الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيود الماضي
إن اضطراب الهضم الذي قاسى منه الخليفة المنصور زمنًا طويلًا، والصداع الدائم الذي أصاب بعد ذلك بعشرين عامًا الخليفة هارون الرشيد دفعا إلى التفكير في إيجاد وسيلة للشفاء، لذلك خرجت أفراس البريد مرتين من قصر الخليفة ببغداد وقطعت نحو خمسمائة كيلو متر متجهة إلى أسافل دجلة ثم انحرفت شرقًا مخترقة البادية إلى جنديسابور بالقرب من الخليج العربي لإحضار مدير مدرسة الطب الساسانية القديمة، وكان من الأطباء ذوي الشهرة البعيدة، فأسرة بختيشوع كانت من الأسر العريقة في الدراسات الطبية حيث مارس أفرادها أجيالا وأجيالا هذه المهنة كما تولوا تباعًا تطبيب الخلفاء. ومن هؤلاء الأطباء وصلت المعرفة اليونانية التي كانت سائدة ومنتشرة في جنديسابور، ولم يقتصر الأمر على الطب اليوناني فنحن نجد الطب الهندي يشق طريقه إلى دار الخلافة أيضًا وذلك على يد الطبيب الهندي «منكاه» ومواطنه «صالح بن بهلة» الذي أعاد الحياة إلى عم الخليفة هارون الرشيد بعد أن اعتقد القوم أنه فارقها. ودخلت قصر الخليفة من هذين العالمين كتب الطب الهندية كذلك فنافست غيرها، ومع مرور الزمن أخذت تؤدي رسالتها.
وبعد قرن من الزمن نجد العرب يلمون بسائر أنواع المعارف من يونانية وهندية وسريانية وفارسية، ولما نزح الرازي لأول مرة عام 880 م إلى بغداد وجد الطريق سهلا معبدًا أمامه، فمختلف المراجع الطبية القديمة قد نقلت إلى العربية ونقحت واستكملت، هذا مع الإشارة إلى المجهودات العظيمة التي بذلها العلماء العرب في الطب وقتذاك وبخاصة أمثال: الكندي والكناني ويحيى بن ماسويه وأفراد أسرتي
ثابت بن قرة وحنين بن إسحق. وهكذا نجد الطب العربي يخطو خطوات هامة بعد أن اجتاز مرحلة البدء، فقد ظهر الرازي وجعل الطب علمًا عربيًا مستقلًا قائمًا بذاته، كذلك الحال مع الرازي والطب العربي، فكلاهما نهضا بالطب نهضة أبعد وأعمق مما كان عليه من قبل، فقد أخذ الطب اليوناني تجارب وعلوم الشرق القديم ومصر، ومن ثم استقل وشق طريقه إلى الحياة. وأبقراط هو الذي اعترف له العالم بفضله فلقبه بلقب «أبي الطب» ، وإن كان الطب اليوناني في عصره لم يكن على الأعتاب بل كان قد خطا خطوات واسعة في سبيل التقدم، كما أن أبقراط لم يكن هو أول من ابتدع الطب في اليونان بل كان حلقة في سلسلة طويلة، إلا أن المعرفة التي تحلى بها أبقراط لم يكتسبها عن معاصريه لأنهم لم يأتوا بجديد. أما الرسائل التي ظهرت فيما بعد في الإسكندرية حاملة اسم أبقراط فلم تشتمل إلا على معلومات قديمة إلا أنها تهتم بالحديث عن الصلة بين الطبيب والمريض.
وكما رأينا العرب يتبرمون من المشعوذين والدخلاء كذلك الحال عن اليونان، وقد سبق إلى ذلك أبقراط فانبري مهاجمًا أولئك الأدعياء، وأخذ يتحدث عن الطبيب المثالي، الطبيب الحر لا الكاهن من بين رجال الدين الخاضعين لمؤثرات أخرى دينية. أما المبادئ الإنسانية التي نادى بها أبقراط فهي إنسانية عامة تربط بين جميع الأطباء وفي مختلف الشعوب والأمصار، كما تجعل منهم وحدة قوية.
ونحن نجد أبقراط من ناحية أخرى مثالا يتحذى به وإليه تنسب طريقة معالجته الخاصة للأمراض ومعاملة المريض. وهذه الطريقة تعارض الوسيلتين اللتين كانتا مستخدمتين وسائدتين في تاريخ الطب القديم، وباستخدام الطريقة المدرسية أصبحتا قويتين وعارضتا مدرسة «أسكلبيادن» في «كنيدوس» و «كوس» التي كان يمثلها أبقراط.
فحكيم «كوس» استفاد بأهم خصائص الطبيعة اليونانية الخيالية الفلسفية التي تصبغ ما يشاهده اليوناني بلونها، فهذه الطبيعة إن أفادت في الرياضيات والطبيعيات فهي ضارة بالطب القائم على التجارب كما هو الحال مع الفلاسفة
الطبيعيين ومعهم كثيرون من الأطباء اليونانيين. أما أبقراط فكان يعتقد أن هذا ليس هو الطريق السوي للطب، وذلك لأنه طريق محفوف بالمخاطر، فالوسيلة الوحيدة لتحقيق هدف الطبيب هو طريق التجارب والاختبارات والعمل، وبخاصة دراسة المريض وهو على سرير المرض. أما سائر الطرق الأخرى فجامدة تسير على وتيرة واحدة فلسفية وتنظر للأمراض وكأنها وقد صبت في قالب واحد لا تحوير فيه ولا تغيير، والواقع أن كل مرض يحتاج إلى عناية خاصة ودراسة خاصة؛ لأن المرض يكون حالة مستقلة متصلة بالبيئة والزمان والمكان.
وهكذا نجد أبقراط ينساق وراء شيطانه ويؤمن بنظرية «أمبيدوكليس» الخاصة بالعناصر الأربعة الأولية، ففي كل إنسان معافى سليم أربعة أنواع من العصير الرئيسي: الدم والمخاط والمرارة الصفراء والمرارة السوداء وخواصها المختلفة بالرغم من امتزاجها مع عناصر أخرى. فالمرض هو اضطراب في نسب الامتزاج، فهذا الاعتراف بالحرص على تشكيل العالم وفهمه على هيئة صور أثبت أبقراط تقديره للفلسفة اليونانية كما ترك الباب مفتوحًا أمام الخيال والأفكار المتأخرة.
ولم تترك فكرة تصور الكون على هيئة صور الفرصة لمن ينتظرها، إذ من بين التلاميذ وتلاميذ التلاميذ من عمل على خنق نظرية التطبيق والتجربة؛ وذلك بسبب انتشار نظرية عناصر العصير الأربعة، ومع الفلاسفة العظام أمثال: أفلاطون وأرسطو انتصرت نظرية الاستنتاج على التجربة واستنباط الحقائق الطبية من المستشفى، وبذلك أصبح الطب يدرس وينظر إليه على أنه علم وليس مجرد تجارب تكتسب من المستشفى، وهكذا نجد الطب إلى طريق وعر خطأ بسبب آراء أولئك الفلاسفة الأقدمين، ومما يؤسف له حقًا أن الطب ظل يسير في هذا الطريق قرونًا عديدة. ولما جاء جالينوس (130 - 201 م) حقق الهدف السامي للطب عن طريق علمي صحيح ومنطق رياضي سليم، وأقام حول علم الطب سياجًا متينًا، واستخدم جميع الطرق الهندسية بحيث استطاع الاستفادة من كل مجهودات الماضي، فخطا بالطب خطوات علمية موفقة وخرج به من حيزه اليوناني الضيق إلى المحيط العالمي الواسع.
فهذا البناء الخالد للطب والذي شيدته العلوم القديمة ترك أثرًا في الأجيال المتعاقبة لا يقل أهمية عن أثر علم الفلك القديم وعلم الماجسطي لبطليموس. فقد قام على نظريات فلسفية متأرجحة عوضًا عن أن يقوم على أثاث ثابت من الخبرة العلمية التي تعتمد على التجارب والمستشفيات. فمن هو الشخص الذي لم يتأثر بهذه العقلية الإيحائية؟ ومن هو الشخص الذي أصابه ضرر من دراسات وأعمال جالينوس الذي كان يؤمن أن مثل هذه المحاولات من حقه ولو أنها كثيرًا ما شابها الخيال؟ لذلك نجد القرون العديدة تحني هاماتها احترامًا لجالينوس وتقديرًا.
ولم يدم الحال قطّ على هذه الوتيرة فقد أخذت أعمال وفضائل جالينوس تختفي وتتضاءل تدريجيًا، وذلك عندما أخذ الطبيب الحديث يتحرر من التأملات، ومن ثم أخذت تظهر العلوم المتحررة غير المتأثرة بمؤثرات خارجية، وذلك في أوائل القرن السابع عشر بسبب اكتشاف الدورة الدموية الكبرى على يد الإنجليزي «هارفي» .
والواقع أن فكرة الدورة الدموية لم تخطر على بال جالينوس. أما نظرياته الهوائية فقد شرحها كما فحصها في الكبد بمساعدة التدفئة الدخيلة حيث يتحول الطعام إلى دم، يسيل جزء منه في الأوردة ويسير في اتجاه مستقيم إلى جميع الأعضاء والأجهزة إلا أن جزءًا منه يجري في الوريد القلبي ومن ثم الوريد الأجوف الصاعد إلى الجيب الأيمن للقلب. وهنا نجد الحرارة الدخيلة تسبب غليان الهواء وتنقيته، حيث نجد البقايا عبارة عن هباب يتخلص منه عن طريق أوردة الرئتين والرئة والزفير. ومن الجيب الأيمن للقلب يجري جزء من الدم النقي في شرايين الرئة إلى الرئة لتغذيتها. أما البقية الباقية فتتسرب عن طريق المسام الموجودة في الحائط الفاصل للقلب إلى القلب اليسار، حيث يختلط مع هواء الشهيق الذي يجري في أوردة الرئتين، ويتحول هذا الخليط بواسطة الحرارة الدخيلة إلى مصدر الحياة، ويجري في سائر شرايين الجسد.
