المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محادثات على الحدود - شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا

[زيغريد هونكه]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌شمس الله

- ‌مقدمة المؤلفة

- ‌مقدمة المترجم

- ‌الكتاب الأولالبهار اليومي

- ‌أسماء عربية لمنح عربية

- ‌أوربا تقاسي الحرمان لموقفها السلبي من التجارة العالمية

- ‌البندقية تحطم الحصار

- ‌في مدرسة العرب

- ‌الكتاب الثانيالكتابة العالمية للأعداد

- ‌ميراث هندي

- ‌البابا يمارس الحساب العربي

- ‌تاجر يعلم أوربا

- ‌حرب الأعداد

- ‌الكتاب الثالثالأبناء الثلاثة لموسى الفلكي

- ‌الابن الأول صانع الآلات

- ‌الابن الثاني لموسى «الفلكي»

- ‌الابن الثالث الرياضي

- ‌وينتمي إلى نفس الأسرة أيضًا علم الفلك

- ‌الكتاب الرابعالأيادي الشافية

- ‌الشفاء العجيب عند الإفرنج

- ‌مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم

- ‌أحد نوابغ الطب العالميين في مختلف العصور

- ‌قيود الماضي

- ‌يقظة أوربا

- ‌قال ابن سينا

- ‌أنصاب العبقرية العربية

- ‌الكتاب الخامسسيوف العقل

- ‌المعجزة العربية

- ‌أوربا تائهة في دياجير الظلام

- ‌شعار المنتصر

- ‌عملية إنقاذات قيمة تاريخية

- ‌الترجمة مجهود ثقافي

- ‌ولع بالكتب

- ‌شعب يدرس

- ‌الكتاب السادسموحد الشرق والغرب

- ‌دولة النورمان .. دولة بين عالمين

- ‌كانوا أعداء فألف بينهم

- ‌سلطان لوكيرا

- ‌على الأسس العربية

- ‌محادثات على الحدود

- ‌ميلاد نظرة جديدة للعالم

- ‌الكتاب السابعالفنون العربية الأندلسية

- ‌الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»

