الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»
أرجوك أيتها السيدة الفاضلة أن تقبلي عذري واسمحي لي أن أظل دائماً عبدك الذي يقدرك كل التقدير.
ريز ماريا ريلكة
المطيع لك كثيراً ..
فريتز فرايهز فون ليليا نكرون
فسواء أكان هذا ماساً حقيقياً أم بلوراً فهذه الخلية التي تتحلى بها ملكة القلب أو زوج الرئيس، والتي توضع عند قدميها هذه الحلية وتلك الباقة من الألفاظ الرقيقة، مستوردة من الشرق العربي، وهذه العبارات منذ أن انتقلت إلى ألمانيا وأوروبا أخذت تنتقل من يد إلى أخرى ومن أخرى إلى أخرى وتتغير الصيغة مع مضي العصور واختلاف البلاد فحذف منها أو هذب، وما زالت بالرغم من جميع ذلك محتفظة بأثرها السحري ومفعولها العجيب عندما يستخدمها المحب الولهان عند مخاطبته حبيبته في القرن العشرين.
وإذا كنت غداً في خطابك المرسل إلى السيدة المحترمة وتوقعه بإمضائك على أنك خادمها، ولو أنك لست خادمها المطيع، فإنك على كل حال «الخاضع كثيراً فلان .. » إنك بهذه الصيغة تمجد العروبة وتقدم لها شكرك واحترامك. وفي كل
حفلة أو مناسبة كريمة في القرن العشرين وحيث تتاح لك الفرصة لتحقيق رغبة في تقبيل يد سيدة، فإنك تبرهن لها على مكانتك، وحيث تسيطر عليك مشاعرك الحقيقية وذلك بركوعك أمام حبيبتك فإنك مقلد لمحب عربي.
وإذا كررت هذا الصنيع وهذه اللغة وتلك الإشارات، وأنت في موقف الاستسلام والخنوع والخضوع أمام السيدة التي تقدسها، فإنما تأتي بعادة ثانية اكتسبتها أوربا من العرب، وكانت قبل الاتصال بهم تجهلها جهلاً تاماً، وقد تعلمتها أوربا عن العرب، كما تعلمت أشياء أخرى كثيرة، وهي تمارسها بالرغم من المتاعب والمشاق التي تتطلبها لأسباب تربوية كثيرة، وقد يقدمها الزوج إلى زوجه لوقوعه في خطيئة حواء وضعفه واستسلامه. هنا نجد استسلام الرجل لإرادة المرأة، وهناك استسلام المرأة لإرادة الرجل. وهكذا نجد نوع العلاقات الجنسية وقيامها بين الاثنين والذي ظل في أوربا قرونا طويلة موضوع نزاع حول محاولة كل طرف إحراز النصر على الآخر. والواقع أن العوامل التي نشأت بين الرجل والمرأة من حيث الرغبة في السيطرة، وأن كلا يشعر أنه هو صاحب الحق. أن هذه العوامل في الواقع دخيلة على أوربا غريبة عن الأوربيين.
وذلك لأن استسلام الرجل للمرأة وضعفه أمام السيدة المحترمة التي رفع من مكانتها وجعلها في مستوى الآلهة في هذا المجتمع الذي نعيش فيه عبارة عن شيء رمزي فقط، وقد أقبل عليه الرجل بمحض إرادته، أو أنه شيء بغيض مكروه حقير، إذ كيف يقبل شخص الفناء نهائياً أمام كائن رفعه ووضعه في مصاف الآلهة وأصبح عبارة عن مجاز شعري يقف منه موقف الخادم الذليل المطيع. إن هذه الطبيعة تغاير تماماً طبيعة الطريقة التي سلكها الحب الجرماني الذي يقوم على المساواة بين الشخصين واحترام الحقوق والحرية.
فالحب الجرماني لا يعرف توزيع الأدوار الموجودة في غراميات البحر الأبيض المتوسط، إن الحب الجرماني بعيد جداً عن المؤثرات الأجنبية، فهو لا يعرف استسلاماً وفناء وضياع شخصية طرف من الطرفين، بل يقوم على حب متبادل واحترام متبادل يتطلب الرضاء والإعجاب المتزايد. الحب الجرماني يتعارض مع
قول الكتاب المقدس «ليكن سيدك» ، وهكذا نجد الكنيسة تمزق الصلات بين الرجل والمرأة، الكنيسة هي التي تقضي على صلات المساواة كما جعلت من المرأة كائناً خاضعاً لقوة الرجل، وهذه استجابة لإرادة الله الذي شاءت مشيئته أن يفرق بين الجنسين فسلح الرجل الأوربي بكل وسائل القوة التي تحت تصرفه.