هذا هو رأي جالينوس في القلب من حيث علم الأحياء، وظل هذا الرأي سائدًا حتى جاء «وليم هارفي» عام 1616 م وقضى على أخطاء جالينوس وآرائه الخاصة
بالقلب. أما «هارفي» فقد ظهر ونادى بآرائه الجديدة هذه بعد أن مضى نحو ثلاثة وستين عامًا على مجيء الإسباني «ميخائيل ثروت» عام 1553 م، وتحدث للمرة الأولى عن دورة دموية وهي المعروفة باسم الدورة الصغرى أو دورة الرئة. وبعده بفترة قليلة جاء الإيطاليان «كولومبو» و «كيسلبينو» وأدخلا بعض التصحيحات على آراء جالينوس. وهكذا كان الوضع في تاريخ الطب حتى عام 1924 م.
ففي ذلك العام (1924 م) تقدم شاب مصري إلى كلية الطب بجامعة «فريبورج» بإقليم «بريسجاو» برسالة في غاية الأهمية وفي اللغة الألمانية. ولا شك في أنه إذا ثبتت صحة النتائج التي انتهى إليها هذا الطبيب، فإن الفصل الخاص بالتاريخ العلمي لهذا الموضوع الطبي يجب أن يكتب من جديد.
وفي ألمانيا نفر قليل من المستشرقين الذين يهتمون بالمخطوطات المحفوظة بمكتبة الدولة، ويقوم هؤلاء الأساتذة بفحصها ويقابلون بين ما يذكره الدكتور التطاوي وما جاء في هذه المخطوطات، وبعد دراسة فاحصة قرر أولئك المستشرقون أن الطبيب المصري على حق فيما ذهب إليه، وقد ثبت أن طبيبًا عربيًا عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وأن هذا الطبيب العربي أدرك مدى الخطأ الذي تردى فيه جالينوس. فالطبيب ابن النفيس هو أول من فكر في موضوع الدورة الدموية، وكان ذلك قبل «هارفي» بنحو أربعة قرون أو ثلاثة قرون قبل «ثروت». وقد بلغ ابن النفيس مكانة ممتازة بين أطباء عصره حتى إنه لما توفي رثاه أحد شعراء عصره بقوله:«إنه فريد عصره» ، وإن العالم لم ير مثيلا له منذ عهد ابن سينا.
ابن أبي أصيبعة (1201 - 1270) الطبيب ومؤرخ الطب العربي، هو ابن طبيب عيون وحفيد مدير مستشفى العيون في دمشق. وقد ذكر لنا سير نحو ثلثمائة وتسعين طبيبًا من أشهر أطباء العرب، لكن ما هو السبب الذي دفعه إلى تجاهل هذا الطبيب الشهير جدًا والذي بلغ في عالم الطب منزلة قد لا يدانيه فيها أحد؟ ! إن هذا سر غامض حقًا، فابن النفيس كان معاصرًا لابن أبي أصيبعة ومواطنًا له، بل كان زميلا له في مدرسة الطب وفي نفس المستشفى الذي عمل فيه الاثنان. لقد ولد كلاهما في دمشق وفيها ترعرعا، وعندما ولد ابن النفيس عام 1210 م كان ابن أبي
أصيبعة قد أدرك السابعة، ودرس كلاهما الطب وتتلمذ على أستاذ واحد ألا وهو ابن الدخوار.
وقد كان مديرًا لمستشفى نوري، وقد اشتهر لمحاضراته العلمية التي كان يرتادها الكثيرون فضلًا عن تدريسه العلمي في المستشفى وثروته الخيالية، ولما لم يترك ذرية تبرع بقصره الكبير ليكون مدرسة للطب، وألحق بها عيادة خاصة، كما أوقف عليها إيراد أملاكه للإنفاق عليها. وقد درس على هذا العالم الفاضل ابن أبي أصيبعة وابن النفيس كتب الرازي وابن سينا ورسائل جالينوس الذي كان يحترمه كثيرًا؛ وقد اعتاد ابن أبي أصيبعة إذا ما سمع شيئًا من أقوال جالينوس أن يسخر من أستاذه ويصيح: هذا هو الطبيب! ثم لا نلبس طويلًا حتى نجد الطبيبين الشابين يلتقيان في المستشفى الناصري في القاهرة. هذا المستشفى الذي أنشأه صلاح الدين، لكن ابن أبي أصيبعة لم تطل إقامته في مصر وتركها إلى أطراف بادية الشام حيث التحق بخدمة أمير شامي، وهكذا نسي رفيقه وزميله.
أما ابن النفيس فقد كان أحسن حظًا إذ أصبح رئيسًا للمستشفى الناصري، وظل هكذا مدة طويلة رئيسًا لأطباء هذا المستشفى، ويلقي محاضرات عن جالينوس وابن سينا ارتجالا دون أن يستعد لها. ويروي الذين حضروه أنه إذا ما أراد وضع رسالة طبية تدفقت آراؤه ومعلوماته كالنهر الفياض دون ما حاجة إلى الاستعانة بمراجع أخرى. ويحكى أنه كان مرة في حمام من حمامات القاهرة يغتسل بصابون مصنوع من زيت الزيتون فخرج من الحوض ودخل غرفة بالحمام وهناك أمر بإحضار ورق وقلم ومداد وأخذ يكتب رسالة حول «النبض» ، وعندما فرغ منها عاد إلى الاستحمام ثانية.
وكان ابن النفيس طويل القامة نحيل القوام ورأسه رأس علماء. وإلى جانب مهنته كطبيب وعالم شغف كذلك بعلوم الشريعة والنحو المنطق والفلسفة، وكان يقرأ على الطلاب في مدرسة الشريعة المعرفة باسم المسرورية علوم الشريعة والحديث.
فهذا العالم الشاب الذي ثقف شباب الأطباء المصريين في مؤلفات كبار علماء
الطب أمثال: جالينوس وابن سينا، هذه المؤلفات التي كان يجيدها ويلم بها، اشتهر باستقلاله في تفكيره حتى إنه لم يتردد في نقدها ونقد غيرها من مؤلفات الآخرين.
ويمتاز ابن النفيس على أستاذه ومعظم زملائه بالشك وقوة النقد فهو لا يتقبل آراء الآخرين سواء كان جالينوس أو غيره على أنها حق لا يأتيها باطل بل هاجمها وقلل من أهميتها. أما الآراء المتداولة والنظريات التعليمية، فلو يعرضها على طلابه إلا بعد الدرس والتمحيص مهما كانت مصادرها وتفاوتت مقادير أصحابها وتباعدت العصور التي عاشوا فيها. والجرأة التي اقتحم بها «هارفي» هيكل تقديس القديم ومزق أستاره وفضح قدسيته مكنته من فتح باب النقد والبحث العلمي على مصراعيه، كذلك كان الحال مع الباحث العربي ابن النفيس، فقد كان جريئًا جدًا حريصًا على الاحتفاظ بحريته العلمية والمناداة بما يعتقده؛ وهو من المنادين بأن فحص أي عضو من أعضاء الجسم يتطلب من الباحث قبل كل شيء الملاحظة الدقيقة والدراسة العلمية النزيهة ولا مراعاة لأي اعتبار آخر قد يحول دون حرية البحث أو إبداء الرأي أعني عدم الاكتراث بمكانة صاحب الرأي سواء كان من القدامى أو المحدثين. وليس هذا المذهب هو مذهب ابن النفيس فقط بل قد اتبعه الرازي أيضًا ونهج على نهجه «هارفي» ؛ فابن النفيس و «هارفي» اعتمدا على المشاهدة والتجارب الطبيعية.
وهناك فروق في تكوين مختلف الحيوانات، لذلك يجب أن نستعين بعلم تشريح مقارن؛ هكذا نادى ابن النفيس ونادى بوجوب ملاحظة الفوارق وأخذها بعين الاعتبار. وقد أثبت التشريح للعالم الباحث الأمين ما يأتي:
1 -
أن القلب يتلقى غذاءه من الدم الذي يجري في الأوعية (وليس كما كان يعتقد قديمًا عن طريق الحوض اليميني للقلب) التي تتخلل القلب؛ وبذلك يكون ابن النفيس أول من تنبه إلى وجود الدورة التاجية.
2 -
أن الدم يندفع إلى الرئة ليتشبع بالهواء وليس لتغذية الرئة (كما أشار إلى ذلك متأخرًا هارفي).
3 -
هناك وصلات بين شرايين الرئة وأوردتها، وهذه الوصلات تتحكم في الدورة
الدموية في داخل الرئة (وهذه الحقيقة التي اهتدى إليها ابن النفيس قد ادعاها لنفسه «كولومبو» وقال إنه صاحبها).
4 -
أن أوردة الرئة ليست ممتلئة بهواء أو هباب (كما اعتقد جالينوس، وأضاف على ذلك قوله إن الأوردة تجري في اتجاهات عكسية) بل بالدم.
5 -
أن جدران شرايين الرئة أسمك من جدران الأوردة ومكونة من طبقتين. هذه هي الاكتشافات العظيمة جدًا التي اكتشفها ابن النفيس، وظلت زمنًا طويلا منسوبة إلى ثروت وبخاصة الآتية:
6 -
ليس للحائط الفاصل في القلب مسام، وكل ما في الأمر أن الدم يكون دورة، وبين هذين الحوضين الموجودين في القلب لا توجد ثغرة موصلة وذلك لأن هذا الحائط الفاصل في القلب مغلق وليست به فتحات مرئية كما يعتقد البعض أو غير مرئية كا اعتقد جالينوس، وذلك لأنه ليست للقلب مسام ومادته في تلك الجهة سميكة؛ ولا شك في أن هذا الدم بعد أن يصير رقيقًا يندفع إلى الرئة عن طريق شرايينها ليجوس خلالها ويمتزج بالهواء منقيًا الجزء الدقيق منه، ومن ثم يجري هذا الدم في أوردة الرئة متجهًا إلى الحوضين اليساريين للقلب بعد أن يكون قد امتزج بالهواء.
