الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ميراث هندي
لماذا يتعثر في ألمانيا وبصفة خاصة كل تلميذ مبتدئ عند محاولاته الحسابية الأولى، وبخاصة عندما يتدرج من الآحاد إلى العشرات؟ فكتابة العدد (23) على السبورة تتطلب من التلميذ أن يقفز خانة ليكتب في التي تليها العدد (3) ومن ثم يعود إلى الخانة التي تركها ليكتب العدد (2)، ولو نسي في سرعة الكتابة أن يترك خانة ويكتب الأعداد حسب ترتيبها وسمعها ونطقها لخرج من (23) إلى (32) ومما يزيد في تعريض التلميذ للخطأ كتابة المئات، فلو اعتاد أن يكتب (85) من الخلف إلى الأمام أعني من اليمين إلى اليسار مثل (85) فإن التلميذ عند كتابة (123) يبدأ أولا بالعدد الدال على المئات (1) ثم بغتة (3) ثم يعود مرة أخرى إلى خانة العشرات حيث يكتب (2) ومن ثم تجده وقد استولت عليه الحيرة عندما يجد شعوبًا أخرى لا تقفز هذه الخانات؛ فالفرنسي يكتب العدد منطقيًا ومعقولا فمن المئات إلى العشرات ثم الآحاد فهو يقول للتعبير عن العدد (23)] فين تروا [والإنجليزى] تونتي ثري [والروسي (دودزتي تري) أما الألماني فيقول دراي أوند زوانسيج ولا يقول (زوانسيج دراي). وهنا يتفق الألماني مع العربي الذي يكتب من اليمين إلى اليسار ويلتزم اليمينية مع الأعداد من (1 - 99) وعن العرب أخذت سائر الشعوب المثقفة لا الألمان فقط هذه الأعداد وكان (كارل) الأكبر (شارلمان) يقول (زينزوج فنفسيج انتي تربو) = (مائة وخمسون وثلاثة)، بينما ظل الأمر زمنًا طويلًا اختلط فيه ترتيب العشرات والآحاد. فألمانية المرتفعات المتوسطة فضلت قديمًا استخدام
الآحاد- عند إدخال استخدام الأعداد العربية، ومن ثم مع مرور الزمن أخذ الألمان يعتادون استخدام التعبيرات العددية المطابقة للاستعمال العربي.
واستخدام الأعداد العربية ليس مقصورا على الألمان فقط بل نجدها عند جميع الشعوب المثقفة ولولاها ما استطاع العالم إصدار التذاكر أو تدوين أثمان الأشياء ولا طبع دليل تليفون أو تقرير سوق الأوراق المالية، ولولا هذه الأعداد العربية ما قام هذا البناء الشامخ الخاص بالرياضيات والطبيعيات والفلك أو الطائرات أو السفن عابرات المحيطات كذلك الطبيعة النووية وغيرها. وتقديرًا لفضل العرب على الإنسانية خلد العالم اسمهم بتسمية هذه الأعداد: الأعداد العربية.
إلا أن العرب ما زالوا يعترفون إلى اليوم بأن هذه الأعداد هندية الأصل، فهي تعرف عندهم باسم الأعداد الهندية.
والآن سنستعرض قصة الأعداد العربية مبتدئين بأصلها الهندي حتى غزوها أوربا فسائر أنحاء العالم مبينين خط سيرها والعقبات التي اعترضتها وانتصارها؛ لأنه لا يجول بخاطرنا اليوم ونحن نكتبها ونفكر فيها كما لو أننا نفكر في لغتنا القومية ونجهل تمامًا المراحل التي مرت بها هذه الأعداد والمجهودات التي بذلها الكثيرون في سبيل تمكينها من النصر الذي أحرزته.
اختلفت الشعوب ذات الحضارات القديمة في حوض البحر الأبيض المتوسط فيما بينها في التعبير عن العدد؛ فقدماء المصريين استخدموا للإشارة إلى الأعداد من (1 - 3) خطوطًا عمودية، بينما الخط الأفقي يعبر عن العدد (4)؛ لذلك كان الخطان الأفقيان في مصر القديمة يعبران عن العدد (8)، وقد وصلتنا مجموعات من خطوط أفقية وعمودية ونقط تربط بينها إشارات خاصة هيراطيقية للتعبير عن الأعداد (10) و (100) و (1000) فالعدد في مصر القديمة نشأ عن الهيروغليفية.