- ‌إن العالم شيد لي مسجداً

- ‌الموسيقى تساير الحياة

- ‌زخرف العالم الوضاء

- ‌شعب من الشعراء

- ‌المسالك في أوربا

- ‌الخاتمة

- ‌تعليقات المترجم

- ‌قرتمن

- ‌قرنفل

- ‌جوز الطيب

- ‌برسيفال

- ‌قهوة

- ‌مات

- ‌الشك

- ‌الصفة

- ‌مطرح

- ‌قرمزي

- ‌قناد

- ‌مستقة

- ‌قطنية

- ‌طاسه

- ‌سكر

- ‌غرافة

- ‌ليمون

- ‌الكحول

- ‌برقوق

- ‌البنان

- ‌شربات

- ‌نارنج - أورنج

- ‌الخرشوف

- ‌برد

- ‌أرز

- ‌سبانخ

- ‌القرفة

- ‌العرق

- ‌مخا

- ‌ديوان

- ‌تسفتشجين

- ‌بيج أرمودي

- ‌عثماني

- ‌قبة

- ‌شطرنج

- ‌شيكيش

- ‌قفة

- ‌صفى

- ‌جدامس

- ‌جلا

- ‌بركان

- ‌قطن

- ‌موصلي

- ‌مخير

- ‌الشف

- ‌زيتوني

- ‌تفت

- ‌أطلس

- ‌الدمشقي

- ‌زعفراني

- ‌ليلا

- ‌ترياق. درياق

- ‌جنزبيل. زنجبيل

- ‌كمون

- ‌زعفران

- ‌كافور

- ‌بنزين

- ‌قلى

- ‌نطرون

- ‌صداع

- ‌بورق

- ‌سكرين

- ‌عنبر

- ‌لك

- ‌النيلة

- ‌قز

- ‌طلق

- ‌بطن

- ‌خلنجان

- ‌مر

- ‌سمسار

- ‌جبة

- ‌داو

- ‌دنجية

- ‌قربلة

- ‌فلوكة

- ‌ميزان

- ‌الحبل

- ‌دار الصناعة

- ‌أمير البحر

- ‌قلفاط

- ‌عوارية

- ‌كبر. كبار. قبار

- ‌ياسمين

- ‌ورد

- ‌خيرى البر

- ‌أسليح

- ‌فورسيسيا

- ‌بلد شين

- ‌بلوزه

- ‌جبة

الفصل: ‌محادثات على الحدود

‌محادثات على الحدود

من بين المؤثرات العلمية التي أثرت في تكوين عقلية القيصر وشخصيته طيلة حياته البالغة ستة وخمسين عاماً: اللغة العربية. فهذه اللغة كانت أقوى العوامل أثراً في حياته وتوجيهه لا لأنه مما فيها وترعرع منذ طفولته حيث كان عقليته متفتحة القبول المعارف والاستفادة منها بل لطبيعته واستعداده وخصائصه، فقد وجدت جميع هذه الخصال في الثقافة العربية الغذاء الصالح، كما وجد القيصر الطفل والقيصر الشاب في هذه البيئة العربية الجو الملائم لنموها وازدهارها.

فمن إسبانيا الواقعة في غرب القارة الأوربية زحفت العروبة والعربية على كل أوربا، ومن أجزاء القارة البيضاء من استنكر هذا الزحف ومنها من أعجب به، لكن على كل حال وقفت أوربا من زحف الثقافة العربية موقفاً سلبياً. فمن إسبانيا وفد قبل الحملة الصليبية العالم العظيم، على القصر الملكي في صقلية حيث فريدريش. وعن طريق القيصر، عرفت أوربا الآراء الخطرة للفيلسوف العربي ابن رشد. لقد درس «ميخائيل سكوتوس» في إسبانيا وألم باللغة العربية إلماماً جيداً؛ لذلك ساهم في طليطلة في التراجم والترجمات العربية اللاتينية. وكان هذا كافياً لأن يزكيه لدى القيصر فيحسن استقباله. لقد جاء هذا الضيف العالم ومعه معلومات كثيرة جداً في مختلف المواضيع إلا أنه وجد في صقلية أستاذه:«أيها القيصر السعيد إني أعتقد حقاً إذا استطاع شخص أن يتجنب الموت عن طريق علمه فأنت هذا الشخص» ! وترجم للقيصر كتاب الحيوان لابن سينا، وشرح ابن رشد على أرسطو، وهو الكتاب الذي ظل مدة ثلاثين عاماً يزعج المسلمين المتزمتين والمسيحيين كذلك.

ص: 355

ابن رشد قاضي قرطبة، كان كذلك طبيباً وفيلسوفاً، وتوفي وقد بلغ اثنين وسبعين عاماً في قصر خليفة مراكش، وفي نفس العام وهو العام الذي تسلم فيه فريدريش، أربع سنوات في بالرمو، التاج الملكي. أما مؤلفاته فتكاد تتفق ومشرب القيصر الأشتوفى، وعند إلقاء النظرة الأولى عليها تبدو غير متطرفة بخلاف الوصف الذي توصف به «الحركة دائمة» ولك حركة سبب سابق وبدون حركة لا يوجد زمن، ولا نستطيع أن نتصور أن للحركة أولاً أو آخراً». وهذا الفيلسوف القرطبي يؤمن كذلك إيماناً قوياً بأرسطو ففيه كل الفلسفة. هذا رأي ابن رشد، وتتوقف المسألة على شرحه. وفكرة تجسيد المعرفة بجميع فروعها منذ ألف عام قبل مجيء الرسول، وقبل أن تعلن كلمة الله، كما يعتقد المسيحيون، كل هذا لا يمنع ابن رشد الذي يقدس أرسطو من أن يهتم بشرح فلسفة أرسطو والدفاع عنها، وكأنه أرسطو نفسه. والواقع أن هذا الفيلسوف العربي الحديث عالج المسألة في شيء عظيم من البراعة، فابن رشد يقول ما مضمونه إن الخلق من العدم عبارة عن أسطورة فالعالم في الواقع هو خلق مستمر يخلقه الله، والله هو المدبر للكون ومنظمه وهو روح الوجود، فهذه الروح الإلهية تلهم الروح الإنسانية العلم والمعرفة

