الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عملية إنقاذات قيمة تاريخية
الكتاب وسيلة لخدمة السياسة. العلم سفير للسلام. أين ومتى وجدت هذه المعاني وتلك الوسائل من قبل أو من بعد؟ وبهذه الكثرة؟
وكم كان شغف العرب بالكتب عظيمًا، وبخاصة هذه الكتب المتصلة ببعض المواضيع المتصلة ببعض المواضيع الجامدة الجافة مثل: الهندسة أو علم القوى المحركة والطب والفلك والفلسفة.
وبينما نجد الدولة المنتصرة تطالب من الدولة المهزومة تسليمها الأسلحة والذخيرة والسفن الحربية كشرط أساسي لعقد معاهدة الصلح، إذ بنا نجد هارون الرشيد بعد انتصاراته في عموريا وأنقرة يطالب بتسليمه المخطوطات اليونانية.
وبينما نجد اليوم الدولة المنتصرة تطالب المهزومة بالمناجم والصناعة الحربية الهامة وكل ما يتصل بوسائل الهدم والتدمير والإبادة ووضع اليد على مختلف المخترعات، إذ بنا نجد المأمون يطالب عقب انتصاره على البيزنطي ميخائيل الثالث بتسليمه جميع المخطوطات اليونانية الخاصة بالفلسفة ولم تترجم إلى العربية بعد كتعويض لخسارة الحرب لأنها كما يقول الأسلحة العقلية التي يتسلح بها في سبيل السلام وتدعيمه.
والواقع أن الأمراء العرب كانوا كأنهم مجانين في سبيل الحصول على بردية أو مخطوطة مكتوبة على الرق. فما من شيء يكسب صداقتهم مثل الحصول على بعض المخطوطات القديمة، وعن طريق هذه المخطوطات يستطيع مرسلها أن
يتخذهم حلفاءه في حروبه ضد خصومه. ويكفي أن نتذكر ما حدث على البوسفور حيث أرسل إلى عبد الرحمن الثالث في الأندلس صندوق مملوء بالمخطوطات القديمة من بينها رسالة ديسكوريدس في الطب.
وقد أدى بيع التراث العقلي الوثني وإقبال العرب على شرائه إلى رفع ثمنه، فكانت البعوث الخاصة المزودة بكافة الصلاحيات والتفويض والحقائب الملأى بالنقود تترك بغداد إلى بيزنطة والهند، حيث نجد علماء تلك البلاد يقومون بدور السماسرة مثل البيزنطي «فوتيوس» الذي اجتذبه الحياة العقلية الرفيعة في البلاط العباس، حتى إنه فضَّل الإقامة في بغداد على العودة إلى بيزنطة.
كذلك كان الأمراء مشغوفين بالحصول على المترجمين الذين يترجمون لهم هذه المخطوطات، كما سار في ركب الأمراء كذلك الوزراء والأثرياء. وكانوا يدفعون الأموال الطائلة لأولئك الذين يتجولون لهم من العلماء الوسطاء في بلاد اليونان والأناضول، وحيث نزل الهلّينيون للحصول على بقايا التراث العقلي، هذه البقايا التي نجت من التدمير.
وكان القوم ينقبون على هذه المخطوطات تنقيبًا، فكانوا يعثرون عليها في أماكن غريبة مهجورة مظلمة تأوي إليها الفئران والعناكب، وتلك هي القاعات السفلى في منازل الإسكندرية حيث قد يعثر الباحث على مخطوطة خاصة بآلات القتال محفوظة بين حجرين مطبقين عليها وأكوام من الأحجار، كما قد يعثر المنقب على مخطوط آخر محفوظ في علبة مخبأة في جدار معبد سرياني. وفي الأنضول وعلى بعد مسيرة ثلاثة أيام من بيزنطة اكتشف محمد بن إسحاق مكتبة عظيمة في معبد كبير قديم له باب لم ير مثله حجمًا، وهو يتركب من صفقين (درفتين) من الحديد، وقد شيده اليونانيون في الأزمنة الغابرة عندما كانوا يعبدون الأفلاك والأوثان، كما كانوا يقدمون في هذا المعبد القرابين. ويذكر محمد الذي كان سفيرًا عربيًا في القصر البيزنطي أنه كافح كفاحًا شديدًا في سبيل الحصول على هذا الكنز العظيم، فقد رجا حاكم دولة الروم الشرقية أن يفتح له المعبد إلا أنه رفض إجابة هذا الرجاء، وذلك لأن أبوابه قد أغلقت منذ أن اعتنق البيزنطيون المسيحية، لكن
محمدًا لم يتحول عن رغبته وبخاصة أنه قد قدم لحاكم الدولة كثيرًا من الخدمات فرجاه محمد تحريريًا وشفويًا عندما اشترك مرة في مجلس من مجالسه، وأخيرًا وأمام هذا الإلحاح أمر الحاكم بفتح الباب لمحمد فكان هذا المعبد مشيدًا من الرخام وعلى جدرانه كتابات وشخوص ملونة ولم ير محمد مثل هذه الأشياء من حيث وفرة الجمال والفن. أما فيما يتصل بالمخطوطات فقد وجد به ما تنوء بحمله الجمال، وقد ذكر القوم أن عدد هذه المخطوطات قد يبلغ الألف ولو أن جزءًا منها كان ممزقًا والبعض الآخر قد أتلفته القرضة.
إن إنقاذ هذه المكتبة كانت له فائدة عالمية جسيمة فإنقاذها إنقاذ لحضارة وثقافة ماتت وانقرضت بل كادت تنسى ويعفي عليها الزمن، وبخاصة بعد أن انصرفت عنها عيون خالقيها السابقين واتجهت الآن إلى هدف آخر لا يمت إلى الدنيا بسبب.
أما البقية الباقية التي وصلتنا من هذه الثقافة فالفضل في هذا يرجع ولا شك إلى العرب وجريهم وراء المعرفة. ولم يصلنا من هذه الثقافة عن غير طريق العرب إلا النادر القليل الحديث ومن بيزنطية. وحتى هذا الذي جاءنا من بيزنطة عبارة عن نصب ناقص كتمثال بدون رأس «تورسو» ، كما أننا لا نعلم تمامًا مدى أهمية هذا التراث القديم وكميته وكم ضاع منه. إننا نستطيع الاهتداء إليه عن طريق الموسوعات العلمية فقط.