المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في أحكام النذور - الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع - جـ ٢

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الْبيُوع وَغَيرهَا من أَنْوَاع الْمُعَامَلَات

- ‌فصل فِي الرِّبَا

- ‌فصل فِي أَحْكَام الْخِيَار

- ‌فصل فِي السّلم وَيُقَال لَهُ السّلف

- ‌فصل فِي الرَّهْن

- ‌فصل فِي الْحجر

- ‌فصل فِي الصُّلْح

- ‌فصل فِي الْحِوَالَة

- ‌فصل فِي الضَّمَان

- ‌فصل فِي كَفَالَة الْبدن

- ‌فصل فِي الشّركَة

- ‌فصل فِي الْوكَالَة

- ‌فصل فِي الْإِقْرَار

- ‌فصل فِي الْعَارِية

- ‌فصل فِي الْغَصْب

- ‌فصل فِي الشُّفْعَة

- ‌فصل فِي الْقَرَاض

- ‌فصل فِي الْمُسَاقَاة

- ‌فصل فِي الْإِجَارَة

- ‌فصل فِي الْجعَالَة

- ‌فصل فِي الْمُزَارعَة وَالْمُخَابَرَة وكراء الأَرْض

- ‌فصل فِي إحْيَاء الْموَات

- ‌فصل فِي الْوَقْف

- ‌فصل فِي الْهِبَة

- ‌فصل فِي اللّقطَة

- ‌فصل فِي بعض النّسخ وَهُوَ فِي أَقسَام اللّقطَة وَبَيَان حكم كل مِنْهَا

- ‌(فصل فِي اللَّقِيط)

- ‌فصل فِي الْوَدِيعَة

- ‌حجب الحرمان بالشخص

- ‌فصل فِي الْوَصِيَّة الشاملة للإيصاء

- ‌فصل فِي أَرْكَان النِّكَاح

- ‌فصل فِي بَيَان أَوْلِيَاء

- ‌فصل فِي مُحرمَات النِّكَاح ومثبتات الْخِيَار فِيهِ

- ‌فصل فِي الصَدَاق

- ‌فصل فِي الْوَلِيمَة

- ‌فصل فِي الْقسم والنشوز

- ‌فصل فِي الْخلْع

- ‌فصل فِي الطَّلَاق

- ‌فصل فِي طَلَاق السّني

- ‌فصل فِيمَا يملكهُ الزَّوْج من الطلقات

- ‌فصل فِي الرّجْعَة

- ‌فصل فِي بَيَان مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ حل الْمُطلقَة

- ‌فصل فِي الْإِيلَاء

- ‌فصل فِي الظِّهَار

- ‌فصل فِي اللّعان

- ‌فرع لَو قذف زوج زَوجته

- ‌فصل فِي الْعدَد

- ‌فصل فِيمَا يجب للمعتدة وَعَلَيْهَا

- ‌فصل فِي أَحْكَام الِاسْتِبْرَاء

- ‌فصل فِي الرَّضَاع

- ‌فصل فِي نَفَقَة الْقَرِيب وَالرَّقِيق والبهائم

- ‌فصل فِي النَّفَقَة

- ‌فصل فِي الْحَضَانَة

- ‌كتاب الْجِنَايَات

- ‌فصل فِي الدِّيَة

- ‌فصل فِي الْقسَامَة

- ‌فصل فِي حد الْقَذْف

- ‌فصل فِي حد شَارِب السكر من خمر وَغَيره

- ‌فصل فِي حد السّرقَة

- ‌فصل فِي قَاطع الطَّرِيق

- ‌فصل فِي حكم الصيال وَمَا تتلفه الْبَهَائِم

- ‌فصل فِي قتال الْبُغَاة

- ‌فصل فِي الرِّدَّة

- ‌فصل فِي تَارِك الصَّلَاة

- ‌فصل فِي قسم الْغَنِيمَة

- ‌فصل فِي قسم الْفَيْء

- ‌فصل فِي الْجِزْيَة تطلق

- ‌فصل فِي الْأَطْعِمَة

- ‌فصل فِي الْأُضْحِية

- ‌فصل فِي الْعَقِيقَة

- ‌فصل فِي أَحْكَام النذور

- ‌فصل فِي الْقِسْمَة

- ‌فصل فِي الدَّعْوَى والبينات

- ‌فصل فِي الشَّهَادَات

- ‌فصل كَمَا فِي بعض النّسخ يذكر فِيهِ الْعدَد فِي الشُّهُود والذكورة

- ‌كتاب الْعتْق

- ‌فصل فِي أَحْكَام الْوَلَاء

- ‌فصل فِي التَّدْبِير

- ‌فصل فِي الْكِتَابَة

- ‌فصل فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد

الفصل: ‌فصل في أحكام النذور

وَقد حنث بِلَا إِذن من السَّيِّد فَإِنَّهُ لَا يَصُوم إِلَّا بِإِذْنِهِ وَإِن أذن لَهُ فِي الْحلف لحق الْخدمَة

فَإِن أذن لَهُ فِي الْحِنْث صَامَ بِلَا إِذن وَإِن لم يَأْذَن فِي الْحلف فَالْعِبْرَة فِي الصَّوْم بِلَا إِذن فِيمَا إِذا أذن فِي أَحدهمَا بِالْحِنْثِ وَوَقع فِي الْمِنْهَاج تَرْجِيح اعْتِبَار الْحلف وَالْأول هُوَ الْأَصَح فِي الرَّوْضَة كالشرحين

فَإِن لم يضرّهُ الصَّوْم فِي الْخدمَة لم يحْتَج إِلَى إِذن فِيهِ وَمن بعضه حر وَله مَال يكفر بِطَعَام أَو كسْوَة وَلَا يكفر بِالصَّوْمِ ليساره لَا عتق لِأَنَّهُ يستعقب مِنْك الْوَلَاء المتضمن للولاية وَالْإِرْث وَلَيْسَ هُوَ من أَهلهَا وَاسْتثنى البُلْقِينِيّ من ذَلِك مَا لَو قَالَ لَهُ مَالك بعضه إِذا عتقت عَن كفارتك فنصيبي مِنْك حر قبل إعتاقك عَن الْكَفَّارَة أَو مَعَه فَيصح إِعْتَاقه عَن كَفَّارَة نَفسه فِي الأولى قطعا وَفِي الثَّانِيَة على الْأَصَح

‌فصل فِي أَحْكَام النذور

جمع نذر وَهُوَ بذال مُعْجمَة سَاكِنة وَحكي فتحهَا لُغَة الْوَعْد بِخَير أَو شَرّ وَشرعا الْوَعْد بِخَير خَاصَّة قَالَه الرَّوْيَانِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَقَالَ غَيرهمَا الْتِزَام قربَة لم تتَعَيَّن كَمَا يعلم مِمَّا يَأْتِي وَذكره المُصَنّف عقب الْأَيْمَان لِأَن كلا مِنْهُمَا عقد يعقده الْمَرْء على نَفسه تَأْكِيدًا لما الْتَزمهُ

وَالْأَصْل فِيهِ آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وليوفوا نذورهم} وأخبار كَخَبَر البُخَارِيّ من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَفِي كَونه قربَة أَو مَكْرُوها خلاف وَالَّذِي رَجحه ابْن الرّفْعَة أَنه قربَة فِي نذر التبرر دون غَيره وَهَذَا أولى مَا قيل فِيهِ

وأركانه ثَلَاثَة صِيغَة ومنذور وناذر

(و) شَرط فِي النَّاذِر إِسْلَام وَاخْتِيَار ونفوذ بِصَرْف فِيمَا ينذره فَلَا يَصح (النّذر) من كَافِر لعدم أَهْلِيَّته للقربة وَلَا من مكره لخَبر رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَلَا مِمَّن لَا ينفذ تصرفه فِيمَا ينذره كمحجور سفه أَو فلس فِي الْقرب الْمَالِيَّة الْمعينَة وَصبي وَمَجْنُون وَشرط فِي الصِّيغَة لفظ يشْعر بِالْتِزَام وَفِي مَعْنَاهُ مَا مر فِي الضَّمَان كلله عَليّ كَذَا أَو عَليّ كَذَا كَسَائِر الْعُقُود

و (يلْزم) ذَلِك بِالنذرِ بِنَاء على أَنه يسْلك بِهِ مَسْلَك وَاجِب الشَّرْع وَهُوَ مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ هُنَا وَوَقع لَهما فِيهِ اخْتِلَاف

ص: 607

تَرْجِيح وَبَين المُصَنّف مُتَعَلق اللُّزُوم بقوله (فِي المجازاة) أَي الْمُكَافَأَة (على) نذر فعل (مُبَاح) لم يرد فِيهِ ترغيب كَأَكْل وَشرب وقعود وَقيام أَو ترك ذَلِك وَهَذَا من المُصَنّف لَعَلَّه سَهْو أَو سبق

قلم إِذْ النّذر على فعل مُبَاح أَو تَركه لَا ينْعَقد بِاتِّفَاق الْأَصْحَاب فضلا عَن لُزُومه

وَلَكِن هَل يكون يَمِينا تلْزمهُ فِيهِ الْكَفَّارَة عِنْد الْمُخَالفَة أَو لَا اخْتلف فِيهِ تَرْجِيح الشَّيْخَيْنِ فَالَّذِي رجحاه فِي الْمِنْهَاج وَالْمُحَرر اللُّزُوم لِأَنَّهُ نذر فِي غير مَعْصِيّة الله تَعَالَى وَالَّذِي رجحاه فِي الرَّوْضَة والشرحين

وَصَوَّبَهُ فِي الْمَجْمُوع أَنه لَا كَفَّارَة فِيهِ وَهُوَ الْمُعْتَمد لعدم انْعِقَاده فَإِن قيل يُوَافق الأول مَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا من أَنه لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أطلقك

أَو أَن آكل الْخبز أَو لله عَليّ أَن أَدخل الدَّار فَإِن عَلَيْهِ كَفَّارَة فِي ذَلِك عِنْد الْمُخَالفَة

أُجِيب بِأَن الْأَوَّلين فِي نذر اللجاج وَكَلَام المُصَنّف فِي نذر التبرر وَأما الْأَخِيرَة فلزوم الْكَفَّارَة فِيهَا من حَيْثُ الْيَمين لَا من حَيْثُ النّذر

(و) يلْزم النّذر على فعل (الطَّاعَة) مَقْصُودَة لم تتَعَيَّن كعتق وعيادة مَرِيض وَسَلام وتشييع جَنَازَة

