المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شعار المنتصر {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] هكذا يقول القرآن - شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا

[زيغريد هونكه]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌شمس الله

- ‌مقدمة المؤلفة

- ‌مقدمة المترجم

- ‌الكتاب الأولالبهار اليومي

- ‌أسماء عربية لمنح عربية

- ‌أوربا تقاسي الحرمان لموقفها السلبي من التجارة العالمية

- ‌البندقية تحطم الحصار

- ‌في مدرسة العرب

- ‌الكتاب الثانيالكتابة العالمية للأعداد

- ‌ميراث هندي

- ‌البابا يمارس الحساب العربي

- ‌تاجر يعلم أوربا

- ‌حرب الأعداد

- ‌الكتاب الثالثالأبناء الثلاثة لموسى الفلكي

- ‌الابن الأول صانع الآلات

- ‌الابن الثاني لموسى «الفلكي»

- ‌الابن الثالث الرياضي

- ‌وينتمي إلى نفس الأسرة أيضًا علم الفلك

- ‌الكتاب الرابعالأيادي الشافية

- ‌الشفاء العجيب عند الإفرنج

- ‌مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم

- ‌أحد نوابغ الطب العالميين في مختلف العصور

- ‌قيود الماضي

- ‌يقظة أوربا

- ‌قال ابن سينا

- ‌أنصاب العبقرية العربية

- ‌الكتاب الخامسسيوف العقل

- ‌المعجزة العربية

- ‌أوربا تائهة في دياجير الظلام

- ‌شعار المنتصر

- ‌عملية إنقاذات قيمة تاريخية

- ‌الترجمة مجهود ثقافي

- ‌ولع بالكتب

- ‌شعب يدرس

- ‌الكتاب السادسموحد الشرق والغرب

- ‌دولة النورمان .. دولة بين عالمين

- ‌كانوا أعداء فألف بينهم

- ‌سلطان لوكيرا

- ‌على الأسس العربية

- ‌محادثات على الحدود

- ‌ميلاد نظرة جديدة للعالم

- ‌الكتاب السابعالفنون العربية الأندلسية

- ‌الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»

- ‌إن العالم شيد لي مسجداً

- ‌الموسيقى تساير الحياة

- ‌زخرف العالم الوضاء

- ‌شعب من الشعراء

- ‌المسالك في أوربا

- ‌الخاتمة

- ‌تعليقات المترجم

- ‌قرتمن

- ‌قرنفل

- ‌جوز الطيب

- ‌برسيفال

- ‌قهوة

- ‌مات

- ‌الشك

- ‌الصفة

- ‌مطرح

- ‌قرمزي

- ‌قناد

- ‌مستقة

- ‌قطنية

- ‌طاسه

- ‌سكر

- ‌غرافة

- ‌ليمون

- ‌الكحول

- ‌برقوق

- ‌البنان

- ‌شربات

- ‌نارنج - أورنج

- ‌الخرشوف

- ‌برد

- ‌أرز

- ‌سبانخ

- ‌القرفة

- ‌العرق

- ‌مخا

- ‌ديوان

- ‌تسفتشجين

- ‌بيج أرمودي

- ‌عثماني

- ‌قبة

- ‌شطرنج

- ‌شيكيش

- ‌قفة

- ‌صفى

- ‌جدامس

- ‌جلا

- ‌بركان

- ‌قطن

- ‌موصلي

- ‌مخير

- ‌الشف

- ‌زيتوني

- ‌تفت

- ‌أطلس

- ‌الدمشقي

- ‌زعفراني

- ‌ليلا

- ‌ترياق. درياق

- ‌جنزبيل. زنجبيل

- ‌كمون

- ‌زعفران

- ‌كافور

- ‌بنزين

- ‌قلى

- ‌نطرون

- ‌صداع

- ‌بورق

- ‌سكرين

- ‌عنبر

- ‌لك

- ‌النيلة

- ‌قز

- ‌طلق

- ‌بطن

- ‌خلنجان

- ‌مر

- ‌سمسار

- ‌جبة

- ‌داو

- ‌دنجية

- ‌قربلة

- ‌فلوكة

- ‌ميزان

- ‌الحبل

- ‌دار الصناعة

- ‌أمير البحر

- ‌قلفاط

- ‌عوارية

- ‌كبر. كبار. قبار

- ‌ياسمين

- ‌ورد

- ‌خيرى البر

- ‌أسليح

- ‌فورسيسيا

- ‌بلد شين

- ‌بلوزه

- ‌جبة

الفصل: ‌ ‌شعار المنتصر {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] هكذا يقول القرآن