لكن بالرغم من موقف الكنيسة هذا نجد العادات العربية والتقاليد العربية تنتصر وبدون قوة، بل بالاعتراف بالحياة والأخذ بأسبابها. وهذا الموقف هو الذي كسر أغلال الكنيسة كما قاوم موقف الكنيسة العدائي من النساء والعودة بالمرأة إلى ثقافتنا، وهذه العودة طبيعية وضرورية. وجميع أحداث ذلك العصر من مسائل عقلية وجمال ونبل وشرف وثراء وغيرها من آيات المثل العليا التي غمرت الحياة الأوربية أصبحت جزءاً مكملاً للحياة الأوربية لا يمكنها أن تعيش بدونه. وإن شعراء أوربا وأدباءها وأجمل وأحسن تراث أوربي ظهر في ذلك العصر وكل ما يميز ذلك العصر الأدبي، يدين في نشأته وحيويته إلى العروبة، ولولاها لانزوى واندثر. فالعروبة هي مصدر الوحي للفنانين والشعراء والمغنين. لكن كيف؟ ألا تحيا المرأة العربية منذ زمن بعيد مكبلة بأغلال الرق والاستعباد محرومة من الحرية مجردة من مباشرة حقوقها الإنسانية مضطهدة؟ ألا يعرف الإنسان كيف يتحدث عن الحريم وحياتهن خلف القضبان وحيث يستطيع الزوج أن يقترن بأربع زوجات ويراقبهن بغيرة؟ نساء لا يرين أزواجهن قبل الزواج ولا يؤخذ رأيهن في الأزواج، وللرجل الحق، حسب مزاجه، أن يطلق من يطلق ويردها إلى أسرتها ثانية، ويتمنع علاوة على ذلك برضاء الدين وآله؟ ألا يتعارض مركز الفلاحة وقد أحنى الدهر ظهرها من ثقل الأحمال التي تحملها وتسير إلى السوق بينما الزوج الشامخ يسير إلى جوارها راكباً حماره. أليست هذه الحالة تتعارض والفكرة السائدة عن تكريم المرأة وعن الفروسية العربية؟ أو لم تبدأ العربية الآن فقط في التحرر من الحريم وتركه؟ أو لم تبدأ الآن فقط بترك الحجاب والتخلص من هذا الاستعباد الذي خيم عليها قروناً وأصبحت الآن فقط تمتع بحقوقها الإنسانية؟ أكاذيب وحقائق. كيف كانت الحقيقة؟
«قال الحارث بن عوف بن أبي حارثة: أتراني أخطب إلى أحد فيردني؟ قال: نعم. قال: ومن ذاك؟ قال: أوس بن حارثة بن لام الطائي. فقال الحارث لغلامه: ارحل بنا، ففعل فركبا حتى أتيا أوس بن حارثة في بلاده فوجداه في منزله، فلما رأي الحارث بن عوف قال: مرحباً بك يا حار. قال: وبي. قال: ما جاء بك يا حار؟ قال: جئتك خاطباً. قال: لست هناك. فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس على امرأته مغضباً، وكانت من عبس فقالت: من رجل وقف عليك فلم يطل ولم تكلمه؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف بن أبي حارثة المري. قالت: فما لك لم تستنزله؟ قال: إنه استحمق. قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطباً. قالت: أفتريد أن تزوج بناتك؟ قال: نعم. قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذلك. قالت: فتدارك ما كان منك. قال: ماذا؟ قالت: تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه؟ قالت: تقول له: إنك لقيتني مغضباً بأمر لم تقدم فيه قولاً، فلم يكن عندي فيه من الجواب إلا ما سمعت، فانصرف ولك عندي كل ما أحببت، فإنه سيفعل. فركب في أثرهما. قال خارجة بن سنان: فو الله إني الأسير إذ حانت منى التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث، وما يكلمني غماً. فقلت له: هذا أوس بن حارثة في أثرنا. قال: وما نصنع به؟ امض، فلما رآنا لا نقف عليه صاح: يا حار. أربع على ساعة. فوقفنا فله فكلمه بذلك الكلام فرجع مسروراً. فبلغني أن أوساً لما دخل منزله قال لزوجته: ادعي لي فلانة (أكبر بناته) فأتته فقال: يا بنية، هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب. قد جاءني طالباً خاطباً، وقد أردت أن أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل. قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة (القبح مع شيء من الجمال)، وفي خلقي بعض العهدة (الضعف)، ولست بابنة عمه فيرعى رحمي، وليس بجارك في البلد فيستحي منك، ولا أمن أن ير مني ما يكره فيطلقني، فيكون على في ذلك ما فيه. قال: قومي بارك الله عليك، ادعي لي فلانة (ابنته الوسطى)، فدعتها، ثم قال لها مثل قوله لأختها، فأجابته مثل جوابها، وقالت: إني خرقاء وليست بيدي صناعة، ولا آمن أن يرى منى ما يكره فيطلقني فيكون على في ذلك ما تعلم، وليس بابن عمي فيرعى حقي،
ولا جارك في بلدك فيستحييك قال: قومي بارك الله عليك، ادعي لي بهيسة (يعني الصغرى)، فأتي بها فقال لها كما قال لهما.