وَقِرَاءَة سُورَة مُعينَة وَطول قِرَاءَة صَلَاة وَصَلَاة جمَاعَة

وَلَا فرق فِي صِحَة نذر الثَّلَاثَة الْأَخِيرَة بَين كَونهَا فِي فرض أم لَا

فَالْقَوْل بِأَن صِحَّتهَا مُقَيّدَة بِكَوْنِهَا فِي الْفَرْض أخذا من تَقْيِيد الرَّوْضَة

وَأَصلهَا بذلك وهم لِأَنَّهُمَا إِنَّمَا قيدا بذلك للْخلاف فِيهِ فَلَو نذر غير الْقرْبَة الْمَذْكُورَة من وَاجِب عَيْني كَصَلَاة الظّهْر أَو مُخَيّر كَأحد خِصَال كَفَّارَة الْيَمين وَلَو مُعينَة كَمَا صرح بِهِ

ص: 608

القَاضِي حُسَيْن أَو مَعْصِيّة كَمَا سَيَأْتِي كشرب خمر وَصَلَاة بِحَدَث أَو مَكْرُوه كَصَوْم الدَّهْر لمن خَافَ بِهِ ضَرَرا أَو فَوت حق لم يَصح نَذره أما الْوَاجِب الْمَذْكُور فَلِأَنَّهُ لزم عينا بإلزام الشَّرْع قبل النّذر فَلَا معنى لالتزامه

وَأما الْمَكْرُوه فَلِأَنَّهُ لَا يتَقرَّب بِهِ وَلخَبَر أبي دَاوُد لَا نذر إِلَّا فِيمَا ابْتغِي بِهِ وَجه الله تَعَالَى وَلم يلْزمه بمخالفة ذَلِك كَفَّارَة

ثمَّ بَين المُصَنّف نذر المجازاة

وَهُوَ نوع من التبرر وَهُوَ الْمُعَلق بِشَيْء بقوله (كَقَوْلِه إِن شفي الله) تَعَالَى (مريضي) أَو قدم غائبي أَو نجوت من الْغَرق أَو نَحْو ذَلِك

(فَللَّه) تَعَالَى (عَليّ أَن أُصَلِّي أَو أَصوم أَو أَتصدق) وأو فِي كَلَامه تنويعية (وَيلْزمهُ) بعد حُصُول الْمُعَلق عَلَيْهِ (من ذَلِك) أَي من أَي نوع الْتَزمهُ عِنْد الْإِطْلَاق (مَا يَقع عَلَيْهِ الِاسْم) مِنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاة رَكْعَتَانِ على الْأَظْهر بِالْقيامِ مَعَ الْقُدْرَة حملا على أقل وَاجِب الشَّرْع وَفِي الصَّوْم يَوْم وَاحِد لِأَنَّهُ الْيَقِين فَلَا يلْزمه زِيَادَة عَلَيْهِ وَفِي الصَّدَقَة مَا يتمول شرعا وَلَا يتَقَدَّر بِخَمْسَة دَرَاهِم وَلَا بِنصْف دِينَار وَإِنَّمَا حملنَا الْمُطلق على أقل وَاجِب من جنسه كَمَا قَالَه فِي الرَّوْضَة لِأَن ذَلِك قد يلْزمه فِي الشّركَة

فرع لَو نذر شَيْئا كَقَوْلِه إِن شفى الله مريضي فشفي ثمَّ شكّ هَل نذر صَدَقَة أَو عتقا أَو صَلَاة أَو صوما

قَالَ الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ يحْتَمل أَن يُقَال عَلَيْهِ الْإِتْيَان بجميعها كمن نسي صَلَاة من الْخمس

وَيحْتَمل أَن يُقَال يجْتَهد بِخِلَاف الصَّلَاة لأَنا تَيَقنا أَن الْجَمِيع لم تجب عَلَيْهِ

وَإِنَّمَا وَجب عَلَيْهِ شَيْء وَاحِد واشتبه فيجتهد كالأواني والقبلة

اه

وَهَذَا أوجه وَإِن لم يعلق النّذر بِشَيْء وَهُوَ النَّوْع الثَّانِي من نَوْعي التبرر كَقَوْلِه ابْتِدَاء لله عَليّ صَوْم أَو حج أَو غير ذَلِك

لزمَه مَا الْتَزمهُ لعُمُوم الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة وَلَو علق النّذر بِمَشِيئَة الله تَعَالَى أَو مَشِيئَة زيد لم يَصح

وَإِن شَاءَ زيد لعدم الْجَزْم اللَّائِق بِالْقربِ نعم إِن قصد بِمَشِيئَة الله تَعَالَى التَّبَرُّك أَو وُقُوع حُدُوث مَشِيئَة زيد نعْمَة مَقْصُودَة كقدوم زيد فِي قَوْله إِن قدم زيد فعلي كَذَا

فَالْوَجْه الصِّحَّة كَمَا صرح بذلك بعض الْمُتَأَخِّرين (وَلَا) يَصح (نذر فِي) فعل (مَعْصِيّة كَقَوْلِه إِن قتلت فلَانا فَللَّه عَليّ كَذَا) لحَدِيث لَا نذرع فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى رَوَاهُ مُسلم وَلخَبَر البُخَارِيّ الْمَار من نذر أَن يُطِيع الله فليطعه وَمن نذر أَن يَعْصِي الله فَلَا يَعْصِهِ وَلَا تجب بِهِ كَفَّارَة إِن حنث

وَأجَاب النَّوَوِيّ عَن خبر لَا نذر فِي مَعْصِيّة وكفارته كَفَّارَة يَمِين بِأَنَّهُ ضَعِيف وَغَيره يحملهُ على نذر اللجاج وَمحل عدم لُزُومهَا بذلك

كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ إِذا لم ينْو بِهِ الْيَمين كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام الرَّافِعِيّ آخرا

فَإِن نوى بِهِ الْيَمين لَزِمته الْكَفَّارَة بِالْحِنْثِ

تَنْبِيه أورد فِي التوشيح إِعْتَاق العَبْد الْمَرْهُون فَإِن الرَّافِعِيّ حكى عَن التَّتِمَّة أَن نَذره مُنْعَقد إِن نفذنا عتقه فِي الْحَال أَو عِنْد أَدَاء المَال

وَذكروا فِي الرَّهْن أَن الْإِقْدَام على عتق الْمَرْهُون لَا يجوز وَإِن تمّ الكلامان كَانَ نذرا فِي مَعْصِيّة منعقدا وَاسْتثنى غَيره

مَا لَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أَرض مَغْصُوبَة صَحَّ النّذر وَيُصلي فِي مَوضِع آخر كَذَا ذكره الْبَغَوِيّ فِي تهذيبه وَصرح باستثنائه

ص: 609

الْجِرْجَانِيّ فِي إيضاحه

وَلَكِن جزم الْمحَامِلِي بِعَدَمِ الصِّحَّة

وَرجحه الْمَاوَرْدِيّ وَكَذَا الْبَغَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر الْجَارِي على الْقَوَاعِد

وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِنَّه الْأَقْرَب ويتأيد بِالنذرِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد على الصَّحِيح

(وَلَا يلْزم النّذر) بِمَعْنى لَا ينْعَقد

(على ترك) فعل (مُبَاح أَو فعله كَقَوْلِه لَا آكل لَحْمًا وَلَا أشْرب لَبَنًا وَمَا أشبه ذَلِك) لخَبر البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس بَيْنَمَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم يخْطب إِذْ رأى رجلا قَائِما فِي الشَّمْس فَسَأَلَ عَنهُ

فَقَالُوا هَذَا أَبُو إِسْرَائِيل نذر أَن يَصُوم وَلَا يقْعد وَلَا يستظل

وَلَا يتَكَلَّم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم مروه فَلْيَتَكَلَّمْ وليستظل وليقعد وليتم صَوْمه

وَفسّر فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا الْمُبَاح بِمَا لم يرد فِيهِ ترغيب وَلَا ترهيب وَزَاد فِي الْمَجْمُوع على ذَلِك واستوى فعله وَتَركه شرعا كنوم وَأكل وَسَوَاء أقصد بِالنَّوْمِ النشاط على التَّهَجُّد وبالأكل التقوي على الْعِبَادَة أم لَا

وَإِنَّمَا لم يَصح فِي الْقسم الأول كَمَا اخْتَارَهُ بعض الْمُتَأَخِّرين لِأَن فعله غير مَقْصُود فالثواب على الْقَصْد لَا الْفِعْل

تَنْبِيه كَانَ الأولى للْمُصَنف التَّعْبِير هُنَا بِنَفْي الِانْعِقَاد الْمَعْلُوم مِنْهُ

بِالْأولَى مَا ذكر وَيُؤْخَذ من الحَدِيث الْمَذْكُور أَن النّذر بترك كَلَام الْآدَمِيّين لَا ينْعَقد وَبِه صرح فِي الزَّوَائِد وَالْمَجْمُوع وَلَا يلْزم عقد النِّكَاح بِالنذرِ كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري هُنَا وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين إِن كَانَ مَنْدُوبًا وَفِي فَتَاوَى الْغَزالِيّ أَن قَول البَائِع للْمُشْتَرِي إِن خرج الْمَبِيع مُسْتَحقّا فَللَّه عَليّ أَن أهبك ألفا لَغْو

لِأَن الْمُبَاح لَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الْهِبَة وَإِن كَانَت قربَة فِي نَفسهَا إِلَّا أَنَّهَا على هَذَا الْوَجْه لَيست قربَة وَلَا مُحرمَة

فَكَانَت مُبَاحَة كَذَا قَالَه ابْن الْمقري وَالْأَوْجه انْعِقَاد النّذر كَمَا لَو قَالَ إِن فعلت كَذَا فَللَّه عَليّ أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ

وَفِي فَتَاوَى بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه يَصح نذر الْمَرْأَة لزَوجهَا بِمَا وَجب لَهَا عَلَيْهِ من حُقُوق الزَّوْجِيَّة

وَيبرأ الزَّوْج وَإِن لم تكن عَالِمَة بالمقدار قِيَاسا مَا إِذا قَالَ نذرت لزيد ثَمَرَة بستاني مُدَّة حَيَاته فَإِنَّهُ صَحِيح كَمَا أفتى بِهِ البُلْقِينِيّ وَقِيَاسًا على صِحَة وقف مَا لم يره كَمَا اخْتَارَهُ النَّوَوِيّ وتوبع عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَعم من أَن يكون الْمَوْقُوف عَلَيْهِ معينا أَو جِهَة عَامَّة