هل هذا الفيلسوف منكر وجود الله وغير مؤمن به؟ حقاً إن ابن رشد يؤمن بحقيقتين، حقيقة المعرفة وحقيقة العقيدة. لكن ألم ينسب إليه أنه ينكر خلود الروح؟ إن هذا الرأي لابد أن يكون قد صدر عن شخص لم يقرأه. فابن رشد يقرر أن تحويل جسد الإنسان المادي هو الطارئ لكن توجد وحدة روحية فقط. والناحية السلبية من الروح جزء من الجسد ويموت يموت الجسد؛ لأن كل شيء فردي هالك. أما الجزء الإيجابي من الروح فهو الجزء الإلهي وليست فيه فردية وهو خالد. إنه مثل الشمس التي تضيء جميع الأشياء وهي خالدة، وهذا الجزء الإيجابي هو الجزء الإلهي فينا وهذا الجزء خالد أبدي خلود العالم وأبديته.

وخصم ابن رشد ذلك الذي يدعى «أن الفلسفة العربية ليست مستقلة وليس لها أصل» ! «حقاً» هل قرأ هذا الزنديق هذه العبارة: «ليس للعالم وجود، إنه موجود في العقل الذي يفهمه» .

ص: 356

إن أفكار ابن رشد تركت أثراً بعيداً في القيصر فريدريش، إنها هي اللغة التي يتكلم بها القيصر نفسه؛ كلاهما جاءا إلى الوجود وكل يملك حق الدخول المباشر إلى هذا الوجود. كذلك شخصية أخرى شبت وترعرعت في عصر الملك فريدريش وقد تأثرت بابن رشد تأثيراً قوياً بالرغم من معارضتها له.

توماس فون أكوين، جراف فون أكيرا، سفير فريدريش الثاني في بلاط السلطان الكامل وحاكم القدس، كان له حفيد وابن أخ يسميان بنفس الاسم. أما حفيده توماس الصغير فهو ابن المستشار «أدينولف» في صقلية، وقد تربى مع أخيه يعقوب، وهو الشاعر الذي ظهر فيما بعد كغلام يتعلم الفروسية في القصر ثم تزوج «مرجريت» ابنة القيصر فأصبح بذلك زوج ابنة القيصر فريدريش الثاني. وأما ابن أخيه الأكبر والمسمى أيضاً توماس فهو ابن المستشار القضائي «لندولف» فون «أكوين» ، وأخوه «رينالد» الذي أصبح مثل ابن عمه شاعراً ينظم الشعر على منوال الشعراء العرب فقد تربى تربية تؤهله أن يكون نبيلاً. غير أن ميوله كانت دينية فآثر أن يكون رجل دين إلا أن أسرته كانت تعارض فيه هذا الاتجاه؛ لذلك لجأت إلى القيصر ترجوه أن يستعمل نفوذه لإثنائه عن عزمه. لكن «رينالد» لجأ إلى قاضي قضاة القصر وهو «بطرس فون فينيا» راجياً مساعدته واستطاع الهرب. لكن القدر أراد شيئاً آخر. فقد التحق توماس بجامعة نابولي وأصبح من أكبر رجال الكنيسة الرومانية إذ حصل على لقب «دكتور أنجيليكوس» .

أما المجادلات التي قامت حول أرسطو وداعيته ابن رشد فقد أثارت انتباه الكثيرين ولم يستطع توماس أن يقف منها موقفاً سلبياً، ومما أثار الدهشة أن توماس خصمه أقره ووافقه على ما ذهب إليه في كثير من شروحه وتأويلاته، بل لم يقف توماس عند هذا فقط بل أخذ بوجهات نظر ابن رشد التي أفادت كثيراً فيما بعد في المجادلات التي قامت بين المسلمين والمسيحيين، وقد أقر علماء الطائفتين ما ذهب إليه ابن رشد، ومن هنا نشأت الهزلية التي جعلت قديساً من هذا الشخص الذي كان متأثراً تأثيراً قوياً بزندقة القيصر، وهو يعتبر كابن للقيصر ومن أخلص المخلصين للأسرة القيصرية، هذا الشخص أعلنته الكنيسة قديساً، وهو أحد الآباء البررة

ص: 357

للكنيسة وللمسيحية وعن طريقه رضيت الكنيسة عن أرسطو بل عن العربي المسلم ابن رشد مفسر أرسطو وأكبر مناصريه والداعين له. وأخيراً بعد أن تبينت جامعة باريس خطر هذا الفيلسوف العربي الذي أثر في الفكر الأوربي أثراً كبيراً، ظهرت العلوم العملية ومهدت الطريق لظهور الفكر الأوربي وازدهاره.