أما البابليون فقد استخدموا للتعبير عن العدد ثلاث إشارات، وهي عبارة عن أسافين أفقية وعمودية وزوايا وكانت تعبر عن مختلف الأعداد بواسطة ترتيبها ووضعها.
أما اليونان فقد استخدموا منذ عصر صولون حتى القرن السابق للميلاد أوائل حروف أسماء الأعداد، ثم كانوا يرتبونها ترتيبا خاصا صعبا ويكونون من الآحاد العشرات ثم المئات، ومن هنا نطق العدد يختلف اختلاف بيِّنًا عن كتابته.
وحوالي عام 500 ق. م طرأ على العدد اليوناني نظام جديد استخدم في أول الأمر في الرياضيات كما استخدم حروف الأبجدية الأربعة والعشرين بعد أن أضاف إليها ثلاث إشارات سامية الأصل. والواقع أن اليونان قد أخذوا الأبجدية وترتيبها واستخدام حروفها للدلالة على الأعداد عن الساميين.
ونحا نحو اليونان الرومان فقد استعانوا بحروف الأبجدية للتعبير عن العدد مع ملاحظة أن التقارب بين رسم الحرف ودلالته العددية جاء عفوا، فالروماني استخدم أصلا إشارات تشير إلى أغصان وكانت تكون خطوطا عمودية وترتب سويًا بحيث أنه إذا أراد أن يعبر عن العدد ثمانية جاء بثمانية أغصان ووضعها إلى جوار بعضها وإذا أراد التعبير عن العدد عشرة جاء بعشرة أغصان وثقبها بطريقة صليبية X)) ونصفها (7) أو (8) = (5). وهنا تتفق الأعداد الرومانية مع الإتروسكية والأومبرية مع ملاحظة أو الرومانيين استخدموا النصف الأعلى من الإشارة الدالة على العشرة أعني (7) للدلالة على العدد (5) بخلاف الإتروسكيين الذين اختاروا الجزء الأسفل (8) للتعبير عن (5) وهكذا عن طريق التصليب والتدوير والتنصيف تكونت بقية الأعداد حتى الألف. والشيء الجدير بالملاحظة أن هذه الإشارات الإيطالية -مع بعض الفوارق الطفيفة- ترجع إلى عصر أقدم من معرفة الإيطاليين بالأبجدية، ومع مرور الزمن نجد الإشارات الدالة على الأغصان تأخذ شكل الحروف مثلًا (1) = (1) و (7) - (5) و (X) - (10) و (L) =(50) و (C) =(100) و (D) =(500) و (M) =(1000).
أما الشبه القوي بين الإشارتين الدالتين على العددين (100) و (1000) وبين الحرف الأول من لفظ (سنتوم) أي مائة والحرف الأول من كلمة (ميل) أي ألف فقد وقع بمحض الصدفة، وهذا الشبه هو الذي سهل الانتقال إلى استخدام الأبجدية التي شاع استعمالها في العصور الوسطى.
والآن نتساءل ما الفرق بين كتابة العدد وتسميته والنطق به؟ إن كل عدد بل حتى الواحد يتكون من أجزاء كما تشتمل علبة الحساب على وحدات عددية مجتمعة وتعد فرادى كما يعد الإنسان نقودًا متساوية القيمة، وبينما يقول الروماني:(كوادر ينجنى أو كتوجينتا سبتم أي: أربعمائة وثمانين وسبعة إذ به يكتب «مائة. مائة. مائة .. مائة، خمسين، عشرة عشرة عشرة خمسة واحد. واحد». فالإشارات الرومانية الدالة عليها هي (cccclxxxvli). فلغة العدد واضحة منتظمة نظيفة ومتصلة من حيث النطق. أما كتابتها فمضطربة وإجراء العملية الحسابية البسيطة بها يتطلب جهدا كبيرا لصعوبتها. فلهذه الكتابة العددية حدودها لأنها لا تملك منم الإشارات ما يمكنها من التعبير عن كل القيم الحسابية. فالزائر للفوروم الروماني في روما يشاهد على الأعمدة السفن القرطاجنية التي استولى عليها الرومان في أول معركة بحرية انتصروا فيها عند (ميليه) على القرطاجنيين عام 260 ق. م، وللتعبير عن العدد (2200000) استخدم الكاتب ما لا يقل عن (2200000) إشارة وقد حفرت كل واحدة منها إلى جانب الأخرى، وهذا العدد هو أقصى ما عرفه الرومان والحساب الروماني والإشارات الرومانية.
