الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم
والدي العزيز: إنك تسأل عما إذا كنت تحضر لي نقودًا عند زيارتك، والواقع أنني عندما أغادر المستشفى تصرف لي إدارته كسوة جديدة وتسلمني خمس قطع نقود ذهبية أنفق منها عقب خروجي من المستشفى مباشرة حتى لا أضطر إلى العمل وأنا في حاجة إلى الراحة للنقاهة. فأنت يا والدي لست في حاجة إلى بيع ماشية من مواشيك، والشيء الوحيد الذي أطلبه منك سرعة المبادرة، إذا ما أردت، زيارتي حيث أقيم الآن في قاعة ذوي العاهات إلى جانب حجرة العمليات، والوصول إليها سهل يسير، فعند دخولك من المدخل الرئيسي للمستشفى اتجه إلى القاعة الخارجية الواقعة جهة الجنوب وهي المصحة الشعبية التي نقلت إليها عقب سقوطي، وهناك يكشف على المريض مساعدو الأطباء وبرفقتهم الطلبة. أما المريض الذي لا يحتاج إلى علاج داخلي في المستشفى فيحصل على كشف بالدواء الذي يحتاج إليه، ويتناوله من صيدلية المستشفى. وبعد الكشف عليّ كتب اسم في سجل المستشفة وعرضت على كبير الأطباء، وقد حملني ممرض إلى قسم الرجال بعد أن أدخلني الحمام وألبسني ملابس نظيفة للمرضى. وعلى يشارك أيضًا تجد المكتبة والقاعة الكبرى للمحاضرات حيث يدرس كبير الأطباء للطلاب، وهذا المكان يقع خلفك. أما الطريق الواقع في جهة اليسار من فناء المستشفى فيؤدي إلى قسم النساء، لذلك يجب عليك أن تلتزم دائمًا ناحية اليمين مارًا بقسم الأمراض الباطنية، وقسم الجراحة. وعندما تسمع موسيقى أو غناء في قاعة من القاعات فانظر إلى داخلها إذ قد أكون في القاعة النهارية للاستجمام والترويح عن النفس حيث تجد كتبًا وموسيقى للتسلية.
ولما زارني صباح اليوم كبير الأطباء ومعه مساعدوه والممرضون وكشف، أملى عليَّ طبيب القسم شيئًا لم أفهمه، وقد شرح لي بعد ذلك أنني قد أغادر السرير غدًا وأترك المستشفى قريبًا. والواقع أنني لا أريد مغادرة المستشفى فكل شيء هنا في غاية النظافة والجمال، فالأسرة وثيرة وأغطيتها من القماش الدمشقي الأبيض وعليها أخرى هشة ناعمة كالقطيفة. وفي كل غرفة ماء جار وبها تدفئة تستخدم شتاء. أما وجبة الطعام فغالبًا ما تتكون من الطيور أو شواء الضأن لأولئك الذين تحتمل صحتهم مثل هذا.
إن جاري قد تمارض نحو أسبوع طالبًا في إطالة البقاء بالمستشفى ليتمتع بلحم صدر الفراخ، إلا أن كبير الأطباء تبينه وأخرجه من المستشفى البارحة بعد أن تبين جودة صحته من أنه أكل رغيفًا وفرخة كاملة. إذن احضر يا والدي قبل أن تعد لي آخر دجاجة!
