الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشفاء العجيب عند الإفرنج
«من عجيب طبهم أن صاحب المنيطرة -قرب أفقة عند منبع نهر إبراهيم في مشال لبنان- كتب إلى عمي يطلب منه إنفاذ طبيب يداوي مرضى من أصحابه» ، فأرسل إليه طبيبًا نصرانيًا يقال له «ثابت». فما غاب عشرة أيام حتى عاد فقلنا له: ما أشرع ما داويت المرضى، قال:«أحضروا عندي فارسًا قد طلعت في رجله دملة، وامرأة قد لحقها نشاف (بله) فعملت للفارس لبيخة، ففتحت الدملة وصلحت، وحميت المرأة ورطبت مزاجها، فجاءهم طبيب إفرنجي فقال لهم: هذا ما يعرف شيئًا يداويهم. وقال للفارس: أيما أحب إليك أن تعيش برجل واحدة أو أن تموت برجلين؟ قال: أعيش برجل واحدة. قال: «أحضروا لي فارسًا قويًا وفأسًا قاطعة، فحضر الفارس والفأس وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب، وقال للفارس: اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها. فضربه وأنا أراه ضربة واحدة فما انقطعت فضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق ومات من ساعته، وأبصر المرأة فقال: هذه امرأة في رأسها شيطان قد عشقها. احلقوا شعرها فحلقوه، وعادت تأكل من مأكلهم الثوم والخردل، فزاد بها النشاف. فقال: الشيطان قد دخل في رأسها، فأخذ الموسي وشق رأسها صليبًا وسلخ وسطه حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح فماتت في وقتها، فقلت لهم: ما بقي لكم إليّ حاجة؟ فقال: لا؛ فجئت وقد تعلمت من طبهم ما لم أكن أعرفه» .
إن الأمير أسامة بن منقذ، ابن أخي حاكم شيزر، (1095 - 1188 م)، هو
الذي سخر من هذه الحادثة التي شاهدها أيام شبابه وعبر عنها في كتابه الاعتبار في فصل عقده لها عنوانه: طبائع الإفرنج وأخلاقهم.
إن رواية أسامة بن منقذ ليست دعاية أعداء كما قد يتبادر إلى الأذهان، وليست محاولة مقصودة للنيل من عدو محترم هو في نفس الوقت عدو للعرب، فنحن نقرأ بعد ذلك بقرن حديثًا يريه لنا مؤرخ ثقة يدور حول «الماركجراف ديدو الثاني» فقد كان هذا الرجل قصيرًا يصعب عليه التنفس لضخامة جسمه وقد لاقى حتفه على يد «روخليتز» و «جويز» ، وذلك لأنه كان ملازمًا للقيصر هينريش السادس في رحلته إلى خطيبته في أبوليا، فخاف من القيام برحلته هذه لكثرة شحمه أولا ولحرارة إيطاليا ثانيًا؛ لذلك استشار طبيبًا في ذلك فبقر بطنه واستخرج منه الشحم، وهذا حادث لا يقل عن حادث الطبيب الإفرنجي في البلاد المقدسة.
فمن التجارب التي تجمعت لدى الأمير أسامة بن منقذ والمعاملة القاسية التي تعرض لها الفرسان المسيحيون وذهب عدد كبير منهم ضحيتها، أصبح لا يحمل أي احترام أو تقدير للطب الإفرنجي، وهو على حق إذا ما اعتقد أنه لا طبيب إلا الطبيب العربي ولا دراسة طبية ناضجة تقوم على أسس علمية إلا في البلاد العربية ولا صيدلة إلا في البلاد العربية، كما لا توجد مستشفيات تضارع تلك القائمة في مختلف البلاد العربية، فهذه مستشفيات ممتازة بمعاملها وكفاية أطبائها ونظافتها ومستواها وتوفر وسائل العلاج والراحة والنقاهة لنزلائها حتى كانت مضرب الأمثال، فهل يستغرب أن يستعين الإفرنج بالأطباء العرب؟
ويستطرد الأمير أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار ويحدثنا: ومن عجيب طبهم ما حدثنا به «كليام دبور» (غليوم دبور) صاحب طبرية، وكان مقدمًا فيهم، واتفق أنه رافق الأمين معين الدين رحمه الله من عكا إلى طبرية، وأنا معه فحدثنا في الطريق قال: «كان عندنا في بلادنا فارسٌ كبير القدر فمرض وأشرف على الموت فجئنا إلى قس كبير من قسوسنا وقلنا: تجئ معنا حتى تبصر الفارس فلانًا؟ قال: نعم. ومشى معنا ونحن نتحقق أنه إذا حط يده عليه عوفي. فلما رآه قال: أعطوني شمعًا. فأحضرنا له قليل شمع فليّنه وعمله مثل عقد الأصبع، وعمل كل واحدة في
جانب أنفه، فمات الفارس، فقلنا له: قد مات. قال: نعم، كان يتعذب فسددت أنفه حتى يموت ويستريح».