وفي قصر فريدريش قام ميخائيل سكوتوس بأعمال الترجمة التي تولى القيصر نشرها بين الجامعات الأوربية المختلفة، فأصبحت هي التوطئة إلى الفلسفة العربية، ومن هنا أيضاً فتح الطريق إلى الرياضيات العربية والأعداد العربية حيث نجدها مذكورة في مؤلفات أمثال «ليوناردو فون بيزا» الذي كثيراً ما حل ضيفاً على القيصر وعلى صديقه ميخائيل، وقد أضاءت هذه الكتب الطريق لأوروبا كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

أما فريدريش البحاثة العبقري الذي كان دائماً مشغوفاً بالأبحاث والاطلاع كما وصفه ابنه «منفريد» فقد كان يرى في أفكار ابن رشد المصباح الوضاء الذي ينير له سبيل الحياة، كما كان يأنس إلى رفقة ميخائيل ويعتز بصداقته، فإليه كان يتوجه القيصر إذا ما عن له أمر هام أو عرضت له مسائل عويصة.

ويذكر ميخائيل سكوتوس فلكي القيصر المخلص أن القيصر استدعاه مرة ووجه مجموعة من الأسئلة الخاصة بالأرض وعجائبها، فكان القيصر وكأنه جاء من عالم آخر. ذلك القيصر الذي طرده البابا من الكنيسة يود أن يعرف كل شيء عن هذا العالم الذي يعيش فيه، يريد أن يعرف الأبعاد والمساحات والأحجام فهو يسأل: كم عدد السموات الموجودة؟ وكم عدد الأعماق؟ وكان القيصر يوجه أسئلته في شيء من الحياء والحذر، فهو يسأل مثلاً عن حجم الكرة الأرضية: سمكها وطولها والمسافة بينها وبين السماء العليا، كذلك المسافة بين الأرض وأبعد الأعماق، ثم هل هناك عمق واحد أو أكثر، وإذا وجدت أعماق متفاوتة، فما هي المسافة بين العمق والآخر؟ كذلك نجد رغبة القيصر القوية في معرفة الأعداد، وهذه خاصية عرف بها روجير الثاني أيضاً، فهو كان حريصاً على تبسيط المعلومات وتجسيدها ليسهل إدراكها وفهمها عن طريق الأعداد. وهذه الظاهرة هي التي دفعت جده أن يقوم

ص: 358

بالليل وبقيس حيطان مدينة نابولي لأنه أراد أن يعرف مقدار المساحة التي تضمها هذه الحيطان.

كذلك موضوع الخلود، فقد شغل فريدريش الثاني كثيراً إلا أنه كان يكتم هذه الرغبة، ثم نجد القيصر الذي حرم من الكنيسة للمرة الثانية يتجه إلى العلماء العرب، فقد أرسل أسئلته إلى مصر وسوريا والعراق والأناضول واليمن ومراكش وسلمها سلطان الموحدين إلى الفيلسوف الشاب ابن سبعين في كوينا، وكانت الفكرة السائدة عند هذا الشاب العربي ابن العشرين أن الإفرنج في درك علمي منحط جداً، وأعتقد أن أسئلة ترد من أمير الجهلاء المسيحيين لا تحتاج إلى كبير عناء للإجابة عنها، وتسلم القيصر هذه الإجابة التي تحمل كل معاني الاستهتار من هذا الفيلسوف الشاب المغرور. وتحمل القيصر هذه الإهانة ضاحكاً وأرسل إليه هدية أزعجته. وهذا الاستهتار من هذا الشاب كان هو الوحيد الذي حدث، وذلك لأن سائر الأمراء والعلماء العرب أدركوا أن توجيه هذه الأسئلة من القيصر تكريماً لهم وتقديراً لمعرفتهم واحتراماً لعقليتهم العربية، لذلك بذلوا كل ما في طاقتهم لإجابة هذا الملك المحترم ملك الإفرنج عن أسئلته الدقيقة.

