الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة المترجم
ما فتئ كثيرون من الأوربيين الذين يعنون بنشأة الثقافات يزيفون التاريخ؛ فيجملون القبيح ويشوهون الحقائق مدفوعين بعامل الهوس القومي والجنون الوطني والتعصب الديني، وجاري الغربيين بعض أذنابهم من الشرقيين فأنكروا على العرب فضلهم ونسبوا كل ما بلغه العالم من حضارة ورقي إلى اليونان وذهب هؤلاء الحانقون على العرب بعيدًا، فافترضوا باطلًا وقالوا زورًا وافتروا بهتانًا وادعوا أن العرب من التفاهة والغباء بحيث إن الفضل في تجويدهم للعربية شعرًا ونثرًا يرجع إلى اليهود. وقد تغاضت السيدة الدكتورة «سيجريد هونكه» مؤلفة هذا الكتاب عما صدر عن هؤلاء الشرقيين من أخطاء أو وقعوا فيه من هفوات، وشغلت نفسها بأبناء جنسها من الأوربيين؛ وذلك لأنها كما تقول في مقدمة كتابها:
«إن موقف أوربا من العرب منذ نزول الوحي المحمدي موقف عدائي بعيد البعد كله عن الإنصاف والعدالة. والتاريخ وقتذاك كان يملى ويصنع، ولم يكن المملي هو الضمير بل التعصب الأعمى. إن مثل هذا الوضع كان مفهومًا في عصر كان فيه الشعور السائد هو إغماط حق كل فرد يخالف الأوربيين عقائديًا، ومما يؤسف له حقًا أن هذه النظرة القديمة التي كان مبعثها الظن في أن الاعتراف للعربي بالفضل خطر يهدد العقيدة المسيحية، وما زالت قائمة إلى اليوم، والتعصب الديني ما زال جادًا في إقامة الحواجز بين الأوربيين والشعوب الأخرى. لذلك ينظر الغربي إليهم وكأنهم مجرمون وثنيون وسحرة .. إن هذا الكتاب يهدف أيضًا إلى تقديم شكر كان
يجب أن يقدم إلى العرب منذ عصور قديمة، فالألمان يدينون للعرب بالشيء الكثير وليست اللغة الألمانية بمستثناة. . .».
فإذا كانت العربية لم تهن على بعض العلماء الأحرار في ألمانيا فأبناء العروبة أسبق إلى رد حق العرب المسلوب إليهم ولا سيما أن نفرًا من الحانقين من الأوربيين ضلوا وحاولوا أن يضلوا الآخرين. فمثلا يحلو للدكتور طه حسين أن يتحدث عن اليهود واليهودية إذا ما عرض للغة العربية وأدبها. ويحلو له الحديث عن اليونان إذا ما تعرض للحضارة العربية الإسلامية، وقد تكررت منه هذه النغمة وذكرها أكثر من مرة ولم يسكت إلا بعد أن تغيرت الأوضاع في العالم العربي. ففي الجامعة المصرية كان يحلو له التشدق بهذا الرأي فيها يلقيه على مستمعيه من محاضرات، وقد سجلت له صحيفة الجامعة المصرية في عددها الأول من سنّها الثالثة عام 1925 محاضرة هي حلقة من سلسلة محاضراته تحدث فيها عن اليهود وما لهم من أثر فعال لا في الحياة العربية فقط بل في الحياة الأدبية أيضًا، ويستطرد فيقول: «وبعد ذلك كله يمكننا أن نخلص إلى ثلاث نتائج خطيرة من أثر اليهود:
1 -
أن اليهود أثروا في الأدب العربي أثرا كبيرا جنى على ظهوره ما كان بين العرب واليهود.
2 -
أن اليهود قالوا كثيرًا من الشعر في الدين وهجاء العرب وقد أضاعه مؤلفو العرب.
3 -
أن اليهود انتحلوا شعرًا لإثبات سابقتهم في الجاهلية على لسان شعرائهم وشعراء العرب».
وانتقلت الجامعة الأهلية إلى الدولة وانتقل معها الدكتور طه فأخذ يكرر نفس الآراء ويدعو لها، وأبى إلا أن يذيع دعواه خارج الجامعة فأصدر «في الشعر الجاهلي» ، ولما صادرته الدولة عام 1926 أعاد نشره مهذبًا بعض التهذيب تحت عنوان:«في الأدب الجاهلي» عام 1927.
