الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الابن الثاني لموسى «الفلكي»
لم يتسلم العرب التراث اليوناني دون تفكير بل أخذوه وخلقوه خلقًا جديدًا وهذا حقيق أيضًا فيما يتصل بالآلات العلمية وكذلك مختلف العلوم الأجنبية، إذ لم يكد العرب يتسلمون هذا التراث العلمي حتى أقبلوا عليه ناقدين فاحصين لا مؤمنين مستسلمين لما وصل إليه غيرهم من نتائج ليبنوا بعد ذلك على أساس سليم.
ويمتاز التفكير العربي بأنه لا يتقبل المسائل العلمية كحقائق مسلم بها ما لم يفحصها ويطبقها حتى مؤلفات أرسطو أو بطليموس، فقد عرضوا لها ناقدين فاحصين فأصبحنا نجد مؤلفات تحمل ما معناه: حول الخطأ الذي وقع فيه «ثيون» عند حسابه الكسوف والخسوف: أو: حول اختلاف جداول بطليموس من التجارب التي بها ثابت بن قرة (1).
إن طبيعة العربي الواقعية دفعت العرب إلى إبداء ملاحظاتهم الخاصة، فإذا كان اليونانيون ينظرون إلى كل شيء على أنه كل ويخضعونه إلى قانون ما فإن العربي ينظر إلى الشيء على أنه سؤال ويحاول الإجابة عليه لا مرة واحدة بل مرات ومرات ومئات باحثًا فاحصًا. ولما كان الشيء الذي يهم العربي هو الناحية العلمية والمواظبة على تأدية الصلاة في ميعادها أو اللحظة التي يظهر فيها الهلال، أعني هلال رمضان والاتجاه في الصحراء والحياة الموت حرص العربي على الحصول على النتيجة
(1)) تقصد المؤلفة كتاب: قول في إيضاح الوجه الذي ذكر بطليموس أن به استخرج من تقدمه مسيرات القمر الدورية وهي المستوية لأبي الحسن ثابت بن قرة المتوفى سنة 288 هـ. مخطوطة بدار الكتب المصرية 1047 سيقات (المترجم).
الحقيقية الصحيحة، وليس الأمر كذلك بالنسبة لليونان الذين لا يهتمون بالدقة المطلقة، كما قد يهربون من مراعاة الحساب الدقيق.
ثم إن مشاهدة السماء ودراستها ضرورة لا بد منها للمسلم لتأدية التزاماته اليومية، لذلك اهتم المسلمون بعلم الفلك ومن ثم تقدموا في صناعة الآلات والأجهزة، وكانت النتيجة المحتومة لكل ذلك بلوغ نتائج علمية عظيمة في إدراك كنه الشمس والقمر وسائر الأفلاك، ولم يقتنع الفلكي العربي بدراسة الزيج البطلمية بل ذهب بعيدًا فنقدها ووضع زيجه العربية وحتى هذه أعيدت دراستها ونقحت للتثبت من صحتها. وساهم الخلفاء والحكام والأمراء في تقدم الفلك فأجزلوا العطاء للفلكيين وأوقفوا الأموال الطائلة بل كفلوا حياة العالم وأسرته لا إبان حياته فحسب بل بعد وفاته أيضًا؛ لأن مثل هذه البحوث الفلكية كانت تطلب سعة في الرزق وسعة في الزمن.
وأشهر الزيج الفلكية العربية وجدت طريقها إلى أوربا وظلت مستعملة فيها حتى ظهور عصر «كوبرنيكوس» ، إذ أصبح من العسير استخدامها للقيام بالأرصاد المختلفة. أما زيج الخوارزمي والمأمون والبتاني وجداول ابن يونس المعروفة باسم الحاكمية والطليطلية للزركلي فهي التي كانت أساسًا لزيج الملك ألفونس.
أما الأهمية والنتائج التي بلغها وتوصل إليها العلماء العرب في الطبيعة والفلك فكانت مضرب الأمثال/ فعلماء الفلك في بغداد كما يقول الفرنسي «سديلوت» بلغوا في أواخر القرن العاشر مرتبة من العلم ليس بعدها من مزيد، لقد أدركوا ما كان يجب على العالم إدراكه قبل العدسات والمنظار، ولعل السر في عدم وصول مؤلفات كثيرة من وضع علماء العرب إلى أوربا هو عدم ترجمة جميع مجلدات المكتبة العربية إلا اللاتينية. ومن أشهر علماء العرب الذين دفعوا الحركة العلمية في أوربا إلى الأمام وطوروها هو العالم العربي الفرغاني، وكان معاصرًا لبني موسى الذين كانوا يعملون في بغداد. لقد قاس الفرغاني خطوط طول الأرض وأدرك، وكان أول من أدرك، أن فلك الشمس كسائر الأفلاك الكواكب يتحرك مع مرور الزمن إلى الوراء، فكتاب الفرغاني في أصول علم النجوم قد ترجم في العصور
الوسطى في أوربا إلى اللاتينية ونشره «ميلنختون» عام 1537 م، وكانت هذه المخطوطة من مخلفات «رجيومونتانوس» في «نورنبرج» .