فتبادل الآراء كان قوياً وكثيراً بالرغم من مشاغل القيصر السياسية والإدارية، وذلك لأن القيصر فريدريش لم ينظر إليها كوسيلة من وسائل شغل الفراغ أو التسلية بل كان الدافع إليها كما يرجح عربي هو اختبار علم المسلمين.

أما العلوم الأوربية والمعرفة الأوربية فقد عجزت عن إشباع رغباته العلمية وإرواء ظمئه إلى المعرفة والتحصيل، فالقيصر كان يؤمن بأن كل ما يجري وكل ما هو كائن إنما هو شيء بدهي، وكان فريدريش يطمع في أن يجد شريكاً له صديقاً يرى في الوجود ما يراه القيصر كما يرى الوجود كما هو، أي كما هو كائن في الحقيقة والواقع.

أما العالم العربي الذي غذاه بعلمه ونشأه فقد باعد بينه وبين أنداده .. ففي العالم العربي كانت المسائل واضحة جلية، ولا توجد أحكام تحد من تفكير رجال الدين. الإسلامي أو من البحث والدرس، لذلك ظل القيصر وحيداً، ولم يجد في عصره

ص: 359

من الأوربيين من يفهمه، بل كان بالنسبة لزمانه في أوربا لغزاً من الألغاز. لقد كان فريدريش دائم البحث وراء أصدقاء يفهمونه، أصدقاء في مستواه العقلي والعلمي، لذلك أرسل أسئلته إلى يافا ليتعرف على العرب ويتبادل معهم الأفكار العلمية والأبحاث الهامة، ويجد فيهم الأصدقاء الذين يقدرونه وينقذونه من الوحدة والعزلة. كان القيصر يرجو من وراء هذه المراسلات أن يحظى بتقدير العرب وصداقتهم. كان حريصا على أن يخرج من هذا العالم الذي ولد فيه وشاءت الأقدار أن تجعله أوربيا، وكانت هذه التبعية الأوربية تؤلمه وتؤذيه. إن القيصر كان يشعر في أواخر أيامه وكأنه الغريب الذي يحن إلى العودة إلى وطنه الأصلي. إن ضربات الغدر القاسية التي كانت توجه إليه ويواجهها في أوربا لم تؤله إيلام البعد الروحي والعلمي بينه وبين معاونيه من رجال الدولة، حتى إنه قال: أريد أن أبقى في الشرق إلى الأبد!

ومن الوثائق التاريخية المؤثرة حقاً هذه الرسالة التي وجهها الإمبراطور في العربية إلى صديقه فخر الدين بعد أن افترقا وقد استهلها بالبسملة.

ولعل الشيء الذي باعد بين فريدريش وعصره هو هذا الوحي العقلي الذي كان يتلقاه بين الحين والآخر من الشرق وطنه الروحي، وهذا التراث العربي هو الذي ميزه عن سائر معاصريه، لذلك كان فريدريش يحاول دائماً الاتصال بهؤلاء الأنداد العظام. لقد استقبل البعثة العربية التي قدمت له كهدية مرصداً ذهبياً وقبة للأجرام السماوية متحركة استقبالاً حاراً جداً لا للهدية فقط، التي أدخلت إلى نفسه كثيراً من الفرح والسرور وهو البحاثة الذي لا يمل التفكير والاطلاع، بل لملاقاة علماء دمشق الذين طالما أسعده الاتصال بهم. وحرص فريدريش على إبقائهم في ضيافته فظلوا شهوراً وشهوراً، ثم سمح لهم بالعودة إلى بلادهم بعد أن احتفل بهم وكرمهم كثيراً وبالغ في الحفاوة بهم فأولم وليمة كبرى بمناسبة الهجرة النبوية الشريفة، وكانت هذه الوليمة شرقية أبهة وكرماً. ولم يسبق لأوروبا أن عرفت وليمة تدانيها عظمة وأبهة، لكن ماذا يصنع القيصر وليس في مقدوره استضافة أعضاء هذه البعثة مدة أطول.

