيا كَانَ أَو غَيره مَال الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلَا يرتهن لَهما إِلَّا لضَرُورَة أَو غِبْطَة ظَاهِرَة فَيجوز لَهُ الرَّهْن والارتهان فيهمَا دون غَيرهمَا مثالهما للضَّرُورَة أَن يرْهن على مَا يقترض لحَاجَة الْمُؤْنَة ليوفي مِمَّا ينْتَظر من غلَّة أَو حُلُول دين أَو نَحْو ذَلِك كنفاق مَتَاع كاسد وَأَن يرتهن على مَا يقْرضهُ أَو يَبِيعهُ مُؤَجّلا لضَرُورَة نهب أَو نَحوه
ومثالهما للغبطة أَن يرْهن مَا يُسَاوِي مائَة على ثمن مَا اشْتَرَاهُ بِمِائَة نَسِيئَة وَهُوَ يُسَاوِي مِائَتَيْنِ وَأَن يرتهن على ثمن مَا يَبِيعهُ نَسِيئَة لغبطة
وَلَا يلْزم الرَّهْن إِلَّا بِقَبْضِهِ كَمَا مر فِي البيع بِإِذن من الرَّاهِن أَو إقباض مِنْهُ مِمَّن يَصح عقده للرَّهْن
وللعاقد إنابة غَيره فِيهِ
كالعقد لَا إنابة مقبض من رَاهن أَو نَائِبه لِئَلَّا يُؤَدِّي إِلَى اتِّحَاد الْقَابِض والمقبض
(وللراهن الرُّجُوع فِيهِ) أَي الْمَرْهُون (مَا لم يقبضهُ) الْمُرْتَهن أَو نَائِبه وَيحصل الرُّجُوع قبل قَبضه بِتَصَرُّف يزِيل ملكا كَهِبَة مَقْبُوضَة لزوَال مَحل الرَّهْن وَبرهن مَقْبُوض لتَعلق حق الْغَيْر بِهِ وتقيدهما بِالْقَبْضِ هُوَ مَا جزم بِهِ الشَّيْخَانِ
وَقَضيته أَن ذَلِك بِدُونِ قبض لَا يكون رُجُوعا
لَكِن نقل السُّبْكِيّ وَغَيره عَن النَّص وَالْأَصْحَاب أَنه رُجُوع وَصَوَّبَهُ الْأَذْرَعِيّ وَهُوَ الْمُعْتَمد وَيحصل الرُّجُوع أَيْضا بِكِتَابَة وتدبير وإحبال لِأَن مقصودها الْعتْق وَهُوَ منَاف للرَّهْن وَلَا يحصل بِوَطْء وتزويج لعدم منافاتهما لَهُ وَلَا بِمَوْت عَاقد وجنونه وإغمائه وتخمر عصير وإباق رَقِيق وَلَيْسَ لراهن مقبض رهن وَلَا وَطْء وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تحبل وَلَا تصرف يزِيل ملكا كوقف أَو ينقصهُ كتزويج فَلَا ينفذ شَيْء من هَذِه التَّصَرُّفَات إِلَّا إِعْتَاق مُوسر وإيلاده وَيغرم قِيمَته وَقت إِعْتَاقه وإحباله وَتَكون رهنا مَكَانَهُ بِغَيْر عقد لقيامها مقَامه وَالْولد الْحَاصِل من وَطْء الرَّاهِن حر نسيب وَلَا يغرم قِيمَته
وَإِذا لم ينفذ الْعتْق والإيلاد لكَونه مُعسرا فانفك الرَّهْن نفذ الإيلاد لَا الْإِعْتَاق لإن الْإِعْتَاق قَول فَإِذا رد لَغَا والإيلاد فعل لَا يُمكن رده فَإِذا زَالَ الْحق ثَبت حكمه
وللراهن انْتِفَاع بالمرهون لَا ينقصهُ كركوب وسكنى لَا بِنَاء وغراس لِأَنَّهُمَا ينقصان قيمَة الأَرْض ثمَّ إِن أمكن بِلَا اسْتِرْدَاد الْمَرْهُون انْتِفَاع يُريدهُ الرَّاهِن مِنْهُ لَهُ يسْتَردّ وَإِلَّا فيسترده كَأَن يكون دَارا يسكنهَا وَيشْهد عَلَيْهِ بالاسترداد إِن اتهمه وَله بِإِذن الْمُرْتَهن مَا منعناه مِنْهُ وَله رُجُوع عَن الْإِذْن قبل تصرف الرَّاهِن كَمَا للْمُوكل الرُّجُوع قبل تصرف الْوَكِيل فَإِن تصرف بعد رُجُوعه لَغَا تصرفه كتصرف وَكيل عَزله مُوكله