وفي نصف الكرة الغربي كان الهنود هم الشعب الوحيد الذي ارتقى عن مستوى استخدام الطرق البدائية الحسابية العددية فلا تصفيف ولا ربط بين أجزاء متفرقة، فقد قسموا كل وحدة من وحدات الآحاد التسع كما تفعل ذلك اللغة أيضًا، وأوجدوا لكل جزء من العدد الإشارة الخاصة الدالة عليه، وبذلك يكون الهنود قد توصلوا إلى اختراع من أهم الاختراعات التي توصلت إليها الإنسانية. فهذه الآحاد الثابتة غير المتغيرة اكتسبت داخل حدود العدد قيمتها كآحاد وعشرات ومئات وآلاف وهَلُمَّ جَرَّا؛ لذلك أصبح ميسرًا للهنود كتابة أي عدد مهما عظمت قيمته.
أما الصينيون فبالرغم من أنهم كانوا يستخدمون كذلك نظام الخانات أعني الآحاد، العشرات، المئات الآلاف و
…
إلا أنهم كانوا يكتبون إلى جانب العدد الخانة التي يدل عليها مثلا العدد (3952) كانوا يكتبونه هكذا (2 أحاد 5 عشرات 9 مئات 3 آلاف).
كذلك نجد الرومانيين يكتبون الأعداد حسب خاناتها أعني (1) = (1) و (X)+ 10 و (C) =(100) و (M) =(1000) ثم نجد أنصافها (7) = (5) و (L) =50 و (D) =(500)، وهي تلتزم ترتيب العملة أعني الترتيب التنازلي فالعدد (3952) يكتبه الروماني هكذا: MMMDCCCCLII. فمن هذا العرض يتبين لنا أن الصيني كانت يكتب إلى جوار العدد قيمته العددية أي أنه من الآحاد أو العشرات أو المئات كما رأينا سابقًا، وقد استخدمت هذه الطريقة أوربا قبل أن تتمكن من الأعداد الهندية إذ نجد الهندي بخلاف الصيني والروماني يكتفي بالخانات فقط وهي تنطق بالقيمة العددية، وقد شارك الهنود في هذه الطريقة شعب «مايا» .
وهذا العمل الجبار لم ينهض به فرد بعينه لأن بلوغ هذه المرحلة يتطلب ولا شك تطورا خطيرا يقطعه الشعب تطورا في الرياضيات حتى يصل بها إلى هذه المنزلة العالمية، ولا شك أن هذه الإمكانيات قد توافرت للشعب الهندي بعد أن أتت عليه مئات السنين، وليس معنى هذا أن الهند لم تمر بالمراحل الأولى مراحل الاستعانة بالعصى وجمعها، ومن ثم أخذت حوالي عام 300 ق. م. تحول هذه الإشارات إلى أعداد وإن ظلت زمنا طويلا ملتزمة نوعًا بعينه من كتابة الخانات شأن الهند في ذلك شأن الصين. وحوالي القرن السادس الميلادي احتفظت الهند فقد بالأعداد الدالة على 1 - 9، كما أوجدت نظام الخانات.
وتحدثنا المصادر التي بأيدينا أن هذه الأعداد الهندية قد شقت طريقها خارج حدود وطنها، ففي عام 662 م نجد الراهب السرياني «سيفيروس سيفوخت» الذي كان رئيسا لأحد الأديرة وناظرًا على مدرسة عالية على الفرات يذكر في صدد الحديث عن الأعداد الهندية: أن أهم شيء في الحساب الهندي والذي يميزه على ما عداه في العالم الإشارات التسع: وهذا هو أول مدح قيل في الهند؛ فبواسطة هذه الإشارات الجديدة استطاع «سيفيروس» أن يؤدي عملياته الحسابية بطريقة جديدة، وهي استخدام صفوف من الإشارات تعبر عن أعداد لا نهاية لها إلا أنه كانت تنقصها إشارة خاصة للتعبير عن عدد بعينه فهذه الإشارات تدل على أعداد خاصة فقط؛ فمثلا العدد (3952) نجد فيه العدد (2) يعبر عن (اثنين) بينما العدد (5) يعبر
عن (خمسين) والعدد (9) هو (تسعمائة) والعدد (3) يساوي (ثلاثة آلاف)، ولكن عند كتابة العدد (أربعمائة وثمانية) يجب أن توجد إشارة تبين خانة العشرات حتى لا يختلط العدد بالعدد (48). وهنا أظهر الهنود، لسد هذه الخانة أو الإشارة إليها، عبقرية جبارة أثبتت كمال الأعداد الهندية. لقد أوجد الهندي ما يسمى بالدارة أو النقطة والتي تعرف في الهندية باسم «سونيا» أو «سونيا بندا» أي الفراغ، كما عبروا عن هذه الإشارة في الهندية أيضًا بكلمة «كها» ومعناها الثقب.