فالحالة كما يصورها الخطاب نستطيع أن ننسبها إلى القرن العشرين الذي كثيرًا ما نشيد به. والواقع أن هذه الرسالة تصور مستشفى من المستشفيات الكثيرة التي كانت منتشرة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي قبل ألف عام من الهيمالايا إلى البرنات؛ ففي قرطبة نجد في منتصف القرن العاشر خمسين دمشقي. أما بغداد، وقد فاقت غيرها واشتهرت بمستشفياتها منذ عهد هارون الرشيد، فمواقع المستشفيات قد أحسن اختيارها صحيًا، كما زودت جميع غرفها ومحال الغسل بها بالمياه الجارية المأخوذة من نهر دجلة، وكان هذا شيئًا بدهيًا. فعندما شرع السلطان عضد الدولة في بناء مستشفى جديد كلف الطبيب المشهور الرازي اختيار أنسب مكان وأصحه، وأن عضد الدولة استشاره في الموضع الذي يجب أن يبنى فيه البيمارستان، وأن الرازي أمر بعض غلمانه أن تعلق في كل ناحية من جوانب بغداد شقة لحم؛ ثم اعتبر التي لم يتغير ولم يسهك فيها اللحم بسرعة فأشار بأن يبنى في تلك الناحية، وهو الموضع الذي بنى فيه البيمارستان.
وفي القاهرة لما أراد صلاح الدين تحويل قصر من قصوره إلى المستشفى الناصري اختار من بينها القصر الذي لا تكثر في قاعاته جموع النمل.
وقد شيد أولئك الملوك الأخيار إلى جانب القصور التي زودوها بمختلف وسائل الأبهة والراحة كثيرًا من دور الخير والبر حيث توفرت فيها وسائل النوم والراحة أو الإقامة حتى لكبار رجال الدولة، كما أن المستشفيات كانت مزودة ببعض قاعات النوم والحمامات المفتوحة للجميع.
ومن أشهر المستشفيات الإسلامية المستشفة الكبير المعروف باسم المنصوري أو دار الشفاء أو مارستان قلاوون، ولما تم بناؤه توجه السلطان في ركب عظيم، ولما بلغ البيمارستان استدعى قدحًا من الشراب فشربه وقال:«قد وقفت هذا على مثلي فمن دوني» ، وأوقفه السلطان على الملك والمملوك، والكبير والصغير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جهزه وكفن ودفن. ورتب فيه الحكماء الطبائعية والكحالين والجرائحية والمجبرين لمعالجة الرمد والمرضى والمجروحين والمكسورين من الرجال والنساء ورتب الفراشين والفراشات والقومة لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، لكل مريض فرش كامل. ولم يحصر السلطان أثابه الله هذا المكان المبارك بعده في المرضى. بل جعله سبيلًا لكل من يصل إليه في سائر الأوقات من غني وفقير. ولم يقتصر أيضًا على من يقيم به من المرضى بل رتب لمن يطلب وهو في منزله ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية.
ويذكر القوم عن أطباء دمشق ضاحكين عن الأمير الفارسي وشهيته في الطعام. فقد زار مرة مستشفى نوري رائحة دجاجة محمرة، فقرر التمارض وأخذ يتردد على المستشفى عدة مرات ففحصه الطبيب المختص فلم يجد به أي أثر لمرض فاحتار الطبيب فسأله هذا الفارسي الجشع سؤالين كشفا للطبيب سر تمارضه إلا أن الطبيب المهذب لم يدع الفرصة تمر دون أن يشير إلى مريضه بالتوجه إلى قسم الأمراض الباطنة ووصف له طعامًا يتناوله مرتين يوميًا وهو عبارة عن فطائر محشوة بالعسل وبداخلها قلوب فراخ وفراخ سمينة وحلوى ومختلف أنواع الأطعمة الشهية اللذيذة، وبعد ثلاثة أيام تلاشت مقاومة المريض وساءت صحته فقال له الطبيب:«ثلاثة أيام كرم عربي؛ وقد انتهت فتوكل في رعاية الله وحفظه والسلام عليكم» .
