الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
زخرف العالم الوضاء
إذا فكر العربي في الأندلس، وإذا حلم بجنة الأرض، فإنما يقصد الأندلس إبان حكم عبد الرحمن الثالث، فإن هذا الأمير الذي أهداه الله إلى الأندلس، كان المثل الأعلى للحاكم فنجح وخلق من أمة متفككة الأوصال? عن طريق الدين والجنس? شعباً قوياً، أصبح في خمسين عاماً شعباً نابعاً متسامحاً سياسياً وفي طليعة شعوب العالم المتمدين.
وبدهي أن الحياة السياسية حتى ذلك العصر كانت متقلبة، وكذلك كان الخلاف قائماً في الداخل بين المفكرين الأحرار وبين المحافظين المتزمتين، لكن كل هذا لم يحل دون ازدهار الحضارة وتطورها.
كذلك الحالة الاقتصادية في البلاد، فقد أينعت وازدهرت؛ وذلك بفضل نشاط العرب وتجاربهم في الزراعة والري. فالعين العربية المجربة تبينت الكنوز المطمورة في الأرض التي يجب استخراجها والاستفادة منها لرفع مستوى البلاد والنهوض بها. فقد حفر العرب الآبار وزودوها بروافع المياه والسواقي التي يبلغ اتساعها نحو عشرين أو ثلاثين متراً وكانوا يحصلون على الماء من الجبال ويجمعونه في أحواض كبيرة يمتد الحوض منها نحو خمسة كيلو مترات، ومن ثم كانوا يجرون المياه في قنوات كبيرة إلى الأراضي، حيث تخزن في أحواض ثم تصرف منها في الحقول، وهكذا نجح العرب في إرواء الأراضي الجافة الجرداء حتى التلال وأعالي الجبال وجوانبها فسطحوها ورووها وزرعوها، كما تلقى الفلاحون دروساً في زراعة
الرمان والخوخ واللوز والمشمش والبرتقال والكستناء والبنان والنخيل والبطيخ والهليون وقصب السكر والقطن ومختلف النباتات وصناعة الكعك من الفاكهة التي كانت تكون عنصراً هاماً من صادرات البلاد الإسبانية. وحتى اليوم ما زلنا نجد في اللغة الإسبانية الخاصة بالزراعة والري كثيراً من الألفاظ والاصطلاحات العربية. ففي ذلك العصر استغل العرب كل بقعة من الأرض فكان الحقل إلى جوار الحقل كما يصف ذلك المسعودي في كتابه مروج الذهب. وبفضل العناية بالري والزراعة وحسن استغلال الأرض إلى صفاء السماء وجودة الجو، كانت الأرض أيام عبد الرحمن الثالث تنتج ثلاثة محاصيل أو أربعة من الحبوب في العام، واستبعت العناية بالزراعة الاهتمام بتربية الماشية وبخاصة الإبل والخيل، ويكفي العرب فخراً أنهم أصحاب فكرة التلقيح الصناعي وهم أول من استخدمها، وقد أخذ بها العالم الحديث في القرن العشرين فقط.
ثم فتحت المناجم التي ظلت أكثر من ألف عام لا تستخدم ولا تستغل، فقد سبق أن أخرج الفينيقيون بعض محتوياتها فاستخرجوا منها سنوياً كثيراً من الحديد والنحاس والزئبق، فقامت صناعات عظيمة فنية لا تستطيع أوربا أن تتصورها فعم الرخاء البلاد وارتفع مستوى معيشة السكان، حتى إن كل أندلسي كان يركب بغلاً ولا يمشي، كما أدى انخفاض أسعار الخضر والفاكهة وسائر المواد التموينية وارتفاع أجور العمل إلى نزوح كثيرين من الفلاحين العرب والعمال العرب إلى الأندلس فبلغ عدد السكان حوالي عام 950 م في إسبانيا العربية نحو ثلاثين مليوناً، فقامت آلاف القرى حول قرطبة فازدهرت الحياة وأينعت.
