الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البندقية تحطم الحصار
وفي تلك الفترة ظهرت في ناحية أخرى من اليابسة مدينة لم يشعر بها أحد من قبل، وسرعان ما أصبحت ذات سيادة، وحصدت خيرًا كثيرًا. وهي تدين في كل ما بلغته إلى موقعها وطبيعتها فهي مجموعة ألسنة يابسة ممتدة في البحر الأدرياتيكي كادت تأتي عليها الحروب الداخلية وتجرفها أمواج البحر. هذه المدينة القابعة على جزر ريالتو والتي نعرفها تحت اسم البندقية، كانت تعيش في حماية قديس سرقته من مصر وهو القديس مرقس الذي أعيد جثمانه أخيرًا إلى القاهرة. وقد فرضت عليها جغرافيتها أن تعيش على التجارة، والتجارة البحرية بصفة خاصة، فبدأت بالملح والسمك، ومن ثم أخذت تتطور حتى علا شأنها واتسع أفقها وخرجت من محيطها الضيق واتصلت بالشرق العربي وشعوبه فلم يمض زمن طويل حتى أثرت من وراء صلاتها التجارية مع العرب ثراء عظيمًا حسدها عليه الغرب شعوبًا وحكومات.
فالبندقية كانت القنطرة بين الشرق والغرب وكانت تنعم بخيرات الشرق وكنوزه وحاصلاته التي حرمت منها أوربا زمنًا طويلا بسبب تعصبها الديني وأوامر الكنيسة التي تحذر من الاتجار مع المسلمين. لكن البندقية بما أوتيت من مهارة تجارية وسعة في التفكير بفضل اتصلاتها بالعرب استطاعت أن تتغلب على دسائس خصومها، فسياسيًا كانت تابعة لبيزنطة، وظلت هذه السيادة قائمة طالما كانت بيزنطة حورة قوية متسلطة على البحر، طريقها الوحيد إلى البندقية، ومن ثم ظهر لبيزنطة في تلك المياه النائية منافس جبار وهو قيصر دولة الإفرنج وطمع القيصر في البندقية وحاول
الاستيلاء عليها وعلى ثرواتها الكثيرة، وأدركت البندقية الخطر الذي تتعرض له، فراوغت خصميها المتنازعين المتنافسين ونجحت في الإيقاع بينهما وتحريض كل منهما على الآخر بينما أخذ أميرها (الدوج) يظهر بغتة على المسرح العالمي ويخاطب حكام العالم مخاطبة الأنداد.
وبعد أن تحققت للبندقية أمنيتها ونجت من مخالب أعدائها وتحررت من بيزنطة أخذت تفكر جادة في الاستعمار تأمينًا لأسطولها التجاري وأسواقها الخارجية وتحدت الكنيسة وتاجرت مع المسلمين ووثقت علاقاتها التجارية مع العرب. ولم تكن البندقية هي الوحيدة في إيطاليا التي وقفت من العرب هذا الموقف الودي، ولم تتردد في مساعدة العرب عند غزوهم صقلية، أم تعقد «بيزا» مع المسلمين معاهدات واتفاقيات ضد جنوه؟ كما وقفت نابولي إلى جانب المسلمين ضد منافستها «أمالقى» وانضمت سفن «أمالقى» إلى الأسطول العربي عند مواجهته الشواطئ الرومانية بالرغم من تهديد الكنيسة لسكان «أمالقى» بالحرمان وإعلان البابا هذا التهديد. ولعل السر الذي دفع هذه المدن الإيطالية إلى محالفة المسلمين ومعاونتهم متحدين بموقفهم هذا البابا وكنيسته، الرغبة الصادقة في المحافظة على حرية التجارة وسلامتها ولا صلة في الواقع بين التجارة والعقيدة ثم ما شأن البندقية هذه الدولة البحرية الناشئة وذلك الكهل القابع على ضفاف البوسفور؟ !