ومن بين العلماء المشهورين الذين تلألأ نجمهم في الفلك ثابت بن قرة تلميذ محمد بن موسى فقد حسب ثابت هذا ارتفاع الشمس وطول السنة الشمسية، وغير ثابت بن قرة نجد البتاني (887 - 918 م)، وقد ذاع صيته في أوربا في العصور الوسطى إبان حركة إحياء العلوم، وقد بلغ ما بلغ من توفيق عن طريق دقته الحسابية لمعرفة التفاوت بين خطوط الطول للسنتين المدارية والفلكية وعاونه على بلوغ هذه النتائج قياسه دوران الأرض حول الشمس، وقد استخدم لتحقيق هذه الغاية وسيلتين ولم يكتف بواحدة لقد صحح أبحاث ومحاولات الخوارزمي بواسطة تجاربه التي قام بها لفحص ظهور الهلال وكسوف الشمس وخسوف القمر والزاوية الواقعة بين خطين يكونان زوايا متقابلة. أما المقدمة الفلكية لزيجه المشهورة فقد ترجمها «رجيو مونتانوس» إلى اللاتينية وزودها بشرح. وفي عام 1537 نشرها في «نورنبرج» مع كتاب الفرغاني فعرفتها أوربا. وفي عام 1645 ظهرت طبعة جديدة في «بولونيا» مستقلة وعنوانها اللاتيني «كتاب محمد البتاني في الفلك مع تعليقات يوحنا رجيو مونتانوس» . وقد اهتم «كوبرنيكوس» بالعلماء العرب وحتى حوالي عام 1800 م نجد الفرنسي «لابلاس» يستفيد من كتب ابن يونس القاهري في دراساته وأبحاثه.
وقد قام البتاني كذلك بوضع حساب دقيق لدائرة البروج واستخدم وسائل جديدة لتحديد عرض المكان، وجاء بعده ابن الهيثم فتوصل إلى طرق أخرى حديثة؛ وذلك بفضل نظريته الخاصة بالأشعة وانكسارها. هذه النظرية التي كانت نقطة تحول في أبحاث العالم في الطبيعة وبخاصة الضوء (1).
والحسن بن الهيثم (965 - 1039 م) هو الذي أثر في أوربا تأثيرًا بعيدًا وعرفته تحت اسم «الحسن» وكان أشهر الأساتذة العرب الذين أخذوا بيدها في هذا المضمار
(1)) تقصد المؤلفة كتاب: المناظر تأليف أبي الحسن بن الحسن بن الهيثم البصري المصري المتوفى سنة 430 هـ (المترجم).
من البحوث، فقد وضع نظرية حول حركات الأفلاك على أطباق غير شفافة وقد شغلت هذه النظرية العصور الوسطي كثيرًا كما خلفت لنا أثرًا في المكان الخاص بـ «شتم» بالقرن من مدينة «إينزبروك» حيث توجد إلى الأمام مائدة من خشب القرو ترجع إلى عام 1428 م، وقد صنعت في «أوجسبرج» ، وهي تبين حركة الأفلاك الستة حسب نظريته وفي صورة نموذجية.
لكن شهرة هذا العالم العربي لم تقم على هذه النظرية فقط؛ ففضله على الفلك يتجلى في اكتشافه أن جميع الأجرام السماوية ومن بينها النجوم الثابتة ترسل نورها، عدا القمر الذي يستمد نوره من الشمس. وهذه النتيجة التي انتهى إليها ابن الهيثم نقلته إلى فكرة أخرى جديدة أدت إلى ثورة عارمة في علم الفلك فقد عارض ابن الهيثم العالمين الإسكندريين «أويقليد» و «بطليموس» فأثبت خطأ نظريتهما، وبذلك نجح في فرض آرائه الجديدة.