ص: 360

وقد تحدث العرب أنفسهم عن هذه المعاملة، ومن المهم جداً أن نشاهد القيصر بعيون عربية ونقرأ تقديراً عربياً أوحت به أخلاق وصفات وعبقرية هذا الملك الإفرنجي، كما ندرك من خلال هذا التقدير العربي الأهمية الكبرى التي علقها العرب على اختيار هذه البعثة التي زارته والعناية القصوى في اختيارها. وذلك لأن مثل هذه البعثة يجب ألا يكون مستوى أعضائها أقل من مستوى بعوث القيصر إلى الأمراء العرب. ومن العبارات العربية نتبين كيف أن هذه البعثة قد وفدت على عالم فاضل لا يقل علماً ومعرفة عن أكبر أستاذ علم في الموصل.

وذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمته لكمال الدين بن يونس ما نصه:

هو كمال الدين أبو عمران موسى بن يونس بن محمد بن

علامة زمانه وأوحد أوانه وقدوة العلماء وسيد الحكماء قد أتقن الحكمة وتميز في سائر العلوم وكان عظيماً في العلوم الشرعية والفقه، وكان مدرساً في المدرسة بالموصل ويقرأ العلوم بأسرها من الفلسفة والطب والتعاليم وغير ذلك. وله مصنفات في نهاية الجودة ولم يزل بمدينة الموصل إلى أن توفي رحمه الله.

حدثني القاضي نجم الدين عمر بن محمد بن الكريدي قال:

وكان ورد إلى الموصل كتاب الإرشاد للعميدي، وهو يشتمل على قوة من خلاف علم الجدل هو الذي يسميه العجم «جست» أي الشطار، فلما أحضر إلى الشيخ كمال الدين بن يونس نظر فيه وقال: علم مليح ما قصر فيه مؤلفه، وبقي عنده يومين حتى حرر جميع معانيه ثم إنه أقرأه الفقهاء وشرح لهم فيه أشياء ما ذكرها أحد سواه. وقيل إن كمال الدين بن يونس كان يعرف علم الكيمياء من ذلك. حدثني أيضاً القاضي نجم الدين بن الكريدي قال: حدثني القاضي جلال الدين البغدادي تلميذ كمال الدين بن يونس وكان الجلال مقيماً عند ابن يونس في المدرسة قال: كان قد ورد إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل من عند الأنبرور (كذا بالأصل وهي الأمبرور = الإمبراطور) ملك الفرنج، وكان متفنناً في العلوم - رسول وبيده مسائل في علم النجوم وغير ذلك، وقصد أن كمال الدين بن يونس يرد أجوبتها فبعث صاحب الموصل إلى ابن يونس يعرفه بذلك ويقول له أن

ص: 361

يتجمل في لبسه وزيه ويجعل له مجلسا بأبهة لأجل الرسول، وذلك لما يعرفه عن ابن يونس أنه كان يلبس ثياباً رثة بلا تكلف وما عنده خير من أحوال الدنيا فقال: نعم. حكى جلال الدين قال: فكنت عنده وقد قيل له هذا رسول الفرنج قد أتى وقرب من المدرسة فبعث من تلقاه، فلما حضر عند الشيخ نظرنا فوجدنا الموضع فيه بسط من أحسن ما يكون من البسط الرومية الفاخرة وجماعة مماليك وقوف بين يديه وخدام وشارة حسنة. ودخل الرسول وتلقاه الشيخ وكتب الأجوبة عن تلك المسائل بأسرها. ولما راح الرسول غاب عنا جميع ما كنا نراه فقلت للشيخ: يا مولانا ما أعجب ما رأينا من تلك الأبهة والحشمة! فتبسم وقال: يا بغدادي هو العلم».

وفي عصر متأخر ظهر طالب آخر من أولئك المتحمسين لأستاذ آخر في الموصل، كان يحسد كمال الدين للشهرة التي بلغها وكان قد علم عن هذا الحدث الذي وقع الكمال الدين عن طريق السماع فقط، إلا أنه ما زال ذاكراً صعوبة المسائل العويصة التي تقدم بها الإمبراطور إلى العلماء العرب، وقد أثارت هذه المسائل كثيراً من الاهتمام.