وضع اليد، طرد الشيطان، صلاة هذه كانت أحسن أدوية للشفاء كان يستخدمها الأطباء الأوربيون وهم في أزياء القسيسين والرهبان لشفاء المرضى من أمراضهم الجسدية.
«هل أحد بينكم مريض، فإن كان الأمر كذلك فليستدع الإنسان عجائز الحيّ ليصلوا من أجله بعد أن يدهنوه باسم المسيح بالزيت، وصلاة الإيمان لا تكفي لشفاء المريض» ، هكذا علم يعقوب الرسول، لكن يسوع نفسه طبيب الجسد والروح شفى حواريّيه والآخرين الذين أراد شفاءهم بوضع يده وطرد الشطان؛ لقد شفى مرضى الأعصاب والعقول والبرص والدوسنتاريا والنزيف الدائم والأمراض الأخرى. والمسيح لم يشف فقط من الأمراض بل منح تلاميذه بركة الله، لقد منحهم القوة للتغلب على الأرواح الشريرة فكانوا يطردونها، وشفوا بذلك مختلف الأمراض، لقد كلفهم شفاء المرضى وتطهيرهم من البرص والأورام، كما أحيوا الموتى وطردوا الشياطين.
ولا يحتاج الحواريون لتنفيذ مشيئة السيد المسيح إلا إلى الإيمان الكامل، فالعقيدة هي سر الشفاء، فالذي يؤمن يساعد وتتحقق طلباته، هكذا تعلم الكنيسة، وقد عرفت جيدًا كيف تفرض نفسها وتدعي شفاء الجسد والروح.
أليس الاعتماد على العقاقير الدنيوية كالأعشاب والجذور يضعف الاعتماد على الله وقوته؟ إن الشياطين والأرواح الشريرة هي التي تحاول إبعاد الإنسان عن الله والاعتماد عليه، تحاول إبعاد الإنسان عن خالقه، وقد نجحت الشياطين حقًا في إضلال الأغبياء وضعاف الإيمان فلجأوا إلى مثل هذه الأدوية وتلك العقاقير.
«إن جميع الأدوية ومختلف أنواع العلاج نشأت أصلًا من وسائل الشعوذة والضلال» هكذا قال أحد آباء الكنيسة ألا وهو «تتيان» وقال أيضًا: «إن جميع هذه العقاقير الطبية بأنواعها المختلفة من صنع الوثنية وحضرتها في صيدلية الطبيعة» ،
والكنيسة ترى أن استخدام أدوية أخرى غير تلك التي تصفها هي أعني أدوية الروح، كذلك ترى أن احتراف الطب وإجراء عمليات جراحية، عمل مشين يتنافى ومكانة رجال الدين وكرامتهم.