وهكذا وصفت الدورة الدموية الصغرى وصفًا دقيقًا سهلا يكاد يكون نفس العبارات التي استخدمها فيما بعد «ميخائيل ثروت» ، وإن افترق «ثروت» عن ابن النفيس في شيء فإنما في العبارة التي ساقها ويذكر فيها أن لون دم أوردة الرئة أحمر فاتح. فإذا استثنينا هذه الملاحظة التي أوردها «ثروت» الإسباني، فعباراته تتفق مع عبارات ابن النفيس الطبيب المصري. وقد جاءت عبارة ابن النفيس في شرحه الذي وضعه على كتاب القانون لابن سينا والخاص بالتشريح.
فهل هذا الشبه القوي بين الإسباني وابن النفيس العربي جاء صدفة؟ ثم هل عرف «ثروت» الإسباني، الذي اشتهر حتى زمن قريب جدًا بأنه مكتشف الدورة الدموية الصغرى وفاضت كتب تاريخ الطب في أوربا بالحديث عنه بأنه صاحب الفضل في الاهتداء إليها، وشرح ابن النفيس على قانون ابن سينا؟ .
أما ميخائيل ثروت أو كما يعرف في الإسبانية باسم «ميجويل ثرافيدا» ، فقد ولد عام 1509 م من أسرة نبيلة في «فيلا نويفا» بأرجون وكان ميلاده يصادف مضي ثمانية عشر عامًا على خروج العرب من إسبانيا، ومعنى ذلك أنه ولد في عصر كان النزاع فيه محتدمًا بين العرب وأعدائهم وانتهى بأيلولة ملكية هذه البلاد الجميلة إلى السادة الجدد واندمج العدد الباقي من المسلمين في المجتمع الجديد. لكن الشيء الجدير بالذكر أن الشبان المسيحيين في ذلك الوقت كانوا قد أقبلوا على الثقافة العربية والآداب العربية إقبالا عظيمًا وذهبوا بعيدًا، فكانوا يفاخرون بإلمامهم باللغة العربية أدبًا وثقافة؛ مما اضطر أسقف قرطبة إلى إبداء أعمق الحزن وأشد الأسف على إقبال المسيحيين على لغة العدو وأدبه. وهو يذكر أيضًا أن جميع الشبان المسيحيين كانوا لا يعنون إلا بالعربية وآداب العرب حتى إن «ميجويل» ، مواطن الطبيب «أرنلد» من «فيلا نويفا» كان يجيد اللغة العربية نطقًا وكتابة، وقد استطاع أن يترجم في سهولة كثيرًا من الكتب الطبية العربية دون مساعدة عربي أو يهودي.
ولا عجب إذن إذا قلنا إن المعاهد العليا الأوربية ظلت زهاء ثلاثة قرون تعتمد على المؤلفات العربية فقط، ولا غرابة كذلك إذا أغرى هذا التراث العقلي العربي العدو الذي كان دون العربي عقلًا وثقافة وعلمًا، فأقبل الأوربيون على الاغتراف من حياض المعرفة العربية بالرغم من يقينهم بأن هذه الثقافة قد تكون مصدر خطر عليهم.
أما المذهب المسيحي القائل بالتثليث مثلا، فقد كان له وضع خاص مختلف، فنحن نجد «ميجويل» ولم يتجاوز الخامسة والعشرين ينتقد التثليث انتقادًا مرًا ويهاجمه ويسفه المؤمنين به علمًا بأن معارضي أصول الإيمان المسيحي كانوا عرضة لأشد أنواع التعذيب من الكنيسة وبخاصة أن هذه الأصول الدينية كانت من وضع الكنيسة، لذلك كان المفكرون الأحرار يؤثرون الهرب على الوقوع في قبضة رجال الكنيسة، لذلك نجد «ميجويل» يتنكر تحت اسم آخر ويهرب ويختفي في مطبعة في فرنسا، وهنا التقى بالرجل الذي أخذ بيده وأقحمه في المعركة الخاصة بالعروبة، كما رسم له مستقبل حياته والطريق التي يجب على «ميجويل» السير فيه. هذا الرجل
هو الطبيب والمفكر الفرنسي الحر الذي كان يعني كثيرًا بالدراسة العربية الطبية ويقابل بينها وبين ما خلفه اليونان. لذلك نجد «ميجويل ترافيدا» أحد أبناء مدينة «فيلا نويفا» وهو الذي يعرف أيضًا باسم «ميجويل ثروت» ، يقرر دراسة الطب في فرنسا في باريس وفينا وبادوا، وقد ظل «ثروت» زومنًا طويلًا متنكرًا تحت اسم مستعار يضعه على كتبه، كما احترف مهنة التطبيب وعمل كطبيب خاص. وفي عام 1551 م أصدر رسالة حول بطلان التثليث فواجه بها الرأي العام صراحة فسرعان ما هاجمه القدر.
ثم نجد «كفلين» يشي بالمؤلف ويقول إنه «ثروت» ؛ لذلك هاجمه زبانيته وألقوا به في سجن مدينة جنيف، فقاسى كثيرًا من الأمراض وويلات التعذيب التي يخجل «ثروت» من ذكرها، وقد افترسته البراغيث تقريبًا وليس عليه قميص يستره كما كان يرتعد من شدة البرد وهو في أسماله الممزقة، لذلك استدعى «ثروت» هذا الشخص المسمى «كلفين» وأبدى له رغبته في أن يحكم بعدل في قضيته، لكن قضية «ثروت» هي التي كانت السبب في القضاء عليه وتعذيبه حتى فارقت روحه جسده. ففي عام 1553 م أحرق «ثروت» حيًا في جنيف ومعه كتابه الذي كان قد ظهر في ذلك الوقت حول «إحياء المسيحية» وهو الكتاب الذي يتحدث فيه أيضًا عن هذه المسألة الهامة الخاصة بالدورة الدموية الصغرى.
وقد اهتم «ثروت» كثيرًا بالطل العربي فهمًا ودرسًا ونقدًا فنجده يعرض لطبخ المشروبات عند العرب، ويقابل بينه وبين ما ذكره جالينوس خاصًا بطبخ الأنواع الرئيسية للعصير ونظرياته حول هذا الموضوع، فهل كان تحت يد «ثروت» شرح ابن النفيس على هذا الكتاب الطبي العظيم لابن سينا الذي توجد منه نسخة في مكتبة الإسكوريال بالقرب من مدريد؟ وفي هذا الشرح الذي احتفظت منه الإسكوريال بنسخة نجد الكشف العربي العظيم الذي أثر أثرًا مباشرًا في العلوم الأوربية.
لكن «ثروت» لم يكتف بما ذهب إليه بل أخذ يوزع ضرباته وهجومه على جالينوس، هذا الهجوم الذي لم يؤثر على أفكاره وعرضها بخلاف خليفته «كولومبو» الذي لم يعرف الكتاب المشار إليه والمنسوب إلى «ثروت» ، لذلك لم يندفع في تيار
النقد لجالينوس ومهاجمته. إلا أن «ميجويل ثروت» كان بطبعه ملحدًا وكل الأدلة تؤيد أن الصورة الكاملة التي رسمها ابن النفيس عالم التشريح العربي للدورة الدموية أغنت الإسباني عن الجري وراءها والبحث عنها وشن حرب على جالينوس.
والشيء العجيب حقًا أن شرح ابن النفيس على قانون ابن سينا، هذا الشرح الذي يعتبره العرب من أحسن ما كتب عن القانون، لم يترجم إلا في الهند. أما المخطوطات العربية لهذا الشرح فما زالت مكدسة مع مئات غيرها في دور الكتب الغربية والشرقية لا يهتم بها عالم أوربي أو آخر عربي حتى ظهر بغتة الشخص الذي يجمع بين إجادة اللغة العربية والمعلومات الطبية الفنية وحقق أمنية ابن النفيس التي ذكرها حيث قال:«لو لم أعلم أن مؤلفاتي ستعيش بعدي حوالي ألف عام ما ألفتها» ، لكن المسئولية عن هذا كما يذكرها ناقل الخبر سيؤديها الشخص الذي يريده ابن النفيس.
أما تاريخ كشف العالم العربي الذي ظل مدة طويلة مغمورًا مجهولًا، والذي عاش في القرن الثالث عشر، فإنه يؤيد كيف أن المجهودات العربية العلمية وبخاصة في الطب عظيمة جدًا، وأن الأحكام الارتجالية القائلة إن العرب كانوا عالة على اليونان هراء في هراء، وأن الذين يرددون مثل هذا الادعاء مثلهم مثل الببغاء، والكشف الأخير الذي اهتدى إليه الدكتور التطاوي يثبت أن العلماء العرب أطول باعًا وأعمق بحثًا وأدق نقدًا من زملائهم المسيحيين وبخاصة في العصور الوسطى، كما أن الدكتور التطاوي أثبت أنه لم يبال بآراء العلماء السابقين ولم يكترث بموقفهم أو موقف من جاءوا بعدهم.
يشقون طريقهم
«جالينوس -وإن كان في الدرجة العليا من التحري والتحفظ فيما يباشره ويحكيه- الحس أصدق منه» .
فهذه الجملة اعتراف صريح قاله الطبيب والعالم البغدادي الذي كان من أصدقاء صلاح الدين ألا وهو عبد اللطيف البغدادي (1162 - 1231 م)، وقد تنقل في مختلف عواصم شرق العالم الإسلامي ودرس في مدارسها، وقد جاء في «كتاب الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر»:
«ومن عجيب ما شاهدناه أن جماعة ممن ينتابني في الطب وصلوا إلى كتاب التشريح، فكان يعسر إفهامهم وفهمهم لقصور القول عن العيان، فأخبرنا أن بالمقس تلاّ عليه رمم كثيرة فخرجنا إليه فرأينا تلا من رمم له مسافة طويلة يكاد يكون ترابه أقل من الموتى به تحدس ما يظهر منهم للعيان بعشرين ألفًا فصاعدًا، وهم على طبقات في قرب العهد وبعده.