فقالت: أنت وذاك. فقال لها: إني قد عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. فقالت. ولم يذكر لها مقالتيهما. لكني والله الجميلة وجها، الصناع يداً، الرفيعة خلقاً الحسيبة أبا، فإن طلقني فلا أخلف الله عليه بخير. فقال: بارك الله عليك. ثم خرج إلينا فقال: قد زوجتك يا حارث بهيسة بنت أوس.
قال: قد قبلت. فأمر أمها أن تهينها وتصلح من شأنها، ثم أمر ببيت فضرب له، وأنزله إياه، فلما هيئت بعث بها إليه فلما دخلت إليه لبثت هنيهة ثم خرج إلى فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله. قلت: وكيف ذاك؟ قال: لما مددت يدي إليها قالت: مه. أعند أبي وإخوتي هذا والله ما لا يكون. قال: فأمر بالرحلة، فارتحلنا ورحلنا بها معنا، فسرنا ما شاء الله. ثم قال لي: تقدم فتقدمت، وعدل بها عن الطريق، فما لبثت أن لحق بي، فقلت: أفرغت؟ قال لا والله. قلت: ولم؟ قال: قالت لي: أكما يفعل بالأمة الجليبة أو السبية الأخيذة. لا والله حتى تنحر الجزر وتذبح الغنم، وتدعو العرب، وتعمل ما يعمل لمثلى. قلت: والله إني لأرى همة وعقلاً، وأرجو أن تكون المرأة منجبة إن شاء الله.
فرحلنا حتى جئنا بلادنا، فأحضر الإبل والغنم، ثم دخل عليها وخرج إلى فقلت: أفرغت؟ قال: لا. قلت: ولم؟ قال: دخلت عليها أريدها، وقلت لها قد أحضرنا من المال ما قد ترين، فقالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف ما لا أراه فيك. قلت: وكيف؟ قالت: أتفرغ لنكاح النساء والعرب تقتل بعضها (وذلك في أيام حرب عبس وذبيان). قلت: فيكون ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فأصلح بينهم، ثم ارجع إلى أهلك فلن يفوتك، فقلت: والله إني لأرى همة وعقلاً، ولقد قالت قولاً. قال: فاخرج بنا. فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا فيما بينهم بالصلح، فاصطلحوا على أن يحتسبوا القتلى فيؤخذ الفضل ممن هو عليه، فحملنا عنهم الديات، فكانت ثلاثة آلاف بعير في ثلاث سنوات فانصرفنا بأجمل الذكر.
قال محمد بن عبد العزيز: فمدحوا بذلك، وقال فيه زهير بن أبي سلمى قصيدته:
أمن أم أوفي دمنة لم تكلم
…
فذكرهما فيها فقال:
تداركتما عبساً وذبيان بعدما
…
تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
فأصبح يجرى فيهم من تلادكم
…
مغانم شتى من أفال المزنم
بنجمها قوم لقوم غرامة
…
ولم يهريقوا بينهم ملء محجم
وذكر قيامهم في ذلك فقال:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو
…
وهي قصيدة يقول فيها:
تداركتما الأحلاف قد ثل عرشها
…
وذبيان قد زلت بأقدامها النعل
وهذه لهم شرف إلى الآن. ورجع فدخل بها، فولدت له بنين وبنات».