‌شعار المنتصر

{لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] هكذا يقول القرآن الكريم. فلن يجول في خاطر العرب أن يكرهوا الشعوب الخاضعة لهم على اعتناق الإسلام، فالمسيحيون والصابئون والبارس واليهود الذين عاشوا قبل الإسلام بمائة عام تحت حكم ملكهم يوسف ضربوا أقصى الأمثلة وأبشعها فيما يتعلق بموقفهم من أصحاب العقائد الأخرى وجميع هؤلاء قد منحهم الإسلام حق ممارسة عباداتهم.

لقد احتفضوا بدور عباداتهم وأديرتهم وأساقفتهم وربانيّيهم. هذا عجيب حقًا، إن مثل هذا لم يقع من قبل، من هو الإنسان الذي لا يستنشق نسيم الحرية بعد الحكم البيزنطي الجائر القاسي، وبعد هذه الاضطهادات الشنيعة التي جرت في إسبانيا والاضطهادات المتواصلة التي قاسى اليهود الكثير من أهوالها؟ إن المسلمين السادة الجدد حماة البلاد وحكامها لم يتدخلوا في مسائل رعاياهم الداخلية؛ إنهم عادلون هكذا كتب بطريرك القدس في القرن التاسع إلى بطريرك استنبول: والمسلمون لا يظلموننا أو يضطهدوننا. إنهم يمنحون مختلف أفراد رعاياهم من أصحاب العقائد الأخرى كل حرية في تأدية فرائضهم الدينية أو حقوقهم المدنية متى دفعوا الجزية وأطاعوا أولي الأمر. فالمسلمون جاءوا ليحكموا لا ليبشروا لكي يخرجوهم من عقائد الأصلية. إن المنتصرين قد شكوا من كثرة دخول غير المسلمين في الإسلام وذلك بسبب الجزية ونقصانها، هذه الجزية التي كان يدفعها غير المسلمين فقط.

لكن هؤلاء أرادوا أن يتساووا بالمسلمين اقتصاديًا واجتماعيًا، لذلك سارعوا إلى

ص: 268

الدخول في دين الله أفواجًا. وهكذا بدون استخدام قوة أو ضغط أخذ يختفي المسيحيون اختفاء الجليد في الشمس، وفي العصور الإسلامية المتأخرة حيث كان المسلمون مزيجًا غريبًا في مختلف الشعوب أخذت تظهر بعض النعرات الدينية التعصبية. أما العرب الخوض فقد كانوا بعيدين عن الخوض في مثل هذه الخصومات.

وهنا نجد التسامح الإسلامي العربي الذي هو مضرب الأمثال يتجلى لنا في صورة تخالف كل المخالفة هذه الصورة التي يتجلى لنا فيها تعدد الآلهة عند الرومان المتأخرين الذين وجدوا مكانًا في مجمع آلهتهم لكل إله مهما كان أصله ونوعه. إن صبر العربي واحتماله وموقفه النبيل من خصومه دينًا وعقيدة له أصوله وجذوره البعيدة التي تتجلى لنا في الفتى العربي القديم. الفتى العربي الجاهلي. تضحية حتى الموت، تضحية لا تعرف حدًا أو ترددًا، وكانت هذه المعاملة الكريمة يتمتع بها الضيف كما يتمتع بها أقرب المقربين إليهم. فنحن نعلم أنه إذا ما أقبل الضيف الأجنبي والذي قد يكون عدوًا للقبيلة فإنه سرعان ما تحتضنه القبيلة وكأنه عضو منها تسري عليها عهودها ووعودها التي تكون القبيلة قد قطعتها على نفسها تعمل بمقتضاها وتحترم نصوصها، وقد يكون هذا الضيف ألد أعدائها.