وقد استمرت هذه العقيدة سائدة عدة قرون بين الأطباء الدارسين، فقد كانوا عرضة لكثير من الإهانات واللعنات وبخاصة إذا كان الطبيب جراحًا حتى ولو فصد فصدًا لاستخراج الدم فإن الكنيسة لن تغفر له هذا العمل المشين، وفي شيء من الإيجاز لقد حرمت الكنيسة على رجال الدين مباشرة الجراحة، وتركت هذه العملية الجراحية لأناس يعتبرهم المجتمع من الطبقة الدنيا التي كان ينظر إليها باحتقار. وغالبًا ما كان الجراحون يتوارثون هذه المهنة عن آبائهم وأجدادهم، فهي مهنة وراثية ولو أنهم كانوا في نظر الشعب أطباء. ألم يكونوا هم الذي اختارهم الله للقيام بالعمليات الجراحية ويؤدون هذه المساعدات وتلك الخدمات؟
أما موقف الكنيسة منهم فمعروف فيهم ألا تثق فيهم ولا تعترف بهم، كما لا تعترف الكنيسة بالدواء الذي لا تقرره الكنيسة أو الأطباء الذين لا تعترف هي بهم. فالذي لا يخفف الآلام بل يزيدها أحيانًا إيلامًا يرتكب خطيئة كبرى مع المريض، فهؤلاء الأطباء الجهلاء الذين كانوا يقومون بالعمليات الجراحية عن طريق السكاكين الحادة والإبر كانوا موضع احتقار أسقف الإفرنج «جريجور فون تور» (540 - 594 م) فهو يقول: «ماذا يستطيع الأطباء أن يفعلوا بآلاتهم؟ إن مهنتهم تزيد الآلام ولا تخففها فهم يفتحون العين ويجرحونها ويقطعون فيها بآلاتهم المدببة، وأنهم
بذلك يقربون آلام الموت من المرضى دون دون أن يساعدوا المرضى ويمكنوهم من الرؤية، وما لم تتخذ سائر الوسائل وتراعى الترتيبات الضرورية فإن الرؤية ستختفي، لكن إلهنا لديه آلة من الصلب واحدة وهي إرادته ولديه مرهم واحد وهو قوته على الشفاء».
ومن حسن الحظ أن هبت من إيطاليا القوطية الشرقية ريح جديدة حاولت مطاردة هذه الريح الراكدة الفاسدة المشحونة بالخرافات، ولعل مما ساعد على هذا البعث الجديد أن إيطاليا كانت في ذلك الوقت محتفظة بعدد من الأطباء الشعبيين ثم انضمت إليهم جماعة أخرى من أطباء الجرمان عن طريق اللونجبرديين فقوت ساعدهم وساند كل طبيب الآخر وعاونه على الحياة. ففي أيام «تيودوريش الأكبر» ومستشاره «كسيودور» ازدهرت المدارس القديمة وترعرعت وأمد كل من «أماليسفتنا» و «أثالاريش» المعاهد العلمية بكثير من المساعدات التي عاونتها على النهوض بمهمتها. ففي تلك اللحظة عندما لجأ في الشرق «بوستنيان» إلى العلوم اليونانية مأواه الأخير، أكاديمة أثينا، أسس «بنديك تفون نورسيا» في الجبال المطلة على نابولي البيت الأصلي للطائفة التي ينتمي إليها وهو الدير المعروف باسم «مونت كسينو» ، وكان يعني المعجزات أكثر من عنايته بتخريج العلماء، لكن «كسيودور» رئيس وزراء ملك الغوط أجهد نفسه في سبيل تأسيس المجامع العلمية في روما وجنوب إيطاليا حرصًا منه على المحافظة على البقية الباقية من العلوم الروامنية الشعبية فأدخلها الأديرة الأوربية محافظة عليها من الضياع، وهي التي انحدرت إلينا من العالم القديم أولا، وتطويرًا للحياة العلمية في الأديرة ثانيًا.
فمنهج الدراسة بالأديرة كان لا يعني بمادة الطب باختلاف الرياضيات والعلوم الطبيعة بالرغم من ضآلة هاتين المادتين أيضًا. والواقع أن الشعب الروماني لم يخلق من الطب علمًا، وما نجده في أوربا مصدره ترجمة ضعيفة فقيرة لبعض المخطوطات اليونانية والبيزنطية، هذا إلى جانب مجموعة من الوصفات الطبية وقليل منها المفيد النافع. أما هذا النوع الذي عرفته أوربا وفيه شيء من الفائدة فيرجع تاريخه إلى مائتين أو ثلثمائة سنة بعد ذلك، وقد أخذته أوربا عن العالم القديم وعن طريق
العرب الذين نهضوا بهذه المادة نهضة جبارة، في الوقت الذي كانت أوربا عاجزة لا عن قراءتها فقط بل عن فهمها أيضًا.
أما الشيء المهم الوحيد الذي ابتدعه الرومان وفهمه رجال الأديرة فدائرة معارف «سسلزوس» .