(الأغاني. ج 10 ص 294
…
مطبعة دار الكتب المصرية).
ثم سكت القاص ويصيح المستمعون: «ما شاء الله» . لقد أدرك ما يهمهم. و «بهيسة» ما زالت المرأة التي تهواها قلوبهم. أربعة أو خمسة أجيال قد مضت منذ أن جعل الإسلام آلهة الجاهلية دون الملائكة وأعلن عبادة الواحد الأحد الفرد الصمد. لكن بالرغم من ذلك ما زال الإنسان في دمشق الفيحاء يتذاكر أخبار الجاهلية العربية في قصر الأمويين حيث كانت العربية الأصيلة النبيلة تستولي على قلوب الرجال، وحيث كانت المرأة العربية الأصيلة العظيمة تدفع الرجل إلى الحرب والكفاح والبطولة، وكان منحها البطولة لشخص ما مفخرة الأجيال.
ها هي ذي امرأة مستقلة تاجرة تقف في الحياة العامة ومعتركها، وهي الأرملة الغنية «خديجة» أولى زوجات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، عاش معها أربعة وعشرين
عاماً وولدت له ستة أطفال، وهي مع ذلك تمثل السيدة النبيلة الواعية الحاضرة البديهة الذكية، إنها المثل الأعلى للأرستقراطية العربية، فقد رغب إليها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتثقف وتتعلم مثلها مثل الرجل. وهناك علماء مشهورون يرشحون المرأة لوظيفة القضاء، كما زارت المسجد وألقت المحاضرات العامة وشرعت.
ومن النساء من أصبحت مدعية عامة واشتهرت بلقب نقيبة رجال الشرع فهي «شيخة» وأستاذة وإنها لفخر النساء. هكذا كانت تكرم العالمة «شهدة» فخر النساء بنت أبي نصر أحمد، وقد تلقت العلم على مشاهير العلماء، ثم حصلت على إجازة التدريس، وأصبحت منارة العلم. كما نجد شاعرات ينافسن الشعراء كما كان الحال قدما، ولا تشعر شاعرة منهن بأنها تعامل معاملة شاذة. والواقع أن العربية لم تكن رهينة البيت طالما كانت الأرستقراطية العربية هي المهيمنة على المجتمع العربي. لكن هذا الوضع قد تغير.
ففي بغداد في قصر العباسيين هبت ريح أخرى جاءت من الشمال إذ وفدت جماعات من الجواري الفارسيات والروميات ومن بينهن من أصبحن أمهات خلفاء فأدخلن بدورهن عادات وتقاليد غريبة على المجتمع العربي والأسرة العربية، لقد أدخلن الحجاب ونظام الحريم، وهذه تقاليد إيرانية قديمة ترجع إلى العهد الذي كان يسود فيه إيران والعقائد الإيرانية المذهب الثنائي أو الإثنينية:
1.
الحرمان من الحرية.
2.
وضع المرأة الفارسية في منزلة دون منزلة الرجل.
وهذه الحالات لم تعرفها العروبة ولم تقل بها الشريعة الإسلامية. فالحجاب والبعد عن الحياة الاجتماعية لم يقل بهما الإسلام. فقد خاطب المؤمنين كما خاطب المؤمنات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ
وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 30، 31] وكذلك دعا القرآن الكريم النساء إلى عدم التبرج: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] وأين يبدأ الجزء الفاتن في المرأة، الذي يجب ستره؟ هذا هو موضوع النزاع بين الفقهاء، فمنهم من قصره على الثديين، ومنهم من قال الوجه أيضاً وأجمعوا على أن اليدين فقط هما ما تظهرهما المرأة .. أما الاستقرار في البيوت جرياً وراء التقاليد الفارسية وتكليف الخصيان خدمتهن حسب العادات البيزنطية التي كانت أصلاً مظهراً من مظاهر الأرستوقراطية، فقد عممت استغلالاً لقول القرآن الكريم:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} الذي كان يقصد به «أزواج النبي» ومن ثم بولغ فيه فحد المجتمع من نشاط المرأة.
وهذه الضربة القاصمة التي أصابت المرأة جاءتها من حاكم لا حول له ولا سلطان، خليفة مصاب بعقدة نفسية غبي بليد ألا وهو الخليفة القادر.