أما مستشفى نوري هذا فقد أسسه الرجل الإنساني الذي كان يعني بشئون رعيته ألا وهو السلطان نور الدين زنكي (1146 - 1174)، وقد شيده من فدية حصل عليها لإفراجه عن ملك من ملوك الإفرنج كان قد أسره وسجنه. ومن هنا كانت ترسل الأدوية إلى المنصور قلاوون القائد المصري الشاب عندما أصيب بالقرب من دمشق في مرارته. وبعد شفائه امتطى المنصور صهوة جواده وتوجه إلى المستشفى؛ ومنذ ذلك الوقت طاردته فكرة «واحة السلام» بينما كان يخوض غمار المعارك؛ إنه يذكر القاعة ذات الهواء العليل في المستشفى، ويذكر الأسرة البيضاء ذات الفراش الوثير. فنذر الله أنه -متى اعتلى عرش الحكيم- سيشيد للمرضى مستشفى كهذا. فلما جاءته السلطنة وفّى بوعده ونذره، وأنفق على بناء المستشفى مالًا كثيرًا وشيده في الشارع الممتد بين برجي القاهرة. هذا هو المستشفى المنصوري، وإنه حقًا قصر عظيم مؤثث أحسن تأثيث، وكان أحدث وأكمل مستشفى على سطح الكرة الأرضية.
وليس فقط الخلفاء والسلاطين أو الأثرياء هم الذين شيدو المستشفيات بل كذلك الأطباء مثل: سنان بن ثابت وثابت بن سنان الابن والحفيد للفلكي العظيم ثابت بن قرة، لقد أسس هؤلاء المستشفيات والمصحات ودور الإسعاف المتنقلة، كذلك شيدوا مستشفيات الأسرى. ففي عام 923 م أسس الوزير ابن الفرات في بغداد من ماله الخاص مستشفى لموظفيه حيث يعالجهم الأطباء مجانًا. وفي ميافارقين صارع الموت ابنه الحاكم فوعد والدها الطبيب المعالج أنه إذا شفاها قد له وزنها ذهبًا. والطبيب هو زاهد العلماء، وقد استطاع شفاء الفتاة إلا أنه اعتذر عن قبول الذهب ورجا الحاكم أن يشيد بالمال مستشفى، فاستجاب والد الفتاة وهو ناصر الدين وشيد المستشفى وأوقف عليه المال الكثير والأراضي الواسعة للإنفاق عليه.
وكان المرضى يعالجون فيه مجانًا سواء كانوا أغنياء أم فقراء، كما كانوا لا يدفعون شيئًا نظير إقامتهم في المستشفى، وحتى العلاج كان يصرف لهم مجانًا، وعلاوة على ذلك يتناول المرضى الملابس والنقود للإنفاق على الخصوصيات لمدة شهر بعد ترك المستشفى.
فمن أين كان يدفع جميع هذا؟
الواقع أن الإنفاق على مثل هذه المؤسسات العظيمة كان يتطلب إيرادًا منتظمًا ثابتًا ودقيقًا، فالمستشفى المنصوري مثلًا كان يحتاج سنويًا إلى مليون درهم، وكان هذا المبلغ يؤخذ من إيرادات أملاك الدولة التي يرصد دخلها للمستشفى عند الشرع في بنائه.
أما إدارة الأملاك فكانت في يد أناس مشهود لهم بالأمانة والكفاية تستطيع الدولة أن تعتمد عليهم وتراقبهم، كما أن إدارة المستشفى كانت غالبًا في يد أمير. أما السلطان فكان حريصًا على الإلمام بكل ما يجري في المستشفى عن طريق التفتيش أو الاستجواب.