ولما جاء الإسلام أعفى القبيلة من التزامها لأفرادها وحل هو محلها، أعني محل القبيلة، كذلك هذه المعاملة التي كان يلقاها الضيف من أفراد القبيلة لأسباب بدهية تولاها الآن الإسلام والجماعة الإسلامية، ومن ثم نجد الإسلام ينتهي إلى إنسانية لا حدود لها. لقد أصبحت الفتوة التي يعامل بها حتى الأعداء.

إن هذه الفتوة العربية قد تجاوبت مع الفروسية الجرمانية وأثرت فيها أثرًا بعيدًا فهؤلاء الوثنيون (! ! ) النبلاء «كان النبيل منهم يتجاوز عن النصر الذي يحرزه بحد السيف» ، هذا النصر الذي جاهد في سبيله، ويلقي السيف جانبًا ويقدم يده مصافحًا خصمه متجاوزًا عن العوائق القومية والدينية التي قد تكون قائمة، لذلك ليس بالعجيب أن نجد الفارس الجرماني «فولفرام فون أشينباخ» يشيد بفتوتنا العربية، ويقيم لها نصبًا عاليًا مخلدًا به جوهرها وعرضها

ص: 269

فقال، أولا «الوثني فيرفيز» هو الذي علم بطله «برسيفال» آخر مرحلة من مراحل الفتوة الحقيقية.

فهذه الإنسانية الصريحة وسماحة الفتوة والفروسية العربية في مظهرها البسيط الرقيق قد نظرت إليها الشعوب المختلفة والديانات المتعددة نظرة إعجاب وتقدير، لذلك سرعان ما أخذت تنتشر انتشار النار في الهشيم. فالفرق المسيحية النسطورية والمونوفيزيتية مثلا والتي كانت الكنيسة الرسمية، أعني كنيسة الدولة، تحرص على أخذ أفرادها بالصرامة. أخذ أولئك الأفراد يتحررون تدريجيًا من استعبادين: استعباد الدولة واستعباد الكنيسة، كما بدأوا يتطورون ويتصرفون أحرارًا غير مقيدين، وكما أن الزهرة تتجه نحو الضوء الذي ينميها ويغذيها ويبعث فيها الحياة، كذلك أصبح المغلوبون على أمرهم يعملون للانسجام مع حكام البلاد الجدد محتفظين مخلصين لعاداتهم وعقائدهم.

فقد أخذوا اللغة وسموا أبناءهم أسماء عربية، ومع مرور الزمن أخذوا يقتبسون مسلم وملابس وعادات العرب وطباعهم، حتى إن الطبيب في بعلبك والتاجر في الموصل والمشرع في غرناطة كانوا يلتقون جميعهم في أسواق القاهرة وحوانيتها كما لو أنهم جميعهم أبناء شعب واحد.

ولم يحدث ما حدث نتيجة لضغط أو تنفيذًا لأوامر بل هي الرغبة الملحة في الاندماج في عالم المنتصرين. إن حمل الاسم العربي إلى جانب الاسم الأول المتصل بالعقيدة كان فخر المسيحي أو اليهودي أو المجوسي، وليكن الاسم عبد الله أو محمدًا.

وقد كانت هذه العادة متبعة منذ القرن العاشر، ولو أن المسلم لم يفرح في الواقع لاستخدام غير المسلمين لهذه الأسماء العربية الإسلامية المقدسة، ففي استخدامهم لها تجريد لها من قدسيتها.