ثم هل كان من السهل على أهالي البندقية الرضوخ لقرار القيصر «يوحنا تزيميسكيس» القاضي بتشكيل لجنة تتخذ من جزيرة «ريالتو» مقرًا لها لتفتيش سائر السفن باحثة عن الأسلحة والخشب؟ لا شك في أن القيصر كان في حالة يرثى لها عندما قرر الانتقام من أهالي البندقية وذلك لكثرة الهجمات العنيفة التي شنها عليها الخلفاء الفاطميون، وعاونهم سكان البندقية بالأسلحة والخشب اللازم لبناء السفن الحربية، وغالى القيصر في تهديداته فقرر حرق جميع السفن التي تضبط عليها مواد محرمة بمن فيها فغضب أهالي البندقية لمثل هذا القرار ورغبوا عنه وعن تنفيذ رغبات القيصر؛ لأن الرضوخ لمثل هذا القرار معناه الرجوع بالحياة الرغدة السعيدة إلى الوراء؛ فاضطر القيصر إلى الإسراع في إصدار قرارات أخرى تعاقب بالموت، ذلك
الذي يضبط متلبسًا ببيع أسلحة إلى المسلمين. وفيما يتعلق بتجارة الخشب فقد أباح بيعه على ألا يتجاوز طول اللوح خمسة أقدام ونصف القدم، كذلك أجاز بيع الخشب المعد لصناعة الطشوت أو الأطباق أو الملاعق، إلا أن «دوج» البندقية رفض الإذعان لمثل هذه الإجراءات وأصبحت هذه القوانين معطلة وخاطب أمير البندقية أعضاء اللجنة قائلًا: ألم تكن تجارة الخشب من الأهمية بمكان لأهالي البندقية؟ أو لم يفكر القيصر في أنها مساعدة نافعة ضرورية للخليفة! والذي حدث أنه قبل وصول اللجنة لمباشرة عملها أقلعت ثلاث سفن محملة بالخشب اثنان وجهتهما «مهدية» في تونس والثالثة إلى طرابلس الغرب، وقد صرح الدوج بشحن هذه السفن رحمة بعمال الشحن المسيحيين الفقراء. أما دول شرق البحر الأبيض المتوسط من آسيا الصغرى حتى مصر فلن يصلها شيء من هذا الخشب، ويذكر الكتاب العرب في القرن العاشر الميلادي كثيرًا حول تجارة البندقية وأملفيس وبالرمو ومسينا مع عرب شمال إفريقيا. فالسفن العربية كانت تصل محملة بالستائر الحريرية الثمينة وأغطية المذابح والأقمشة السوداء الجميلة والملابس ذات اللون الأزرق السماوي وجميعها تراد إلى أوربا من القيروان وسوسا وجابس، كما وجدت الأقمشة العربية النادرة طريقها إلى «مونت كاسينو» والأديرة والكنائس الموجودة في شبه جزيرة إبنين، ومن المستطاع مشاهدتها حتى يومنا هذا.
والشيء الجدير بالذكر أن هذه التجارة العربية ظلت زمنًا طويلًا محصورة في البلاد الواقعة جنوب جبال الألب ولم تستطع عبورها إلا أن بعد وقعت أحداث تاريخية هامة كانت بعيدة الأثر في الحياة الاقتصادية الشرقية الغربية، ومن هذه الأحداث أن بيزنطية استطاعت عام 961 م الاستيلاء على جزيرة كريت من العرب فأصبح الطريق إلى الشرق العربي مفتوحًا وعجزت القوة القيصرية أو البابوية عن الحيلولة دون قيام علاقات تجارية مع العرب في الشرق والاستفادة من تجارة العرب العالمية وثرائهم المتدفق. أما الحادث الثاني فكان عام 991 م عندما أرسل دوج البندقية وهو بطرس الثاني أو رسيولو سفراء إلى جميع الأمراء العرب محببًا إليهم البندقية وداعيًا إلى إقامة علاقات تجارية بينهم وبين بلاده، ولم يمض زمن طويل حتى أصبحنا نجد السفن التجارية تقلع من ليدو وجنوه بانتظام إلى سوريا ومصر؛
مما دفع الخليفة الفاطمي المستنصر الذي اشتهر بصداقته للمسيحيين إلى تعيين قسم خاص من القدس لإقامة الحجاج والتجار المسيحيين.
وكانت قوافل السفن تقلع عادة من موانيها الأصلية في أوائل سبتمبر وتصل إلى الشرق بعد أربعة أو خمسة أسابيع، وفي الربيع تعود إلى موانيها الأصلية ثانية. أما الشتاء فكان التجار يقضونه في الشرق متنقلين بين فلسطين وسوريا وبغداد والخليج الفارسي أو يذهبون مباشرة إلى القاهرة والإسكندرية حيث توجد التوابل الجيدة التي ترد عن طريق البحر من الهند ومدغشقر وتدر على التجار الأرباح الطائلة لرخص النقل وقلة التكلفة، وهذا مما دفع الصليبيين فيما بعد إلى غزو فلسطين في مصر.