فشاهدنا من شكل العظام ومفاصلها وكيفية اتصالها وتناسبها وأوضاعها ما أفادنا علمًا لا نستفيده من الكتب، إما أنها سكتت عنها أو لا يفي لفظها بالدلالة عليه، أو يكون ما شاهدناه مخالفًا لما قيل فيها، والحس أقوى دليلًا من السمع، فإن جالينوس -وإن كان في الدرجة العليا من التحري والتحفظ فيما يباشره ويحكيه- الحس أصدق منه».
ثم بعد ذلك يتخيل لقوله مخرجًا إن أمكن، «فمن عظم الفك الأسفل، فإن
الكل قد أطبقوا على أنه عظمان بمفصل وثيق عند الحنك، وقولنا الكل إنما نعني به ها هنا جالينوس وحده فإنه هو الذي باشر التشريح بنفسه وجعله دأبه ونصب عينه، وصنف فيه عدة كتب معظمها موجود لدينا والباقي لم يخرج إلى لسان العرب. والذي شاهدناه من حال هذا العضو أنه عظم واحد وليس فيه مفصل ولا درز أصلا، واعتبرناه ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصناف من الاعتبارات، فلم نجده إلا عظمًا واحدًا من كل وجه، ثم إننا استعنا بجماعة مفترقة اعتبروه بحضرتنا وفي غيبتنا فلم يزيدوا على ما شاهدناه منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخر غير هذه، ولئن مكنتنا المقادير بالمساعدة وضعنا مقالة في ذلك نحكي فيها ما شاهدناه وما علمنا من كتب جالينوس. ثم إني اعتبرت هذا العظم أيضًا بمدافن بوصير القديمة المقدم ذكرها فوجدته على ما حكيت ليس فيه مفصل ولا درز، ومن شأن الدروز الخفية والمفاصل الوثيقة إذا تقادم عليها الزمان أن تظهر وتتفرق، وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة. .».
ولو اعتقد أبقراط ومن جاءوا بعده أن الطفل يتحرك تلقائيًا ويخرج من الرحم فإن عليَّ بن العباس هو أول من تنبه إلى هذه الظاهرة، وهو مكتشف وظيفة الرحم وأنه بانقباضه يطرد الجنين؛ كما كتب علي بن عباس عن أورام الرحم وعنق الرحم وسرطان البطن. وابن العباس هو الذي سبق «دروين» بنحو ألف عام ونادى بالرأي القائل بنشأة الأجناس وتأقلمها ببيئتها المحيطة بها.
كذلك العظام قد تصاب بالالتهاب، هكذا يقرر ابن سينا مخالفًا آراء الأقدمين الذين يقولون:«إن الأنسجة ضعيفة التماسك مثل أنسجة المخ والأنسجة القوية كتلك التي نجدها في العظام غير قابلة للالتهاب» ، فهذا الرأي خطأ، فأولا هو يفرق بين التهاب جلد المخ، وهو التهاب معد، وبين الالتهابات الأخرى المعدية، وبذلك يقدم لنا أول تشخيص خلافي لتصلب الرقبة والالتهاب الثانوي لجلد المخ، ثم نجده في عصرنا هذا. فهذه الصورة العامة التي عرف العالم القديم بعضها وفاته البعض الآخر تجعل علم الأمراض العربي في منزلة أرقى وأبعد من هذا العلم عند اليونان
وبخاصة عند جالينوس، بالرغم من أنه ذكر تحليلات هامة تاهت فيها عبقريته؛ لأنه كان حريصًا على إخضاع الحقائق لإثبات صحة نظرياته.
لقد علم الرازي العرب الفحص الحر والتفكير المستقل. أما رسالته في الجدري والحصبة فهي الأولى من نوعها التي صورت هذا المرض تصويرًا علميًا صحيحًا؛ مما اضطر علماء القرن الثامن عشر الميلادي إلى الاعتراف لها بأنها خير رسالة كتبت في هذا الموضوع؛ لأن الرازي استطاع أن يميز بين النقرس وغيره.
أما ابن سينا فهو أول من استخدم التشخيص الخلافي مفرقًا بين الالتهاب الذي يصيب الضلوع والالتهاب الرئوي والألم الذي يصيب الأعصاب الوربية، وخراج الكبد وحالات الالتهابات الأخرى. وابن سينا يفرق بين أعراض مغص المصران والمغص الذي يصيب الكلى، كما أنه خالف مذهب اليونان عند معالجة الشلل وبخاصة شلل الوجه، فقد شخصه ابن سينا وعالجه معتمدًا على أسباب موضعية بخلاف اليونان الذي شخصوه في حدود نظرية العناصر الأربعة وهي المرة السوداء والمرة الصفراء والدم والبلغم، لذلك عالج اليونان الشلل عن طريق الوسائل الحارة، وظلت هذه الوسيلة مستعملة حتى ظهر الطبيب العربي «صاعد بن بشر بن عبدوس» فخالف الأطباء اليونانيين وسفه آراءهم واستخدم طريقة ما زالت مستعملة حتى يومنا هذا «فإنه أخذ المرضى بالفصد والتبريد والترطيب ومنع المرضى من الغذاء فأنجح تدبيره وتقدم في الزمان بعد أن فاصدًا في البيمارستان، وانتهت الرياسة إليه فعول الملوك في تدبيرهم عليه فرفع عن البيمارستان المعاجين الحارة والأدوية الحارة ونقل تدبير المرضى إلى ماء الشعير ومياه البرور، فأظهر في المداواة عجائب» .
أما ابن سينا الفيلسوف العظيم فهو أول من تعرف على الحمى الفارسية؛ وكذلك مختلف الأمراض التي يتسبب عنها مرض الصفراء وجودة المدينة وهي الدودة التي قد توجد تحت أنسجة الجلد. أما الطبيب الرازي فقد نهج منهج ابن سينا في العناية بالطب العملي فاكتشف حشرة الجرب، وكيف أنها هي السبب في ظهور هذا المرض الذي اكتشف علاجه ابن زهر في إسبانيا.
فهذا الطبيب والفيلسوف الأندلسي، والذي يداني الرازي علمًا ومكانة، يدين له الطب كثيرًا، إذ كان هو أول من شخص أمراض الالتهابات الجلدية فوصفها وصفًا دقيقًا كما عرض للالتهاب الرطب والجاف لكيس القلب، وهذا مرض يخالف سائر أمراض الرئة، ثم ذكر أيضًا نشأة التغذية الصناعية ومختلف أنواع التغذية عن طريق الأنابيب، وهو يصف هذه الحالات وصفًا دقيقًا لا يقل عن اهتمامه بعرض سرطان المعدة، وقد اهتدى إليه واهتم به إبان حياته في السجن فشاهده ودرسه في سجين آخر كان معه في نفس القاعة.
وكان السرطان الموضعي هو عبارة عن مرض السرطان للعضو، فقد لاحظ هذا أولا ابن سينا، وهو أيضًا الذي لاحظ العدوى التي قد تنشأ عن السل الرئوي وعن خطر الإشعاعات الشمسية على المصابين بالسل. والقول بأن بعض الأمراض المعدية مثل الجدري الأسود قد يمنح الجسم حصانة مدى الحياة قد نادى به الطبيب والفيلسوف العربي ابن رشد أحد أبناء قرطبة والذي اشتهر في العصور الوسطى في أوربا باسم «أبي روز» . وبعد قرنين من عصر ابن رشد أصدر القيصر مكسميليان الأول أمرًا عاليًا أعلن فيه أن مرض الجدري وسيلة من وسائل الله لتهذيب البشر وعن طريق هذا المرض ندرك مدى عذاب الله، وأولئك الذي لا يؤمنون بهذا كفار.
وفي أواخر القرن الثامن عشر نجد أوربا تستخدم التطعيم ضد الجدري كوسيلة لتحصين الجسم ضده، وهذا التطعيم بعينه قد سبق فيه العرب الأوربيين واستخدموه في العصر الجاهلي، وبدافع وقاية الجسم من هذا المرض أيضًا كما هو الحال في عصرنا هذا. أما وسيلة العرب إلى تحقيق هذه الغاية فتطعيم الجسم بمصل مخفف من المرض، فيهيج هذا المصل الجسم وينبهه، ويجعله مستعدًا لمقاومة المرض، وذلك عن طريق خلق حالة مرض مصطنعة، ويكتسب الجسم بهذه الطريقة الحصانة المطلوبة. أما طريقة العرب فتلخص في أنهم كانوا يفصدون فصدًا بسيطًا في الكف بين الإبهام والمعصم، ومن ثم يأتون بجزء من محتويات بثرة من بثور الجدري الذي يكون قد أصيب به جار أو قريب في صحة جيدة، ويضعونه على
الفصد، ومن ثم يدلكونه، بخلاف الصينيين الذين كانوا يضعون صديد الجدري -عن طريق كيس صغير مغموس في هذا الصديد- في أنف الشخص المراد تطعيمه.