ومن أهم الأشياء التي سمعها من كمال الدين أنه أيام حكم الكامل أرسل الإفرنج إلى سوريا بعض المسائل أرادوا منه (كمال الدين) حلها، وهي تتناول مختلف المواضيع من طبية وفلسفية ورياضية. وقد استطاع علماء سورية حل المسائل المتعلقة بالطب والفلسفة. أما المسائل الرياضية فقد عجزوا عن حلها إلا أن الملاك الكامل أصر على وجوب حلها، لذلك أرسلها إلى الموصل إلى المفضل بن عمر أستاذنا، وقد كان في العلوم الهندسية بارعاً جداً وبالرغم من ذلك لم يكن من اليسير عليه حلها فعرض المسائل على الشيخ ابن يونس. وبعد تفكير استطاع حلها وأرسلها إلى الملك الكامل في سوريا.

ووجود شخص يستطيع أن يوجه مثل هذه المسائل العويصة دليل قوي على أن السائل قد بلغ مستوى العرب علماً وثقافة، وهذه حقيقة سلم بها العرب. لقد أمطر هذا الرجل العجيب الذي كان يتربع على عرش أوربا أمراء العرب بكثير من الأسئلة وبعضها قد حفظه لنا الإمام العلامة شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، وقد

ص: 362

كان نابغة عصره في الفقه والعلوم الطبيعية والبصريات وغيرها، وقد اهتم بكثير من المسائل التي كانت تشغل أهل عصره كهذه المسائل الوقحة التي اهتم بها المسيحيون واليهود، تلك الخاصة بالتماثيل المقدسة التي تبكي دموعاً ويسيل اللبن من أثدائها. فقد أجاب القرافي على مثل هذه المسائل وعالجها بالرغم من احتقار أصحابها ولو أنه كان يقدر مليكهم تقديراً عظيماً نظراً لحرصه الشديد على العلم والتحصيل. وهذه الحقيقة هي التي دفعت القرافي إلى القول في مقدمة كتابه «الاستبصار فيما تدركه الأبصار:««وقد كتب الأنبرور (الإمبراطور) ملك الفرنج بصقلية سبع مسائل من الصعبة الشوارد والكلة الأوابد في زمن الملك الكامل يمتحن بها المسلمون، فكان ذا دهاء وعلم وذكاء وفهم فسمعت أنه أجيب عن بعضها ولم أعلم أنه أجيب عن كلها والجالب لحصول الجواب عنها وتحقيق الصواب فيها أن الناس حينئذ كثير فيهم المحصلون وعلماء الملة متظافرون، وقد جمعت في الكتاب هذا خمسين مسألة غريبة المدرك صعبة المسلك من المشكلات الحقيقية والغوامض العقلية من جنس تلك المسائل .. » .

ومن بين هذه الأسئلة الخمسين والخاصة بالبصريات بذكر شهاب الدين ثلاثاً منها منسوبة إلى القيصر فريدريش الثاني وهذه المسائل هي:

المسألة الحادية عشرة: «لم كانت المقاذيف والرماح وجميع الأشياء المستقيمة إذا دلي في الماء الصافي بعضها ترى معوجة إلى سطح الماء مع أنها ليست معوجة؟ » . وبعد أن يجيب القرافي على هذه المسألة ويشرحها يقول: «وهذه المسألة من أعظم المسائل التي سأل عنها الأنبرور» .

المسألة الخامسة والعشرون: «قال الأنبرور لم كان سهيل يرى عند طلوعه أكبر منه عند توسطه مع أنه لا رطوبة في الجنوب كما قيل في الشمس؛ لأن البلاد الجنوبية صحاري يابسة فلم تكن عظيمة عند الطلوع بسبب اجتفاف الرطوبة؟ » .