وتعرض مستشفى بدر غلام المعتضد لضائقة مالية فكتب والد ثابت بن سنان رسالة إلى أبي الحسن علي بن عيسى يشكو إليه هذه الحالة ويعرفه ما يحلق المرضى من ضرر:
قال ثابت بن سنان: وكانت النفقة على البيمارستان الذي لبدر العضدي بالمخرم من ارتفاع وقف سجاح أم المتوكل على الله، وكان الوقف في يد أبي الصقر وهب بن محمد الكاذاني، وكان قسط من ارتفاع هذا الوقف يصرف إلى بني هاشم، وقسط إلى نفقة البيمارستان، وكان أبو الصقر يروج على بني هاشم ما لهم ويؤخر ما يصرف إلى نفقة البيمارستان ويضيقه، فكتب والدي إلى أبي الحسن علي بن عيسى يشكو إليه هذه الحال ويعرفه ما يلحق المرضى من الضرر بذلك وقصور ما يقدم لهم من الفحم والمؤن والدثار وغير ذلك عن مقدار حاجتهم، فوقع على ظهر رقعته إلى أبي الصقر توقيعًا نسخته أنت أكرمك الله تقف على ما ذكره، وهو غليظ جدًا، والكلام فيه معك خاصة فيما يقع منك يلزمك وما أحسبك تسلم من الإثم فيه، وقد حكيت عني في الهاشميين قولا لست أذكره وكيف تصرفت الأحوال في زيادة المال أو نقصانه ووفوره أو قصوره، ولا بد من تعديل الحال فيه بين أن تأخذ منه وتعجل للبيمارستان قسطًا، بل هو أحق بالتقديم على غيره لضعف من يلجأ إليه وعظيم النفع به، فعرفني أكرمك الله ما النكتة في قصور المال ونقصانه في تخلف
نفقة البيمارستان هذه الشهور المتتابعة وفي هذا الوقت خاصة من الشتاء واشتداد البرد، فاحتل بكل حيلة لما يطلق لهم ويعجل حتى يدفأ من في البيمارستان من المرضى والممرورين بالدثار والكسوة والفحم، ويقام لهم القوت ويتصل لهم العلاج والخدمة، وأجبني بما يكون منك في ذلك وأنفذ لي عملا يدلني على حجتك واعن بأمر البيمارستان فضل عناية إن شاء الله تعالى.
ومن إيراد هذه الأراضي كانت تدفع كذلك مرتبات الموظفين كما أن مدير المستشفى كان مكلفًا بإعداد سجل لجميع المصاريف اليومية ومنه نتبين ميزانية المستشفى ومرتبات الأطباء وغيرهم وأثمان الأدوية والأجهزة الطبية.
وكان كبير الأطباء هو المسئول عن سائر أطباء المستشفى، وهو يختار عادة من بين زملائه الأطباء حسب مواهبه وكفايته وقدرته. وقبل أن يختار الرازي مثلا رئيسًا للأطباء أثبت أولا تفوقه على مئات من الأطباء المتخصصين في مختلف الأمراض، وكان عدد أطباء المستشفى الذي يديره يبلغ أربعة وعشرين طبيبًا منهم الجرائحيون والكحالون والطبائعيون والمجبريون، وكان كل طبيب يشرف على قسم خاص، كما كانوا يتناوبون الخدمة. وقد كتب ابن أبي أصيبعة الطبيب الشاعر، والذي درس الطب في بلده دمشق كثيرًا، تقريرًا لطبيب عيون قد يصلح أن يكون من إنتاج العصر الذي نعيش فيه:
وحدثني شمس الدين أبو الفضل بن أبي الكحال المعروف بالمطواع رحمه الله أنه شاهده في البيمارستان، وأن أبا المجد بن أبي الحكم كان يدور على المرضى به، ويتفقد أحوالهم ويعتبر أمورهم وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك.
قال: وكان بعد فراغه من ذلك وطلوعه إلى القلعة وافتقاده المرضى من أعيان الدولة يأتي ويجلس في الإيوان الكبير للبيمارستان وجميعه مفروش ويحضر كتب الاشتغال. وكان نور الدين رحمه الله قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية وكانت في الخورستانين (المدخلين) اللذين في صدر الإيوان، فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه ثم تجري مباحث طبية، ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات ثم يركب إلى داره. . .