وإذا ذكرنا أطباءنا العرب يجب ألا ننسى ابن ماسويه مشخص مرض البرص في القرن التاسع الميلادي، ولم يكن هذا المرض كما اعتقدت أوربا المسيحية لعنة من الله، وقد اهتم به كثيرون من الأطباء العرب ومن بينهم أحد أبناء القيروان ألا وهو ابن الجزار فقد أجاد تشخيصه وعلاجه، وكان العرب يعزلون صرعى هذا الداء الوبيل في مستشفيات خاصة وتحت رعاية أطباء مختصين بخلاف الحال في أوربا التي جردتهم من حقوقهم الإنسانية فنبذهم المجتمع وصلت عليهم الكنيسة صلاة الميت، وذلك لأن طرد الفرد من المجتمع البشري في أوربا كان عملًا كنسيًا، وكانت زيارة المرضى بالبرص من اختصاص رجال الدين والمدنيين، فإذا كان المريض تحت رعاية أحد رجال الدين فعليه أن يشعر وهو في شقائه وبؤسه أنه جثة حية. ففي فرنسا كانت الكنيسة تعتبر هذا المريض، الحي الميت، فتحرمه هي أيضًا من حقوقه الكنسية فينقل المريض إلى قبر مفتوح حيث يصلي عليه قسيس ويهيل عليه التراب ثلاث مرات كما يفعل مع الموتى الحقيقيين، ومن ثم ترسله الكنيسة إلى دار خاصة أعدت لهؤلاء المعذبين الذين يمضون بها البقية من حياتهم. وقد ظلت هذه الحالة سائدة في أوربا حتى القرن السادس عشر الميلادي كما يذكر «جيلرفون كيزربرج» فقد ورد عنه أنه قال: اليوم وفي مختلف الجهات والأملاك الكنيسة نجد القساوسة وحدهم هم الذين لهم حق الفصل في مثل هذه الحالات. كذلك الوباء القاتل المميت الذي كثيرًا ما كان يقضي على الأخضر واليابس كما حدث في القرن الرابع عشر حيث أهلك الكثيرين من سكان القارة، فمثل هذا الوباء لم يفهمه العرب على أنه وقع بسبب قوى ما وراء الطبيعة أو قوى سحرية، فالحدود بين الذين يصدرون الأحكام معتمدين على المنطق والعقل وأولئك الذين يؤمنون بالخرافات -ومن الأسف أن نقرر هذه الحقيقة- كانت تمامًا كالفروق القائمة بين العرب العلماء النبهاء والمسيحيين الذين كانوا دون المسلمين كثيرًا. وإن الرأي الذي أعلنه أستاذ جامعة مونبيليية عام 1348 م، ذلك العام الذي تفشى فيه الوباء وانتشر، قد قال فيه إن مصدر تكاثر هذا المرض هو نظرة المرضى؛ لذلك نصح الطبيب أو القسيس أن
يطالب المريض بإغماض عينيه أو تغطية وجهه بملاءة من الكتان، وبذلك يستطيع المعالج لمس المريض وفحصه دون خوف أو وجل.
وفي سويسرا وجنوب فرنسا نجد الشعب يتهم اليهود بأنهم سبب انتشار الوباء واستشرائه؛ لذلك هاج القوم اليهود وأحرقوهم. ولا شك في أن مثل هذا الحادث أشنع وأفظع من الوباء وآثاره.
وفي «نازبون» و «كركاسون» اندفعت جموع الشعب، وهاجمت الإنجليز أعداء المملكة فقطعوهم وأشعلوا فيهم النيران. واعتقد آخرون في الوباء وظهوره بأنه أقبل دخانًا خانقًا من السماء، واعتقد «كونرات فون ميجينبرج» أن الزلازل الأرضية التي تفجر الشرايين الأرضية هي التي تسبب الأوبئة التي تصيب الإنسانية. وقال آخرون إن سببه التقاء المشترى بزحل والمريخ في 20 مارس 1345 م ظهرًا وفي تمام الساعة الواحدة مساء وتحت درجة 14 من الدلو. وفي مقدمة الذين نادوا بهذا الرأي الطبيب البلجيكي «سيمون ده كوفينو» . أما الذين يقعون تحت الأفلاك ذات الأثر البعيد التي اشتهرت ببغضها للإنسان مثل زحل فهم الذين يأتيهم الموت. أما الرأي العام فقد عبر عنه «بوكاشيو» في تقريره عن وباء الطاعون الذي حل بالقوم ذلك العام، وقد ذكر «بوكاشيو» في تعليله:«بسبب أثر الأجرام السماوية أو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان مما أغضب الله فقرر إخافة الإنسان الذي مصيره إلى فناء» ، وهو يقول أيضًا: «ومما زاد الطين بلة جهل الناس وعدم رغبتهم في الرجوع عن غيهم
…
»؛ لذلك يدعو إلى إقامة صلوات التوبة مرات لا مرة واحدة، وفي شكل جماعات كثيرة. وفي المخيمات البشرية لذلك ازداد الوباء تفشيًا. وفي تلك اللحظة يعود عربي بالأمن الضائع -الذي فارق الأوربيين وانطلق إلى السماء- إلى الأرض، وذلك باتخاذ الاحتياطات الضرورية القريبة المنال.
ففي عام 1348 م وهو عام الطاعون نجد السياسي والمؤرخ والطبيب الأندلسي الخالد الذكر ذا الرئاستين الفقيه الكاتب أبا عبد الله محمد المعروف بابن الخطيب (1313 - 1374 م) يطلع على العالم المعذب برسالته في الطاعون وأسبابه وعلاجه والوقاية منه ووجوب الاحتياط من العدوى الناتجة عن لمس المريض أو الاختلاط به
أو القرب من برازه. فالعدوى كما أثبت ابن الخطيب قائمة تؤيدها التجارب والنتائج القاطعة، وابن الخطيب يحذر من ويلاتها ويقول بوجوب الابتعاد عن المرضى وعن ملامستهم أو الاقتراب من ملابسهم أو استخدام أوانيهم وأدواتهم، وزيادة في الحيطة قال إن قرط المريض قد يسبب الموت للذي يلعقه ولجميع أفراد الأسرة بل المدينة بجميع سكانها. ويدعو الطبيب العربي إلى وجوب تحصين الناس من هذا المرض الذي قد يفد إلى بلدهم عن طريق شخص أجنبي قادم من بلد أجنبي.
ولا شك في أن إدراك الأخطار التي قد تنجم عن العدوى المتنقلة يعتبر من أهم الخطوات الهامة في تقدم علم الطب، والفضل في بلوغها يرجع ولا شك إلى العرب الذين توصلوا إليها بينما ظل العالم القديم قرونًا عديدة يتخبط في ويلات الأمراض وأخطارها، وهكذا أدى الطب العربي أجلّ الخدمات الإنسانية.
ويشارك ابن الخطيب الوزير الغرناطي هذا الرأي طبيب عربي آخر، وهذا الطبيب الأندلسي هو ابن خاتمة، أحد أبناء مدينة «الماريا» الإسبانية، فهو يقرر: إذا اتصل إنسان بمريض انتقل إليه نفس المرض بعوارضه، فإذا بصق المريض الأول دمًا بصق الآخر كذلك، وإذا أصيب المريض الأول بخراج انتقل الخراج الثاني، وكما أن الثاني قد أصابته العدوى من الأول فالمريض الثاني قادر كذلك على نقل المرض إلى الآخرين.
وبغتة أدركت أوربا بعد ثمانين عامًا من هذا الكشف العربي أن المرض -إذا ما ظهر- هو الوباء، ويجري الإنسان بعيدًا عن المريض خوف العدوى، لكن هذا الفرار لا ينقذه من حالة الذعر التي تحل به وتستولي عليه، لذلك لجأ إلى الطلاسم علها تقيه شر الوباء وأخطاره، كما استعان أيضًا بالبخور اعتقادًا منه أنه يطارد الهواء السام المتصاعد من باطن الأرض والمعروف باسم عفونة اليونانيين.
ثم نجد بعد انتشار الوباء الثاني العظيم في ذلك القرن، أعني عام 1382 م، أن «شالين ده فيناريو» الأستاذ بجامعة مونبيليه الذي كان الوسيط بين العلوم العربية وبين جنوب غرب أوربا، وعن طريقه شقت الثقافة العربية الأندلسية طريقها إلى
هذا الصقع من أوربا نجد هذا الأستاذ، بفضل هذه العلوم. قد استطاع أن يكتب كتابه عن الوباء، فيقرر أن شيئًا واحدًا هو المسئول عن انتشار الوباء، وذلك الشيء هو انتقال العدوى. لذلك نجد الحكومة تتخذ بعض الاحتياطات للوقاية من انتشار المرض، ومن أولى البلاد التي سلكت هذا المسلك إيطاليا وبخاصة البندقية؛ لأنها عن طريق اتصالاتها بالشرق اكتسبت خبرة عظيمة وعينت عددًا من الأطباء العرب في مستشفياتها ومصحاتها لإدخال الطب العربي واستخدام القواعد العربية الصحية في جميع دور العلاج.
ثم نجد الوزير الأندلسي الذي ألف كتابًا حول نشأة الجراثيم يحل اللغز المشكل حول العدوى وانتقالها، فهي لا تنتقل إلى أناس خصوصيين ملازمين للمرضى بينما ترتع في أفراد آخرين إذا ما دنوا من مريض. لقد أثبت هذا الطبيب العربي أن انتشار المرض يتوقف على درجة استعداد جسم الإنسان الملازم للمريض، فلا بد من أن تتوافر عوامل خاصة لانتقال العدى، وبخاصة أن العدوى قد تنتشر بسرعة ودفعة واحدة أو تدريجيًا، وقد تكون قوية عنيفة عند شخص وضعيفة بسيطة عند آخر أو لا توجد بتاتًا. والاستعداد لقبول المرض هو الذي قد يؤدي بالمريض أو ينجيه منه بدون صلاة أو أي أثر للكواكب والأجرام.
قد نستفيد من المسلمين الكلاب (! ! ) ما ينفعنا.
وقد كان، فقد أغنى الجراح العربي الأندلسي أبو القاسم المتوفى عام 1013 م العلم بأبحاثه التي أفادت الطب كثيرًا وبخاصة فيما يتصل بالأمراض التي تصيب الدم، فقد فحصها أبو القاسم وراقبها في أسرة بعينها، وهكذا نجد قبل ظهور «برسيفال بوت» (1713 - 1788 م) بنحو سبعة قرون يقوم الطبيب العربي أبو القاسم بدراسة التهابات المفاصل وسل الصلب، هذه الأمراض التي نسبت فيما بعد إلى الإنجليزي «بوت» وسميت «سوء بوت» .
لقد أدخل هذا الطبيب العربي كثيرًا من التجديدات لا في الجراحة فحسب بل في كي الجراح وتفتيت الحصوة الموجودة في المثانة، وكذلك في التشريح الجسماني وتشريح الحيوانات لإجراء التجارب والبحوث أيضًا، كذلك خطا بالطب اليوناني
فيما يتصل بأمراض النساء خطوات واسعة إذا أدخل عليه كثيرًا من الإصلاحات سواء في التشخيص أو العلاج أو الأدوات. كما أوجد وسائل جديدة للولادة وبخاصة لتدارك الحالات التي قد يوجد عليها الجنين في الرحم سواء من ناحية وضع يده أو ساقه أو ركبته أو وجهه. وهو أول من نادى باستخدام طريقة العصعص هذه الطريقة التي كثيرًا ما أنكرها «سورانوس» وأسلافه.