ولو أن الشعوب المغلوبة على أمرها -عدا البربر والأسبان- كان أبناؤها أصحاب ثقافة ومدنية أرفع وأبعد من ثقافة العرب ومدنيتهم، فإن العربي المنتصر كان في

ص: 270

أعين الأغلبية الساحقة -مع استثناء الفرس المثقفين والمدركين لمنزلتهم- ليس الشخص الذي لا أصالة له ولا مكانه له. فنبل العربي وتهذيبه الطبيعي ووجاهته التي تثير الإعجاب وجميع هذه الصفات التي يتحلى بها أثارت إعجاب هذه الشعوب كما أثرت فيها تأثيرًا بليغًا. ثم إن شعوره بكرامته هذه الكرامة التي ارتبطت بسيادته التي ولد بها كانت كافية لأن تخبر هذه الشعوب على اتخاذه مثالا يحتذى حتى إن كل فرد كان يبذل قصارى جهده للتشبه به أو اللحاق به وبلوغ مكانته الاجتماعية لكي يقال عن هذا الشخص إنه عربي أو مسلم. وهذا الطموح كان دعاية كبرى للعقيدة الإسلامية وهي دعاية لم تقم بها أو تدعو إليها حركة تبشيرية، فأقبل على الإسلام خلق كثير.

والذي يؤمن بالإسلام يجب أن يقرأ كلام الله ويرتله في اللغة التي نزل بها الوحي، يجب أن يكتب ويتكلم ويقرأ لغة القرآن الكريم، لغة الشعراء الأقدمين، لغة المنتصر. وبالإضافة إلى جميع ذلك يجب أن نذكر الحقيقة الآتية التي قد يغفلها الإنسان، إن المنتصر صاحب هذه اللغة، أصبح ومنذ زمن بعيد ليس هو الذي ينتمي إلى هذه الطبقة الصغيرة الفاتحة فقط، ففي كل هذه القرون الطويلة نجد العرب يرحلون من الصحراء سائرين في طرق الفتوحات ولا يقفون عند مرحلة من المراحل بل أصبحوا كالموج تدفع الموجة الأخرى، وهكذا أصبح العالم وهو يواجه موجات البدو تتدفق غير منقطعة وتتبع كل موجة ووجهة الجميع شمال إفريقية وصقلية وإسبانيا. وهنا نجد العرب يستخدمون سكان تلك البلاد الأصليين في مختلف الحرف والهن، فعملوا كفلاحين وصناع وتجار وموظفين ومعلمين وعلماء بعد أن تعربوا وتطبعوا بالطابع العربي.

ثم ظاهرة أخرى ألا وهي أن لغة الدواوين أصبحت عربية، وكذلك لغة التقاضي والسياسة والتخاطب والتجارة والمواصلات والمجتمعات. فمن ذا الذي يستطيع أن يخرج عن هذه الحالة؟ من ذا الذي لا يبهره جمال اللغة وجرسها ونغمتها الحلوة؟ حتى الجيران قد سحرتهم العربية كما هو الحال مع الأساقفة الأسبان الذين كثيرًا ما شكوا من هذا الوضع مر الشكوى وحتى غير المسلمين كانوا

ص: 271

أطوع إلى تعلم العربية ودراستها والعناية بها من غيرهم كرعاية لهذه الدولة العربية.

وماتت اللغة القبطية، والآرامية لغة يسوع المسيح أخذت تفسح الطريق أمام لغة محمد، كما اضطر الباباوات إلى إصدار القرارات والمراسيم الدينية إلى الأقليات المسيحية في الأندلس في القرن التاسع مترجمة إلى اللغة العربية؛ وذلك لجهلهم اللاتينية. وحتى بعد استرداد إسبانيا وجدت الكنيسة نفسها مضطرة إلى ترجمة العهد الجديد إلى العربية اللغة التي يفهمها المسيحيون بعد تحررهم.

