الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المؤلفة
من خطل الرأي أن ننظر إلى أوربا على أنها هي وهي فقط العالم الحديث، ومن الحماقة أن نقول: إن تاريخ أوربا هو تاريخ هذا العالم؛ وذلك لأنه مما لا شك فيه أنَّ سائر القارات التي يتكون منها عالمنا هذا ساهمت وتساهم في تكييف الأحداث العالمية التي تخضع لها شعوب المعمورة، ويكفي أن ننظر إلى خريطة عالمنا هذا في العصور الوسطى لنرى كيف يحاصر البحر المتوسط جنوب القارة الأوربية، ويخضعها للسلطان الثقافي لأثينا وروما. أما اليوم فقد شاء الله أن تزول هذه الغشاوة عن أعيننا وأن يتسع صدرنا للحقيقة فلا نغمط الشعوب الأخرى التي ساهمت في إيقاظ الوعي الإنساني وبعث ثقافة إنسانية رفيعة أثرت وتؤثر حتى يومنا هذا لا في أوربا فقط بل في مختلف أرجاء العالم المتحضر. وشاء الله أن يظهر من الأوربيين من يجرؤ وينادي بهذه الحقيقة فلا نغمط العرب حقهم في أنهم حملوا رسالة عالمية، وأدوا خدمة إنسانية للثقافة البشرية قديمًا وحديثًا. إن هذا النفر من الأوربيين المنصفين لا يأبه لتحدي أولئك المتعصبين الذين أعمارهم تعصبهم الديني فحاولوا جهد طاقاته طمس معالم هذه الحضارة العربية أو التقليل من شأنها.
إن أوربا تدين للعرب وللحضارة العربية، وإن الدَّين الذي في عنق أوربا وسائر القارات الأخرى للعرب كبير جدًا، وكان يجب على أوربا أن تعترف بهذا الصنيع منذ زمن بعيد، لكن التعصب الديني واختلاف العقائد أعمى عيوننا وترك عليها غشاوة حتى إننا نقرأ ثمانية وتسعين كتابًا من مائة فلا نجد فيها إشارة لفضل العرب وما أسدوه إلينا من علم ومعرفة، اللهم إلا هذه الإشارة العابرة إلى أن دور العرب
لا يتعدى دور ساعي البريد الذي نقل إليهم التراث اليوناني. أما العربي فلم يأتِ بجديد ولم يحقق رسالة. إن النهضة العلمية الحديثة كشفت الغطاء عن حضارات الشرق القديم، وبخاصة مصر وبابل وأشور، ولم يعد سرًا أن مصر هي الوطن الذي بزع فيه فجر الضمير وأن هذا الشرق العربي القديم هو وطن الوحي ومبعث الفنون والعلوم والآداب. وإذا ما انتقل الباحث إلى بيزنطة ليقفز منها إلى المسيحية في العصور الوسطى، فالعصور الحديثة، ازداد شكه في اليونان وروما وأيقن أن أوربا بأثينا وروما لا تستحق كل هذه العناية، وأن ما يحاول المغرضون خلعه عليها ما هو إلا سراب لا يقوى على البقاء أمام شمس الشرق العربي إذا ما سطعت وبددت ضباب الغرب وسحابه ومطره وثلوجه. إنها سبة أن يعلم أهل العلم من الأوربيين أن العرب أصحاب نهضة علمية لم تعرفها الإنسانية من قبل، وأن هذه النهضة فاقت كثيرًا ما تركه اليونان أو الرومان ولا يقررون هذا. إن العرب ظلوا ثمانية قرون طوالا يشعون على العالم علمًا وفنًا وأدبًا وحضارة، كما أخذوا بيد أوربا وأخرجوها من الظلمات إلى النور، ونشروا لواء المدنية أنى ذهبوا في أقاصي البلاد ودانيها سواء في آسيا وإفريقيا أو أوربا، ثم تنكر أوربا على العرب الاعتراف بهذا الفضل.