أما الطريقة المعروفة اليوم باسم طريقة «فلخر» الطبيب المولد (1856 - 1935 م) وهو أحد أناء مدينة «شتوتجارت» فمن اختراع الطبيب العربي كذلك، وهو أول من نادى باستخدام طريقة رفع الوالدة عند الوضع تسهيلا للولادة. وأبو القاسم هو صاحب فكرة وطريقة عملية استخراج الحصوة المهبلية، كما أنه مخترع المرآة المهبلية وعملية توسيع المهبل عند الولادة تسهيلا للوضع، كما علم وعالج الشذوذ الذي قد يوجد في الفم أو الفك واستخدام الخطاف لاستخراج الزوائد الأنفية. وأجرى عمليات ناجحة في القصية الهوائية بقطع أفقي لخادمه. وأبو القاسم هو الذي أجرى العملية المشهورة التي تمنع تدفق الدم من الأوعية الدموية الكبرى، ولم تعرف أولا هذه العملية إلا بعد وفاة أبي القاسم بستة قرون وكان أول من اشتهر بها الجراح الفرنسي «أمبرواز باريه» وكان ذلك عام 1552 م، ولولا أبو القاسم وتفوقه ونجاحه في القيام بعمليات البتر ما استطاع الطب أن يخطو هذه الخطوات العظيمة.
ولأبي القاسم يرجع الفضل الأكبر في تقدم الجراحة، وإليه يدين الجراحون بالكثير مما توصلوا إليه في عصرنا الحاضر، فهو السباق إلى مختلف أنواع الخياطات الجراحية مثل المشكولة أو تلك التي تشبه حياكة الفراء ثم الرفْو، وبخاصة فيما يتصل بالعمليات الجراحية التي تجري في البطن. فهو يستخدم إبرتين في خيط واحد، هذا فضلا عن استخدام مصارين القطط والأوتار في الجراحات الخاصة بالمصارين. وهو ينصح عند خياطة الجراح وإجراء العمليات الجراحية أسفل السرة برفع الحوض والساقين. وهذا الوضع هو الذي أخذته أوربا فيما بعد عرف باسم وضع «ترندلينبورج» . وقد استخدمت أوربا هذه الطريقة في
أوائل القرن العشرين بعد أن أطلقت عليها اسم الجراح الألماني الشهير «فريدريش وترندلينبورج» (1844 - 1924 م)؛ ومما يؤسف له حقًا ندرة ذكر اسم مخترعها الطبيب والجراح العربي أبي القاسم. وطبيبنا العربي هذا هو صاحب الطريقة المثلى في معالجة الكسور المفتوحة للعظام فهو صاحب فكرة ترك ثغرة في رباط الجبس، وهذه الثغرة يجب أن تملأ بدقة وعناية، ومن حسن الظن أن وصلتنا مجموعة كبيرة من الصور التخطيطية الخاصة بجراحة العيون والأسنان والعمليات الجراحية الأخرى والآلات الضرورية لإجرائها، وقد استكمل الطب العربي جميع هذه الإمكانيات في الوقت الذي كان فيه أطباء أوربا لا يعرفون شيئًا عنها بالرغم من الحاجة الماسة إليها لإجراء العمليات الجراحية.
أما أهم ميزة يتميز بها العرب على اليونان من الناحية الطبية فهي طب العيون، فقد اهتم الأطباء العرب بالعيون وأمراضها وطرق علاجها اهتمامًا عظيمًا حتى إن هذا الفن من الطب لقي تشجيعًا عظيمًا وبخاصة بفضل المجهودات الجبارة التي بذلها علماء الطبيعة العرب. والعبقرية التي أبدوها في البصريات، وهذا علم يعتبر وبحق علمًا عربيًا. وأول كتاب جاءنا في طب العيون عامة هو ذلك الذي وضعه حنين بن إسحق، وبفضل حنين والمؤلفات الرفيعة جدًا التي ألفها علي بن عيسى وعمار الموصلي أصبحت لدينا الأسس التي شيدت عليها أوربا علم طب العيون في مدارسها، وظل الحال كذلك حتى أواخر القرن الثامن عشر. وفي السنوات الأخيرة قدمت لنا أرض أمراض العيون الدواء الناجع الذي اكتشفته، وكذلك القطرة المستخرجة من نبات مصري طبي وهي مفيدة لإزالة الغشاوة التي قد تعلو البلورية كما تفيد في حالات الصرع أو الصداع الجزئي.
والعرب هم الذي أظهروا نبوغًا عظيمًا في تعرف نشأة العاهات الجسمانية التي تعرف الآن باسم «أورثو بيدي» وعلاجها والوقاية منها، فالطريقة المتبعة حتى يومنا هذا في أوربا عند إرجاع عظم الكتف إلى وضعه الطبيعي تعرف باسم الطريقة العربية. وإلى جانب وسائل العلاج «تيرابي» التي كانت مستخدمة قديمًا أعني الحمامات الساخنة والحمامات الباردة، يذكر ابن سينا كعلاج
جديد الحمامات المتناوبة، كما اخترع الحقنة الشرجية وقربة الثلج، كما يرجع إلى الرازي الفضل في استخدام الشعر في خياطة العمليات الجراحية في العصور الوسطى؟
كذلك من الأشياء الأصيلة وذات الفضل العظيم على الإنسانية: طريقة العرب في التخدير، وهم يختلفون فيها عن الهنود واليونان والرومان الذين كانوا يسكرون المريض. أما الطريقة العربية في تخدير المريض فهي العمل على تخديره لا لتخفيف الآلام فقط بن تسهيلا للجرّاح للقيام بعمليته الجراحية دون أن يشعر المريض بألم، أعني استخدام طريقة التخدير الشامل لكل الجسم. ومن العجيب أن هذا التخدير قد نسبه الأوربيون أيضًا إلى طبيب إيطالي، ومن ثم إلى أهالي الإسكندرية الذين تعلموه عن العرب. أما طريقة إجرائه فغمس قطعة من الإسفنج في عصير من مادة الحشيش ومستخرج زهرة البسلة ونبات السكران، ثم تخفيف قطعة الإسفنج في الشمس، وعند استخدامها تطري وتوضع في أنف المريض عند إجراء العملية فيمتص المخاط السائل، ولا يلبث المريض أن يغط في النوم ولا يشعر بآلام العملية القاسية. وقد أخذت أوربا هذه الطريقة عن العرب إلا أنها لم تستمر طويلًا؛ وذلك بسبب الاهتداء حوالي عام 1844 م إلى وسيلة أخرى تخدر المريض لا عن طريق الإسفنجة وما بها من سوائل، بل عن طريق التنفس. ولم تلبث هذه الطريقة طويلا حتى حلت محل القديمة.
وما أصاب التخدير العربي أصاب كثيرًا من الاختراعات العربية وبخاصة ما يتصل بالجراحة وشفاء الجروح، فمثلا المطهر الذي انتقل من العرب إلى شمال إيطاليا لم يعش طويلا واختفى لمدة ستة قرون مرة أخرى.
ومن سوء الحظ أن الفكرة اليونانية القائلة بمبدأ تكوين الكون من أربعة أنواع من العصير ظلت تعمل عملها حتى اعتقد الأطباء اعتقادًا عجيبًا يقول إن تقيح الجرح هو الوسيلة الطبيعية لتطهيره؛ لذلك كان الطبيب يستعين بإحداث تقيح صناعي وتنشيطه، وقد زلت فكرة أبقراط هذه حية يعمل بها الأطباء زهاء ألف عام، حتى جاء ابن سينا فكان أول من عارضها وحاربها ونادى بالعكس.
وكانت نتائج آراء ابن سينا قيمة جدًا وجاءت بالعجب العجاب، فقديمًا كان الجرح لا يشفى إلا بعد أن يمضي عليه زمن طويل قد يتجاوز الأسابيع المليئة بالآلام والأوجاع، بل قد تمضي الشهور قبل أن يلتئم الجرح. أما الآن فالجرح يشفى في يومه، فقد تجنبت نظرية ابن سينا لا إحداث التقيح فقط بل نادت بوجوب عدم إثارة الجرح سواء كانت هذه الإثارة آلية أو كيماوية، واكتفى الطبيب باستخدام كمادات ساخنة بالنبيذ الأحمر المعتق لتجنب إحداث قيء، وهذه وسيلة جبارة تقضي على الجرثومة في مهدها. وقد تنبه عام 1959 م الأستاذ الفرنسي «مسكلير» من مدينة «بوردو» إلى مفعوله كمضاد حيوي تمامًا وهو لا يقل مفعولا وأهمية عن البنسلين.
أما هذا العلاج وهذه الطريقة في التفكير فتتفق والتقاليد العربية القديمة والاستعداد العربي الجبار لعلاج الجروح، ولا يستطيع أحد أن ينكر على العرب قوة الاختراع والأصالة في التفكير، فلعلاج الجروح المنتنة اخترع العرب الجاهليون وسيلة فعالة، وهذه الوسيلة لم تعرفها أوربا إلا في القرن العشرين، وهي المعروفة اليوم باسم المضاد الحيوي، فمن سروج الحمير والجواميس استخرج العرب مادة متعفنة وهي التي يصنع منها البنسلين والإسبرجيلوس، ومن هذه المادوة كونوا مرهمًا وعالجوا به الجروح الملتهبة فنجحوا نجاحًا باهرًا. أما إذا كانت الالتهابات في الحلق فقد استخلصوا المضادات الحيوية من العفن الذي يتكون في الخبز وألقموه للمريض كما هي العادة حتى اليوم عند البدو، فإن مثل هذه الوصفات كنا ننظر إليها لو وقعت قبل خمسين سنة على أنها عمل همجي مزعج: أما اليوم فإعجابنا لا ينقطع من مثل هذه الوصفات القديمة التي هي عبارة عن مضادات حيوية تلطف الالتهابات وتقاومها بل تقضي عليها. إن هذه المضادات الحيوية العربية كانت تقضي كذلك على هذه الجراثيم الخاصة التي ينتج عنها مثل هذا المرض، وإن هذه الوسيلة يتمثل لنا فيها اليوم أحدث أنواع العلاج حتى يظهر شيء جديد.