والمسئول عن هذا كله كان نهر النيل والآراء التي قال بها خاصة بالفيضان السنوي واستغلالها في سبيل خدمة وادي النيل. لقد عاش ابن الهيثم كطبيب وموظف بالقصر في البصرة على الخليج العربي عندما علم في القاهرة الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أن رجلا على استعداد لأن ينظم فيضان النيل، وبذلك يحل مشكلة من أعوص المشاكل التي تشغل بال سكان الوادي فاستدعى الخليفة هذا العالم من البصرة إلى القاهرة وعند وصوله استقبله الخليفة كعادته استقبال الملوك وقدم له مختلف الوسائل لتحقيق أهدافه. فسافر ابن الهيثم ومعاونوه حتى بلغ أعالي النيل، ومن ثم شرع في دراسة حالات النهر وتياراته في أسوان وغيرها من جهات النيل، وكان ابن الهيثم أنى ينتقل يشاهد من الآثار المصرية الفرعونية ما أثار دهشته وتقديره، فقد شاهد المعابد والمقابر وغيرها من الآثار التي ترجه إلى آلاف السنين فالمعابد شامخة والأهرامات قائمة فأمام هذه الأبنية الشاهقة التي تشهد بتفوق قدماء المصريين هندسيًا وفنيًا لم يسعه إلا أن يعترف بعظمة هذا الشعب المصري العظيم والذي كان من المهارة الهندسية بحيث خلق هذه المعجزات. وبالرغم من ذلك لم يحاول تنظيم الفيضان فلا بد أن هذا التنظيم من الأمور
المستحيلة؛ لذلك خجل ابن الهيثم وعاد يائسًا قانطًا إلى القاهرة فأثار فشله هذا سخط الحاكم وسخريته فعين ابن الهيثم في وظيفة إدارية لم تدخل إلى نفسه شيئًا من السرور وشاء سوء طالعه أن يرتكب خطأ وخشي ضب الحاكم وتنكيله به فتظاهر بالجنون ونجحت هذه الحيلة فحدد الخليفة إقامته في داره وضربت الحراسة عليه وعلى بيته واستولت الحكومة على ممتلكاته. وحدث أن الخليفة خرج مرة ممتطيًا جواده ولا يعلم بخروجه أحد وعندما بلغ أبواب القاهرة اختفى ولم يعرف له أثر فكان اختفاؤه لغزًا من الألغاز، وبذلك استطاع ابن الهيثم أن يتحرر من تحديد إقامته وفرض الحراسة عليه وتأميم ممتلكاته فترك سكنه واتجه إلى حي الأزهر حيث أقام هناك واضطر أن يكتسب قوته عن طريق النسخ، وهكذا قضى هذا الرجل التعس حياته حتى توفي. وقد كلفه بعضهم مرة أن ينسخ له مبادئ أويقليد والماجسطي لبطليموس فنسخهما بدون خطأ وفي غاية الدقة ليستطيع أن يتغلب على متاعب الحياة ويحصل على قوته اليومي. ومن الجدير بالملاحظة أن ابن الهيثم أدرك الأخطاء التي تردى فيها هذان العالمان فعارضهما وانتقدهما وبين أخطاءهما، فقد قال كل من أويقليد وبطليموس أن العين ترسل «أشعة بشرية» على الأشياء المراد رؤيتها، فأعلن ابن الهيثم خطأ هذا الرأي وقال إن العين لا ترسل شعاعًا، وإن هذا الشعاع ليس هو الذي يسبب الرؤية والعكس هو الصحيح فإن الجسم المرئي هو الذي يرسل أشعة إلى العين وإن عدسة العين هي التي تحوله.
وكان هذا الرأي لابن الهيثم كشفًا جديدًا قفز بالعالم العربي بخواص الحواس قفزة بعيدة جدًا وصحح الخطأ الذي وقع فيه العالم القديم، وفسر لنا ابن الهيثم الضوء ومظاهره، كما أوجد بذلك قانونًا جديدًا أثبت صحته وأيده بتجارب كثيرة مختلفة فكان ابن الهيثم هو صاحب النظريات العلمية المعتمدة على التجارب، وابن الهيثم هو وأمثاله من العلماء العرب هم مؤسسو الأبحاث التجريبية وليس «روجر بيكون» أو «باكوفون فرولام» أو «ليوناردو ده فينشي» أو «جليلي» ، فالعرب سبقوهم وبلغوا بأبحاثهم التجريبية المستوى الرفيع وأصبح اسم الحسن بن الهيثم هو همزة الوصل وهو النجم الذي أضاء الطريق ومهد لقيام الأبحاث الحديثة بعد أن سبق أوربا إليها.
فابن الهيثم هو الذي استغل الزمن الذي مضاه مختارًا في سجنه، كما استغل أيضًا الأعوام التي تلت خروجه وقام بأبحاثه العلمية وتجاربه الخاصة بالبصريات الهندسية فخلق بذلك علمًا مستقلًا.