إن المذاهب الإنسانية الحديثة أصبحت غير مذاهب العصور الوسطي، وشعار الأوربي اليوم محاولة فهم عدو الأمس وتحويله إلى صديق، وذلك بالاعتراف له بمكانته العالمية وما أسداه للأوربيين وغيرهم من معرفة وألا يسعى الأوربي جاهدًا إلى طمس هذه المكانة وإخفاء معالمها.
إن موقف أوربا من العرب منذ نزول الوحي المحمدي موقف عدائي بعيد كل البعد عن الإنصاف والعدالة، والتاريخ وقتذاك كان يملى ويصنع، والمملي لم يكن الضمير بل التعصب الأعمى. إن مثل هذا الوضع كان مفهومًا في عصر كان فيه الشعور السائد هو إغماط حق كل فرد يخالف الأوربيين عقائديًا، ومما يؤسف له حقًا أن هذه النظرة القديمة التي كان مبعثها الظن في أن الاعتراف للعربي بالفضل خطر يهدد العقيدة المسيحية، ما زالت قائمة حتى اليوم والتعصب الديني ما زال
جادًا في إقامة الحواجز بين الأوربيين والشعوب الأخرى إذ ينظر الغربي إليهم كما لو أنهم مجرمون وثنيون وسحرة. ومن آثار هذه النظرة أيضًا هذا النزاع الذي نشب، في عصرنا هذا، حول نشأة الغزل الغنائي، فالمتعصبون من الأوربيين يشق عليهم الاعتراف بالفضل لصاحبه، وأن يقولوا إن هذا الفن عربي الأصل. أليس من العجيب حقًا أن تظهر هذه النعرة في القرن العشرين؟ !
إن هذه النظرة الأوربية دليل على ضيق أفق الغربيين وخشيتهم قول الحق والاعتراف للعرب بفضلهم، وبخاصة أنهم غيروا وجه العالم الذي نعيش فيه.
إن هذا الكتاب يتحدث عن «العرب» و «الثقافة العربية» لا عن الإسلام. وذلك لأن نقرأ من غير المسلمين قد ساهموا في هذه الثقافة إلا أن هؤلاء كانوا عربًا، وقد وضعوا كتبًا عارضوا فيها الملتزمين من المسلمين، كما أن كثيرًا من صفات الحياة العقلية العربية يحمل طابع العصر الجاهلي.
ثم لا يفوتنا أن نذكر أن هؤلاء العرب الذين ذكرهم هيرودوت والذين بسطوا سلطانهم على شعوب كثيرة، مهدوا للمغلوبين الطريق للاندماج في المجتمع العربي لغة وأدبًا وعلمًا ودينًا، وأصبح الخلق العربي والطبيعة العربية والثقافة العربية والعقيدة الإسلامية مثالًا يحتذى.
إن هذا الكتاب يتحدث عن الثقافة العربية كما نتحدث الآن عن الثقافة الأمريكية، ولا يطلق على عالم مثل الرازي أو ابن سينا أنهم من أبناء الفرس؛ وذلك لأنهما انحدرا من أسر عاشت أجيالًا متعاقبة في المجتمع العربي وتثقفوا ثقافة عربية إسلامية، ومثل هذا النوع من الرجال مثل «دويت د. إيزنهاور» إنه أمريكي ولا يمكن أن يقال عنه إنه ألماني.
إن هذا الكتاب يهدف أيضًا إلى تقديم شكر كان يجب أن يُقدم إلى العرب منذ عصور قديمة، فالألمان يدينون للعرب بالشيء الكثير، وليست اللغة الألمانية بمستثناة. هذا، مع الإشارة إلى أننا لا ننكر آثار الشعوب الأخرى كاليونان والرومان والصينيين والهنود.
إن الأيدي التي نسجت هذا النسيج كثيرة تستحق الشكر.