أما المستشفيات الكبرى فقد كانت في نفس الوقت هي المدارس العليا للطب فالمواد التي علمها أبقراط وجالينوس وكبار العلماء العرب كان يتلقنها الأطباء الناشئون في المحاضرات العامة تحت عقود المساجد وفي المدارس الطبية الخاصة التي كان يديرها الأطباء، وكذلك في المستشفيات والعيادات، وبينما كان يكتفى في الأديرة الأوربية ومدارسها بتحصيل العلوم في الكتب إذ بنا هنا في العالم العربي نجد العلوم يقوم بتدريسها علماء عمليون يمارسون الطب بخلاف الحال عند المسيحيين الذين كانوا يلوون ألسنتهم بنظريات جامدة جافة ويتجنبون بطريقة صوفية لمس الكائن الحي.
ففي المستشفيات العربية وحول الأسرة البيضاء كان الطبيب يطبق النظري على العملي، كما كان يستطيع فحص الجسد وتشريحه وفهمه وتقريبه إلى الأذهان.
وابن أبي أصيبعة يحدثنا في طبقاته في عهد دراساته في دمشق، وكيف كان الطلبة يرافقون الأستاذ عند زيارته للمرضى، وكيف كانوا يدرسون عميلًا مختلف الحالات عندما يفحصها الأستاذ ويشخص المرض ويصف العلاج، بل كثيرًا ما كانوا يسمعون المناقشة التي تدور بين رئيس الأطباء وزميل له مشهور، فكانت زيارة
الطلاب للمستشفى ذات فائدة مزدوجة: الدرس أولا ونظام المستشفى ثانيًا. هكذا كان يتكون الأطباء العرب، ومثل هذا النظام لم يعرفه العالم من قبل اللهم إلا في العصر الحديث فقط. وقد بلغ من حرص الدولة الإسلامية على المصلحة العامة أنها لم تكن تسمح لطبيب بمزاولة ما تخصص فيه من طب إلا بعد أن يؤدي امتحانًا نظريًا وعمليًا وتمنحه الدولة إجازة ينص فيها على مادة تخصصه. ولم يكن هذا التشريع مقصورًا على شرق العالم الإسلامي بل كان له نظيره في الأندلس.
ويذكر المؤرخون أن تاريخ تشريع الحصول على مثل هذه الشهادة يرجع إلى عام 931 م عندما علم الخليفة المقتدر أن طبيبًا بغداديًا ارتكب خطأ تسبب عنه موت المريض، لذلك أصدر الخليفة أمرًا بإجراء امتحان لسائر الأطباء الذين يزاولون هذه المهنة، ولم يستثن من هذا الامتحان إلا الأطباء الذين يعملون في مستشفيات الدولة، لذلك أمر بتكوين مجلس للأطباء وعين سنان بن ثابت رئيسًا له. ولمعرفة مدى انتشار مهنة الطب وقتذاك يكفي أن نذكر أن عدد أطباء بغداد الذين كانوا يعملون خارج الحكومة بلغ نحو تسعمائة طبيب
…
في الوقت الذي لم يكن فيه في كل حوض نهر الرين طبيب واحد. وبعد قرنين من وفاة الطبيب سنان أي في القرن الثاني عشر كان كبير أطباء بغداد هو «ابن التلميذ» المتوفى عام 1164 م. ومن النوادر التي كانت تقع في الامتحانات في ذلك الوقت ما ذكره ابن أبي أصيبعة في طبقاته عند حديثه عن أمين الدولة «ابن التلميذ» الذي كان قد قلده الخليفة رياسة الطب ببغداد، أنه لما اجتمع إليه سائر الأطباء ليرى ما عند كل منهم من هذه الصناعة كان من جملة من حضره شيخ له هيبة ووقار وعنده سكينة، فأكرمه أمين الدولة، وكانت لذلك الشيخ دربة ما بالمعالجة، ولم يكن عنده من علم صناعة الطب إلا التظاهر بها، فلما انتهى الأمر إليه قال له أمين الدولة: ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟ فقال: يا سيدنا وهل شيء مما تكلموا فيه إلا وأنا أعلمه، وقد سبق إلى فهمي أضعاف ذلك مرات كثيرة. فقال له أمين الدولة: فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟ فقال الشيخ: يا سيدنا إذا صار الإنسان إلى هذا السن ما يبقى ما يليق به إلا أن يسأل: كم له من التلاميذ، ومن هو المتميز فيهم؟ وأما المشايخ الذين قرأت
عليهم فقد ماتوا من زمن طويل؛ فقال له أمين الدولة: يا شيخ هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره، ومع هذا فما علينا، أخبرني أي شيء قد قرأنه من الكتب الطبية؟ وكان قصد أمين الدولة أن يتحقق مما عنده، فقال: سبحان الله العظيم .. صرنا إلى ما يسأل عنه الصبيان، وأي شيء قد قرأته من الكتب .. يا سيدنا لمثلي ما يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب، وكم لك فيها من الكتب والمقالات؟ ولا بد أنني أعرفك بنفسي. ثم إنه نهض إلى أمين الدولة ودنا منه وقعد وقال له فيما بينهما: يا سيدي أعلم أنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي عائلة، فسألتك بالله يا سيدي مش حالي ولا تفضحني بين هؤلاء الجماعة. فقال له أمين الدولة: على شريطة، وهي أنك لا تهجم على مريض بما لا تعلمه ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض، فقال الشيخ هذا مذهبي منذ كنت ما تعديت السكنجبين والجلاب. ثم إن أمين الدولة قال معلنًا والجماعة تسمع يا شيخ أعذرنا فإننا ما كنا نعرفك، والآن قد عرفناك استمر فيما أنت فيه فإن أحدًا ما يعارضك. ثم إنه عاد بعد ذلك فيما هو فيه من الجماعة، وقال لبعضهم: على من قرأت هذه الصناعة، وشرع في امتحانه فقال له يا سيدنا إنني من تلامذة هذا الشيخ الذي قد عرفته وعليه كنت قد قرأت صناعة الطب، ففطن أمين الدولة بما أراد من التعريض بقوله وتبسم ثم امتحنه بعد ذلك.
وحرصًا على تنفيذ اللائحة الطبية فيما يتعلق بالامتحانات وتخصص الأطباء وضع امتحان في الجراحة لجراح جاء فيه؛ هل درس هذا الجراح تشريح وجراحة «بولوس فون إيجينا» و «على بن العباس» ؟ وهل يلم هذا الجراح بجبر العظام والالتواء ومعالجة الحصوة واللوز وإزالة سحابة العين وفتح الخراجات؟ وهل هو ملم بالبتر أو فتح الجمجمة (تربنة)؟ وكان إذا نجح طالب الطب في الامتحان يمنح إجازة تجيز له مهنة الطب وتخصص الجراحة الصغيرة، وهي تنص بعد البسملة على منح الطالب حق ممارسة مادة تخصصه حتى شفاء المريض كما تذكر حقه في فصد العرق وإزالة البواسير وخلع الأسنان وخياطة الجروح وختان الرضع. . كذلك تحتم
عليه وجوب استشارة رؤسائه ومعلميه ذوي الخبرة والمعرفة.
أما مجالس الأطباء التي كانت تعقد لمدارسة الحالات الصعبة المعقدة فقد كانت ضمانًا آخر لتجنب الوقوع في الأخطاء الفنية وضمانًا لدقة وصحة تشخيص المرض والعلاج. وأكبر المستشارين من بين الأطباء سنًا هو الذي يرأس المجلس ويتول أصغرهم سنًا تسجيل المحضر.