وكيف يقع خسوف القمر إذا كان القمر جسمًا غير مضيء؟ وأنه يستقبل ضوءه من الشمس؟ فمثل هذا السؤال الفلكي دفع ابن الهيثم إلى خلق نظرية خاصة بتكوين الظل عن طريق أجسام نورانية. ومن هنا أوجد رأيه الخاص بمصادر الضوء، وأخذ يقوم بمختلف التجارب وأوجد دراسة خاصة بطبيعة إلقاء الظل كما أطلق هو نفسه هذه التسمية على بحثه هذا. وأول تجربة قام بها هي الخاصة بجهاز يشبه تقريبًا آله التصوير وبها ثقب، وكانت هذه الآلة هي الأنموذج الأول لآلة التصوير، وقد أثبت ابن الهيثم عن طريق هذا الجهاز استقامة خطوط الضوء، ولم يكد يصدق عينيه عندما شاهد العالم وقد أصبح أسفله أعلاه بمجرد وضع الصورة وضعًا عكسيًا. إن التجارب التي توصل بمقتضاها ابن الهيثم إلى هذا الفتح العلمي الجديد هي بعينها التي اهتدى إليها «ليوناردو ده فينشي» فيما بعد. لقد وجد ابن الهيثم تعليلًا لكسر الإشعاعات عندما تمر خلال وسيط مثل الهواء أو الماء، اعتمادًا على هذه الظاهر وتلك الحقائق استطاع ابن الهيثم معرفة ارتفاع الطبقة الهوائية المحيطة بالكرة الأرضية، والشيء الجدير بالذكر حقًا أن ابن الهيثم توصل إلى معرفة ارتفاع هذه الطبقة تمامًا وأنها خمسة عشر كيلو مترًا. ولم تقف أبحاث ابن الهيثم عند هذا، بل امتدت إلى هالة القمر والغسق وقوس قزح، ونحن نعلم أن أرسطو قد فشل عندما حاول في شرحه تعليلها التعليل العلمي. وذهب ابن الهيثم بعيدًا فطبق معلوماته على أجهزة البصريات فدرس وحسب الانعكاس في قطاع المرآة الكورية أو المخروطية أعني الإشعاعات المتوازية التي توجد في نقطة الاحتراق، كما اهتدى أيضًا إلى قوانين تتلمذت عليه أوربا وعرفته تحت اسم «أرزاكيل» (الزركلي) فهو من بين الأساتذة العرب الذين أخذت عنهم أوربا الشيء الكثير. ولم يشتهر الزركلي بالفلك فقط بل بتركيب الآلات أيضًا فهو الذي صنع الجهاز الذي مدحه «رجيومونتانوس» وقال عنه ما معناه إنه أحسن جهاز وهو عبارة عن أسطرلاب الزركلي، وقد لاقى هذا الأسطرلاب شهرة عظيمة تتفق ومكانة الزركلي
الفلكية. ففي القرن الخامس عشر نشر «رجيومنتانوس» مجموعة من الرسائل حول هذا الأسطرلاب.
وفي عام 1204 كتب الفلكي البافاري «يعقوب زيجلر» شرحًا لرسالة الفلكي الطليطلي وفي عام 1534 ظهرت ترجمة لاتينية وضعها (يوحنا شونر) في نورنبرج وترجمة عنوانها: (النظرية التي ظهرت حديثًا حول أسطرلاب الفلكي الزركلي).
وقد اهتم بالمسائل الطبيعية والنجوم والفلك أيضًا مواطن من مواطني ابن الهيثم وهو لا يقل عنه شهرة وأعني بذلك المواطن «الكندي» ، وقد توفي عام 873 م واشتهر في أوربا شهرة عظيمة وقد سمي فيما بعد باسم فيلسوف العرب ووضع نحوًا من مائتين وخمسة وستين كتابًا في مختلف أنواع العلوم، ومن بينها بحث حول تقهقر الأفلاك واللغز الأول لعلم الفلك، وقد حاول اليونانيون معالجة هذا الموضوع فلم يهتدوا إلى نتيجة حتى جاء العالم العربي البطروغي الأندلسي وتوصل إلى الحل؛ كما أنه نقض نظرية بطليموس الخاصة بانحراف الأفلاك والدوائر التي ليس لها مركز مشترك، وبذلك مهد الطريق للعالم «كوبرنيكوس» . أما كتاب البطروغي في الهيئة فقد ترجمه «ميخائيل سكوتوس» عام 1217 وهو فلكي القيصر فريدريش الثاني إلى اللاتينية.