خَاتِمَة فِيهَا مسَائِل مهمة تتَعَلَّق بِالنذرِ من نذر إتْمَام نفل لزمَه إِتْمَامه أَو نذر صَوْم بعض يَوْم لم ينْعَقد أَو نذر إتْيَان الْحرم أَو شَيْء مِنْهُ لزمَه نسك من حج أَو عمْرَة

أَو نذر الْمَشْي إِلَيْهِ لزمَه مَعَ نسك مشي من مَسْكَنه أَو نذر أَن يحجّ أَو يعْتَمر مَاشِيا أَو عَكسه لزمَه مَعَ ذَلِك مشي من حَيْثُ أحرم فَإِن ركب وَلَو بِلَا عذر أَجزَأَهُ وَلَزِمَه دم وَإِن ركب بِعُذْر وَلَو نذر صَلَاة أَو صوما فِي وَقت ففاته وَلَو بِعُذْر

وَجب عَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَلَو نذر إهداء شَيْء إِلَى الْحرم لزمَه حمله إِلَيْهِ إِن سهل

وَلَزِمَه صرفه بعد ذبح مَا يذبح مِنْهُ لمساكينه

أما إِذا لم يسهل حمله كعقار فَيلْزمهُ حمل ثمنه إِلَى الْحرم

وَلَو نذر تصدقا بِشَيْء على أهل بلد معِين لزمَه صرفه لمساكينه الْمُسلمين

وَلَو نذر صَلَاة قَاعِدا جَازَ فعلهَا قَائِما لإتيانه بالأفضل لَا عَكسه وَلَو نذر عتقا أَجزَأَهُ رَقَبَة وَلَو نَاقِصَة

بِكفْر أَو غَيره أَو نذر عتق نَاقِصَة أَجزَأَهُ رَقَبَة كَامِلَة فَإِن عين نَاقِصَة كَأَن قَالَ لله عَليّ عتق هَذَا الرَّقِيق الْكَافِر

تعيّنت وَلَو نذر زيتا أَو شمعا لإسراج مَسْجِد أَو غَيره أَو وقف مَا يشتريان بِهِ من غَلَّته صَحَّ كل من النّذر وَالْوَقْف وَإِن كَانَ يدْخل الْمَسْجِد أَو غَيره من ينْتَفع بِهِ من نَحْو مصل أَو نَائِم وَإِلَّا لم يَصح لِأَنَّهُ إِضَاعَة مَال

وَلَو نذر أَن يُصَلِّي فِي أفضل الْأَوْقَات فَقِيَاس مَا قَالُوهُ فِي الطَّلَاق لَيْلَة الْقدر أَو فِي أحب الْأَوْقَات إِلَى الله تَعَالَى قَالَ الزَّرْكَشِيّ يَنْبَغِي أَن لَا يَصح نَذره وَالَّذِي يَنْبَغِي الصِّحَّة وَيكون كنذره فِي أفضل الْأَوْقَات وَلَو نذر أَن يعبد الله بِعبَادة لَا يشركهُ فِيهَا أحد

فَقيل يطوف بِالْبَيْتِ وَحده وَقيل يُصَلِّي دَاخل الْبَيْت وَحده وَقيل يتَوَلَّى الْإِمَامَة

ص: 610

الْعُظْمَى وَيَنْبَغِي أَن يَكْفِي وَاحِد من ذَلِك وَمَا رد بِهِ من أَن الْبَيْت لَا يَخْلُو عَن طائف من ملك

أَو غَيره مَرْدُود لِأَن الْعبْرَة بِمَا فِي ظَاهر الْحَال وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره هُنَا فروعا مهمة لَا يحتملها هَذَا الْمُخْتَصر فَمن أرادها فَلْيُرَاجِعهَا فِي ذَلِك

ص: 611

= كتاب الْأَقْضِيَة والشهادات = الْأَقْضِيَة جمع قَضَاء بِالْمدِّ كقباء وأقبية وَهُوَ لُغَة إِمْضَاء الشَّيْء وإحكامه وَشرعا فصل الْخُصُومَة بَين خصمين فَأكْثر بِحكم الله تَعَالَى والشهادات جمع شَهَادَة

وَهِي إِخْبَار عَن شَيْء بِلَفْظ خَاص وَسَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهَا

وَالْأَصْل فِي الْقَضَاء قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَأَن احكم بَينهم بِمَا أنزل الله} وَقَوله تَعَالَى {فاحكم بَينهم بِالْقِسْطِ} وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر وَإِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَفِي رِوَايَة فَلهُ عشرَة أجور قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم أجمع الْمُسلمُونَ على أَن هَذَا الحَدِيث يَعْنِي الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ فِي حَاكم عَالم أهل للْحكم إِن أصَاب فَلهُ أَجْرَانِ بِاجْتِهَادِهِ وإصابته وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر فِي اجْتِهَاده فِي طلب الْحق أما من لَيْسَ بِأَهْل للْحكم فَلَا يحل لَهُ أَن يحكم وَإِن حكم فَلَا أجر لَهُ بل هُوَ آثم وَلَا ينفذ حكمه سَوَاء أوافق الْحق أم لَا لِأَن إِصَابَته اتفاقية

لَيست صادرة عَن أصل شَرْعِي فَهُوَ عَاص فِي جَمِيع أَحْكَامه سَوَاء أوافق الصَّوَاب أم لَا

وَهِي مَرْدُودَة كلهَا وَلَا يعْذر فِي شَيْء من ذَلِك وَقد روى الْأَرْبَعَة وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة

فَأَما الَّذِي فِي الْجنَّة فَرجل عرف الْحق وَقضى بِهِ واللذان فِي النَّار رجل عرف الْحق فجار فِي الْحق وَرجل قضى للنَّاس على جهل وَالْقَاضِي الَّذِي ينفذ حكمه هُوَ الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث لَا اعْتِبَار بحكمهما

وتولي الْقَضَاء فرض كِفَايَة فِي حق الصَّالِحين لَهُ فِي نَاحيَة

أما تَوْلِيَة الإِمَام لأَحَدهم فَفرض عين عَلَيْهِ

فَمن تعين عَلَيْهِ فِي نَاحيَة لزمَه طلبه وَلَزِمَه قبُوله (وَلَا يجوز) وَلَا يَصح (أَن يَلِي الْقَضَاء) الَّذِي هُوَ الحكم بَين النَّاس (إِلَّا من استكملت فِيهِ) بِمَعْنى اجْتمع فِيهِ (خمس عشرَة خصْلَة) ذكر المُصَنّف مِنْهَا خَصْلَتَيْنِ على ضَعِيف وَسكت عَن خَصْلَتَيْنِ على الصَّحِيح كَمَا ستعرف ذَلِك

الأولى (الْإِسْلَام) فَلَا تصح ولَايَة كَافِر وَلَو على كَافِر وَمَا جرت بِهِ الْعَادة من نصب شخص مِنْهُم للْحكم بَينهم فَهُوَ تَقْلِيد رئاسة وزعامة لَا تَقْلِيد حكم وَقَضَاء كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ

(و) الثَّانِيَة (الْبلُوغ و) الثَّالِثَة (الْعقل)

فَلَا تصح ولَايَة غير مُكَلّف لنقصه

(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) فَلَا تصح ولَايَة رَقِيق وَلَو مبعضا لنقصه

(و) الْخَامِسَة (الذكورية) فَلَا تصح ولَايَة امْرَأَة وَلَا خُنْثَى مُشكل أما الْخُنْثَى الْوَاضِح الذُّكُورَة فَتَصِح ولَايَته كَمَا قَالَه

ص: 612

فِي الْبَحْر

(و) السَّادِسَة (الْعَدَالَة) الْآتِي بَيَانهَا فِي الشَّهَادَات فَلَا تصح ولَايَة فَاسق وَلَو بِمَا لَهُ فِيهِ شُبْهَة على الصَّحِيح كَمَا قَالَه ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة

وَإِن اقْتضى كَلَام الدَّمِيرِيّ خِلَافه

(و) السَّابِعَة (معرفَة أَحْكَام الْكتاب) الْعَزِيز

(و) معرفَة أَحْكَام (السّنة) على طَرِيق الِاجْتِهَاد

وَلَا يشْتَرط حفظ آياتها وَلَا أحاديثها المتعلقات بهَا عَن ظهر قلب وآي الْأَحْكَام كَمَا ذكره الْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيّ وَغَيرهمَا خَمْسمِائَة آيَة وَعَن الْمَاوَرْدِيّ أَن عدد أَحَادِيث الْأَحْكَام خَمْسمِائَة كعدد الْآي

وَالْمرَاد أَن يعرف أَنْوَاع الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ مجَال النّظر وَالِاجْتِهَاد وَاحْترز بهَا عَن المواعظ والقصص فَمن أَنْوَاع الْكتاب وَالسّنة الْعَام الْخَاص والمجمل والمبين وَالْمُطلق والمقيد وَالنَّص وَالظَّاهِر والناسخ والمنسوخ وَمن أَنْوَاع السّنة الْمُتَوَاتر والآحاد والمتصل وَغَيره

لِأَنَّهُ بذلك يتَمَكَّن من التَّرْجِيح عِنْد تعَارض الْأَدِلَّة فَيقدم الْخَاص على الْعَام والمقيد على الْمُطلق والمبين على الْمُجْمل والناسخ على الْمَنْسُوخ والمتواتر على الْآحَاد وَيعرف الْمُتَّصِل من السّنة والمرسل مِنْهَا وَهُوَ غير الْمُتَّصِل وَحَال الروَاة قُوَّة وضعفا فِي حَدِيث لم يجمع على قبُوله

(و) الثَّامِنَة معرفَة (الْإِجْمَاع وَالِاخْتِلَاف) فِيهِ فَيعرف أَقْوَال الصَّحَابَة فَمن بعدهمْ إِجْمَاعًا واختلافا لِئَلَّا يَقع فِي حكم أَجمعُوا على خِلَافه

تَنْبِيه قَضِيَّة كَلَامه أَنه يشْتَرط معرفَة جَمِيع ذَلِك وَلَيْسَ مرَادا بل يَكْفِي أَن يعرف فِي الْمَسْأَلَة الَّتِي يُفْتِي أَو يحكم فِيهَا أَن قَوْله لَا يُخَالف الْإِجْمَاع فِيهَا إِمَّا بِعِلْمِهِ بموافقة بعض الْمُتَقَدِّمين أَو يغلب على ظَنّه أَن تِلْكَ الْمَسْأَلَة لم يتَكَلَّم فِيهَا الْأَولونَ