وفي تلك الفترة أعد الصهيوني إسرائيل ولفنسون (المشرف على البعوث
الإسرائيلية إلى إفريقيا الآن) رسالة تحت إشراف الدكتور طه موضوعها «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام» قدم لها الأستاذ المشرف بمقدمة جاء فيها:
وهذه الرسالة التي نال بها إسرائيل ولفنسون لقب الدكتوراه من الجامعة المصرية والتي استحق صاحبها من المشرف عليها أن ينعته بقوله: «فإذا كان عالمنا الشاب قد وفق إلى الخير في هذا الكتاب الذي قدمه إلى الجامعة المصرية ونال به شهادة الدكتوراه، والذي أقدمه أنا الآن إلى القراء سعيدًا مغتبطًا فتوفيقه مضاعف ذلك لأنه وفق إلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حققت من قبل، ووفق بعبارة موجزة إلى أن يبسط تاريخ اليهود في البلاد العربية قبل الإسلام وإبان ظهوره بسطًا علميًا أدبيًا لذيذًا ممتعًا في كتاب كانت اللغة العربية في حاجة إليه فأظفرها بهذه الحاجة» .
وإني أوافق السيد المشرف في أنه ظفر بهذا البحث اللذيذ؛ لكن أحب أن أقول له إن هذا البحث حلقة من حلقات كتب الدعاية الصهيونية التي كانت الشعب الثقافية للمؤتمر الصهيوني بإشراف (مارتن بوبر) تدعو إلى نشرها، وما نقله إسرائيل ولفنسون في رسالته من آراء كان القصد منه إطلاع اليهود الشرقيين وقراء العربية على ما جاء في المصادر الأجنبية التي يجهلها القارئ العام في الشرق. ثم أي شيء من اللذة ومن الدقة في البحث ما يذكره الباحث، ويقره المشرف، وفي رسالته ص 12:
«لم يظهر شيء من النبوغ والعبقرية في يهود بلاد العرب مطلقًا ولم تشتهر من بينهم شخصية واحدة في كل عصورها بالرقي الفكري، وإن كان اليهود بوجه عام
أرقى وأقرب إلى المدنية من بقية العرب، هذا مما لا يشك فيه أحد من مؤرخي العرب وعلماء الإفرنج».
ليس الأمر كما يعتقد المشرف أو يريد أن يعتقد فهذه الرسالة التي أشرف عليها مشحونة بالأخطاء التي لن تصدر عن طالب مبتدئ في البحث وهي صدى لهذه الآراء التي كثيرًا ما رددها في الجامعة فضلًا عن أن المراجع العبرية لا تمت إلى البحث بصلة، والسيد المشرف لا يعرف العبرية وأخذ بالنتائج التي ينسبها الباحث إلى هذه المراجع العبرية دون التحقق منها ودون الاستنارة ببعض الذين يجيدون هذا النوع من الدراسات، والأمانة العلمية كانت تقتضي غير هذا.
إن البحث العلمي يجب ألا يصبغ بصبغة القومية المتعصبة، كما لا يتخذ وسيلة وسائل الدعاية السياسية أو الكسب المادي الرخيص، ويجب أن يسمو عن كل هذا وينظر إليه كقضية عالمية.
والحقيقة التي يجب أن يؤمن بها الجميع أن الباحث لن يخلط بين المثل العليا التي ينشدها وبين الحقيقة، وبخاصة إذا علمنا أن ما جاءنا عن اليونان أو ما يعرفه أولئك الأوربيون أو أتباعهم عن اليونانية لا يكاد يتعدى المسائل السطحية بخلاف الحال مع الشرق العربي وحضاراته وما انحدر لنا منها. فالمشرق العربي هو مركز الموجات الثقافية العارمة التي أدت إلى هذه الأحداث التاريخية العالمية، والتي غيرت وجه الوجود فنقلته من البدائية إلى الإنسانية ومن الأنانية إلى الإيثار. ففي مصر بزغ فجر الضمير ومنها أخذ اليهود ما أخذوا (1)، وفي بابل وأشور شريعة حمورابي وفيها الشيء الكثير من هذا التراث الذي نقله واضعو سفر التثنية، ولما عاد اليهود من السبى نقلوا معهم عن العرب البابليين الشيء الكثير مما نجده في كتابهم المقدس (2)، وعند المعينيين والسبئيين العمارة وهندسة الري والتجارة، وقصة ملكة سبأ والدور الذي تلعبه في تاريخ الإسرائيليين وحياتهم الاقتصادية لا يخفى على أحد (3). ومن
(1)) من الأدب العربي للدكتور فؤاد حسنين علي، 1963، جامعة الدول العربية، معهد الدراسات العربية العالية.