وعَلى الرَّاهِن الْمَالِك مؤونة الْمَرْهُون كَنَفَقَة رَقِيق وعلف دَابَّة وَأُجْرَة سقِِي أشجر وَلَا يمْنَع من مصلحَة الْمَرْهُون كفصد وحجامة وَهُوَ أَمَانَة بيد الْمُرْتَهن
القَوْل فِي ضَمَان الْمَرْهُون (وَلَا يضمنهُ الْمُرْتَهن) بِمثل وَلَا قيمَة إِذا تلف (إِلَّا بِالتَّعَدِّي) بالتفريط فَيضمنهُ حِينَئِذٍ لخُرُوج يَده عَن الْأَمَانَة وَلَا يسْقط بتلفه شَيْء من الدّين وَيصدق الْمُرْتَهن فِي دَعْوَى التّلف بِيَمِينِهِ وَلَا يصدق فِي الرَّد عِنْد الْأَكْثَرين وَهُوَ الْمُعْتَمد
ضَابِط كل أَمِين ادّعى الرَّد على من ائتمنه صدق بِيَمِينِهِ إِلَّا الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر
الْمَرْهُون مَحْبُوس مَا بَقِي من الدّين دِرْهَم (وَإِذا قضى) بِمَعْنى أدّى الرَّاهِن (بعض الْحق) أَي الدّين الَّذِي تعلق بِهِ الرَّهْن (لم يخرج) أَي لم يَنْفَكّ (شَيْء من الرَّهْن حَتَّى يقْضِي) أَي يُؤَدِّي (جَمِيعه) لتَعَلُّقه بِكُل جُزْء من الدّين كرقبة الْمكَاتب وينفك أَيْضا بِفَسْخ الْمُرْتَهن وَلَو بِدُونِ الرَّاهِن لِأَن الْحق لَهُ وبالبراءة من جَمِيع الدّين
وَلَو رهن نصف عبد بدين وَنصفه بآخر فِي صَفْقَة أُخْرَى فبرىء من أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد العقد
وَلَو رهناه بدين فبرىء أَحدهمَا مِمَّا عَلَيْهِ انْفَكَّ نصِيبه لتَعَدد الصَّفْقَة بِتَعَدُّد الْعَاقِد
وَلَو رَهنه عِنْد اثْنَيْنِ فبرىء من دين أَحدهمَا انْفَكَّ قسطه لتَعَدد مُسْتَحقّ الدّين
فروع لَو رهن شخص آخر عَبْدَيْنِ فِي صَفْقَة وَسلم أَحدهمَا لَهُ كَانَ مَرْهُونا على جَمِيع المَال كَمَا لَو سلمهما وَتلف أَحدهمَا وَلَو مَاتَ الرَّاهِن عَن وَرَثَة ففدى أحدهم نصِيبه لم يَنْفَكّ كَمَا فِي الْمُورث وَلَو مَاتَ الْمُرْتَهن عَن وَرَثَة فوفى أَحدهمَا مَا يَخُصُّهُ من الدّين لم يَنْفَكّ نصِيبه كَمَا لَو وفى مُوَرِثه بعض دينه وَإِن خَالف فِي ذَلِك ابْن الرّفْعَة
القَوْل فِي اخْتِلَاف عاقدي الرَّهْن تَتِمَّة لَو اخْتلف الرَّاهِن وَالْمُرْتَهن فِي أصل الرَّهْن أَو فِي قدره صدق الرَّاهِن الْمَالِك بِيَمِينِهِ لِأَن الأَصْل عدم مَا يَدعِيهِ الْمُرْتَهن هَذَا إِن كَانَ رهن تبرع أما الرَّهْن الْمَشْرُوط فِي بيع فَإِن اخْتلفَا فِي اشْتِرَاطه فِيهِ أَو اتفقَا عَلَيْهِ وَاخْتلفَا فِي شَيْء مِمَّا مر