أما التجار الذين كانوا مقيدين بالعودة على ظهر السفينة التي أقلتهم إلى الشرق فكانوا ينتهزون فرصة وجودهم في البلاد العربية ذات الحضارة العالية والثقافة الرفيعة، وعند عودة التاجر يحمل معه كثيرًا من الأقمشة القطنية السورية والكتانية إنتاج مصانع أنطاكية، وبضائع زجاجية وأخرى من القيشاني صناعة مدينة صور، ومختلف أنواع السكر في حقائب من صنع طرابلس الشام. هذا بالإضافة إلى الفلفل وجوز الطيب والكافور والكباب والبخور والمر والنيلة والعود وخشب الصندل والخشب البرازيلي وغيرها من الأصناف التي كانت تزدحم بها الأسواق المصرية.
فالتجارة بين الشرق والغرب أعادت الصلات بين العالمين سيرتها الأولى، وبخاصة عندما قضت معركة المجر عام 955 م في «ليشفيلد» على قبائل الغجر التي كثيرًا ما كانت تغير على القوافل التجارية وتعمل فيها سلبًا ونهبًا وتقتيلًا. أما الآن، بعد أن استب الأمن، فقد أخذت التجارة تتدفق عبر الألب وشجع على ازدهارها القيصر الذي منح السوق والنقود حقوقًا وامتيازات في جميع الأماكن الواقعة قبل الألب حول «بودينزيه» وأسافل حوض الرين، كما أصبح الطريق مفتوحًا لتصريف البضائع المخزنة في البندقية في شمال أوربا. لكن بينما كان الإيطاليون يحملون هذه البضائع إلى «بورجوند» وفرنسا والأراضي المنخفضة
إذ يصبح من النادر رؤية أحدهم في ألمانيا، كما أخذ اليهود في الختفاء تدريجيًا كتجار جملة واكتفوا بتجارة التجزئة مهتمين بالتوزيع والصيرفة والربا والخيول والماشية والبضائع والملابس المستهلكة أو المستعملة، كما أخذ التاجر الألماني في الظهور عابرًا سان برنارد الكبير إلى سهل نهر ألبو متاجرًا في البضائع الشرقية.
لذلك كانت قبلة التجار الألمان جمهورية القديس مرقس (البندقية) وكانوا يصلون إليها قادمين من «كرنستنس» و «شافهوزن» و «رافينزبرج» و «ريجينزبرج» و «نيرنبرج» و «أوجبرج» ، ثم «أولم» ومن «كولونيا» للاتجار في أثمن المنتجات الشرقية.
وقد بلغ عدد التجار الألمان من الكثرة بحيث إن حكومة البندقية أعدت لأولئك التجار القادمين عبر جبال الألب مكانًا خاصًا للاتجار والإقامة أسوة بما فعله من قبل السلطان المصري للتجار المسيحيين في الإسكندرية حيث أوجد لهم الفنادق الخاصة. وقد أخذت البندقية عن العرب والعربية هذا اللفظ وأطلقته على الأبنية المشابهة فنجد الفندق الذي كان مخصصًا في البندقية للتجار الألمان يسمى «فندق دي تيديشي» ، وهو يحتوي على ستة وخمسين سكنًا بالأسرة عدا أماكن الراحة والاستقبال والأماكن الأخرى للمواشي. وكان في هذا الفندق فرن خاص لصناعة الخبز وحوانيت للصناعات الضرورية المختلفة، كما زود بمخازن للبضائع وأماكن للبيع خاصة بهذه الجالية الصغيرة المستقلة.
ولا غرابة في هذا فالبندقية كانت المحطة النهائية التي يبلغها هذا القطار التجاري. وهنا فقط استطاع التاجر «كونراد إيسفوجل» وهو أحد أبناء مدينة «نيرنبرج» الإقامة حيث يبيع بضائعه النحاسية والحديدية والفراء والأقمشة البرابنتية. وفي البندقية كان يدفع الضرائب المستحقة وقد أخذ هذا النظام عن العرب وكان يشرف على جميع هذه الإجراءات الموظف المعروف باسم السمسار، وهو الخبير في تثمين البضاعة وتحديد سعرها، وفي حضور هذا المثمن الرسمي كان التاجر الألماني يدفع الثمن المتحصل في بضائع أخرى، وبخاصة التوابل، والعقاقير المختلفة، والأقمشة، والثياب المزخرفة بالحرير والخيوط الذهبية.