(2)
) التوراة. عرض وتحليل للدكتور فؤاد حسنين علي، القاهرة 1946.
(3)
) التاريخ العربي القديم. تأليف ديتلف نيلسون. فرتز هومل. ل. رودوكاناكيس وأدولف جرومان. ترجمه واستكمله فؤاد حسنين علي، القاهرة 1958.
هذه الأقطار العربية مجتمعة خرجت فكرة الدين التوحيدي فظهر «إخناتون» وتلاه سائر الأنبياء الذي دعوا إلى اليهودية والمسيحية والإسلام، واستتبع ظهور هذه الديانات تفتق العقل البشري أنتج أدبا وشعرا ونثرا وقصصا وفلسفة وحكمًا وأمثالا والترانيم الدينية. وطوف الخيال العربي وجاءنا بالأساطير الخالدة وكان من نتائج هذه الثورات العربية العقلية والروحية أن رمت العروبة ببعض أبنائها شعوب العالم القديم من شرقيين وغربيين فحطموا مخلفاتهم العفنة البالية وأقاموا على أنقاضها هذه الدول الفتية التي جاءت بالمعجزات. فالعرب لا اليونان ولا اليهود هم الذين بعثوا العالم من حالة الجمود إلى حياة أفضل مكنته من التحكم في مصائر الكون فأطلق العربي الأفكار من عقالها وحررها من جمود رجال المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية فظهرت طائفة القرائين حيث أنكر أولئك التلمود وتعاليمه، كما انكمش سلطان الكنيسة وتوارت وراء البخور. وقد مهد هذا التطور بدوره إلى ظهور حركة الإصلاح الديني وبعث النهضة العلمية.
ومما عاون العرب على الاضطلاع بهذه الرسالة تسامحهم ومبادئهم الإنسانية التي أزالت الفوارق بين الشرق والغرب كما أنهم لم يمكنوا اللون من أن يكون عاملا من عوامل التفرقة والتمييز العنصري والحط من القيم الإنسانية.
إن العرب يؤمنون سواء في الجاهلية أو الإسلام بالحقوق الإنسانية كاملة غير منتقصة لكل فرد من أفراد المجتمع البشري. فالدين الإسلامي الذي ثبَّت أسس هذه المبادئ يقرر في صراحة ووضوح: «ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى» ، و «إن الله لا ينظر إلى وجوهكم بل إلى أعمالكم» . لذلك نجح العربي في تحقيق ما عجز عنه اليوناني والفلسفة اليونانية أعني مذهب «الإنسانية» .
إن هذا المذهب لم يقو ولم ينتصر إلا بفضل العرب، ولم تعرفه أوربا إلا في العصور الوسطى وعلى يد العرب، وبعد أن تتلمذت أوربا على العرب في العصر الإسلامي حيث بلغ العرب مكانة اجتماعية لم تدانهم فيها الشعوب الأخرى، كما شرع الإسلام لمعتنقيه وغيرهم تشريعات أخرجهم من الظلمات إلى النور.