وهكذا نجد مادة الطب في وضع أسوأ من أوضاع المواد الأخرى، فالطب كغيره لم يطلب في الأديرة لذاته بل لخدمة العقيدة؛ لذلك لم تتقدم دراسته أو تثمر الثمار المرجوة، وكان يكتفى علميًا بالنسخ والجمع.
والظاهرة الغالبة في أوربا في ذلك العصر التقشف والبعد عن الحياة الأرضية والالتجاء إلى الكنيسة وتعاليمها واحتقار الحياة الدنيا، هذه هي الغايات التي كان يصبو إليها الأوربي حينذاك.
والتاريخ يحدثنا أن القديس «نيلوس فون روسانو» وقد جاءه يومًا يهودي يدعى «دونولو» (910 - 1005 م) كان قد درس الطب في جنوب إيطاليا على يد أطباء عرب عرضًا عليه خدمته وهو فخور بما حصله من علم في الطب احتقره القديس وطرده، وقال له: إن أحد اليهود ذكر: خير للإنسان أن يعتمد على الله لا على إنسان آخر؛ ولما كنت أعتمد على الله وعلى سيدنا يسوع المسيح فلست في حاجة إلى طبك.
ثم نجد الواعظ الصليبي المشهور «برنرد فون كليرفو» (1090 - 1153 م)، وقد كان معاصرًا للأمير العربي أسامة بن منقذ كثيرًا ما يشفي المرضى بشيء من الإعجاز إلا أنه حرم على رهبانه الذين كثيرًا ما تعرضوا لأمراض الأجواء غير المناسبة لهم حرَّ عليهم الاستعانة بالأطباء أو تناول الدواء، وقد علل هذا التحريم بقوله: ليس من المستحسن أن يشفوا أرواحهم فاستخدام الوسائل الأرضية يضرهم.
ولم يكن هذا التحريم ركنًا من أركان الإيمان أو العبادات بل الإيمان العميق الذي غرسته الكنيسة فيهم؛ ثم مع توالي العصور وكثرة الحوار والمجادلات حوله أصبح أرسخ قدمًا من أي شيء آخر. إن المحافظة على صحة الجسد أمر بل وصية وصى
بها الله، وذلك لأن مرض الجسد يعوقه عن تأدية فروضه تحو الله، لكن أهم من العناية بالجسد إنقاذ الروح من الوقوع في الخطيئة، لذلك لا يجوز للمريض الذي يتلوى من الحمى أن يستعين بطبيب قبل إعلان التوبة إلى ربه، فقد تقرر عام 895 م في المجمع الديني الذي عقد في «نانتيس»:«على القسيس عندما يبلغه أن أحد مسيحيي طائفته قد مرض أن يتوجه إلى المريض ويرشه بماء مقدس، ويصلي معه ثم يبعد سائر أعضاء الأسرة ويعترف المريض له ويرجوه أن يطهره دينيًا وأرضيًا من الخطايا، فبدون اعتراف لا علاج» ، وهكذا أصبح هذه القرار ناموسًا يحترم وينفذ. وفي عام 1215 م نجد البابا «أينوسنس الثالث» في اجتماع عقد في قصر «لاتران» البابوي في روما يقرر وجوب احترام هذا الناموس والحرص على تنفيذ أوامره، كما يقرر منع علاج الشخص الذي يطرد من الكنيسة لأن مثل هذا المريض المطرود لم يعترف بعد، وسبب المرض خطيئة الروح، كما قال بذلك يسوع المسيح إذ ذكر مرة لمريض شفاه من المرض: انظر لقد شفيت فلا ترتكب خطيئة مرة أخرى حتى لا تصيبك مصيبة أخرى (إنجيل يوحنا الإصحاح 5 آية 14). وقد فهم القديس «كريزوزتومس» من كلمات السيد المسيح أن مصدر المرض الخطيئة التي يرتكبها الإنسان فإذا اعترف المريض شفي من المرض، وذلك لأنه إذا ذهب السبب ضاع المسبب، وإذا رفض المريض الاعتراف، ورفض الطبيب المسيحي علاجه واضطر المريض إلى الالتجاء إلى طبيب آخر يهودي أو مسلم ليعالجه طرد المريض المسيحي من الكنيسة، وذلك لأنه بمسلكه هذا يهدد سلام روحه تهديدًا مباشرًا. ولكي نتبين مدى انزعاج الكنيسة عند وقوع مثل هذه الحالات يكفي أن نقرأ خطاب «برنارد فون كليرفو» حيث جاء فيه:«لقد جاء إليه راهب بعد أن ثار وترك الدير وشكا رئيسه بألفاظ قاسية، لأن هذا الرئيس تجرأ وقرر مساعدة طبية للمستبدين واللصوص والذين طردوا من الكنيسة المسيحية» .