ومنذ أن استقلت الأندلس أيام الأمويين عن خلافة بغداد انقطعت الضرائب التي كانت تتدفق من الأندلس إلى شرق العالم العربي وأصبحت تنفق على أهالي الأندلس أنفسهم فساهمت هذه الأموال في رفع مستوى المعيشة، وبفضل حكمة وحسن تدبير عبد الرحمن، هذا الخليفة العظيم، كان ينفق ثلث إيراد الدولة على الشئون الداخلية والجيش الذي كان يعتبر وقتذاك من أحسن جيوش العالم نظاماً وقوة، كما يذكر ذلك سفير «أوتو الأكبر» وهو رئيس الدير «يوحنا فون جورز» ،
والثلث الثاني كان يحتفظ به كرصيد، والثلث الأخير كان ينفقه الخليفة في تشييد المساجد والقناطر والطرق الحربية وشق الترع، وبذلك كان يخلق عملاً لسائر العمال المتعطلين فخلد وحقق أمانيه وأحلامه كما ذكر هو ذلك. وفي عصره الذهبي قامت مدينة الصخرة، مدينة الأحلام، بالقرب من قرطبة وهي في أبهى حلة لها فقد زخرفت مبانيها وقصورها بالذهب الخالص والرخام والبلور والأبنوس والجواهر الكريمة. كما اشتهرت أيضاً بحدائقها الغناء. ويذكر أن جارية عبد الرحمن المحبوبة تركت عند وفاتها ثروة طائلة ليفتدي ببعضها كثيرون من أسرى المسلمين الذين وقعوا في قبضة الإفرنج. لكن جميع الأبحاث والمفاوضات التي قام بها المسلمون مع الإفرنج باءت بالفشل، لذلك ما كان من عبد الرحمن إلا أنه، تحقيقا لوصية جاريته التي أوقفت ثروتها لافتداء أسرى المسلمين ولم يوفق في هذا التعنت الإفرنج، شيد الصخرة وأطلق عليها اسم جاريته تخليداً لها ولا سيما أنه قد استغل الثروة التي تركتها فيها.
لقد عمل في الصخرة نحو عشرة آلاف عامل وظلوا يعملون بها زهاء خمسة وعشرين عاماً بدون انقطاع فشيدوا آيات العمارة، حتى قال شاهد عيان: لقد رأيت بها أشهر ما شيدته يد إنسان من مبان عظيمة.
وقال عربي آخر إن قصر الخليفة كان على جانب عظيم من الأبهة والجلال حتى قيل إنه الوحيد من نوعه في العالم الإسلامي. واعترف أكثر من زائر من مختلف أنحاء المعمورة أنهم لم يروا له مثيلاً في العالم كما لم يعرفوا عظمة وأبهة وفخامة كتلك.
وهذه المنشآت العظيمة لم تلبث أن تركت أثراً عظيماً، لا في العاصمة فقط، بل على امتداد شاطئ الوادي الكبير، وحول المساحات الممتدة بين القرى حيث القصور الشامخة والبيوت الخلوية الجميلة لأصحاب الجاه والسلطان والأثرياء، وحيث دور اللهو والمتنزهات، كما قصد سكان المدن تلك الأماكن استظلالاً في غابات الزيتون والكروم والنخيل والسرو.
وفي المنطقة الممتدة بين «سييرا مورينا» و «سييرا نيفادا»
التي يجري فيها الوادي الكبير كان يقوم اثنا عشر ألف قرية من بينها ست عواصم وثمانون مدينة كبرى وثلثمائة متوسطة.
لكن أعظم مدينة كانت لدى الأندلسي هي قرطبة وعلى جوانبها ذوات المروج الخضراء كان ثمان وعشرون ضاحية، وكانت قرطبة إبان حكم عبد الرحمن الأكبر في منتصف القرن العاشر، من حيث اتساع رقعتها، أكبر مدينة في الغرب بما في ذلك أوربا. فعدا مساكن الوزراء والموظفين كانت تحتوي قرطبة على نحو? ? ? ? ? ? مسكن وستمائة مسجد وثلثمائة حمام وخمسين مستشفى وثمانين مدرسة عامة وسبعة عشر معهداً تربوياً (وكانت في القرن التاسع تضم أربعة آلاف طالب شريعة) وعشرين مكتبة عامة، تحتوى على مئات الآلاف من الكتب، في عصر لم يكن في أوربا مدينة، عدا القسطنطينية، كانت تتسع لأكثر من ثلاثين ألف سكن. ولم تمتلك هيئة، من الهيئات مستشفى واحداً أو مدرسة عليا. ولم توجد بها مكتبة تستحق الذكر أو حمام عمومي. هذا مع الإشارة إلى أن ذلك العصر قد عرف بقذارة الشوارع وعدم رصفها مما ساعد على انتشار الأوبئة والأمراض. والعجيب أن صحيفة كولونيا تكتب في 28 مارس عام 1819 منددة بإضاءة الشوارع بمصابيح الغاز واصفة هذا الحدث بأنه مرفوض وأنه بدعة تتعارض والتعاليم الدينية، وذلك لأن الله خلق الليل ظلاما ويجب على البشر ألا يعارضوا ويخالفوا إرادة الله. في ذلك العصر كانت جميع شوارع قرطبة وحوانيتها البالغ عددها ثمانين ألفاً حوالي عام 950 م ليست فقط مرصوفة رصفاً عظيماً وتنظف بواسطة عربات تجرها الثيران، بل كانت تضاء ليلاً بمصابيح مثبتة في جدران المنازل. وبعد ذلك بقرنين أعني عام 1185 قررت باريس كأول مدينة في أوربا احتذاء حذو المدن العربية فرصفت الشوارع، وجارتها المدن الأوربية الأخرى في منتصف القرن الثالث عشر.