إن الحانقين على العرب والإسلام والناسبين التراث العربي إلى اليونان واليهود
يضللون أنفسهم وغيرهم والعكس هو الصحيح. العرب هم أصحاب الفضل على اليونان واليهود، ولست أنا فقط الذي يقرر هذا بل يشاركني نفر من الأوربيين المنصفين مسيحيين كانوا أو يهودًا هذا الرأي. فالتاريخ اليهودي يحدثنا أن العرب أحسنوا معاملة اليهود عندما كانوا يهربون من وجه الطغاة من حكامهم في فلسطين أو فزعًا من اضطهاد اليونان والرومان، فقد نزل أولئك اليهود الجزيرة العربية فوجدوا أهلا وسهلا، فهذه القبائل اليهودية التي كانت تنزل يثرب وخيبر ووادي القرى، وقد أفرادها على العرب بعد أن أفقدتهم القرون التي مرت منذ زوال دولتهم ولغتهم المقدسة، تذوق اللغة العبرية وتجويدها حتى أصبح من المألوف لدى اليهود أن يعبر عن أفكاره وشعوره في لغة ركيكة هي خليط من العبرية والكلدانية واليونانية فحالت ظروفه هذه دون خلق آداب عبرية، فما كان أولئك اليهود بمستطيعين قول الشعر أو إجادة النثر، فغير نزولهم بين العرب هذه الأوضاع وبخاصة أن العربي معجب بلغته معنى بها نثرا وشعرا وحريصا على المحافظة عليها فصيحة نقية.
أخذ اليهود عن جيرانهم العرب فن الكلام والنطق الصحيح وفصاحة التعبير، فلما رحل بنو قينقاع والنضير وقريظة ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم إلى العراق والشام وفلسطين كانوا يتكلمون لغة عربية ويتأدبون بأدب عربي ويتطبعون بطباع عربية كلها شجاعة ووفاء وكرم وإباء، يقولون الشعر في مختلف فنونه ويعبرون عن خواطرهم في لغة هي لغة أهل الحجاز. نزل أولئك اليهود في أوطانهم الجديدة فأثروا في أبناء ملتهم تأثيرا قويا، ولم يمض نصف قرن من الزمن على تحرير العرب ليهود فلسطين والعراق وغيرهما حتى أصبح في استطاعتهم التحرير في اللغة العربية.
ولم يقف أثر العرب والعربية في اليهود عند اللغة وآدابها بل تعدى العربية الأدبية إلى عربية القرآن الكريم والحرص على المحافظة على كتاب الله، وهذه ظاهرة جديدة لم يكن لليهود بها عهد في عصورهم القديمة حتى في فلسطين، وإبان قيام دولتهم وحياة لغتهم العبرية المقدسة، وقد حببت هذه الظاهرة إلى اليهود اقتفاء أثر العرب ومجاراتهم في طريقة دراسة القرآن الكريم، وحاول اليهود الحرص على
نطق أسفار العهد القديم نطقا صحيحا، فدفعهم هذا إلى التفكير في إعجام أسفارهم وإعرابها مقلدين العرب وناقلين عنهم.
وتأثر اليهود بالعرب أيضًا فأوجدوا ما يعرف في الأدب العبري بالشعر العبري الحديث أو (البيوتيم) فهذا الفن صورة من الشعر العربي وزنًا وقافية.
ولم يقف الأثر عند الشعر بل تعداه إلى النثر فبينما نجد يهوذا بن قريش (آخر القرن التاسع وأوائل العاشر الميلادي) يستشهد كثيرًا من مؤلفاته بالشعر العربي إذ بابن جناح القرطبي وأمثاله ينسجون على منوال نحويي العربية ولغوييها (1) كما ترجم العالم اليهودي الحريزي مقامات الحريري إلى العبرية وقلدها فأدخل فنا جديدا في الأدب العبري لم يكن معروفا من قبل. كذلك الأمثال العربية وجدت طريقها مع البيان والبديع إلى اليهود ولغتهم، فقد وضع يهوذا بن تبون مثلا كتابه المشهور «حكم العرب» وترجمت أسرة تبون وغيرها كثيرا من أمهات الكتب العربية سواء في الفلسفة أو الطب أو الرياضيات أو القصص الشعبية إلى العبرية، وليس هذا بمستبعد فالعرب ليسوا هم أصحاب فكرة المعزل (جيتو) فقد فتحو أمام اليهود دور العلم على مصراعيها ولم يفرقوا بينهم وبين غيرهم؛ لذلك استطاع اليهود القيام بدور الرواة من الشعراء إذ انسابوا في بعض البلاد المسيحية وأخذوا إلى جانب بعض العلماء العرب يلقنون الأوربيين ما انتهت إليه معرفتهم (2).