فهذه الدائرة (5) تدل أصلا على النقص في نظام الخانات في الحساب الهندي، ثم بعد ذلك استخدمها الهنود في حسابتهم كعدد مستقل، لكن الراهب السرياني «سيفيروس» ، ويعرف الدارة في هذا الاستعمال، ولا نعلم كيف استخدم هذا السرياني العدد الهندي بدون مساعدة الدارة.
وأول مرة شوهدت هذه الدارة في الكتابات الهندية كان عام 400 م، وقد ذكر الفلكي الهندي «براهما جوبتا» والذي ولد عام 598 م في رسالته المشهورة «سدهتنا» والتي وضعها وهو ابن ثلاثين عامًا، وقد عالج فيها النظام الفلكي فتحدث فيما تحدث عنه عن بعض قواعد الحساب والإشارات الخاصة بالأعداد التسعة، ثم ذكر الصفر كعدد خاص.
وفي عام 773 م وفد على الخليفة المنصور (754 - 775 م) في بغداد فلكي هندي آخر يدعى «كنكاه» .
ثم نجد الفلكي العربي المشهور بابن الآدمي يضع جدولًا يُعرف باسم «عقد اللآلئ» ، وقد خدم شعبه خدمة جليلة. وقد ذكر أنه في عام 156 هـ حضر إلى المنصور رجل من الهند متضلع في نوع الحساب الذي كان سائدًا في الهند وقتذاك ويعرف باسم «سند هند» ، وهو يتصل بحركات النجوم ومأخوذ عن كتاب «كارداجاز» الذي يحمل اسم الملك «فيجار» فأمر الخليفة المنصور بترجمة هذا الكتاب إلى العربية، واعتمادًا عليه يجب أن يؤلف آخر يعرف العرب حركات الكواكب، وأسند هذه المهمة إلى العالم محمد بن إبراهيم الفزاري الذي اعتمد على الكتاب الهندي اعتمادًا كبيرًا. أما كتاب «سند هند» فمعناه في اللغة الهندية «البقاء
الخالد»، وكان هذا الكتاب مرجعًا هامًا لسائر علماء ذلك العصر حتى زمن الخليفة المأمون (813 - 833 م).
وقد أعيد تأليف هذا الكتاب من جديد على يد محمد بن موسى الخوارزمي وقد استعان عند وضعه بالجداول المختلفة التي كانت متداولة في العالم الإسلامي، وقد قدر الفلكيون الذين استخدموا طريقة كتاب «سند هند» هذا الكتاب حق قدره ونشروه في أوسع الآفاق.
أما الكتاب الذي أحضره العالم الهندي إلى بغداد وأثار به إعجاب الخليفة، فهو «براهما جوبتاز سيدهنتا» ، وقد نقل إلى العربية تحت اسم «سند هند» وانصرف العلماء إلى دراسته بنشاط وهمة، كما لقي رواجًا عظيمًا بين القراء، وأوحى بقيام دراسات فلكية مستقلة مبتكرة شجعها الخلفاء وناصروها.
وبفضل هذا الكتاب تعرف العرب إلى الأعداد الهندية. ففي عام 706 م تجد الخليفة الوليد الأول. وقد امتد سلطان العرب في عصره حتى بلغ أسبانيا يصدر أمرًا بتحريم اليونانية في الدواوين وبخاصة في المالية، وقرر استخدام العربية مستثنيًا الأعداد فقط لعدم وجود ما يفضلها ويحل محلها إذ كان العرب قد رجوا وقتذاك على استخدام الأبجدية اليونانية للتعبير عن الأعداد. والذي حدث أن الأعداد الهندية أخذت في ذلك الوقت في الظهور فشقت طريقها إلى المجالات العلمية والحكومية والاقتصادية.