بل تولدت فِي عصره وعَلى هَذَا تقاس معرفَة النَّاسِخ والمنسوخ كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن الْغَزالِيّ وَأَقَرَّاهُ

(و) التَّاسِعَة معرفَة (طرق الِاجْتِهَاد) الموصلة إِلَى مدارك الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة

وَهِي معرفَة مَا تقدم وَمَا سَيذكرُهُ مَعَ معرفَة الْقيَاس صَحِيحه وفاسده بأنواعه الأولى والمساوي والأدون ليعْمَل بهَا

فَالْأول كقياس ضرب الْوَالِدين على التأفيف وَالثَّانِي كإحراق مَال الْيَتِيم على أكله فِي التَّحْرِيم فيهمَا

وَالثَّالِث كقياس التفاح على الْبر فِي الرِّبَا بِجَامِع الطّعْم

(و) الْعَاشِرَة (معرفَة طرف من لِسَان الْعَرَب) لُغَة وإعرابا وتصريفا لِأَن بِهِ يعرف عُمُوم اللَّفْظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده

ص: 613

وإجماله وَبَيَانه وصيغ الْأَمر وَالنَّهْي وَالْخَبَر والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء وَالْأَفْعَال والحروف وَمَا لَا بُد مِنْهُ فِي فهم الْكتاب وَالسّنة

(و) الْحَادِيَة عشرَة معرفَة طرف (تَفْسِير) من (كتاب الله تَعَالَى) ليعرف بِهِ الْأَحْكَام الْمَأْخُوذَة مِنْهُ

تَنْبِيه هَذَا مَعَ الَّذِي قبله من جملَة طرق الِاجْتِهَاد وَلَا يشْتَرط أَن يكون متبحرا فِي كل نوع من هَذِه الْعُلُوم حَتَّى يكون فِي النَّحْو كسيبويه وَفِي اللُّغَة كالخليل بل يَكْفِي معرفَة جمل مِنْهَا

قَالَ ابْن الصّباغ إِن هَذَا سهل فِي هَذَا الزَّمَان فَإِن الْعُلُوم قد دونت وجمعت انْتهى

وَيشْتَرط أَن يكون لَهُ من كتب الحَدِيث أصل كصحيح البُخَارِيّ وَسنَن أبي دَاوُد وَلَا يشْتَرط حفظ جَمِيع الْقُرْآن وَلَا بعضه عَن ظهر قلب بل يَكْفِي أَن يعرف مظان أَحْكَامه فِي أَبْوَابهَا فيراجعها وَقت الْحَاجة

وَلَا بُد أَن يعرف الْأَدِلَّة الْمُخْتَلف فِيهَا كالأخذ بِأَقَلّ مَا قيل وكالاستصحاب وَمَعْرِفَة أصُول الِاعْتِقَاد

كَمَا حُكيَ فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا عَن الْأَصْحَاب اشْتِرَاطه ثمَّ اجْتِمَاع هَذِه الْعُلُوم إِنَّمَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد الْمُطلق وَهُوَ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيع أَبْوَاب الشَّرْع

أما الْمُقَلّد بِمذهب إِمَام خَاص فَلَيْسَ عَلَيْهِ معرفَة قَوَاعِد إِمَامه وليراع فِيهَا مَا يُرَاعى الْمُطلق فِي قوانين الشَّرْع فَإِنَّهُ مَعَ الْمُجْتَهد كالمجتهد مَعَ نُصُوص الشَّرْع وَلِهَذَا لَيْسَ لَهُ أَن يعدل عَن نَص إِمَامه كَمَا لَا يسوغ الِاجْتِهَاد مَعَ النَّص

قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد وَلَا يَخْلُو الْعَصْر عَن مُجْتَهد إِلَّا إِذا تداعى الزَّمَان وَقربت السَّاعَة

وَأما أَقْوَال الْغَزالِيّ والقفال إِن الْعَصْر خلا عَن الْمُجْتَهد المستقل

فَالظَّاهِر أَن المُرَاد مُجْتَهد قَائِم بِالْقضَاءِ فَإِن الْعلمَاء يرغبون عَنهُ فقد قَالَ مَكْحُول لَو خيرت بَين الْقَضَاء وَالْقَتْل لاخترت الْقَتْل

وَامْتنع مِنْهُ الشَّافِعِي وَأَبُو حنيفَة رضي الله عنهما وَهَذَا ظَاهر لَا شكّ فِيهِ إِذْ كَيفَ يُمكن الْقَضَاء على الْأَعْصَار بخلوها عَن الْمُجْتَهد وَالشَّيْخ أَبُو عَليّ وَالْقَاضِي الْحُسَيْن والأستاذ أَبُو إِسْحَاق وَغَيرهم كَانُوا يَقُولُونَ لسنا مقلدين للشَّافِعِيّ بل وَافق رَأينَا رَأْيه

وَيجوز تبعيض الِاجْتِهَاد بِأَن يكون الْعَالم مُجْتَهدا فِي بَاب دون بَاب فيكفيه علم مَا يتَعَلَّق بِالْبَابِ الَّذِي يجْتَهد فِيهِ

(و) الثَّانِيَة عشرَة (أَن يكون سميعا) وَلَو بصياح فِي أُذُنه فَلَا يُولى أَصمّ لَا يسمع أصلا فَإِنَّهُ لَا يفرق بَين إِقْرَار وإنكار

وَالثَّالِثَة عشرَة أَن يكون (بَصيرًا) فَلَا يُولى أعمى وَلَا من يرى الأشباح وَلَا يعرف الصُّور لِأَنَّهُ لَا يعرف الطَّالِب من الْمَطْلُوب فَإِن كَانَ يعرف الصُّور إِذا قربت مِنْهُ صَحَّ وَخرج بالأعمى الْأَعْوَر فَإِنَّهُ يَصح تَوليته

وَكَذَا من يبصر نَهَارا فَقَط دون من يبصر لَيْلًا فَقَط قَالَه الْأَذْرَعِيّ

فَإِن قيل قد اسْتخْلف النَّبِي صلى الله عليه وسلم ابْن أم مَكْتُوم على الْمَدِينَة وَهُوَ أعمى

وَلذَلِك قَالَ مَالك بِصِحَّة ولَايَة الْأَعْمَى أُجِيب بِأَنَّهُ إِنَّمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي إِمَامَة الصَّلَاة دون الحكم

تَنْبِيه لَو سمع القَاضِي الْبَيِّنَة ثمَّ عمي

قضى فِي تِلْكَ الْوَاقِعَة على الْأَصَح وَاسْتثنى أَيْضا لَو نزل أهل قلعة على حكم أعمى

فَإِنَّهُ يجوز كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي مَحَله

ص: 614

وَالرَّابِعَة عشرَة أَن يكون (كَاتبا) على أحد وَجْهَيْن اخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ وَالزَّرْكَشِيّ لاحتياجه إِلَى أَن يكْتب إِلَى غَيره وَلِأَن فِيهِ أمنا من تَحْرِيف القارىء عَلَيْهِ وأصحهما كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا عدم اشْتِرَاط كَونه كَاتبا لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أُمِّيا لَا يقْرَأ وَلَا يكْتب

وَلَا يشْتَرط فِيهِ معرفَة الْحساب لتصحيح الْمسَائِل الحسابية الْفِقْهِيَّة كَمَا صَوبه فِي الْمطلب لِأَن الْجَهْل بِهِ لَا يُوجب الْخلَل فِي غير تِلْكَ الْمسَائِل والإحاطة بِجَمِيعِ الْأَحْكَام لَا تشْتَرط

وَالْخَامِسَة عشرَة أَن يكون (مستيقظا) بِحَيْثُ لَا يُؤْتى من غَفلَة وَلَا يخدع من غرَّة كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَام ابْن الْقَاص وَصرح بِهِ الْمَاوَرْدِيّ وَالرُّويَانِيّ وَاخْتَارَهُ الْأَذْرَعِيّ فِي الْوَسِيط واستند فِيهِ إِلَى قَول الشَّيْخَيْنِ وَيشْتَرط فِي الْمُفْتِي التيقظ وَقُوَّة الضَّبْط قَالَ وَالْقَاضِي أولى بِاشْتِرَاط ذَلِك وَإِلَّا لضاعت الْحُقُوق انْتهى مُلَخصا وَلَكِن المجزوم بِهِ كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغَيرهَا اسْتِحْبَاب ذَلِك لَا اشْتِرَاطه

تَنْبِيه هَاتَانِ الخصلتان الضعيفتان الْمَوْعُود بهما وَأما المتروكتان فَالْأولى كَونه ناطقا فَلَا تصح تَوْلِيَة الْأَخْرَس على الصَّحِيح لِأَنَّهُ كالجماد

وَالثَّانيَِة أَن يكون فِيهِ كِفَايَة للْقِيَام بِأَمْر الْقَضَاء فَلَا يُولى مختل نظر بكبر أَو مرض أَو نَحْو ذَلِك وَفسّر بَعضهم الْكِفَايَة اللائقة بِالْقضَاءِ بِأَن يكون فِيهِ قُوَّة على تَنْفِيذ الْحق بِنَفسِهِ فَلَا يكون ضَعِيف النَّفس جَبَانًا فَإِن كثيرا من النَّاس يكون عَالما دينا وَنَفسه ضَعِيفَة عَن التَّنْفِيذ

والإلزام والسطوة فيطمع فِي جَانِبه بِسَبَب ذَلِك وَإِذا عرف الإِمَام أَهْلِيَّة أحد ولاه وَإِلَّا بحث عَن حَاله كَمَا اختبر صلى الله عليه وسلم معَاذًا وَلَو ولى من لَا يصلح للْقَضَاء مَعَ وجود الصَّالح لَهُ وَالْعلم بِالْحَال أَثم الْمولي بِكَسْر اللَّام وَالْمولى بِفَتْحِهَا وَلَا ينفذ قَضَاؤُهُ وَإِن أصَاب فِيهِ فَإِن تعذر فِي شخص جَمِيع هَذِه الشُّرُوط السَّابِقَة فولى السُّلْطَان لَهُ شَوْكَة فَاسِقًا مُسلما أَو مُقَلدًا نفذ قَضَاؤُهُ للضَّرُورَة لِئَلَّا تتعطل مصَالح النَّاس فَخرج الْمُسلم الْكَافِر إِذا ولي بِالشَّوْكَةِ