ومن الأسباب التي ساعدت على قيام تعدد الزوجات، الذي كان معروفاً منذ الجاهلية، الرغبة في كثرة النسل لتعزيز القبيلة وتقوية أواصر القرابة بين الأسرات وتعويض ضحايا الثأر والانتقام والرحيل. ولما جاء الإسلام قرر فرض زعامة العرب على الشعوب المغلوبة التي فتح الإسلام بلادها والحرص على عدم الامتزاج والفناء في الشعوب الأخرى. والحقيقة تقال: إن الأمويين في معركة ضد البربر خسروا ما لا يقل عن عشرة آلاف من أفراد أسرهم وأتباعهم. وفي عصر المأمون نجد البيت العباسي يضم نحو ثلاثة وثلاثين ألف نسمة. لكن الشيء الذي كان ضرورياً في العصور الأولى اتجه، بعد أن استقر السلطان العربي، اتجاهاً آخر يتعارض والسيادة التي كانت تتمتع بها البيوتات العربية القديمة. فالاختلاط مع الأجانب والزواج من أجنبيات والتسامح في المثل العليا التي كان يتطلبها العربي من زوجته، كانت من أسباب الانحلال والاضحلال فيما بعد.
فني الحريم كان تعدد الزوجات من أسباب القضاء على روح الحرية والاستقلال والشعور بالشخصية وكل مقومات المرأة العربية الأصيلة. وعوضاً عن هذه الصفات الحميدة أصبح الرجال أكثر ميلاً إلى اللواتي يجدن فن الإغراء وإيقاع الرجال في حبائلهن، أعني اللواتي كن يغشين دور اللهو والغناء في الكوفة والتي كانت تغص بتجار الرقيق الذين كانوا يبتزون أموال السادة والشباب في المدينة الذهبية بغداد.
هذه هي الناحية السطحية التي يتجه إليها دائماً التفكير الأوربي، لكن كلما تعمق الإنسان في المجتمع تبين الصورة الحقيقية واضحة المعالم، وبخاصة كلما ابتعدت هذه الصورة عن التأثير الفارسي أو بتعبير آخر عندما تصبح الصورة عربية خالصة. إن البدوية لم تستخدم أبدا الحجاب كما أنها لم تعش يوما ما عيشة الحريم ولم تغلق دونها الأبواب، لأن مثل هذه الحياة الأرستوقراطية لم تكن تسمح بها الحياة الاقتصادية، وحياة العمل لسكان الصحاري والمروج سواء كانوا بدوا أو فلاحين، كما لم تسمح بحياة البذخ التي أباحها الإسلام، أعني الزواج من أربع نساء.
وذلك لأن الإسلام طالب الزواج بالعدل بينهن سواء في الأكل أو الالتزامات الزوجية: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء: 3]. ألم يقر الإسلام رغبة في احترام العدالة أن يتزوج الرجل واحدة فقط؟ ومن غير الأغنياء يستطيع أن يعدل بين أزواجه؟ إن المسألة ليست اقتصادية فقط، فالعربي الأصيل كما يقول مؤرخ عربي:«إذا ما أحب فواحدة فقط ويخلص لها وتخلص له حتى الموت» .
وهكذا نجد صورة العربية عندما تبتعد عن المدينة وآثارها تقترب من الصورة الحقيقية للمرأة العربية الشامخة الشاعرة بوجودها وكيانها وشخصيتها، لذلك كانت البدوية في صدر الإسلام أكثر تمتعاً بالحرية وأكثر استقلالاً وأكثر أثراً في المجتمع العربي من تلك السيدة النبيلة العظيمة المقيمة في دمشق، وهكذا نستطيع أن نفسر
الرغبة الجامحة في حياة البداوة، كما نتبين هذه الرغبة الملحة التي أبدتها «ميسون» وبلغت معاوية في قصيدتها التي مطلعها:
لبيت تخفق الأرواح فيه
…
أحب إلىَّ من قصر منيف
فما كان من معاوية السيد الحاكم المهذب إلا أن منحها حريتها، وهكذا عادت بنت الصحراء إلى حياتها الأولى غير آسفة على الخز والقصور، والأخريات اللواتي كن يتمتعن بنعيم الحياة والأبهة والعظمة التي لم تر المرأة الشرقية مثيلاً لها فيما بعد.
أما إسبانيا العربية ففاقت الشرق العربي وقدمت حياة أفضل وأجمل.