ولم يكن استبدال نظام بآخر من الأمور السهلة الميسرة. فإدراك قيم الخانات والصفر في الحساب من الأمور الهامة التي تتطلب كثيرًا من الجهد والعناية وبخاصة إذا كان النظام الجديد قد خلقته عقلية أجنبية لها تفكيرها الرياضي الخاص. ولكي ندرك مدى العناء الذي قاسته أوربا مثلًا يكفي أن نرجع إلى تاريخ دخول هذه الأعداد أوربا.
في الشرق العربي نجد عالمًا من خيرة العلماء يتولى تبسيط هذا الحساب الجديد إلى قراء العربية وبخاصة موظفي المصارف والتجار والمساحين، وهذا العالم هو
الخوارزمي الذي تناول كتاب «سند هند» وصاغه صياغة جديدة مبسطة جعلته في متناول القارئ، كما اهتم بمسألة الميراث في القرآن الكريم وعالجها علاجا سهلا مفهوما، كما ضرب كثيرا من الأمثلة والقواعد شارحا المواريث وعتق الرقيق.
ولا شك في أن الخوارزمي من أشهر العلماء الذين عرفهم العالم الإسلامي في تلك الفترة من الزمن وقد وقع عليه اختيار نصير العلم والعلماء الخليفة المأمون فقربه إليه وحنا عليه فوضع له كتبا كثيرة في الجغرافيا والفلك، وقد ترجمها إلى اللاتينية بعد مضي ثلاثة قرون على تأليفها الإنجليزي «أتيلهرت فون بات» فيسر ترجمته هذه لعلماء أوربا الاطلاع عليها والاستفادة منها. لكن المؤلفات التي خلدت ذكرى الخوارزمي كتاباه في الرياضيات أحدهما وهو «الجبر والمقابلة» ويعالج المسائل المتصلة بحياتنا اليومية. وقد ترجم في العصور الوسطى إلى اللاتينية إلا أن المترجم اختصر اسمه العربي واكتفي بلفظ «الجبر» ، وما زالت هذه الترجمة معروفة حتى اليوم باسم «الجبر» .
أما الكتاب الثاني الذي يخلد ذكرى الخوارزمي فهو كتاب صغير في الحساب الهندي وهو يشرح فيه الأعداد والحساب من جمع وطرح وضرب وقسمة، وكذلك الكسور والتنصيف والتضعيف.
وقد وجد هذا الكتاب طريقه إلى أسبانيا حيث ترجم في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي إلى اللاتينية، وفي نفس القرن ظهرت الطبعة الأولى للترجمة اللاتينية لهذا الكتاب في ألمانيا، وأقدم مخطوطة توجد في مكتبة فينا وهي ترجع إلى عام 1143، كما توجد نسخة أخرى في دير «سالم» محفوظة تحت اسم «ليبر الجوريزمي» أي كتاب الخوارزمي، وهو اليوم في «هيدلبرج» .
ثم نجد لفظ «الجوريتمي» يصبح علمًا على رجل يسمى «الجوريسموس» ، كما ازدادت الدعوة إلى استخدام الأعداد الهندية والحساب الهندي، وقد تفنن القوم في الدعوة إلى هذا حتى صاغوا في ذلك شعرًا لاتينيًا، فقد وصلتنا قصيدة تعرف باسم «كرمن ده الجوريسمو» أي قصيدة اللوغاريتم، وهي للمؤلف «ألكسندر ده فيلا داي» وهو من أبناء القرن الثالث عشر الميلادي.
إن الخوارزمي لم يتكلم فقط، فاسم هذا العالم العربي الذي علم أوربا الأعداد الجديدة وطريقة الحساب أصبح علمًا على الطريقة الحسابية الجديدة «تكرار الخمسة الأعداد» ، وعلى العلم المعروف اليوم باسم «اللوغريتمات» . وقد وجد لهذا العلم الأنصار الذين كافحوا من أجل استخدام طريقته في الحساب في أسبانيا وألمانيا وإنجلترا وفرنسا وتغلبوا على خصومهم الذين كانوا يناصرون الطريقة القديمة حتى اشتهروا باسم «الأبجديين» (الباسيتين)، كما عرف أنصار الخوارزمي الذي بشروا بطريقته الحسابية واستخدام نظام الخانات والصفر باسم «اللوجريتميين» .