فالاتجار مع البندقية كان يتطلب نظامًا خاصًا، فالتاجر «كونراد إيسفوجل» كان له الحق في أن يأخذ معه وإلى «نيرنبرج» بضائع لكن لا يسمح له بالخروج بنقود من البندقية وكان له الحق في مشاهدة قلاع السفن القادمة من صور والإسكندرية والمهدية وكويتا من شرفات فندقه ولا يسمح له بالاقتراب من السفن أو الحصول على قليل جدًا من الفلفل أو تبادل العبارات مع ركابها وملاحيها. كذلك الحال مع تجار «بورجوند» أو «بيمن» أو «ميلانو» أو «فلورنسا» فكان محرمًا عليهم الاقتراب من السفن مسافة سمع الأذن. ومقابل هذه الاحتياطات تتعهد البندقية ألا تشتري بضائع ألمانية خارج الألسنة الأرضية الممتدة في البحر ولا تعرض للبيع بضائعها في الأراضي الألمانية. واستطاعت البندقية عن طريق جزرها الكثيرة المنتشرة في البحر الأدرياتيكي احتكار التبادل التجاري بين الشرق والغرب وكان الأجانب مطالبين باحترام هذه القوانين وتنفيذها، وهذا سر قوة البندقية.
أما جنوه فقد كان موقفها من التجارة يغاير موقف البندقية فجنوه من أنصار حرية التجارة؛ لذلك نجد هنا تجارة الشرق ليست حكرا للدولة بل حرة في متناول جميع التجار، فكانت جنوه سوقًا رائجة للصادر والوارد ومقصدًا للتجار الذين يصدرون إلى أسبانيا وشمال إفريقيا والشرق.
والآن يبدو لنا أن خيرات العرب كانت أساس الإثراء والرخاء لا في الشرق فقط بل في الغرب أيضًا، كما أن هذه التجارة العربية هي القوة الاقتصادية ذات الأثر الفعال في أوربا وأن رفع المستوى الاجتماعي في الغرب إنما مرجعه القفف العربية الملأى بالفلفل، لذلك كان حرمان الأسواق الأوربية من هذه القفف سببًا رئيسيًا في القضاء على التجارة الداخلية أولًا، ةإفلاس التجار ثانيًا، وصهر الذهب المتداول ثالثًا. ففي اللحظة التي قطعت فيها الصلات بين الشرق والغرب تحولت أوربا إلى بلاد زراعية فرجعت القهقري وانحط مستواها الاجتماعي، وحرم الأوربيون من فلفل الشرق وجوز طيبه وسكره، واضطروا إلى أكل الكرنب دون بهار وغصت أسواق أوربا المحلية لا بالتجار بل بالفلاحين يعرضون حبوبهم والأواني الفخارية المصنوعة في منازلهم والسراويل المجهزة من القماش المنسوج في بيوتهم، واستمر
الحال كذلك حتى استؤنفت العلاقات التجارية بين الشرق والغرب بعد أن خفت حدة التعصب الديني، هذا التعصب الذي كان يحول دون الاتجار مع المسلمين. أما وقد عادت المياه إلى مجاريها وأخذت تجارة الشرق تتدفق على أوربا فإن صورة الحياة التجارية سرعان ما تغيرت وفتحت الحوانيت أبوابها وامتلأت بأقمشة الشرق وبهاراته وسائر خبراته وحاصلاته، كما حرص التجار على إجابة مطالب الطبقة الراقية فأحضروا كثيرا من كماليات الشرق ومقومات الأناقة والذوق الرفيع، وترتب على هذا التطور أن خطت المدن الأوربية بخطوات واسعة نحو حياة أفضل، وظهرت في أوربا ثورة اجتماعية بيضاء.
وتدين البندقية في تطورها ورقيها وثرائها إلى الاتجار مع العرب، فلولا القرفة والكمون ومختلف أنواع الصباغات بما فيها النيلة، وكذلك التوابل والبهارات، ما استطاعت البندقية أن تتزعم النهضة الاقتصادية الأوربية التي ساعدت على ازدهار الغرب وتقدمه. ولم يكن مجهود البندقية مقصورا على الاتجار فقط بل ساهمت حتى في نقل القوات الصليبية إلى الشرق فبدت في رأي الغرب وكأنها تساهم في تحرير الأراضي المقدسة.