فلغة القبيلة أصبحت في غضون قرن من الزمان لغة عالمية. لكن اللغة شيء آخر غير أن تكون مجرد وسيلة من وسائل التفاهم، لقد اكتسبت صيغتها وكيانها عن طريق الجماعة وهي بدورها تؤثر وتعمل في تكييفها وتكوينها، فقد عرفت كيف تكوِّن أفكارها وتعبيراتها وصيغها. وبالاختصار عرفت اللغة كيف تكوِّن العقول وتكيفها. إن اللغة العربية تعبر عن الحياتين المادية والروحية وتطبع كلا منهما بطابعها الخاص كما أنها جانست بين سكان القارات الثلاث وخلقت منهم خلقًا متجانسًا ذا طابع واحد خاص، وحتى الأجانب مثل الترك والسلاجقة والمماليك والتتار عندما آل إليهم السلطان خضعوا جميعهم لحمًا ودمًا للثقافة الإسلامية واللغة العربية وللحياة الإسلامية جسديًا وروحيًا. إن القوة الخالقة لهذه الحياة الروحية قوة جبارة حقًا فلا يوجد شاعر عربي استطاع أن يلبس العربي والشعور بالحب العربي الثوب اللائق استطاعة ابن حزم الفيلسوف العربي وصاحب النظريات العنيفة في الغزل العربي، وابن حزم كما نعلم ينحدر من أصل غوطي غربي وتجري في عروقه دماء غوطية غربية، نغم إن ابن حزم كان عربيًا أصيلا في شعره قرض شعرًا عربيًا كأحسن ما يقرضه شاعر عربي وكتب نثرًا عربيًا كأفصح ما يكتبه كاتب عربي. إن العبقرية الشاعرية والملكة النثرية والسيطرة على اللغة العربية لم تكن مقصورة على العربي، فهي موجودة في هذه الآثار الأدبية التي خلفها لنا الأدباء الذين انحدروا من أصل فارسي مثلا، فقد أغنوا اللغة العربية بالكثير من المصنفات الأدبية الرفيعة.

وقد كانت هذه الثقافة قوية خصبة منتجة فإبان الحكم المسيحي كانت الأديرة السريانية مقفرة مجدبة وكان رهبانها يحيون حياة من يعيش ليأكل، لكن لما أظلها

ص: 272

الإسلام بثقافته وحضارته أينعت وازدهرت، وإبان الدولة الإسلامية لم تكن الثقافة الفارسية هي التي جاءت إلى العالم بأمثال الرازي وابن سينا، لكنها الثقافة العربية هي التي أرضعت هؤلاء من لبانها وهي التي نشأتهم النشأة العلمية بالرغم من أنهم انحدروا من أصل فارسي.

والآن نجد العلماء من مختلف العقائد يعملون معًا ويبنون متساندين متعاونين الحضارة العربية والثقافة العربية والعلوم العربية. فكما نجد كتبًا وضعها مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئون معًا وغزوا بها دور الكتب العربية، نجد تسامحًا عربيًا.

كذلك لم يحقر من شأن المسيحيين كمعلمين ودخل هذا التسامح إلى مدارس الوثنيين للاغتراف من ينابيع المعرفتين اليونانية والهندية.

وهذا يتفق تمامًا والحديث النبوي الشريف: «طَلَبُ الْعِلْمِ عِبَادة» . «العِلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» هكذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة دينية «اطلبوا العِلم من المَهد إلى اللَّحد» . هكذا نجد النبي صلى الله عليه وسلم يحرص دائمًا على توجيه المسلمين إلى العلم فطلب العلم أجره أجر الصوم وتعليم العلم يقابل الصلاة، والنظر إلى الوجود وعظمته يقوي إيمان العربي وخشوعه فالعلم يهدي إلى الإيمان «ولو في الصين» ، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على إخراج المسلمين والإسلام من الحدود الجغرافية الشعبية الضيقة إلى الكون: فالعلم وطلبه عبادة فجميع المعارف مصدرها الله وإليه تعود لذلك قيل: «اطلبوا العلم من أي منبع» . في سبيل الله اطلب العلم ولو من شفاه غير المؤمنين. ألم يقل الله إن علم الدنيا غباء؟ ويتساءل بولس الرسول على النقيض قائلًا: يوجد مكتوب أريد أن أهدم حكمة الحكماء وأحطم عقل العقلاء: «إن البغاء الموجود في الوجود اختاره الله وهذا يسيء إلى الحكماء» .