والكندي هو أول من استخدم الفرجار لقياس الزوايا في الهندسة كما حسب أثقال بعض السوائل الخاصة وأجرى عدة تجارب على الجاذبية وسقوط الأثقال. أما كتابه حول سقوط الأجسام من أعلى فلم يحظ بمن يترجمه إلى اللاتينية، كذلك الحال مع نظرية الذرة التي وضعها عام 1000 م الطبيب القاهري علي بن سليمان، وقد عالج في رسالته الذرية هذه مسألة إمكانية تقسيم الجسم إلى جزئيات، وهذا التقسيم لا ينتهي، وأن الإنسان لا يصل إلى نتيجة من جسم غير قابل للتجزئة.
كذلك لم تلفت أوربا ملاحظات العرب المتعلقة بالبقع الشمسية والتي تنبهت إليها أوربا عام 1610 م فقط، وما يقال عن البقع الشمسية يقال أيضًا عن ذبذبة محور الكرة الأرضية، ولو أن الناس لا يشعرون بها نظرًا لكبر الأرض.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن أوربا لم تلفت إلى رأي البيروني الذي نادى به حوالي عام 1000 م (973 - 1048 م) وهو الخاص باعتبار الشمس مركز الكون من وجهة النظر الفلكية، وقد توصل إلى هذا الرأي من قبل «أريستارخ» أحد أبناء مدينة ساموس، وتوصل إليه بعد ذلك بقرن «سليكوس» الكلداني البابلي.
وإبان عصر إحياء العلو ظهر العبقري الألماني (كوبرنيكوس) وقبله بنحو خمسة قرون عرفه العالم العبي البيروني. فليست الشمس هي سبب الليل والنهار بل الأرض نفسها هي التي تدور حول محورها والشمس تجري مع الأفلاك، والحقيقة أن جميع الذين تجرأوا على نقل الشمس من موضعها سيظلون مدى الحياة بمعزل عن الوجود لا يفهمون أحدًا ولن يفهمهم أحد، لذلك ما أعجب التناقض الذي نادى به «كوبرنيكوس» حتى اضطهدته أوربا المسيحية ونكلت به أشد التنكيل لأنه خالف تعاليم الكنيسة ورفض كلمة الكتاب المقدس.
لكن إذا استثنينا هذه المعارضة سواء كانت علانية أو سرية فالعالم «كوبرنيكوس» لم يكن هو أو الفلكيون الآخرون في وضع -وهم على ما هم عليه من أجهزة رصد لا يوجد بينها منظار مجسم- يسمح لهم بإثبات صحة آرائهم المناقضة للدين، لذلك كان لا بد من مرور أكثر من قرن على هذه الآراء لكي تفرض نفسها ويقبلها جمهور المفكرين. وما حدث لهؤلاء حدث من قبل للبيروني عندما جاء برأيه وذلك لعدم وجود الأجهزة التي تمكنه من إثبات صحة رأيه. وهكذا ظلت الأرض ثابتة في المكان الذي خصصه لها «هيبارش» في قلب الوجود، وحتى العرب الذين جاءوا بعده والذين اشتهروا بدقتهم الفلكية في مشاهدة الأفلاك ورصدها وخطوا بالعلم خطوات أبعد من تلك التي قام بها «هيبارش» عجزوا عن زعزعة الآراء الخاصة بالعالم.
وحتى القرن الثاني عشر نجد الشكوك موجودة في آراء بطليموس الخاصة بالكون، لكن في الشرق العربي وبخاصة في إسبانيا ومراكش نقرأ كثيرًا من الآراء التي تشكك في أقوال بطليموس وكان هؤلاء الناقدون متأثرين بآراء أرسطو. وهكذا نجد ابن باجة من سرجوسة يبدأ ببعث فكرة الاعتماد على البراهين الطبيعية
للمظاهر السماوية. واستمر هذا النزاع بين أنصار أرسطو وأتباع بطليموس مستعرًا بين أفراد مدرسة ابن باجة طيلة ثلاثة أجيال وبخاصة بزعامة أمثال: ابن طفيل وابن رشد والبطروغي، واستمرت الخصومة مستعرة في القرنين الثالث عشر والرابع عشر في فرنسا وألمانيا وإنجلترا، وخلقت مناضلين أمثال:«ألبرت الأكبر» و «توماس فون إكوين» و «روجر بيكون» و «جان بوريدان» و «ديتريش فون فريبورج» . وكان من نتائج المعركة العلمية بعث الوعي التفكيري في أوربا.