ويحدثنا التاريخ اليهودي إن الإسلام أحسن معاملة اليهود حتى أولئك الذين اضطر النبي والخلفاء الراشدون إلى إجلائهم عن قلب الجزيرة العربية تأمينا لرسالة الإسلام وأتباعه، أقطعهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام علي -كرم الله وجهه- الأراضي الواسعة بالقرب من الكوفة وعلى ضفاف الفرات مما دفع المؤرخ اليهودي الشهير «جريتز» إلى الإشادة بعدالة العرب وإنسانيتهم في كتابه «تاريخ اليهود» فقال:
(1)) التوطئة في اللغة العربية للدكتور فؤاد حسنين علي، القاهرة 1940.
(2)
) من الأدب العبري لنفس المؤلف.
وذكر في موضع آخر:
إذا تركنا الخلال العربية جانبا، هذه الخلال التي بوأت العرب هذه المكانة الممتازة والتي جعلتهم أهلا ليكونوا رسل حضارة وثقافة للناس كافة، وقابلنا بين الإسلام وتعاليمه وبين اليهودية، أدركنا الفرق الشاسع اجتماعيا وعقائديا بين الملتين؛ لذلك سرعان ما وجدنا المرأة اليهودية مثلا تفضل الالتجاء إلى المحاكم الشرعية الإسلامية للفصل في قضايا الأحوال الشخصية. وقد هدد هذا الموضع الجديد المجتمع اليهودي بالزوال فقرر علماء التلمود تغيير بعض أحكامه مجاراة للشريعة الإسلامية، لكن تغيير بعض الأحكام التلمودية لم يقف عند هذا بل زعزع العقيدة في قدسيته وصحة ما جاء فيه، وبخاصة تلك الأحكام التي لا تستند على نص قوي في الكتاب المقدس.
وكانت النتيجة المحتومة لهذه الحركة الإصلاحية أن ظهرت في سوريا جماعة من اليهود النازحين من الحجاز، والذين اعتادوا حياة أفضل من تلك التي يحيونها تحت ظلال التلمود، فرفضوا العمل بتعاليمه، وبذلك مهدوا لظهور فرقة القرائين.
هذه هي بعض حسنات العرب على اليهود، فالعرب هم الذين أهدوهم العربية بعد أن كانوا يرطنون خليطًا لا شرقيا ولا غربيا ولا ساميا ولا هنديا أوربيا، والعرب هم الذين هذبوا ذوقهم اللغوي، ورفعوا مستواهم الأدبي فمكنوهم من خلق ملكة أدبية.
(1)) نفس المرجع السابق.
وثالثًا وليس أخيرًا احتذى اليهود حذو المسلمين مع القرآن الكريم فعنوا بدراسة كتابهم وشرعوا في وضع نحو للغتهم صيانة لها من اللحن والضياع.
هذه هي الحقيقة العلمية أسوقها للدكتور طه وتلميذه الدكتور إسرائيل ولفنسون.
والآن بعد أن استكملت ما تركته السيدة المؤلفة في هذا الموضوع بالذات أنتقل إلى الحديث عنها وعن مؤلفها الذي نقلته إلى العربية: السيدة المؤرخة الدكتورة «سيجريد هونكه» كريمة تاجر كتب مشهور، وقد ولدت في «كيل» ودرست في جامعات «كيل» و «فريبورج» و «برلين» الفلسفة ونفسية الشعوب والتاريخ، وبعد دراسة دامت ست سنوات حصلت على إجازة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة برلين، وقد عالجت في رسالتها الأثر العربي في الشعر الغنائي الأوربي، ثم مضت المؤلفة عامين مع زوجها الذي تذكر عنه أنه يجيد العربية في مراكش، كما قامت بعدة رحلات في الشرق تعرفت فيها على شعوبه وطبيعة بلاده وثقافاته. وفي عام 1955 ظهر أول كتاب لها في تاريخ الثقافة عنوانه:«في البدء كان رجل وامرأة» ، وقد عرضت فيه المؤلفة أيضا للثقافة العربية، ثم نشرت كثيرا من المقالات حول العلاقة بين العرب والأوربيين في الصحف والمجلات والبرامج العربية الإذاعية الألمانية. أما كتابها «شمس الله تشرف على الغرب» أو «فضل الغرب على أوربا» فهو نتيجة عمل شاق استنفذ من حياة المؤلفة سنوات كثيرة فطلع على القراء وهو يمثل خير كتاب ظهر في هذا الموضوع، فتلقفته أرقى اللغات الأجنبية ونقلته، كما قرظته الصحف والمجلات العلمية في ألمانيا وخارجها.