نعم. هكذا كان الإفرنج، والمسلم يعجز عن إدراكه، فها هو ذا ابن رضوان الذي كان نقيب أطباء القاهرة في منتصف القرن الحادي عشر، والذي كانوا يلقبونه بلقب «تمساح الشيطان» ذكر مرة في صدى الحديث عن واجبات الطبيب «أن يكون مأمونًا
ثقة على الأرواح والأموال لا يصف دواء قتالا ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الأجنة. يعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه».
أما المسلمون في القدس ودمشق فقد كانوا يجهلون تمامًا ما يجري في مستشفى الإفرنج، وكانوا لا يتصورون هذا النظام الذي فرضه فرسان طائفة اليوحنايين على ذلك المستشفى القائم في القدس، فقد اشترط أولئك اليوحنايون على الجرحى الذين يرسلون إلى المستشفة أن يعترفوا أولا ويذكروا كل ما صدر عنهم من أعمال سيئة، ومن ثم يتناولون لقمة من الخبز الذي يسمى «جسد المسيح» ؛ وبعد كل هذه الإجراءات فقط يسمح بإجراء الإسعافات الأولية للجريح.
أما في الوطن فقد كانت طائفة البنديكتيين هي التي تقوم بعلاج المرضى، وعن هؤلاء انتقلت هذه الوظيفة إلى سائر الأديرة الأوربية، وكان الراهب مطالبًا عند ممارسته هذه المهنة باتباع الحب المسيحي من حيث العناية بالنفس البشرية والعمل على تخفيف آلامها، لذلك أسست هذه الطائفة في مختلف الجهات أماكن الضيافة للرحالة والحجاج والأطفال غير الشرعيين واليتامى والشيوخ والفقراء والمرضى. أما البيوت المخصصة بالمرضى فلم تعرفها أوربا قبل نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، وفقط بعد اتصال أوربا الصليبية بالشرق العربي حيث اقتبس المسيحيون نظم المستشفيات والملاجئ، ولو أن أوربا ظلت زمنًا طويلا تحارب الأطباء ولا تعينهم في المستشفيات اعتقادًا من المسيحيين بأن رسالة الكنيسة فيما يتعلق بالمرضى هي تخفيف الآلام لا الشفاء.
ومن أوائل المستشفيات، حسب قول شاهد عيان، ومن أحسن المستشفيات الأوربية ذلك المستشفى المعروف في باريس باسم «أوتيل ديه» أي «فندق الله» ، وهذا المستشفى كما تصفه المراجع التي وصلتنا كانت أرضه مرصوفة بالطوب المغطى بالقش وعليه يتزاحم المرضى. . . أقدام هؤلاء إلى جانب رءوس أولئك، والأطفال إلى جانب الشيوخ والنساء بجوار الرجال .. وأصحاب الأمراض المعدية مع غيرهم جنبًا إلى جنب، كما نجد نساء قد جاءهن المخاض وأطفالا من المغص يتلوون، ومصابين بالحمى يهذون، ومرضى السل يسعلون، وآخرين بالأمراض الجلدية
ينهشون. وإذا أضفنا إلى هذا قذارة المستشفى، وكثرة الهوام والحشرات، ونقص الضروريات، وشكوى المرضى ألم الجوع والعري، أدركنا السر الذي اضطر القائمين عليه إلى فتح أبوابه ليلًا نهارًا تمكينًا لأهل المريض ومعارفه من إطعامه هذا الطعام الذي أودى بحياة الكثيرين من نزلائه. أما تهوية المستشفى فقد كانت من الرداءة بحيث اضطرت الممرضين وغيرهم إلى وضع اسفنجة مبللة بالخل على أفواههم، وخاصة أن جثث الموتى كانت تظل في أماكنها أيامًا طويلة حتى تنقل. وكان المرضى هم الذين يقاسون من هذه الحالات أشد الأهوال وأنكرها، من رائحتها الكريهة التي تبعثها، وتجمع الذباب حولها.