المسألة الثلاثون: «قال الأنبرور لم كان صاحب البخار ومبادئ الماء يرى الخيوط السود شبه البق والناموس خارج عينه مع أنه لا شيء خارج عينيه من سلامة العقل

ص: 363

الموجب لعدم الغلط؟ ، وكيف يرى شيء داخل الحدقة مع أن الأشياء القريبة من الحدقة جداً لا ترى فلا يرى أحد ما التصق من جفنه على حدقته؟ ».

والواقع أن مثل هذه الأسئلة التي يوجهها الأمير المسيحي تدل على كفاحه في سبيل تمزيق حجب الجهالة المنتشرة في أوربا، ومثل هذا الجهد قد قابله العالم العربي بكل تقدير وإعجاب، وهذا يؤكد ما قاله سياسي عربي في القيصر فريدريش الثاني:«والواقع أن العالم المسيحي لم يعرف منذ عهد الإسكندر حاكماً كهذا» .

فهذه الشهرة التي يتمتع بها القيصر جذبت إليه مسيحياً يعقوبياً من أنطاكية وكان قد درس على كمال الدين بن يونس في الموصل الفلسفة والرياضيات والفلك، كما درس الطب في بغداد ثم تعرف على رسول الإمبراطور في قصر حاكم أرمينية، ومن ثم توجه إلى مقر القيصر في «فوجيا» حيث نجده وهو المعروف باسم السيد تيودور في مناسبة استقبال القيصر لليوناردو فون بيزا.

ثم توفي فيلسوف القصر وهو ممثل العلوم العربية الغربية الأندلسية واسمه «ميخائيل سكوتوس» وكانت وفاته إبان رحلة قام بها مع القيصر عام? ? ? ? م في ألمانيا، لذلك عين القيصر فريدريش الثاني السيد «تيودور» ممثل العلوم العربية الشرقية خلفا له، وقد أبدى «تيودور» في هذه الوظيفة الجديدة، أعنى كبير فلاسفة القصر، نشاطاً عظيماً، وظل هذا العربي متقلداً هذا المنصب حتى قبيل وفاة القيصر بشهور قليلة. وتقول الشائعات إن هذا العالم واسع الاطلاع هو الذي كان يعد الدواء والمواد المسكرة للقيصر، لذلك اتهم بالمسئولية في وفاته، ويقال إنها تسببت عن كمثرى مسكرة أعدتها يد خائبة فكانت سبباً في نكسة القيصر فوفاته.

وكان هذا العربي الواسع الاطلاع كثير التدخل في أعمال القيصر إذ كان يتناقش مع القيصر حول مسائل رياضية وفلكية، كما وضع له تقوا وشارك في أعمال المجلس وكان يقوم بجمع المراسلات مع الحكام العرب، وكثيراً ما سافر في بعثات سياسية إلى قصور أمراء العرب، ويعقد باسم القيصر المعاهدات التجارية. وكان كذلك بحكم وظيفته أيضاً ككبير أطباء القيصر يعد بنفسه الأشربة للقيصر ولسائر موظفيه، كما ألف للقيصر وفي أسلوب جيد جداً رسالة في وجبات الطعام، وقد

ص: 364

وضعها بعد تفكير عميق وفيها يرشد القيصر إلى وجبات طعامه كماً وكيفاً من حيث النوع والكمية والتوابل اللازمة وجميع هذا موزع حسب الوجبات اليومية. كذلك المشروبات والأنبذة وتقلب الطقس وتغيير درجات الحرارة بالانتقال من جهة إلى أخرى والهضم والنوم والجماع. فهذه رسالة تعتبر معجزة حقاً، وكانت في أوربا وقتذاك كالماسة بين الأحجار.

كذلك صدر أمر قيصري إلى السيد تيودور بترجمة عدد من المؤلفات العربية في العلوم الطبيعية، كما أبدى القيصر رغبته في تصحيحها بيده، فكان يمضي وقته في مشتاه أمام أبواب «فاينزا» المحاصرة مطلعاً على تقرير لتيودور حول الصيد.

والمؤلف العربي لهذه الرسالة كان يعيش قريباً جداً من فريدريش وكان يعني بصقور القيصر. وكان هذا الرجل يحب قيصره أكثر من الصقور ونشأت عن هذه العلاقة الرغبة في الصيد بواسطة الصقور.

ص: 365