وعند إجراء العمليات الجراحية الكبر يساعد الطبيب زميله كما هو الحال اليوم في أوربا، فنجد أحد الأطباء يقوم بعملية التحذير وذلك بواسطة قطعة من الإسفنج مبللة بالحشيش أو زهرة البسلة ومن ثم يضعها أمام أنف المريض لتخديره ثم هناك طبيب ثان يراقب نبض المريض وثالث يجري العملية وبكل عناية ودقة وحذر عندما يستخدم المبضع، فالجرح يجب ألا يكون كبيرًا جدًا أو عميقًا جدًا. أما المساعد فعليه أن يحجز الجلد بجرافة صغيرة دقيقة. وإذا ما فرغ الجراح من اتخاذ جميع هذه الاستعدادات يأخذ في إجراء العملية وليكن بخفة ليخلص الخراج من النسيج المحيط به، كما على الجراح ألا يتلف وعاء أو يفصل عصبًا. فإذا أصاب عرقًا فعليه أن يربطه بعناية ودقة حتى لا يغطي ويغمر الدم موضع العملية فيعوقه من إجراء العملية بدقة وعناية. فإذا كشف الجراح على الخراج ليتحسسه فليتأكد أنه لا توجد بقايا صغيرة بالجسم، ومن ثم يستبعد جميع البقايا بدقة، وإذا ما أخرج الخراج وانتزعه فليسرعن ويرجع الجلد إلى موضعه الأعلى. أما الزيادة فليستأصلها، وبعد ذلك تُجرى عملية الخياطة بأعصاب قطة. هكذا كان يعلم علي بن العباس.
ويذهب علي بن العباس بعيدًا ويقرر أن الطب قد لا يفيد في حالة السرطان فهو يطالب الجراح بانتزاعه من العضو المطب، وذلك بإزالة كل ما حول السرطان حتى لا تتبق جذور المرض في الجسم، ثم بعد العملية يجب وضع قطعة من القماش مبللة بالنبيذ لتجنب حدوث تلويث ولالتئام الجرح.
لذلك تجب مراعاة العناية الكاملة عند إجراء مثل هذه العملية فالعناية لا تقصر
على العضو المريض بل تمتد إلى سائر أجزاء الجسم، والطبيب مطالب عند الكشف على المريض أن يوجه إليه السؤال تلو السؤال، وعلى الطبيب أن يسأله عن الآلام التي تؤلمه وكيف يعيش وما هي عاداته وما هي الأمراض التي أصيب بها من قبل وما هي الأمراض الموجودة في الأسرة؟ كل هذه المسائل يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار.
أسئلة لا تنقطع توحي إلى الإنسان كما لو أنها حديثة بنت اليوم يوجهها الطبيب إلى المريض وهو يكشف عليه كسفًا دقيقًا. على الطبيب أن يتفرس في وجهه ولون وحالة الجلد والشعر وعمق التنفس، وهكذا يكون لنفسه صورة من المريض وحالته وطبيعته، ومتى فرغ الطبيب من ذلك يشرع في دراسة حالته العقلية فيوجه إليه مختلف الأسئلة ليتأكد من أن إجابته معقولة وليست مشوهة مضطربة. وكذلك على الطبيب أن يأمر المريض بأن يأتي أفعالا بعينها ليتأكد من قواه العقلية ومد طاعته وإلى أي حد سينفذ المريض بأن يأتي أفعالا بعينها ليتأكد من قواه العقلية ومد طاعته وإل أي حد سينفذ المريض نصائح الطبيب وأوامره. وبعد ذلك يحاول الطبيب أن يعرف اتجاهاته الخلقية، وما هي الأشياء التي تثيره وتؤلمه أو تفرحه وتسعده. ثم يطلب إلى الطبيب أن يهمس إلى المريض عن بعد لمعرفة حالة السمع، والنظر إلى الأجسام عن قرب أو بعد لاختبار قوة الأبصار، كما يفحص لسان المريض وقوته الجسدية، وذلك بأن يقدم له أثقالًا مختلفة يحملها ويأمره أن يقبض على أشياء بعينها وبقوة. ويجب على الطبيب أن يراقب حركات المريض وسكناته ويتأكد من حالة قلبه، وذلك عن طريق النبض، ولكي يتبين حالة عضله يأمره بالاستلقاء على الأرض باسطًا ذراعيه وساقيه. أما الكشف على الكبد والكلى فيتم عن طريق اللمس والبول والبراز.