رأيان. عالمان يفترقان افتراق الماء والنار وهما يعينان الطريقين المتضادين للحياة العقلية في الشرق والغرب؛ لذلك يتسع أخيرًا الفرق بين الثقافة العربية الرفيعة والمستوى المدني المعاصر في أوربا المسيحية. فماذا تفيده جميع حكمة الوجود أمام حكمة الله. إن المثل الأعلى الذي يتطلبه بولس هو مثل آخر ليس أقل إلا أنه يهدف

ص: 273

إلى غاية أخرى إلى حقيقة أخرى. «إني أحترم معرفة الله والروح» هكذا حدد «أوجسطين» قطب المعرفة، وإن النظر إلى الحقيقة نظر إلى الله، وهي ليست في حاجة إلى مساعدة خارجية، وإن المصدر الإلهي الوحيد عند المسيحيين هو الوحي، فقصة الخلق ذكرت كل المعلومات الضرورية حول السماء والأرض والجنس البشري. ووجود أشياء معارضة لهذا أو لا تتفق وهذه المعلومات لا يمكن أن توجد كما قرر «أوجسطين» ، وذلك لأن الكتاب المقدس لم يذكر بين أبناء آدم جنسًا من هذا الصنف.

لذلك يجب أن تحل اللعنة على الفكرة القائلة بكروية الأرض: «هل هذا ممكن؟ » هكذا سأل معلم الكنيسة «لاكتنتيوس» وقال: «كيف تبلغ البلاهة بالناس حدًا كهذا ويعتقدون في مثل هذه الخرافة؟ كيف يعتقدون أن دولا وأشجارًا تتدلى من الجانب الآخر للأرض» ، وإن سيقان الناس أعلى من رؤوسهم؟ فقد اعتقد بعضهم أن الأرض عبارة عن تل تدور حوله الشمس بين الصباح والمساء.

ويعتقد «هربانوس موروس» أن الأرض عبارة عن فلقة مستديرة كالعجلة يلطمها المحيط. وهكذا نجد التقدم الذي بلغته الإنسانية منذ قرون عديدة يختفي ويتلاشى وتعود عصور السذاجة إلى الظهور من حيث النظر إلى الوجود نظرة تحيطها الخرافات وعوامل السحر والشعوذة.

كذلك حلت اللعنة أيضًا واللعنة القوية على كل من يفكر في قانون النسبية لتعليل الظواهر الطبيعية، وليست اللعنة فقط بل الكفر بالله، كذلك كافر كل من يربط بين ظهور النجم أو الفيضان أو ولادة غير طبيعية أو شفاء كسر في الساق وبين الأسباب الطبيعية، وتعليل حدوث هذه بتلك حتى ولو كان هذا من صنع الله كعقوبة أو قصاص أو من عمل الشياطين أو أن هذا الحدث معجزة من المعجزات.

هل القوى العقلية وقد استولت عليها الرغبة القوية في سبيل معرفة الله تتيه في هذا البحر الإلهي؟ أو هل تستطيع أن تشد أبنية شامخة من الفلسفة والتعاليم الفلسفية تحت سماء اللاهوت وقد شملت هذه السماء كل شيء وأصبحت تعلو شامخة وكأنها قبة زرقاء؟ لذلك كانت الكنيسة في ظلال هذه الأبنية التي تناطح

ص: 274

السحاب سببًا في انحطاط المستوى العقلي فيما يتصل بالعلوم المتعلقة بالأرض وكل ما هو أرضي. فبعد أن كان العقل البشري يعيش في الكلمة «اللوجوس» اليونانية الواضحة الوضاءة انحط العقل إلى جو ملبد بالغيوم والضباب وعدد لا يحصى من الخرافات والشعوذة وقد أعمت هذه الخرافات أبصارنا فغطت عيوننا غشاوة حجبت عنا إدراك كنه الوجود. وقد استولى هذا الوضع الجديد لا على تفكيرنا الداخلي الباطني فقط بل أهمل إهمالا كليًا العناية العقلية بالسواد الأعظم للبشرية، فقد اكتفى ذلك العصر وتلك الحالة بالسياحة في مجالات الخيال المستمدة من اللاتينية البربرية المأخوذة عن القصص اليوناني والأساطير الشرقية القديمة المتصلة بأخبار القديسين وسيرهم، وبهذا قويت العقيدة والإيمان بالخوارق على حساب التفكير العقلي السليم.