وَأما الصَّبِي وَالْمَرْأَة فَصرحَ ابْن عبد السَّلَام بنفوذه مِنْهُمَا

وَمَعْلُوم أَنه يشْتَرط فِي غير الْأَهْل معرفَة طرف من الْأَحْكَام وللعادل أَن يتَوَلَّى الْقَضَاء من الْأَمِير الْبَاغِي

فقد سُئِلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن ذَلِك لمن استقضاه زِيَاد فَقَالَت إِن لم يقْض لَهُم خيارهم قضى لَهُم شرارهم

فروع ينْدب للْإِمَام أَن يَأْذَن للْقَاضِي فِي الِاسْتِخْلَاف إِعَانَة لَهُ فَإِن أطلق التَّوْلِيَة اسْتخْلف فِيمَا عجز عَنهُ

فَإِن أطلق الْإِذْن فِي الِاسْتِخْلَاف اسْتخْلف مُطلقًا فَإِن خصصه بِشَيْء لم يتعده وَشرط الْمُسْتَخْلف بِفَتْح اللَّام كَشَرط القَاضِي السَّابِق إِلَّا أَن يسْتَخْلف فِي أَمر خَاص كسماع بَيِّنَة فَيَكْفِي علمه بِمَا يتَعَلَّق بِهِ

وَيحكم بِاجْتِهَادِهِ إِن كَانَ مُجْتَهدا أَو اجْتِهَاد مقلده إِن كَانَ مُقَلدًا

وَجَاز نصب أَكثر من قَاض بِمحل إِن لم يشرط اجْتِمَاعهم على الحكم وَإِلَّا فَلَا يجوز لما يَقع بَينهمَا من الْخلاف فِي مَحل الِاجْتِهَاد وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل أَن عدم الْجَوَاز مَحَله فِي غير الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا وَهُوَ ظَاهر وَيجوز تحكيم اثْنَيْنِ فَأكْثر أَهلا للْقَضَاء فِي غير عُقُوبَة الله تَعَالَى وَلَو مَعَ وجود قَاض وَخرج بالأهل غَيره فَلَا يجوز تحكيمه مَعَ وجود الْأَهْل وَلَا ينفذ حكمه إِلَّا بِرِضا الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم إِن لم يكن أَحدهمَا قَاضِيا وَإِلَّا فَلَا يشْتَرط رضاهما وَلَا يَكْفِي رضَا جَان فِي ضرب دِيَة على عَاقِلَة وَلَو رَجَعَ أحد الْخَصْمَيْنِ قبل الحكم امْتنع وَلَو زَالَت أَهْلِيَّة القَاضِي بِنَحْوِ جُنُون كإغماء انْعَزل وَلَو

ص: 615

عَادَتْ لم تعد ولَايَته وَله عزل نَفسه كَالْوَكِيلِ وَللْإِمَام عَزله بخلل وَأفضل مِنْهُ وبمصلحة كتسكين فتْنَة

فَإِن لم يكن شَيْء من ذَلِك حرم وَنفذ عَزله إِن وجد ثمَّ صَالح وَإِلَّا فَلَا ينفذ وَلَا يَنْعَزِل قبل بُلُوغه عَزله

فَإِن علق عَزله بقرَاءَته كَاتبا انْعَزل بهَا وبقراءته عَلَيْهِ وينعزل بانعزاله نَائِبه لَا قيم يَتِيم

ووقف وَلَا من اسْتَخْلَفَهُ بقول الإِمَام اسْتخْلف عني وَلَا يَنْعَزِل قَاض ووال بانعزال الإِمَام وَلَا يقبل قَول متول فِي غير مَحل ولَايَته وَلَا مَعْزُول حكمت بِكَذَا وَلَا شَهَادَة كل مِنْهُمَا بِحكمِهِ إِلَّا إِن شهد بِحكم حَاكم وَلم يعلم القَاضِي أَنه حكمه

وَلَو ادّعى على متول جورا فِي حكمه لم يسمع ذَلِك إِلَّا بِبَيِّنَة

فَإِن ادّعى عَلَيْهِ بِشَيْء لَا يتَعَلَّق بِحكمِهِ أَو على مَعْزُول بِشَيْء فكغيرهما وَتثبت تَوْلِيَة القَاضِي بِشَاهِدين يخرجَانِ مَعَه إِلَى مَحل ولَايَته يخبران أَو باستفاضة

وَيسن أَن يكْتب موليه لَهُ كتابا بالتولية وَأَن يبْحَث القَاضِي عَن حَال عُلَمَاء الْمحل وعدوله قبل دُخُوله وَأَن يدْخل يَوْم الِاثْنَيْنِ فخميس فسبت

(وَيسْتَحب أَن يجلس) للْقَضَاء (فِي وسط الْبَلَد) ليتساوى أَهله فِي الْقرب مِنْهُ هَذَا إِن اتسعت خطته وَإِلَّا نزل حَيْثُ تيَسّر

وَهَذَا إِذا لم يكن فِيهِ مَوضِع يعْتَاد النُّزُول فِيهِ وَأَن ينظر أَولا فِي أهل الْحَبْس لِأَنَّهُ عَذَاب فَمن أقرّ مِنْهُم بِحَق فعل بِهِ مُقْتَضَاهُ وَمن قَالَ ظلمت فعلى خَصمه حجَّة

فَإِن كَانَ خَصمه غَائِبا كتب إِلَيْهِ ليحضر هُوَ أَو وَكيله ثمَّ ينظر فِي الأوصياء فَمن وجده عدلا قَوِيا فِيهَا أقره أَو فَاسِقًا أَخذ المَال مِنْهُ أَو عدلا ضَعِيفا عضده بِمعين ثمَّ يتَّخذ كَاتبا للْحَاجة إِلَيْهِ عدلا ذكرا حرا عَارِفًا بِكِتَابَة محَاضِر وسجلات شرطا فِيهَا فَقِيها عفيفا وافر الْعقل جيد الْخط ندبا وَأَن يتَّخذ مترجمين

وَأَن يتَّخذ قَاض أَصمّ مسمعين للْحَاجة إِلَيْهِمَا أَهلِي شَهَادَة وَلَا يضرهما الْعَمى لِأَن التَّرْجَمَة والإسماع تَفْسِير

وَنقل اللَّفْظ لَا يحْتَاج إِلَى مُعَاينَة بِخِلَاف الشَّهَادَات وَأَن يتَّخذ درة للتأديب وسجنا لأَدَاء حق ولعقوبة

وَيكون جُلُوسه (فِي مَوضِع) فسيح (بارز للنَّاس) أَي ظَاهر لَهُم ليعرفه من أَرَادَهُ من مستوطن وغريب مصونا من أَذَى حر وَبرد بِأَن يكون فِي الصَّيف فِي مهب الرّيح وَفِي الشتَاء فِي كن لائقا بِالْحَال فيجلس فِي كل فصل من الصَّيف والشتاء وَغَيرهمَا بِمَا يُنَاسِبه وَيكرهُ للْقَاضِي أَن يتَّخذ حاجبا كَمَا قَالَ (لَا حَاجِب لَهُ) أَي للْقَاضِي (دونهم) أَي الْخُصُوم أَي حَيْثُ لَا زحمة وَقت الحكم لخَبر من ولي من أُمُور النَّاس شَيْئا فاحتجب حجبه الله يَوْم الْقِيَامَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِن لم يجلس للْحكم بِأَن كَانَ فِي وَقت خلوته أَو كَانَ ثمَّ زحمة لم يكره نَصبه والبواب وَهُوَ من يقْعد بِالْبَابِ للإحراز وَيدخل على القَاضِي للاستئذان كالحاجب فِيمَا ذكر

قَالَ الْمَاوَرْدِيّ أما من وظيفته تَرْتِيب الْخُصُوم والإعلام بمنازل النَّاس أَي وَهُوَ الْمُسَمّى الْآن بالنقيب فَلَا بَأْس باتخاذه وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب وَغَيره باستحبابه

تَنْبِيه من الْآدَاب أَن يجلس على مُرْتَفع كدكة ليسهل عَلَيْهِ النّظر إِلَى النَّاس وَعَلَيْهِم الْمُطَالبَة وَأَن يتَمَيَّز عَن غَيره بفراش ووسادة وَإِن كَانَ مَشْهُورا بالزهد والتواضع ليعرفه النَّاس وليكون أهيب للخصوم وأرفق بِهِ فَلَا يمل وَأَن يسْتَقْبل الْقبْلَة لِأَنَّهَا أشرف الْمجَالِس كَمَا رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ

وَأَن لَا يتكىء بِغَيْر عذر وَأَن يَدْعُو عقب جُلُوسه بالتوفيق والتسديد

وَالْأولَى مَا روته أم سَلمَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا خرج من بَيته قَالَ بِسم الله توكلت على الله اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من أَن أضلّ أَو أضلّ أَو أزل أَو أزل أَو أظلم أَو أظلم أَو أَجْهَل أَو يجهل عَليّ قَالَ فِي الْأَذْكَار حَدِيث حسن رَوَاهُ أَبُو دَاوُد

قَالَ ابْن الْقَاص وَسمعت أَن الشّعبِيّ كَانَ يَقُوله إِذا خرج إِلَى مجْلِس الْقَضَاء وَيزِيد فِيهِ أَو أعتدي أَو يعتدى عَليّ اللَّهُمَّ أَعنِي بِالْعلمِ وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى حَتَّى لَا أنطق إِلَّا بِالْحَقِّ

ص: 616

وَلَا أَقْْضِي إِلَّا بِالْعَدْلِ

وَأَن يَأْتِي الْمجْلس رَاكِبًا وَأَن يسْتَعْمل مَا جرت بِهِ الْعَادة من الْعِمَامَة والطيلسان وَينْدب أَن يسلم على النَّاس يَمِينا وَشمَالًا وَأَن يشاور الْفُقَهَاء عِنْد اخْتِلَاف وُجُوه النّظر وتعارض الْأَدِلَّة فِي حكم قَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عليه وسلم {وشاورهم فِي الْأَمر} قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ كَانَ صلى الله عليه وسلم مستغنيا عَنْهَا وَلَكِن أَرَادَ أَن تكون سنة للحكام

أما الحكم الْمَعْلُوم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس جلي فَلَا