إن هذا الحدث كغيره من الأحداث يشير إلى اقتباس أوربا الشيء الكثير عن العرب، وقد نقل الأوربيون هذه الأشياء عن طريق الرحالة عبر جبال البرانس، ولو أنه من العجيب حقاً أن المسيحية أو المسيحيين أقاموا مدة في بلاد السحرة حتى
لا يتهموا بأنهم يقتبسون عن العرب شيئاً! وليست الأوهام هي التي سيطرت على الراهبة العالمة الشاعرة المسماة «روزفيتا» والتي كانت مقيمة في صومعة دير «جندر زهيم» السكسوني عندما علمت بقصة قرطبة ووضعت فيها قصيدة تمدحها: فقالت عنها: «إنها زينة الدنيا وبهجتها، إنها المدينة الحديثة الجميلة الشامخة بأبنيتها، الشهيرة بأفراحها وهي تحوي جميع الأشياء» .
وليس اليهود فقط هم الذين قاموا بدور الوسيط ونقلوا الثقافة العربية إلى أوربا بل نجد كثيرين من المسيحيين قد سمعوا بهذه البلاد المباركة، حيث قرطبة وطليطلة ومعالمهما الشهيرة الجديرة بالرؤية والزيارة. ففي أثناء قيام حكومة الأمويين بين القرنين الثامن والحادي عشر أقبل عدد كبير من الطلبة من مختلف أنحاء العالم على إسبانيا طلبا للعلم وتحصيلا للمعرفة حيث كانت قرطبة النبع الذي لا ينضب.
نعم إن العلوم الأندلسية اعتمدت أول الأمر على العلوم اليونانية، والعلوم التي كانت منتشرة في شرق العالم العربي، إلا أن هذه العلوم الأندلسية لم تلبث أن وقفت على ساقيها، وذلك بفضل الخليفة الحكم الثاني بن عبد الرحمن. وبعد أن اشتد ساعد المعرفة العربية الأندلسية واستقلت عن غيرها خرجت شخصيات علمية عالمية مثل: ابن رشد وابن زهر وابن طفيل صاحب رسالة حي بن يقظان، هذه القصة الفلسفية التي تعالج الإنسان الطبيعي، وهي التي أتاحت إلى «ديفو» أن يضع قصة «روبينسون كروزو» ، كما نجد ابن باجه وأبا القاسم والطروغي وابن البيطار وابن فرناس وابن الخطيب والعالم العظيم جداً ابن خلدون الفيلسوف والمؤرخ الأول ومؤسس علم الاجتماع. ثم نجد الصوفيين ابن عربي وابن سبعين، ويمتاز جميع أولئك العلماء على علماء شرق العالم العربي.
وامتاز الحكم على سابقيه بحبه وشغفه بالعلم ونشره بين طبقات شعبه الذي رفعه والده سياسياً واقتصادياً حتى جعله شعباً مثالياً لذلك حاول الابن منذ اليوم الأول من توليه الحكم أن يجعله في طليعة الشعوب الأخرى علمياً وثقافياً، وامتاز بذلك على أسلافه. فقد أتبع كل مسجد مدرسة، وكانت بكل حي من أحباء المدينة مدرسة خاصة ومئات الآلاف من الكتب التي كانت محفوظة في المكتبات العامة
وكانت تحت تصرف أفراد الشعب الذين كانوا يستطيعون قراءتها وفهمها، وأراد الحكم شيئاً آخر، فقد أسس في قرطبة سبعاً وعشرين مدرسة أخرى خاصة بالفقراء وكان يدفع هو نفقات وأجور أعضاء هيئة التدريس.