لكن الشيء الذي يؤسف له أن التاريخ سريع النسيان، ففي القرن الثالث عشر نتبين في القصيدة اللاتينية «كارمن ده الجوريسمو» أن أصل ومدلول كلمة «الجوريسموس» قد ضاع، وليس هذا فقط بل حتى أولئك الذين يعنون بالبحث عن أصول المفردات ومدلولاتها وبخاصة تلك التي تتصل اتصالا وثيقا بالحضارة الإنسانية يتجاهلون العرب ودروهم الخطير في الحضارة الإنسانية؛ لذلك لا يهتمون بالرجوع إلى العربية إذا ما أرادوا معرفة أصل الكلمة ومعناها. فمن الأوربيين من ذهب إلى أن لفظ «الجوريسموس» يتركب من كلمة «اليوس» أي «أجنبي» أو «دخيل» ولفظ «جوروس» أي «إدراك» أو «معرفة» اعتقادًا بأن هذه الكلمة تشير إلى أنها ملاحظة أجنبية دخيلة. وآخر يصر على الاعتقاد بأن في الكلمة لفظ «أرجيس» وهو لفظ يوناني ولفظ «موس» أي عادة؛ فاللفظ يدل على عادة يونانية. ونجد ثالثًا تردي في الخطأ أيضًا فقال إن الكلمة مشتقة من «أريس» أي «قوة» و «ريتموس» أي «عدد» . وجاء رابع بفكرة أخرى تقول بأن في لفظ «الجوريسموس» نجد الكلمة اليونانية «الجوس» ومعناها الرمل الأبيض وكلمة «ريتموس» أي عدد فكلمة «الجوريتموس» معناها الحساب على لوح مغطى برمل أبيض، كما جرت العادة قديمًا. ونجد خامسًا يفسر هذه الكلمة التي كثر حولها الجدل بأنها من «الجوس» أي «فن» و «رادوس» أعني «عددًا» فمدلول الكلمة «فن العدد» . أما القصيدة «كارمن ده الجو ريسموس» ، فقد قالت برأي آخر وهو أن خالق هذا الفن هو الملك «الجوروس» من الهند، ونسبه آخرون إلى ملك مسيحي خرافي يدعى «الجور» وكان ملكًا على كستيليا. ورأي آخر يدعى أنه فيلسوف. وفي رحلة طويلة حول
هذا اللفظ ومدلوله ظهر أخيرًا رأي جديد أقرب من كل ما سبق إلى الحقيقة، فقد اعتمد صاحب هذه الفكرة الجديدة على ما ورد مرة في كتاب منسوب إلى بطليموس وهو مكون من ثلاثة عشر جزءًا، وقد نقل إلى العربية مع تعريف اسمه تعريفًا عربيًا فأطلق على المترجم لفظ «الماجست» وهذه تسمية مركبة تركيبًا مزجيًا، وقياسًا على هذا لماذا لا يكون لفظ «الجوريسموس» أيضًا من العربية «أل» والكلمة اليونانية «أريسموس» أي العدد؟ أما الحرب «ج» فهو مقحم على الكلمة ولا يستحق التفكير. ففي الترجمة من اليونانية إلى العربية أو من العربية إلى اللاتينية كثيرًا ما يتعرض المترجم لمثل هذه الأخطاء وتلك الاحتمالات. وظل الحال كذلك حتى جاء القرن التاسع عشر واهتدى الفرنسي «ريناند» عام 1845 إلى وجود اسم الخوارزمي في لفظ «الجوريسموس» .