وَالْمرَاد بالفقهاء كَمَا قَالَه جمع من الْأَصْحَاب الَّذين يقبل قَوْلهم فِي الْإِفْتَاء فَيدْخل الْأَعْمَى وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَيخرج الْفَاسِق وَالْجَاهِل (وَلَا يقْعد للْقَضَاء فِي الْمَسْجِد) أَي يكره لَهُ اتِّخَاذه مَجْلِسا للْحكم صونا لَهُ عَن ارْتِفَاع الْأَصْوَات واللغظ الواقعين بِمَجْلِس الْقَضَاء عَادَة

وَلَو اتّفقت قَضِيَّة أَو قضايا وَقت حُضُوره فِيهِ لصَلَاة أَو غَيرهَا فَلَا بَأْس بفصلها وعَلى ذَلِك يحمل مَا جَاءَ عَنهُ صلى الله عليه وسلم وَعَن خلفائه فِي الْقَضَاء فِي الْمَسْجِد وَكَذَا إِذا احْتَاجَ لجُلُوس فِيهِ لعذر من مطر وَنَحْوه

فَإِن جلس فِيهِ مَعَ الْكَرَاهَة أَو دونهَا منع الْخُصُوم من الْخَوْض فِيهِ بالمخاصمة والمشاتمة وَنَحْوهمَا

بل يَقْعُدُونَ خَارجه وَينصب من يدْخل عَلَيْهِ خصمين وَإِقَامَة الْحُدُود فِيهِ أَشد كَرَاهَة كَمَا نَص عَلَيْهِ

ثمَّ شرع فِي التَّسْوِيَة بَين الْخَصْمَيْنِ فَقَالَ (وَيُسَوِّي) أَي القَاضِي (بَين الْخَصْمَيْنِ) وجوبا على الصَّحِيح (فِي ثَلَاثَة) بل سَبْعَة (أَشْيَاء) كَمَا ستعرفه الأول (فِي الْمجْلس) فيسوي بَينهمَا فِيهِ بِأَن يجلسهما بَين يَدَيْهِ أَو أَحدهمَا عَن يَمِينه وَالْآخر عَن يسَاره وَالْجُلُوس بَين يَدَيْهِ أولى وَلَا يرْتَفع الْمُوكل عَن الْوَكِيل والخصم لِأَن الدَّعْوَى مُتَعَلقَة بِهِ أَيْضا بِدَلِيل تَحْلِيفه إِذا وَجَبت يَمِين حَكَاهُ ابْن الرّفْعَة عَن الزبيلي وَأقرهُ قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَغَيره وَهُوَ حسن والبلوى بِهِ عَامَّة وَقد رَأينَا من يُوكل قرارا من التسويه بَينه وَبَين خَصمه وَالصَّحِيح جَوَاز رفع مُسلم على ذمِّي فِي الْمجْلس كَأَن يجلس الْمُسلم أقرب إِلَيْهِ من الذِّمِّيّ لما روى الْبَيْهَقِيّ عَن الشّعبِيّ قَالَ خرج عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِلَى السُّوق

فَإِذا هُوَ بنصراني يَبِيع درعا فعرفها عَليّ فَقَالَ هَذِه دِرْعِي بيني وَبَيْنك قَاضِي الْمُسلمين فَأتيَا إِلَى القَاضِي شُرَيْح فَلَمَّا رأى القَاضِي عليا قَامَ من مَجْلِسه وَأَجْلسهُ

فَقَالَ لَهُ عَليّ لَو كَانَ خصمي مُسلما لجلست مَعَه بَين يَديك وَلَكِنِّي سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول لَا تساووهم فِي الْمجَالِس اقْضِ بيني وَبَينه

فَقَالَ شُرَيْح مَا تَقول يَا نَصْرَانِيّ فَقَالَ الدرْع دِرْعِي فَقَالَ شُرَيْح لعَلي هَل من بَيِّنَة فَقَالَ عَليّ صدق شُرَيْح فَقَالَ النَّصْرَانِي إِنِّي أشهد أَن هَذِه أَحْكَام الْأَنْبِيَاء ثمَّ أسلم النَّصْرَانِي فَأعْطَاهُ عَليّ الدرْع وَحمله على فرس عَتيق قَالَ الشّعبِيّ فقد رَأَيْته يُقَاتل الْمُشْركين عَلَيْهِ

وَلِأَن الْإِسْلَام يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَيُشبه كَمَا قَالَ فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا أَن يجْرِي ذَلِك فِي سَائِر وُجُوه الْإِكْرَام حَتَّى فِي التَّقْدِيم فِي الدَّعْوَى كَمَا بَحثه بَعضهم وَهُوَ ظَاهر إِذا قلت خصوم الْمُسلمين

وَإِلَّا فَالظَّاهِر خِلَافه لِكَثْرَة ضَرَر الْمُسلمين

قَالَ الأسنوي وَلَو كَانَ أَحدهمَا ذِمِّيا وَالْآخر مُرْتَدا فَيتَّجه تَخْرِيجه على التكافؤ فِي الْقصاص

وَالصَّحِيح أَن الْمُرْتَد يقتل بالذمي دون عَكسه وتعجب البُلْقِينِيّ من هَذَا التَّخْرِيج فَإِن التكافؤ فِي الْقصاص لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ بسبيل وَلَو اعتبرناه لرفع الْحر على العَبْد وَالْوَالِد على الْوَلَد

ص: 617

(و) الثَّانِي فِي اسْتِمَاع (اللَّفْظ) مِنْهُمَا لِئَلَّا ينكسر قلب أَحدهمَا

(و) الثَّالِث فِي (اللحظ) بالظاء المشالة وَهُوَ النّظر بمؤخر الْعين كَمَا قَالَه فِي الصِّحَاح وَالْمعْنَى فِيهِ مَا تقدم

وَالرَّابِع فِي دخولهما عَلَيْهِ فَلَا يدْخل أَحدهمَا قبل الآخر

وَالْخَامِس فِي الْقيام لَهما فَلَا يخص أَحدهمَا بِقِيَام إِن علم أَنه فِي خُصُومَة فَإِن لم يعلم إِلَّا بعد قِيَامه لَهُ فإمَّا أَن يعْتَذر لخصمه مِنْهُ وَإِمَّا أَن يقوم لَهُ كقيامه للْأولِ

وَهُوَ الأولى وَاخْتَارَ ابْن أبي الدَّم كَرَاهَة الْقيام لَهما جَمِيعًا فِي آدَاب الْقَضَاء لَهُ أَي إِذا كَانَ أَحدهمَا مِمَّن يُقَام لَهُ دون الآخر لِأَنَّهُ رُبمَا يتَوَهَّم أَن الْقيام لَيْسَ لَهُ

وَالسَّادِس فِي جَوَاب سلامهما إِن سلما مَعًا فَلَا يرد على أَحدهمَا وَيتْرك الآخر فَإِن سلم عَلَيْهِ أَحدهمَا انْتظر الآخر أَو قَالَ لَهُ سلم ليجيبهما مَعًا إِذا سلم قَالَ الشَّيْخَانِ وَقد يتَوَقَّف فِي هَذَا إِذا طَال الْفَصْل وَكَأَنَّهُم احتملوا هَذَا الْفَصْل لِئَلَّا يبطل معنى التَّسْوِيَة

وَالسَّابِع فِي طلاقة الْوَجْه وَسَائِر أَنْوَاع الْإِكْرَام فَلَا يخص أَحدهمَا بِشَيْء مِنْهَا وَإِن اخْتلف بفضيلة أَو غَيرهَا

تَنْبِيه ينْدب أَن لَا يَشْتَرِي وَلَا يَبِيع بِنَفسِهِ لِئَلَّا يشْتَغل قلبه عَمَّا هُوَ بصدده

وَلِأَنَّهُ قد يحابي فيميل قلبه إِلَى من يحابيه إِذا وَقع بَينه وَبَين غَيره حُكُومَة والمحاباة فِيهَا رشوة أَو هَدِيَّة وَهِي مُحرمَة وَأَن لَا يكون لَهُ وَكيل مَعْرُوف كي لَا يحابي أَيْضا فَإِن فعل ذَلِك كره والمعاملة فِي مجْلِس حكمه أَشد كَرَاهَة

(وَلَا يجوز) للْقَاضِي (أَن يقبل الْهَدِيَّة) وَإِن قلت فَإِن أهدي إِلَيْهِ من لَهُ خُصُومَة فِي الْحَال عِنْده سَوَاء أَكَانَ مِمَّن يهدى إِلَيْهِ قبل الْولَايَة سَوَاء أَكَانَ (من أهل عمله) أم لَا أَو لم يكن لَهُ خُصُومَة لكنه لم يهد لَهُ قبل ولَايَته الْقَضَاء ثمَّ أهدي إِلَيْهِ بعد الْقَضَاء هَدِيَّة حرم عَلَيْهِ قبُولهَا

أما فِي الأولى فلخبر هَدَايَا الْعمَّال سحت وَرُوِيَ هَدَايَا السُّلْطَان سحت وَلِأَنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْميل إِلَيْهِ وينكسر بهَا قلب خَصمه وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن سَببهَا الْعَمَل ظَاهرا وَلَا يملكهَا فِي الصُّورَتَيْنِ لَو قبلهَا ويردها على مَالِكهَا فَإِن تعذر وَضعهَا فِي بَيت المَال وَقَضِيَّة كَلَامهم أَنه لَو أرسلها إِلَيْهِ فِي مَحل ولَايَته وَلم يدْخل بهَا حرمت وَهُوَ كَذَلِك وَإِن ذكر فِيهَا الْمَاوَرْدِيّ وَجْهَيْن

تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك هَدِيَّة أَبْعَاضه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ إِذْ لَا ينفذ حكمه لَهُم وَلَو أهدي إِلَيْهِ من لَا خُصُومَة لَهُ وَكَانَ يهدى إِلَيْهِ قبل ولَايَته جَازَ لَهُ قبُولهَا إِن كَانَت الْهَدِيَّة بِقدر الْعَادة السَّابِقَة

وَالْأولَى إِذا قبلهَا أَن يردهَا أَو يثيب عَلَيْهَا لِأَن ذَلِك أبعد من

ص: 618

التُّهْمَة أما إِذا زَادَت على الْعَادة فَكَمَا لَو لم يعْهَد مِنْهُ ذَلِك كَذَا فِي أصل الرَّوْضَة وَقَضيته تَحْرِيم الْجَمِيع