حديثه أيضًا وسيلة العرب لعلاج مرضى العقول. فقد عالج العرب الهوس ومختلف الأمراض العقلية عن طريق النوم وبواسطة الأفيون وقد استخدمت أوربا
هذه الوسيلة حتى عصر قريب. وعلاوة على ذلك فجميع المعلومات التي وصلتنا والخاصة بعلاج الأمراض العصبية تتفق ومجهودات الطبيب المعالج الذي كان يضع نفسه موضع المريض يحاول شفاءه بوسائل نفسية.
والعلاج النفسي يلعب عند العرب دورًا هاما لا في الأمراض العصبية فقط بل حتى في حالة الأمراض الجسدية. وقد وضعوا كتبًا كثيرة تهتم باستخدام الوسائل النفسية للعلاج، فهناك كتاب أثر الموسيقى في الإنسان والحيوان لابن الهيثم العالم الشهير في الطبيعيات، وقد بدأ حياته العملية كطبيب، وكان ينادي بوجوب الاستعانة بالوسائل النفسية إلى جانب العقاقير الأخرى؛ فالعلاج النفسي متمم ولا شك للأدوية الأخرى، وذلك لأن العلاج النفساني يرفع القوى المضادة للمرض ويناصرها للتغلب عليه، وقد طالب ابن سينا بذلك وألح في وجوب الاهتمام بالعلاج النفساني على أنه خير وسيلة لتغيير البيئة الكئيبة المحيطة بالمريض، وفي هذا التغيير خير ضمان للقضاء على المرض والإسراع بشفاء المريض. وكان ابن سينا يلح في وجوب استخدام الموسيقى وإحاطة المريض بأصدقائه وأحبابه.
*
…
*
…
*
ومن النادر أن نجد أوربا تعرف ما تعرف من أعمال العرب الإنشائية الخالقة وتعترف بأصالتها العربية، وأنها قد أخذتها عن العرب اعترافها بالأعداد العربية والجبر العربي والأسطرلاب العربي. إننا نقرأ مثل هذه الاعترافات في الوقت الذي ينسب فيه كثير من الاختراعات العربية ظلمًا وخطأ إلى الإنجليز والفرنسيين.
لكن التاريخ يثبت ويؤكد أن العرب بمؤلفاتهم العظيمة هم أساتذة أوربا، وهذه الكتب قد استخدمت قديمًا لتخريج أطباء بغداد وقرطبة، وهذه الكتب أيضًا هي التي تخرج عليها عدد كبير من الأجيال سواء في العالم الإسلامي أو المسيحي الأوربي وبخاصة في الطب، فمؤلفو هذه الكتب العربية لم يكن يخطر ببالهم أن كتبهم ستجد هذا الإقبال وذلك الرواج.
وفي أواخر القرن العاشر الميلادي نجد العلامة «جربرت فون أوريلاك»
يجمع قواه ويضع كتابًا نظريًا في الطب في الوقت الذي نجدد فيه البلاد العربية تستخدم الطب عمليًا لا نظريًا فقط في مكافحة الأمراض. فالعلاج كان عند العرب عنصرًا اجتماعيًا اشتراكيًا، والمستشفيات بلغت أوج عظمتها وكانت أحسن ما عرفته الإنسانية في تاريخها الطويل. كان العرب يتطلبون كفاية ممتازة لا في الطب فقط بل في سائر العلوم المتصلة به، فهناك العناية بالدرس والدقة في الامتحانات والاستعداد لمزاولة المهنة في المستشفيات وتدريس الطلاب حيث توجد مواد الدراسة والتدريس متوافرة لأولئك الطلاب. لكن ماذا كان يوجد؟
إن بعض المؤلفات اليونانية كانت ضرورية للتعليم، ولا يمكن إغفالها أو الاستغناء عنها لكن ما هو موقف الطالب الذي يريد أن يكوِّن فكرة عامة عن الطب؟
يذكر علي بن العباس الطبيب الخاص للسلطان عضد الدولة والذي كان معاصرًا للأوربي «جربرت فون أوريلاك» أنه لم يجد في كتب المتقدمين والمحدثين من الأطباء كتابًا شاملا يعالج جميع فروع الطب ومعرفتها معرفة لا يستغني عنها من يريد الإلمام بالطب، فعلي بن العباس ينتقد سائر المراجع الطبية التي كانت موجودة وقتذاك. فأبقراط يوجز في الكتابة والكثير من عباراته غامض وفي حاجة إلى شرح وتفسير. وجالينوس وضع كتبًا كثيرة وكل كتاب منها يعرض لقسم خاص من الطب إلا أن مؤلفاته كثيرة التكرار وتتصف بالاستفاضة فلا يوجد من بين مؤلفاته كتاب واحد يصلح للدرس والتحصيل للمبتدئين، وهكذا نجد عليّا يعرض لكل كتاب شرحًا ناقدًا يائسًا هذا رأيه مثلا في مؤلفات أمثال «أوريباسيوس» و «بول فون إيجينا» ، ثم يقول إنها جيدة إلا أنه ينقصها المنهج وهي صعبة على الطلاب وليس من السهل تحصيلها. ثم نجد المحدثين ليسوا أحسن حالا من سابقيهم فهاهم أولاء هرون وسرابيون وماسويه والرازي قد وضعوا كثيرا من الكتب إلا أنها غير صالحة للدرس، وحتى كتاب المنصوري للرازي -بالرغم من أنه لم يترك شيئًا إلا ألم به وعرض له- ليس في شمول الحاوي الذي هو المثل الكامل للكتاب العلمي. حقيقة أن جميع الكتب موجودة في الحاوي وهو الكتاب المثالي لولا عدم ترتيب فصوله وانقطاع الصلة بين مادته، وهذه صفات يجب أن تتوافر في الكتاب ليصير كتابًا
دراسيًا. والرازي لم يقسم كتابه إلى فصول وأبواب كما ينتظر القارئ من عالم بالطب كالرازي الذي اشتهر بسعة الاطلاع والأسلوب القوي العلمي، فمثل كتاب الحاوي كما وصلنا يدعو إلى العجب حقًا، ويظن أن الذي حدث لهذا الكتاب يجب أن يكون أحد أمرين: إما أن الرازي كتب ما كتب كمذكرات لأجل الذاكرة وبخاصة عندما تتقدم به السن، لأنه خشي أن شيئًا ما قد يصيبه أو يصيب مكتبته، وإما أن هذه المذكرات كتبت لتعاونه عند تأليف كتابه وتبويبه، وتنسيقه، ولما عاجلته منيته لم يستطع تحقيق هذه الأمنية، لذلك نجد مجموعة غير مختارة تتجلى فيها الآراء المختلفة لكثيرين من الأطباء، كما أنها تشتمل على كثير من الزيادات، ولذلك تضخمت صفحات الكتاب حتى إن عدد الأغنياء الأثرياء الذين يستطيعون شراء هذا الكتاب كان قليلًا جدًا لغلاء ثمنه. ويفهم من مقدمة الحاوي أن الرازي قصد من تأليفه معالجة كل ما هو ضروري لحفظ الصحة وعلاج الأمراض والأشياء التي يجب على كل طبيب حاذق أن يعرفها.
ومن حسن الحظ أن جميع الأفكار والأماني التي قصد إليها الرازي وحالت منيته دون تحقيقها قد أنجزها علي بن العباس إنجازًا كاملًا، فقد وضع كتابًا يعتبر خير الكتب التي ألفت لتدريس الطب، فهو وسط بين تفصيل الحاوي وإيجاز المنصوري، وقد أهداه إلى السلطان عضد الدولة مؤسس المستشفى الكبير في بغداد، وهو الملك الذي ناصر العلوم وأخذ بيد العلماء، كما أحصى له الصوفي النجوم الثابتة، لذلك أطلق علي بن العباس على كتابه اسم: الكتاب الملكي. وإنه لكتاب ملكي حقًا إذ يستحق من القارئ حتى يومنا هذا كل إعجاب وتقدير.
وإننا نلمس في هذا الكتاب الروح العلمية والعبقرية الجبارة والنهج العلمي القديم، فقد رتب كتابه أحسن ترتيب كما بوبه أحسن تبويب، وهو من هذه الناحية أيضًا يعتبر من أحسن المخطوطات التي وصلتنا، كما سلك في تأليفه مسلكًا فذًا، فأكثر من الجداول التي تسهل وتبسط المادة على القارئ وصاغ كتابه على هيئة أسئلة وأجوبة عرض فيها للمادة عرضًا حديثًا ينم عن فهم المؤلف وحسن إدراكه لمادته وعمق تخصصه حتى جعل مادة الطب وللمرة الأولى واضحة جلية ومثالية للطلاب
«فالعرب هم الذي أدخلوا النور والنظام على المؤلفات الغامضة، والتي جاءتنا مهلهلة مضطربة عن العالم القديم» هكذا يذكر مؤرخ طب ويعترف بذلك: «فقد جعلوا من المقتبسات الجافة والمعلومات المجموعة والمجردة من العقل والفهم، هذه المعلومات التي وضعها البيزنطيون كتبًا علمية حقًا، فقد نظموها وقسموها حسب تخصصها، لقد أدرك العرب أن الغرض من هذه الكتب يجب أن يكون التعليم فصاغوها الصياغة التي حققت هذا الهدف، وذلك في لغتهم العربية القومية الحية وليس في لغة ميتة فكانت كتبهم مثالا علميًا عظيمًا» (نويبورجر).