ثم ولت أيام المستنصر وعهده الذي اتصف بالتسامح وكرم الأخلاق وحسن معاملة المسيحيين، وابتلى الله الشرق العربي بقبيلة تركية اتصفت بالقسوة والجفوة والتعصب الشعوبي، وهذه القبيلة هي التي تعرف في تاريخنا الإسلامي باسم الأتراك السلاجقة، ونجحوا في الاستيلاء على القدس وهددوا بيزنطة بالغزو فكانت هذه الأحداث إنذارًا بهجوم أوربا المسيحية على الشرق الإسلامي وسرعان ما ساءت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين بعد أن عاش المسلمون والمسيحيون متآخين متحابين في فلسطين حتى أيام المجنون الحاكم بأمر الله. أما الآن فقد تحول البحر الأبيض المتوسط فجأة إلى معارك متصلة بين أصحاب العقيدتين، وقد دامت هذه الحروب عدة قرون.
واستتبعت حالة الحرب إصدار القرارات البابوية التي تحرم على المسيحيين
التعامل مع المسلمين أو الاتجار معهم كما نصت هذه القرارات على توقيع عقوبة الحرق على كل من يصدر أن ينقل خشبًا أو أسلحة إلى المسلمين، لكن جميع هذه القرارات ذهبت أدراج الرياح ولم تثن الجمهوريات البحرية الإيطالية عن تثبيت صلاتها التجارية وتدعيمها مع المسلمين، وذهبت هذه الجمهوريات بعيدًا في صداقتها مع المسلمين فتولى بعض بحارتها قيادة السفن الحربية الإسلامية. كما أن سلطان مراكش طلب مرة معونة جمهورية جنوه فأمدته بأسطول يتكون من ثمان عشرة سفينة حربية مساعدة لأمير المؤمنين للقضاء على أعمال القرصنة التي كان يقوم بها الصليبيون.
ولماذا لا يسلك أهل جنوه هذا المسلك؟ أليسوا تجارًا وصفة التاجر الماهر أن يستفيد من جميع الفرص السانحة له. لقد تاجر البندقي في كل شيء حتى في نقل ما بين عشرين وأربعين ألف محارب صليبي في جيش الرب، وقد تجمعوا في ميدان القديس مرقس ينتظرون ترحيلهم إلى عكا ودمياط، فكسب أهالي البندقية من عملية النقل ماديًا وروحيًا إذ ساهموا مساهمة طيبة في نصرة القضية المسيحية. وانتصرت البندقية عام 1203 على بيزنطية انتصارًا فاصلًا، إذ توجهت حملة صليبية تحت قيادة البندقية فنكلت ببيزنطة تنكيلا لم يصبها على يد المسلمين من قبل، فقد وصف كاتب مسيحي هذه الحملة الصليبية والجرائم التي اقترفتها في بيزنطة المسيحية وصفا لا عهد للإنسانية به من قبل، فقد سلب أفرادها ونهبوا كل ما وصلت إليه أيديهم، فقد سرقوا الكنوز القديمة ودنسوا المقدسات فحطموها وخربوها وأحرقوا الكتب ومزقوها فكان انتصار هذه الحملة على بيزنطة انتصارا للبندقية وغيرها من الجمهوريات الإيطالية لتهديدات بيزنطة أولا وعلى سائر الدول المنافسة لها، وبخاصة المسيحية عن طريق هزيمة وفشل الحملات الصليبية ثانيًا.
فقد استنفذت الدول المسيحية كل قواها دون تحقيق أهدافها: فالصليبيون كما يذكر الفرنسيسكاني الأسباني «رامون ليلل» لم يحققوا طيلة القرون التي قضوها في الحروب شيئًا، فلم يصلوا إلى قبر المسيح، ولم يقضوا على الوثنية (الإسلام)! ! أو
يحولوا الوثنيين (المسلمين) إلى مسيحيين ولم يفلحوا في الاستيلاء على الأراضي المقدسة.
أما البندقية الحكمية فقد خرجت من جميع هذه المشاكل سليمة قوية، وبفضل اتجارها مع العرب ازدادت ثراء وقوة حتى إن خبرًا راج في أوربا فحواه أن أهالي البندقية لم يحزنوا لهذه النهاية السيئة للصليبيين فقد كان الأهالي على استعداد لاعتناق الإسلام لو اقتضى الأمر هذا، فهم الذين اتخذوا من هزيمة الملك القديس لويس ملك فرنسا عيدًا للمسخرة.