لَكِن قَالَ الرَّوْيَانِيّ نقلا عَن الْمُهَذّب إِن كَانَت الزِّيَادَة من جنس الْهَدِيَّة جَازَ قبُولهَا لدخولها فِي المألوف وَإِلَّا فَلَا وَفِي الذَّخَائِر يَنْبَغِي أَن يُقَال إِن لم تتَمَيَّز الزِّيَادَة أَي بِجِنْس أَو قدر حرم قبُول الْجَمِيع وَإِلَّا فَالزِّيَادَة فَقَط

وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر فَإِن زَادَت فِي الْمَعْنى كَأَن أهْدى من عَادَته قطن حَرِيرًا هَل يبطل فِي الْجَمِيع أَو يَصح مِنْهَا بِقدر الْمُعْتَاد فِيهِ نظر استظهر الْإِسْنَوِيّ الأول وَهُوَ ظَاهر إِن كَانَ للزِّيَادَة وَقع وَإِلَّا فَلَا عِبْرَة بهَا والضيافة وَالْهِبَة كالهدية وَالْعَارِية إِن كَانَت مِمَّا يُقَابل بِأُجْرَة فَحكمهَا كالهدية وَإِلَّا فَلَا كَمَا بَحثه بَعضهم وَبحث بَعضهم أَيْضا أَن الصَّدَقَة كالهدية وَأَن الزَّكَاة كَذَلِك إِن لم يتَعَيَّن الدّفع إِلَيْهِ وَمَا بَحثه ظَاهر وَقبُول الرِّشْوَة حرَام وَهِي مَا يبْذل للْقَاضِي ليحكم بِغَيْر الْحق أَو ليمتنع من الحكم بِالْحَقِّ وَذَلِكَ لخَبر لعن الله الراشي والمرتشي فِي الحكم

فروع لَيْسَ للْقَاضِي حُضُور وَلِيمَة أحد الْخَصْمَيْنِ حَالَة الْخُصُومَة وَلَا يحضر وليمتهما

وَلَو فِي غير مَحل ولَايَته لخوف الْميل وَله تَخْصِيص إِجَابَة من اعْتَادَ تَخْصِيصه قبل الْولَايَة وَينْدب لَهُ إِجَابَة غير الْخَصْمَيْنِ إِن عمم المولم النداء لَهَا وَلم يقطعهُ كَثْرَة الولائم عَن الحكم وَإِلَّا فَيتْرك الْجَمِيع وَلَا يضيف أحد الْخَصْمَيْنِ دون الآخر وَلَا يلْتَحق فِيمَا ذكر الْمُفْتِي والواعظ ومعلموا الْقُرْآن وَالْعلم إِذْ لَيْسَ لَهُم أَهْلِيَّة الْإِلْزَام وللقاضي أَن يشفع لأحد الْخَصْمَيْنِ ويزن عَنهُ مَا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ ينفعهما وَأَن يُعِيد المرضى وَيشْهد الْجَنَائِز ويزور القادمين وَلَو كَانُوا متخاصمين لِأَن ذَلِك قربَة

(ويجتنب) القَاضِي (الْقَضَاء) أَي يكره لَهُ ذَلِك (فِي عشرَة مَوَاضِع) وأهمل مَوَاضِع كَمَا ستعرفها

وَضَابِط الْمَوَاضِع الَّتِي يكره للْقَاضِي الْقَضَاء فِيهَا كل حَال يتَغَيَّر فها خلقه وَكَمَال عقله الْموضع الأول (عِنْد الْغَضَب) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَا يحكم أحد بَين اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَان وَظَاهر هَذَا أَنه لَا فرق بَين الْمُجْتَهد وَغَيره وَلَا بَين أَن يكون لله تَعَالَى أَو لَا

وَهُوَ كَذَلِك لِأَن الْمَقْصُود تشويش الْفِكر وَهُوَ لَا يخْتَلف بذلك نعم تَنْتفِي الْكَرَاهَة إِذا دعت الْحَاجة إِلَى الحكم فِي الْحَال وَقد يتَعَيَّن الحكم على الْفَوْر فِي صور كَثِيرَة

(و) الثَّانِي عِنْد (الْجُوع و) الثَّالِث عِنْد (الْعَطش) المفرطين وَكَذَا عِنْد الشِّبَع المفرط وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف

ص: 619

(و) الرَّابِع عِنْد (شدَّة الشَّهْوَة) أَي التوقان إِلَى النِّكَاح

(و) الْخَامِس عِنْد (الْحزن) المفرط فِي مُصِيبَة أَو غَيرهَا

(و) السَّادِس عِنْد (الْفَرح المفرط) وَلَو قَالَ المفرطين لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ قيد فِي الْحزن أَيْضا كَمَا مر

(و) السَّابِع عِنْد (الْمَرَض) المؤلم كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الثَّامِن عِنْد (مدافعة) أحد (الأخبثين) أَي الْبَوْل وَالْغَائِط وَلَو ذكر أحد كَمَا قدرته فِي كَلَامه لَكَانَ أولى لإِفَادَة الِاكْتِفَاء بِهِ وكراهته عِنْد مدافعتهم بِالْأولَى وَكَذَا يكره عِنْد مدافعة الرّيح

كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ وَأَهْمَلَهُ المُصَنّف

(و) التَّاسِع عِنْد (النعاس) أَي غلبته كَمَا قيد بِهِ فِي الرَّوْضَة (و) الْعَاشِر عِنْد شدَّة (الْحر و) شدَّة (الْبرد) وأهمل المُصَنّف عِنْد الْخَوْف المزعج وَعند الملال وَقد جزم بهما فِي الرَّوْضَة وَإِنَّمَا كره الْقَضَاء فِي هَذِه الْأَحْوَال لتغير الْعقل والخلق فِيهَا فَلَو خَالف وَقضى فِيهَا نفذ قَضَاؤُهُ كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة لقصة الزبير الْمَشْهُورَة

وَلَا ينفذ حكم القَاضِي لنَفسِهِ لِأَنَّهُ من خَصَائِصه صلى الله عليه وسلم وَلَا يحكم لرقيقه وَلَا لشَرِيكه فِي المَال الْمُشْتَرك بَينهمَا للتُّهمَةِ

وَيحكم للْقَاضِي وَلمن ذكر مَعَه الإِمَام أَو قَاض آخر أَو نَائِبه وَإِذا أقرّ الْمُدعى عَلَيْهِ عِنْد القَاضِي أَو نكل عَن الْيَمين فَحلف الْمُدَّعِي الْيَمين الْمَرْدُودَة وَسَأَلَ القَاضِي أَن يشْهد على إِقْرَاره عِنْده فِي صُورَة الْإِقْرَار أَو على يَمِينه فِي صُورَة النّكُول أَو سَأَلَ الحكم بِمَا ثَبت عِنْده وَالْإِشْهَاد بِهِ لزمَه إجَابَته لِأَنَّهُ قد يُنكر بعد ذَلِك

(وَلَا يسْأَل) القَاضِي (الْمُدعى عَلَيْهِ) الْجَواب أَي لَا يجوز لَهُ ذَلِك (إِلَّا بعد كَمَال الدَّعْوَى) الصَّحِيحَة

وَيشْتَرط لصِحَّة كل دَعْوَى سَوَاء أَكَانَت بِدَم أم بِغَيْرِهِ كغصب وسرقة وَإِتْلَاف سِتَّة شُرُوط الأول أَن تكون مَعْلُومَة غَالِبا بِأَن يفصل الْمُدَّعِي مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه فِي دَعْوَى الْقَتْل قَتله عمدا أَو شبه عمد أَو خطأ إفرادا أَو شركَة فَإِن أطلق مَا يَدعِيهِ كَقَوْلِه هَذَا قتل ابْني يسن للْقَاضِي استفصاله عَمَّا ذكر

وَالثَّانِي أَن تكون ملزمة فَلَا تسمع دَعْوَى هبة شَيْء أَو بَيْعه أَو إِقْرَار بِهِ حَتَّى يَقُول الْمُدَّعِي وقبضته بِإِذن الْوَاهِب وَيلْزم البَائِع أَو الْمقر التَّسْلِيم

وَالثَّالِث أَن يعين مدعى عَلَيْهِ فَلَو قَالَ قَتله أحد هَؤُلَاءِ لم تسمع دَعْوَاهُ لإبهام الْمُدعى عَلَيْهِ

وَالرَّابِع وَالْخَامِس أَن يكون كل من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ غير حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ مُكَلّفا وَمثله

السَّكْرَان فَلَا تصح دَعْوَى حَرْبِيّ لَا أَمَان لَهُ وَلَا صبي وَلَا مَجْنُون وَلَا دَعْوَى عَلَيْهِم

وَالسَّادِس أَن لَا تناقضها دَعْوَى أُخْرَى فَلَو ادّعى على أحد انفرادا بِالْقَتْلِ ثمَّ ادّعى على آخر شركَة أَو انفرادا لم تسمع الدَّعْوَى الثَّانِيَة لِأَن الأولى تكذبها نعم إِن صدقه الآخر فَهُوَ مؤاخذ بِإِقْرَار وَتسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ على الْأَصَح فِي أصل الرَّوْضَة وَلَا يُمكن من العودة إِلَى الأولى لِأَن الثَّانِيَة تكذبها

(وَلَا يحلفهُ) أَي لَا يجوز للْقَاضِي أَن يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ

(إِلَّا بعد سُؤال) أَي طلب (الْمُدَّعِي) تَحْلِيفه فَلَو حلفه قبل طلبه لم يعْتد بِهِ فعلى هَذَا يَقُول القَاضِي للْمُدَّعِي حلفه وَإِلَّا فاقطع طَلَبك عَنهُ قَالَ ابْن النَّقِيب فِي مُخْتَصر الْكِفَايَة وَلَو حلف بعد طلب الْمُدَّعِي وَقبل إحلاف القَاضِي لم يعْتد بِهِ صرح بِهِ القَاضِي حسن اه

تَنْبِيه قد علم مِمَّا ذكره المُصَنّف أَنه لَا يجوز للْقَاضِي الحكم على الْمُدعى عَلَيْهِ إِلَّا بعد طلب الْمُدَّعِي وَهُوَ كَذَلِك على الْأَصَح فِي الرَّوْضَة فِي بَاب الْقَضَاء على الْغَائِب (وَلَا يلقن خصما) مِنْهُمَا (حجَّة) يستظهر بهَا على خَصمه أَي يحرم عَلَيْهِ ذَلِك لإضراره بِهِ

(وَلَا يفهمهُ) أَي وَاحِدًا مِنْهُمَا (كلَاما) يعرف بِهِ كَيْفيَّة الدَّعْوَى وَكَيْفِيَّة الْجَواب أَو الْإِقْرَار أَو الانكار لما مر وَخرج بِقَيْد الْخصم فِي كَلَامه الشَّاهِد فَيجوز