ومما يثير الإعجاب حقًا ما توصل إليه العرب عن طريق النبض وتحليل البول، فقد كانوا يعتمدون على هذا التحليل متى توافرت له شروط خاصة. وقد توصلوا عن طريقه إلى أشياء خافية كثيرة.
ومن أشهر الأطباء الذين نبهوا في هذا ابن قرة، حتى إن أبا الحسن السري -أحد
شعراء سيف الدولة بن حمدان- مدحه بقصيدة لما شفاه من التهاب في الجيب بالقلب، جاء فيها:
هل للعليل سوى ابن قرة شاف ..... بعد الإله وهل له من كاف
أحيا لنا رسم الفلاسفة الذي ..... أودى وأوضح رسم طب عاف
فكأنه عيسى بن مريم ناطقًا .... يهب الحياة بأيسر الألطاف
مثلت له قارورتي فرأى بها .... ما اكتن بين حوانحي وشغافي
يبدو له الداء الخفي كما بدا .... للعين رضراض الغدير الصافي
ومبالغة في الدقة والعناية، نجد ابن سينا ينصح ويقول: يجب ألا نعتمد كل الاعتماد على النتائج؛ وذلك لأن ما نصل إليه من فحص البول يجب أن يتم بشروط خاصة؛ فالبول يجب أن يكون أول بول الصباح، ويجب ألا يمضي زمن طويل بين الحصول عليه وفحصه. وإبان الليل يجب على المريض ألا يشرب كثيرًا من الماء أو يأكل شيئًا له لون خاص مثل الزعفران أو الرمان، ويجب على المريض ألا يتحرك كثيرًا أو يقوم بأعمال كثيرة غير تلك العادية التي يأتي بها كل يوم، مثل الصوم أو الاستيقاظ متأخرًا أو إجهاد الجسم إجهادًا فوق العادة، وذلك لأن هذه الأعمال تسبب الجوع، فينتج عنه هيجان البول. كما أن الاضطجاع الجنسي يعكر البول، وكذلك القيء.
أما النتائج التي يحصل عليها الإنسان عن طريق تحليل البول فتتوقف على اللون والقوام والوضوح أو عدمه والرواسب والكمية والرائحة والرغوة وأقل فرق بين هذا البول والبول الطبيعي، كما أن أقل تغيير في حالته تستدعي الانتباه والاهتمام وتؤخذ بعين الاعتبار، ويجب أن تسجل جميع الملاحظات. وقد درجت المستشفيات العربية على استخدام نظام التسجيل والعناية به والاعتماد عليه، سواء فيما يختص بالفحص أو التشخيص أو العوارض المختلفة، كذلك التعليمات المتعددة وآثارها وتطور الحالة العامة، وبالاختصار. كنا نجد في المستشفيات تسجيلًا للمرض وحالاته يكاد يكون تاريخًا له.
فمن هذه التسجيلات التي تؤرخ المريض والمرض في المستشفيات الكبرى ببغداد ومدينة الري الواقعة في قلل الجبال في الربع الأول من القرن العاشر تم وضع مؤلف قيم في الطب، وقد ظل مئات السنين مستخدمًا كمرجع طبي دراسي لأطباء أوربا. فهو سجل للتجارب العملية، والتي يجب على الأطباء مراعاتها وعلى الطلبة دراستها، وقد وضع هذه المجموعة أكبر طبيب في العصور الوسطى وأحد عظماء أطباء العالم والإنسانية في مختلف العصور.