إن الكنيسة والرهبنة تؤثران في المجال الروحي، ولكن فيما يتصل بالمجال الدنيوي لم تنقذا الثقافة بل غالبًا ما عطلتاها وعوقتاها. لقد كانت لدى الكنيسة والرهبنة نفس الوسائل، بل أفضل من تلك التي كانت لدى العرب فقد كان تحت تصرفهما هذا التراث العظيم فلو استغلتاه وطورتاه لعاد عليهما وعلى الإنسانية بالنفع العظيم. فالنصوص والكتب القديمة متوفرة بكثرة هائلة بخلاف الحال عند العرب، فحتى القرن السادس الميلادي كان في أوربا عدد كاف من الرجال الذين كانوا يجيدون اليونانية، فالعلوم العقلية التي وجدت طريقها إلى أوربا في القرون الأولى عن المثقفين الرومانيين كانت جديرة بالترجمة والتحقيق، وكان في أوربا من يقدر على النهوض بهذه الرسالة، ولم يكن هؤلاء المترجمون أقل من أولئك الذين نهضوا بهذا العبء إبان خلافة بغداد أو دونهم.

لكن العقلية اليونانية كانت غريبة على عقليتهم، ليس بسبب جهلهم الأشياء التي هي ذات فائدة لهم؛ فقد أخذ أسقف قيصرية حوالي عام 300 م مدرس الدين «أويزبيوس» والعلماء الطبائعيين من الإسكندرية وبرجامون الذين أضاعوا وقتهم سدى، وهو لا يرى قيمة لمجهودهم، لذلك يدعو إلى التوجيه لما هو أهم وأنفع؛ وهذه الفكرة هي بعينها التي نجدها في القرن الثالث شعر ونادى بها

ص: 275

«توماس فون أكوين» فقال: «إن أقل حظ من المعرفة المتصلة بالأشياء العليا يحصل عليه الإنسان أهم وأنفع من المعرفة والعلوم المتصلة بالأشياء الوضيعة الدنيئة» ، فالتفكير اليوناني قد بدأ لدى المسيحيين وكأنه جدير بكل لعنة لذلك لم يكتف المسيحيون بالابتعاد عنه بل أخذوا على عاتقهم تخليص الإنسانية منه بالقضاء عليه وإبادته. لذلك اضطرت أوربا أن تبدأ من الأول بالثقافتين القديمة والهلّينية وقد بلغنا درجة الكمال. والذي وصل إلى الأديرة منسوخًا أو مجموعًا كان في حالة سيئة بحيث أصبح كافيًا فقط لأولئك الذين يرضون بهذه القلة الضئيلة. أما الآداب الشعبية فلم تستفد من هذا التراث شيئًا ولا سيما أنه امتداد أو مستمد من تلك العقلية التي انتهت إلى أولئك المعجبين. وبالرغم من هذا بدا للرؤساء حرمان رجال الدين والرهبان من قراءة هذه النصوص المتصلة بالأمور الوضعية. وفي عام 1209 ذكر المجمع المقدس في باريس أن الرهبان يرتكبون أمهات الخطايا إذا ما قرأوا كتبًا تتصل بالعلوم الطبيعية. فهذه الأغلال التي ضربت حول العقول قضت على كل تفكير عقلي في مهده كما أنكرت على العقول القيام بأي نشاط مستقل، لذلك عوقته كما كذبت أي نشاط عقلي يتعارض وتعاليم الكنيسة.

والآن نستطيع أن نفهم وندرك كيف غطت أوربا قرابة ألف عام في نوم عميق، ثم مضت فترة أخرى حتى أفاقت من غفلتها وبدأت تنفض غبار النوم عنها، هذا مع ملاحظة أن العرب المسلمين سبقوا أوربا إلى هذه النهضة بنحو قرنين أو ثلاثة فنموها وهذبوها وطوروها، وأن عبارة «هيجل» الخاصة ببوم مينرفا التي تطير فقط عندما يحل الظلام تنطبق حقًا وتصدق على العلوم اليونانية إبان عصر التدهور اليوناني، وذلك في العصر الهلّيني، كما ينطبق هذا القول أيضًا على ألف عام التي قضتها أوربا في غياهب الجهالة. لكن فيما يتصل بالنهضة العربية فمثل عبارة «هيجل» لا تصدق حيث نجد، وبصفة استثنائية، العلوم ليست فاكهة متخلفة حملتها الشجرة بعد أوان الطرح.