ص: 620

للْقَاضِي تَعْرِيفه كَيْفيَّة أَدَاء الشَّهَادَة

كَمَا صَححهُ القَاضِي أَبُو المكارم وَالرُّويَانِيّ وَأقرهُ عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَة خلافًا للشرف الْغَزِّي فِي ادعائه الْمَنْع مِنْهُ فَلَعَلَّهُ انْتقل نظره من منع التَّلْقِين إِلَى ذَلِك فَإِن القَاضِي لَا يلقن الشَّاهِد الشَّهَادَة كَمَا جزم بِهِ فِي الرَّوْضَة

(وَلَا يتعنت بِالشُّهَدَاءِ) أَي لَا يشق عَلَيْهِم كَأَن يَقُول لَهُم لم شهدتم وَمَا هَذِه الشَّهَادَة وَنَحْو ذَلِك

فَرُبمَا يُؤَدِّي إِلَى تَركهم الشَّهَادَة فيتضرر الْخصم الْمَشْهُود لَهُ بذلك

(وَلَا يقبل) القَاضِي (الشَّهَادَة) إِذا لم يعرف عَدَالَة الشَّاهِد (إِلَّا مِمَّن ثبتَتْ عَدَالَته) عِنْد حَاكم سَوَاء أطعن الْخصم فِيهِ أم سكت لِأَنَّهُ حكم بِشَهَادَة تَتَضَمَّن تعديله

وَالتَّعْدِيل لَا يثبت إِلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَسَيَأْتِي بَيَان الْعَدَالَة فِي فصل بعد ذَلِك

فَإِذا ثبتَتْ عَدَالَة الشَّاهِد ثمَّ شهد فِي وَاقعَة أُخْرَى قَالَ فِي الرَّوْضَة إِن لم يطلّ الزَّمَان حكم بِشَهَادَتِهِ وَلَا يطْلب تعديله ثَانِيًا وَإِن طَال فَوَجْهَانِ أصَحهمَا يطْلب تعديله ثَانِيًا لِأَن طول الزَّمَان يُغير الْأَحْوَال ثمَّ يجْتَهد الْحَاكِم فِي طوله وقصره انْتهى

قَالَ فِي الْخَادِم إِن الْخلاف فِي الطول فِي غير الشُّهُود المرتبين عِنْد الْحَاكِم أما هم فَلَا يجب طلب التَّعْدِيل قطعا قَالَه الشَّيْخ عز الدّين فِي قَوَاعِده انْتهى وَهُوَ حسن وَقَالَ فِي الْعدة إِذا استفاض فسق الشَّاهِدين بَين النَّاس فَلَا حَاجَة إِلَى الْبَحْث وَالسُّؤَال

(وَلَا تقبل شَهَادَة عَدو على عدوه) لحَدِيث لَا تقبل شَهَادَة ذِي غمر على أَخِيه رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه بِإِسْنَاد حسن والغمر بِكَسْر الْغَيْن الغل والحقد وَلما فِي ذَلِك من التُّهْمَة

تَنْبِيه المُرَاد بالعداوة الْعَدَاوَة الدُّنْيَوِيَّة الظَّاهِرَة لِأَن الْبَاطِنَة لَا يطلع عَلَيْهَا إِلَّا علام الغيوب وَفِي مُعْجم الطَّبَرَانِيّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ سَيَأْتِي قوم فِي آخر الزَّمَان إخْوَان الْعَلَانِيَة أَعدَاء السريرة بِخِلَاف شَهَادَته لَهُ إِذْ لَا تُهْمَة

ومليحة شهِدت لَهَا ضراتها وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء وعدو الشَّخْص من يحزن لفرحه ويفرح لحزنه

وَقد تكون الْعَدَاوَة من الْجَانِبَيْنِ وَقد تكون من أَحدهمَا فَيخْتَص برد شَهَادَته على الآخر

وَلَا يشْتَرط ظُهُورهَا بل يَكْفِي مَا دلّ عَلَيْهَا من الْمُخَاصمَة وَنَحْوهَا

كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ نَاقِلا لَهُ عَن نَص الْمُخْتَصر أما الْعَدَاوَة الدِّينِيَّة فَلَا توجب رد الشَّهَادَة فَتقبل بِشَهَادَة الْمُسلم على الْكَافِر

وَشَهَادَة السّني على المبتدع وَتقبل من مُبْتَدع لَا نكفره ببدعته كمنكري صِفَات الله تَعَالَى وخلقه أَفعَال عباده وَجَوَاز رُؤْيَته يَوْم الْقِيَامَة لاعتقادهم أَنهم مصيبون فِي ذَلِك لما قَامَ عِنْدهم بِخِلَاف من نكفره ببدعته كمنكري حُدُوث الْعَالم والبعث والحشر للأجسام وَعلم الله بالمعدوم وبالجزئيات لإنكارهم مَا علم مَجِيء الرَّسُول بِهِ ضَرُورَة فَلَا تقبل شَهَادَتهم

وَلَا شَهَادَة من يَدْعُو النَّاس إِلَى بدعته كَمَا لَا تقبل رِوَايَته بل أولى وَلَا شَهَادَة خطابي لمثله

إِن لم يذكر فِيهَا مَا يَنْفِي احْتِمَال اعْتِمَاده على قَول الْمَشْهُود لَهُ لاعْتِقَاده أَنه لَا يكذب فَإِن ذكر فِيهَا ذَلِك كَقَوْلِه رَأَيْت أَو سَمِعت أَو شهد لمُخَالفَة قبلت لزوَال الْمَانِع

ص: 621

(وَلَا) تقبل (شَهَادَة وَالِد) وَإِن علا (لوَلَده) وَإِن سفل (وَلَا) تقبل شها (ولد) وَإِن سفل (لوالده) وَإِن علا للتُّهمَةِ

وَلَو قَالَ المُصَنّف وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لبعضه

لَكَانَ أخصر وَأفهم كَلَامه قبُول شَهَادَة الْوَالِد على وَلَده وَعَكسه وَهُوَ كَذَلِك لانْتِفَاء التُّهْمَة

تَنْبِيه يسْتَثْنى من ذَلِك مَا لَو كَانَ بَينه وَبَين أَصله أَو فَرعه عَدَاوَة فَإِن شَهَادَته لَا تقبل لَهُ وَلَا عَلَيْهِ كَمَا جزم بِهِ فِي الْأَنْوَار وَإِذا شهد بِحَق لفرع أَو أصل لَهُ وأجنبي كَأَن شهد برقيق لَهما قبلت الشَّهَادَة للْأَجْنَبِيّ على الْأَصَح من قولي تَفْرِيق الصَّفْقَة

وَتقبل الشَّهَادَة لكل من الزَّوْجَيْنِ من الآخر لِأَن الْحَاصِل بَينهمَا عقد يطْرَأ وَيَزُول نعم لَو شهد لزوجته بِأَن فلَانا قَذفهَا لم تصح شَهَادَته فِي أحد وَجْهَيْن رَجحه البُلْقِينِيّ وَكَذَا لَا تقبل شَهَادَته عَلَيْهَا بِالزِّنَا لِأَنَّهُ يَدعِي خيانتها فرَاشه وَلَا تقبل شَهَادَة الشَّخْص لأحد أصليه أَو فرعيه على الآخر

كَمَا جزم بِهِ الْغَزالِيّ وَيُؤَيِّدهُ منع الحكم بَين أَبِيه وَأمه وَإِن خَالف ابْن عبد السَّلَام فِي ذَلِك مُعَللا بِأَن الْوَازِع الطبيعي قد تعَارض فَظهر الصدْق لضعف التُّهْمَة وَلَا تقبل تَزْكِيَة الْوَالِد لوَلَده وَلَا شَهَادَته لَهُ بِالرشد سَوَاء أَكَانَ فِي حجره أم لَا وَإِن أخذناه بِإِقْرَارِهِ برشد من فِي حجره

تَنْبِيه قد علم من كَلَام المُصَنّف أَن مَا عدا الأَصْل وَالْفرع من حَوَاشِي النّسَب تقبل شَهَادَة بَعضهم لبَعض فَتقبل شَهَادَة الْأَخ لِأَخِيهِ وَهُوَ كَذَلِك

وَكَذَا تقبل شَهَادَة الصّديق لصديقه وَهُوَ من صدق فِي ودادك بِأَن يهمه مَا أهمك

قَالَ ابْن الْقَاسِم وَقَلِيل ذَلِك أَي فِي زَمَانه ونادر فِي زَمَاننَا أَو مَعْدُوم (وَلَا يقبل) القَاضِي (كتاب قَاض) كتب بِهِ (إِلَى قَاض) وَلَو غير معِين أَي لَا يعْمل بِهِ (فِي) مَا أنهاه فِيهِ من (الْأَحْكَام)

كَأَن حكم فِيهِ لحاضر على غَائِب بدين (إِلَّا بعد شَهَادَة شَاهِدين) على شَهَادَة (يَشْهَدَانِ) عِنْد من وصل إِلَيْهِ من الْقُضَاة (بِمَا فِيهِ) أَي الْكتاب من الحكم

تَنْبِيه صُورَة الْكتاب كَمَا هُوَ حَاصِل كَلَام الرَّوْضَة حضر فلَان وَادّعى على فلَان الْغَائِب الْمُقِيم ببلدة كَذَا بدين وحكمت لَهُ بِحجَّة أوجبت الحكم وسألني أَن أكتب إِلَيْك بذلك فأجبته وأشهدت بالحكم شَاهِدين ويسميهما إِن لم يعدلهما وَإِلَّا فَلهُ ترك تسميتهما وَيسن خَتمه بعد قِرَاءَته على الشَّاهِدين بِحَضْرَتِهِ وَيَقُول أشهدكم أَنِّي كتبت إِلَى فلَان بِمَا سمعتما ويضعان خطيهما فِيهِ وَلَا يَكْفِيهِ أَن يَقُول أشهدكما أَن هَذَا خطي وَأَن مَا فِيهِ حكمي وَيدْفَع للشاهدين نُسْخَة أُخْرَى بِلَا ختم ليطالعاها ويتذكرا عِنْد الْحَاجة ويشهدان عِنْد القَاضِي الآخر على القَاضِي الْكَاتِب بِمَا جرى عِنْده من ثُبُوت أَو حكم إِن أنكر الْخصم

ص: 622