وقد ساعدت هذا الحاكم العالم في جميع أوجه نشاط المعرفة في بلاده، وفي تحقيق رغباته العلمية. هذه الثروات الطائلة التي خلفها له والده وأحسن هو إدارتها والتصرف فيها، فأنفق جزءاً كبيراً منها في الكتب ونشرها ومساعدة العلماء وفتح المدارس، فكان يرسل بعوثه العلمية إلى مختلف المراكز الثقافية والعلمية لشراء أو نسخ أمهات الكتب في مختلف العلوم والفنون، وإذا ما أدرك مبعوث الخليفة القرطبي أن عالما في صدد وضع كتاب بادره وقدم إليه المكافأة السخية مقابل حصوله على هذا الكتاب بمجرد الفراغ منه، فقد حدث فعلاً أن كثيراً من المؤلفات التي وضعت في البصرة أو الموصل قد عرفت وانتشرت في الأندلس قبل أن تراها بغداد!
وبلغ غرام الحكم بالكتب أن حرص حرصاً شديداً على شراء الكتب الجديدة وجمعها وقراءتها قبل أن تصل إلى يد غيره لأن حبه لها لم يكن أفلاطونياً بل واقعياً، فيقال إن مكتبة قصره كانت تضم (400.00) أربعمائة ألف مجلد قد قرأ جميع ما بها وعلق على بعضها وعلى مؤلفيها، وحقا كان هذا الخليفة مضرب الأمثال في العلوم والآداب وسعة الاطلاع، وكان يقصده الأساتذة والعلماء عبر الصحاري والبحار حيث وجدوا عنده الكرم الحاتمي والعلم الذي لا يجاريه فيه أحد، هذا إلى جانب كونه المسامر اللبق. وكانت شخصية هذا الأمير جذابة حتى أقبلت عليه فئات عديدة من كبار العلماء في العالم الإسلامي بل حتى رجال اللاهوت المسيحي قد تهافتوا عليه، فاكتسب بذلك هذا الخليفة الواسع الاطلاع والأفق، الحليم والواسع الصدر، العالم الأديب، إعجاب كبار رجال الكنيسة الذين توافدوا عليه وانكبوا على دراسة اللغة العربية وآدابها. ولما كان وليا للعهد كلف الحكم الغوطي الغربي الأسقف «جودمار فون جيرونا» وضع كتاب باللغة العربية في تاريخ الإفرنج. كما أن أسقف قرطبة المسمى «ريكديمندوس» الذي كان قد سبق أن أرسله الخليفة عبد الرحمن الثالث عام 955 م
سفيراً إلى القيصر أوتو الأكبر. هذا الأسقف الذي كان صديقا لعلماء الطبيعيات العرب، قد وضع كتاباً باسم «راب بن سعيد» الأسقف وأهداه إلى الأمير المسلم الذي كان يرعاه. وموضوع هذه الرسالة: تقسيم الأزمان وإعادة تكوين الأجسام، وقد ترجمها إلى اللاتينية من العربية «جيرهارد فون كريمونا» .
والحقيقة أن الحكم لم ينفرد بين حكام الأندلس بتشجيع العلم والعلماء، فنحن نجد المظفر ملك «بادايوز» يضع موسوعة علمية شاملة لمختلف فنون المعارف في مائة مجلد، كذلك المقتدر ملك «سرجوسة» أظهر نبوغاً عظيماً في الفلك والرياضيات والفلسفة، كما كان يقدر العلماء تقديراً عظيماً. وتقدير العلم سواء عند الأمويين أو غيرهم لم يكن شيئاً نادراً أو مستحدثاً، وعلى النقيض من ذلك فالعالم الذي كان يعينه الأمير في وظيفة حكومية يجب أن يكون على جانب عظيم من العلم والمعرفة ولم يوجد عالم في دولته دون وظيفة أو عمل، فكل عالم كان علمه كفيلاً لأن يجلسه في أعلى المناصب وأرفعها وحتى صغار الأمراء الذين جاءوا بعد سقوط الأمويين عام 1031 وبعد ضياع الخلافة في قرطبة وإشبيلية وغرناطة والمرايا وسرجوسه كانوا يتنافسون في تشجيع العلم والأخذ بيد العلماء وبذلك مهدوا الظهور النهضة العلمية الثانية التي ظهرت بعد ذلك في الأندلس.
وليست العلوم فقط أو الفنون التطبيقية هي التي وجدت إقبال العلماء عليها وتشجيع الأمراء لأصحابها بل الشعر أيضا، والشعر للعربي كالهواء للإنسان، فقد شجعه الأمراء تشجيعاً منقطع النظير، ومن بين الأمراء من أجاد الشعر إجادة تامة.