ومن حسن الحظ أن دليلًا قويًا يقوم على أن الأعداد العربية وجدت طريقها إلى أوربا عن طريق كتاب الخوارزمي الأول الذي عالج فيه الأعداد الجديدة التي أولاها العرب كل اهتمامهم، وشرعوا في كتابتها كعادتهم في لغتهم من اليمين إلى الشمال مبتدئين بالآحاد فالعشرات، كما نتبين هذه الظاهرة من كتاب الخوارزمي وحيث بسط لنا الصفر واستخدامه في الجمع والطرح، فقد ورد:
38
-18
ــ
20
فإذا كان الباقي لا شيء فيقرر الخوارزمي كما جاء في الترجمة اللاتينية: وجوب وضع دارة حتى لا تظل الخانة خالية، ومكان الدارة هو هذه الخانة؛ وبذلك يتجنب الوقوع في الخطأ واعتبار خانة العشرات كما لو أنها خانة آحاد ولا يتأثر الإنسان بخلو الخانة، ويعتبر العدد (2) أنه في الآحاد مع ملاحظة أن كتابة العدد تبدأ من اليمين إلى اليسار: ومن العبارة الأخيرة يفهم أن الصفر يوضع على يمين العدد ووضعه على يساره (02) لا يغير قيمته.
وبالاطلاع على المصادر الأخرى يتبين لنا أن مترجمي المراجع العربية قد راعوا الحرفية عند نقلها إلى اللاتينية، كما اقتبسوا مع هذه الترجمة الطريقة العربية في الكتابة، أعني من اليمين إلى اليسار؛ فالأعداد العربية قد نقلوها مكتوبة على الطريقة العربية.
أما الخوارزمي فلم يكن أول من عرف أوربا بالأعداد العربية فقد سبقه بنحو قرن ونصف قرن، أعني في القرن العاشر الميلادي أوربي نقلها عن العرب إلى أوربا وحاول جهده التوفيق في كسب أنصار لها فلم يوفق. وقد نشأ هذا الأوربي في أسرة متواضعة، ومن ثم أخذ يكد ويتعب حتى أصبح محور الحركة العقلية في بيئته فاكتسب صداقة ثلاثة من قياصرة ألمانيا كما أن المسيحية اختارته بابا.
وقبل ظهور هذا العالم لم تكن لأوربا دراية ما بالعلوم الرياضية وحتى اليونانية الهللينية قد ذبلت وأصبحت في خبر كان، والسر في هذه النكسة التي أصابت العلوم اليونانية الهللينية في أوربا ظهور المسيحية وموقف رجال الكنسية منها، فقد شك أولئك اللاهوتيون في كل ما هو وثني وحاربوه، ولم ينجح في الوصول إلى الأديرة إلا علم الحساب لضعف صلته بالعلوم اليوناينة. وقد كتب علم الحساب العالم «بوتيوس» أحد الرومانيين المتأخرين، وكان موضع ثقة الملك «ثيوديريش» ، ثم اتهم بالخيانة فأعدم ومن ثم جاءت العصور الوسطى فأعلنته قديسًا. وقد بلغت ندرة الكتب التي وضعها بعض المؤلفين الرومانيين حدَّ أن الرهبان في الأديرة كانوا يقيدونها بسلاسل حتى لا تفقد. وكان جل اهتمام الأديرة بالتدريس ينصرف إلى الحساب الابتدائي بواسطة الطريقة الرومانية القديمة التي كانت مستخدمة قبل معرفة الأعداد التسعة والإشارة الدالة على الصفر، وكانت هذه الطريقة الرومانية المعروفة باسم «أباكوس» عبارة عن إطار تمتد فيه أسلاك تجري فيها كرات تشبه هذه الطريقة المتبعة إلى اليوم لتعليم المبتدئين، كما درس الرهبان أيضًا الألغاز العددية الفيثاغورية أمثال:«إيزيدور» و «بيدا و «ألكوين» و «هرابانوس موروس» و «فالافريد سترابو» فلم يخطوا بالعلوم خطوة تذكر.
وإذا كان الحال كما صورنا فهل من المستغرب أن تتخلف أوربا وتعجز عن إشباع الرغبة العلمية لأبنائها؟ لقد ظهر فيها نفر تواق إلى التحصيل والمعرفة أمثال «جربرت فون أوريلاك» الذي كان حريصًا على طلب العلم أنى وجد، كما شغف بالاتصال بالعلماء مهما اختلفت عقائدهم وأوطانهم راغبًا في الاستفادة والإفادة، لذلك التف حوله الطلاب فحرص على تشويقهم إلى الرياضيات فنجح في خلق بيئة علمية أخلصت للعلم والنسخ والترجمة، فكان كالربيع الذي غمر الأرض بعد شتاء طويل.