وقد عالجت المؤلفة مختلف نواحي النشاط العقلي العربي في ست وسبعين وثلثمائة صفحة فضلا عن كثير من الصور واللوحات. ونقل هذا التراث إلى العربية ليس بالأمر السهل، فهناك مفردات عربية الأصل بعدت الشقة بينها وبين صيغها في اللغات الأوربية حتى أصبح الرجوع بها إلى أصولها العربية يتطلب بحثًا وجهدًا، فضلًا عن أن معاجمنا اللغوية العربية لا تسعفنا في مثل هذه الحالات، فهي ليست
معاجم تاريخية، كما أن هذه المفردات غالبًا ما دخلت أوربا عن طريق إسبانيا فهي عربية أندلسية لم تعرها معاجمنا التي بأيدينا أهمية خاصة.
وإذا علمنا أن الكتاب كتب للغرب لا للشرق العربي أدركنا السر في عدم ذكر المراجع العربية والتي لا بد من الرجوع إليها عند نقل الكتاب إلى العربية، وبعض هذه المراجع تحت يدي والبعض الآخر ينقص المكتبة العامة، كما أنني اضطررت أحيانًا إلى الاستعانة بالمخطوطات وبخبرة الكيميائي الشاب السيد حسنين فؤاد بجامعة توبنجن بألمانية في فهم المصطلحات الرياضية والفيزيائية والكيميائية، فإليه أقدم خالص الشكر على الجهد الذي بذله معي في إنجاز هذا الكتاب.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن هذا الكتاب ليس هو الأول من نوعه في اللغة الألمانية إلا أنه أشملها وأوفاها، فقد سبقها المستشرق الراجل جورج يعقوب وعنى منذ صغره بالدراسات الشرقية على جمهرة من مشاهير المستشرقين الألمان في ذلك العصر أمثال:«رويس» و «نولدكه» و «فليشر» و «ألورد» . وكانت الفكرة السائدة في ذلك الوقت عن الشرق العربي لا تتفق وماضينا السعيد وعصورنا الذهبية، فالجامعات الأوربية كانت تمهد أو تخدم الرغبات الاستعمارية، وجرفها تيار السياسة فغفلت أو تغافلت عن البحث العلمي الصحيح المجرد من الغايات، اللهم إلا هذا النفر القليل من بعض المستشرقين الألمان الذي تتلمذ عليهم «جورج يعقوب» وتأثر بآرائهم. فقد أدرك أولئك العلماء أن الشرق وإن دبت فيه عوامل الضعف والانحلال، وأصبح نهبًا بين الدول الأوربية الاستعمارية إلا أنه كان في العصور الوسطى معلم أوربا وإليه يرجع الفضل في النهضة الأخيرة. لذلك نجد «جورج يعقوب» يأخذ على عاتقه العمل على دراسة هذا الموضوع، وإيفاء كل ذي حق حقه، وقد لاقى خصومات شديدة من المستعمرين أولا وأنصار الدراسات القديمة الذين كانوا يهدفون قبل كل شيء إلى تحرير اليونان من السيادة التركية ثانيا، وتكتلت أوربا سبيل الوقوف في وجه الشرق والشرقيين فكان ما كان من الأحداث التي تعرضت لها مصر في القرن التاسع عشر وخلق المسألة الشرقية.
وافتتح «جورج يعقوب» حملته فنشر كتابه «التجارة العربية في العصور
الوسطى»، وقد نقلته إلى العربية ونشرته لجنة البيان العربي عام 1946. ثم واصل حملته فنشر الكثير من المؤلفات القيمة.
وغير «جورج يعقوب» أو الشيخ جورج يعقوب، كما عرف إبان حياته نجد أمثال:«أنوليتان» و «ر. باريت» و «أوتو شيبث» وغيرهم من كبار المستشرقين الألمان ومؤرخي الحضارة أمثال «فيديمان» ، فردوا للعروبة اعتبارها، وأنصفوا الإسلام والمسلمين.