لذلك لا عجب إذا اعترفت أوربا بالعرب أساتذة لها ومعلمين، وأخذت عنهم علومها الطبية وكتبهم التي امتازت على ذلك الخليط المشوش الذي تركله اليونان. فأيها أحسن للحظ والتعليم؟ ! أليست هي هذه الكتب العربية التي وضعت في صيغة سؤال وجواب كتلك التي ألفها حنين بن إسحق وثابت بن قرة ومئات آخرون؟ ! إن إيساغوجي حنين لتعليم آراء جالينوس، وسائر مؤلفات ابن رضوان وغيرها كانت من الكتب التي لا يمكن أن يستغني عنها طالب طب، كما أنه ليس هناك أنفع لطبيب من الأطباء من جداول ابن جزلة التي رتب فيها الأمراض ترتيب الأفلاك في الجداول الفلكية، وهذه الجداول تمكنه من إلقاء نظرة عامة على الأسباب والتشخيص وطريقة العلاج للفقراء والأغنياء، وقد ذكر فيها قرابة ثلثمائة واثنين وخمسين مرضًا. أو هل هناك أنفع من جداول ابن بطلان حول فوائد ومضار الطقس والغذاء والحركة أو السكون والنوم أو اليقظة ووسائل التغلب على هذه الأضرار؟ !
لقد كان ابن بطلان يزاول مهنته في بغداد في الوقت الذي كان يباشرها ابن رضوان في القاهرة، فقد كان ابن رضوان أستاذًا ممتازًا ونقيب أطباء مصر، وقد قامت بين الطبيبين خصومة حادة تبادلا فيها الرسائل العنيفة، فكانت الخصومة عبارة عن حرب رسائل بين الطبيبين، ويرجع سببها إلى ادعاء ابن رضوان أن معظم العلوم تعود أصولها إلى اليونان، فهذه الدعوى من ابن رضوان وقوله إن دراسة الطب يجب أن تعتمد أصلا على الكتب اليونانية آلمت العلماء العرب؛ والواقع أن
دعوى ابن رضوان هذه كانت تشهيرًا فقط بابن بطلان الذي نشأ في بيئة فقيرة إذ كان ابن سقاء، لذلك اضطر لابن إلى كسب قوته عن طريق العمل وما كان يستطيع الحصول على كتبه إلا بشق الأنفس، وذلك عن طريق نبوءاته الفلكية، ومن هذه الكتب التي كان يشتريها بدريهمات قليلة حصل ابن بطلان على معلوماته الطبية.
ولكنهما -بالرغم من اختلاف وجهتي نظرهما- قد التقيا في الشعر والنكات اللاذعة، وبخاصة أن ابن رضوان الذي اشتهر بالمشاكسة كان لا يترك فرصة سانحة لمهاجمة خصمه إلا انقض عليه منتقمًا منه بالرغم من بعد الشقة بينهما، فابن بطلان كان مقيما في بغداد وابن رضوان في القاهرة. ومما يذكر أن ابن رضوان وضع رسالة عنوانها: إن جهل ابن رضوان حكمة بالنسبة لابن بطلان! فقد سخر فيها من ابن بطلان، وقال إن ابن بطلان لا يستطيع قراءة رسائله؛ كما وضع ابن رضوان رسالة أخرى فيه: رسالة إلى أطباء القاهرة خاصة بأحدث الأشياء عن ابن بطلان؛ وهكذا دواليك. وأراد الخصم أعني ابن بطلان الانتقام من ابن رضوان فلجأ إلى الشعر مخاطبًا ابن رضوان الذي كان يلقبه ابن بطلان بلقب «تمساح الجن» :
فلما تبدى للقوابل وجهه .... نكصن على أعقابهن من الندم
وقلن وأخفين الكلام تسترًا
…
ألا ليتنا تركناه في الرحم
ومع مضي الزمن نجد التجارب العملية للحياة الطبية تستدعي وضع كتاب قيم وجد إقبالا عظيما من القراء ألا وهو كتاب الرحلة المعروف باسم زاد المسافر للفقراء، وهو كتاب يتحدث في شيء من الدقة والإيجاز وفي أسلوب سهل مفهوم عن أسباب الأمراض وتشخيصها وعلاجها وبخاصة هذه الأمراض التي قد تنزل بالإنسان إبان أسفاره، ومؤلف هذا الكتاب طبيب واسع الخبرة فيما تعرض له، فهو طبيب أسفار ورحلات، ففي كل عام كان يركب البحر صيفًا مغادرًا تونس مرافقًا السفن في حملاتها وأسفارها وحروبها ضد الكفار في البحر، وهذا الطبيب هو ابن الجزار فقد كان يغلق عيادته الخاصة في القيروان إبان شهور القيظ ويبحر كطبيب للسفن في أسطول المسلمين إلى شواطئ وسط إيطاليا وشمالها وجنوب فرنسا أو شمال إسبانيا وربما مرة إلى نهر التيبر شمالا حتى روما والقديس بطرس. وقد
سجل ابن الجزار جميع تجاربه التي جمعها في رحلاته هذه، وأضاف إليها ما جمعه من رحلته حاجًا وضمنها كتابه المفيد جدًا والذي ترجم قديمًا إلى اللاتينية والعبرية واليونانية، ويرجح أن النسخة العربية التي وصلتنا هي ترجمة عن الترجمة اليونانية.
والواقع أن هذا الكتاب المهم جدًا كان هدف المؤلف وغايته فهو شامل لجميع أمراض الشعوب فشخصها ووصف لها الدواء، وهو كتاب لا يستغني عنه إنسان.
ثم نجد الطبيب علي بن العباس يهدي الطب كتابه المشهور «الكتاب الملكي» ، فهو ثاني كتاب بعد المؤلف الذي تصدر عالم التأليف عمرًا طويلا، فالعالم القديم لم يعرف لمثل هذا الكتاب مثيلا، والآن لا نعدم ظهور المنافسين.
ففي الغرب كتب أبو القاسم (936 - 1013 م) نجم الجراحة العربية في قصر الحكم الثاني في قرطبة كتابه الشهير الذي ضمنه تجاربه، وهو المعروف باسم: التصريف؛ والجزء الثالث من هذا الكتاب هو أساس الجراحة الأوربية، الذي دفع من قيمة هذا الفن الشافي الذي كان محتقرًا في أوربا، وهو يعتمد على علم التشريح الذي هو فرع من الطب وله نفس الأهمية التي للفروع الأخرى.
كذلك ظهر في الأندلس ابن زهر (1091 - 1062 م) وهو من أشرة أشبيلية، وقد اشتهرت هذه الأسرة بالطب وهي ترجع أصلا إلى الوطن العربي أعني إلى الجزيرة العربية، وأشهر كتبه: التيسير؛ وهو كتاب لا يستغني عنه الطب، فهو كتاب جيب الطبيب، كما أنه يشير إلى أن مؤلفه من أحسن علماء التشريح ومن أكثرهم خبرة بتاريخ الأمراض ومن أبرع الأطباء الذين خدموا المستشفيات. فاسمه لا يقل لمعانًا في تاريخ الطب العربي عن الرازي، كما أنه لا يقل شهرة عن أبقراط حيث يتفق معه في السمو بالطب وتخليصه من الفلسفة والدين مع التواضع والاستقلال في المشاهدات والتفكير.
وأهم كتبه هو ذلك الكتاب الذي أهداه إلى تلميذه النابه وصديقه الشهير «ابن رشد» (1126 - 1198 م)، وقد أجابه على حسن صنيعه معه بكتابه «الكليات» .
لكن جميع وأجود كتب الطب التي وضعها الأطباء العرب بما فيها الكتاب الملكي وسائر مؤلفات اليونان وعلماء الإسكندرية تتضاءل أمام: قانون ابن سينا، فقد ترك هذا الكتاب الذي وضعه أمير الأطباء أثرًا بعيدًا ظل قويًا فعالا عدة قرون لا في الشرق فقط بل في الغرب أيضًا، وهو في تاريخ الطب لا يعدله كتاب آخر.
فقد ضم هذا الكتاب بين دفتيه سائر فروع الطب نظريًا وعمليًا مع تنوع مواضيعها، وتمكن المؤلف منها فأجاد عرضها وأحسن تأليفها وأبدع تنظيمها وتبويبها، وخرج الكتاب في صورة قلمّا نجد كتابًا آخر يدانيه فيها. فقد ذكر مؤرخ الطب «سيدهوف» حول هذا الكتاب ما معناه:«إنه إنتاج شامل كأنه صب في بوتقة، وهو وحيد في نوعه بين سائر المؤلفات الطبية في مختلف العصور» .
ومما يؤسف له حقًا أن مجموعة من ملاحظات وأبحاث ابن سينا التي أراد أن يلحقها بقانونه قد ضاعت من قبل نشرها ففقدت الإنسانية بفقدانها ثروة علمية طائلة، وذلك لأن العبقرية الجابرة لابن سينا قد أثرت عن طريق هذا الإنتاج العلمي تأثيرًا عظيمًا حتى إن الخلف عجز عن هضم آثاره أو الاستفادة منها الاستفادة الكاملة والإنسانية تمجد ابن سينا تمجيد العالم القديم جالينوس وبخاصة أنها تشعر أن تعاليم ابن سينا جاءت مكملة لتعاليم جالينوس.
ولهذا التقدير لابن سينا أسبابه التي نلمسها في ترتيب وتنظيم وإيضاح وعمق معلوماته ومؤلفاته التي امتازت على سفسطة واضطراب جالينوس، فضلا عن عدم صحة ما جاء في مؤلفاته من معلومات سطحية مشحونة بالأخطاء وبخاصة عند حديثه عن السوائل، كما ذكر ذلك «فون فيلامو فيتس موليندورف» .
إن ابن سينا هو العالم الذي استطاع -وبحق- القضاء على شهرة جالينوس وسائر اليونانيين، وابن سينا هو الذي حطم هذا التمجيد وذلك التقديس لعلماء اليونان قرونًا عديدة. وابن سينا هو العربي الثاني الذي يطل إلى جانب الرازي من قاعة محاضرات كلية طب باريس، وابن سينا هو أكبر أساتذة الطب ومعلم أوربا فترة لا تقل عن سبعة قرون.