لقد ظهرت هذه النهضة العلمية بغتة. وذلك بمجرد انقضاء القرن الأول

ص: 276

الإسلامي، قرن الفتوحات وانتشار الدين الإسلامي وكتاب الله، القرآن الكريم، ففي تلك اللحظة انبثقت العلوم والمعارف وتفتحت البراعم بعد جفاف فصل الشتاء وظهرت العلوم العربية. وبعد فترة وجيزة من الزمن عمت العالم وأصبحت ثقافة عالمية.

ثم سرعان ما نجد الإسلام الفتى يندفع في كل اتجاه منحرف أو ضعيف أو يصطدم مع العقائد الأخرى. ففي مكان ما نجد ممثلي العقائد المحافظة ينبرون للدفاع عن عقائدهم. وفي مكان آخر تنقسم الجماعات شيعًا وأحزابًا حتى المحافظين، وتأهبت كل جماعة للقضاء على الأخرى، ونجد الإسلام الفتى لا يقف من هذه الخصومات وتلك الخلافات الدينية مكتوف اليدين بل يقتحم المعركة وينازعها فلسفتها وعقائدها الدينية ويخوض هذه المعارك الكلامية والعقائدية والفلسفية.

وقد أفاد هذا النشاط الإسلام فائدة كبرى وذلك لأنه، لفائدته أو لضرره، كان في وضع يغاير وضع المسيحية المعاصرة له، فالإسلام لا يعرف لدى الله وسيطًا؛ ولذلك لا كهنوت أو كهنوتية منظمة قائمة ثابتة لها سلطانها القوي، وبخاصة في الظروف الحرجة، وعامة المسائل قد تكون موضوع خلاف كبير جدًا، لكن مجال الزندقة أضيق وأقل حتى في الحالات التي نجد فيها الخليفة محافظًا جدًا متماسكًا أو متسامحًا كخلفاء العباسيين من المنصور حتى المأمون. وحيث الاتجاه المحافظ يهيمن ويسيطر على التسامح الديني تتجمد العلوم سريعًا. ولما قضى المغول على الزعماء الدينيين؛ كما قضى عليهم الأسبان كانت التهمة الموجهة إلى رجال الدين الذين بلغوا مرحلة الاحتضار القضاء على الثقافة ومختلف الآداب والعلوم.

وقد أدت هذه الخصومات والمجادلات الدينية إلى إحداث يقظة عقلية دينية حية حالت دون تجميد الإسلام، كما اضطرته إلى الاستعانة بمختلف العلوم والمعارف التي أدت بدورها إلى خلق قوى عقلية ما كانت بمنتظرة، فنجد الفرائض الدينية وما يتطلبه تنفيذها والعمل بها وبخاصة ما يتصل بالحياة اليومية: ضرورة علاج وشفاء ومنع انتشار الأوبئة في المدة الغاصة بملايين السكان، كذلك العمل على إيجاد أدوية جديدة وتجربتها، لذلك اقتحم العلماء العرب مملكتي الحيوان والنبات يروون

ص: 277

الأرض ويمسحونها ويحصون مواقع النجوم ومنازلها ووسائل معرفة الطرق والأسفار وتحديد الأزمنة والأمكنة. وباختصار الاهتمام بمختلف المواضيع درسًا وبحثًا وتعمقًا حيثما كان وكيفما اتفق.

ونجد العرب يقبلون غير هيابين على ما ورثوه، فما يفيدهم منه علمًا وتحصيلا تمسكوا به وحافظوا عليه، فنجدهم يلتقون بثقافات مختلفة إلى جانب الهندية والفارسية والصينية، وكذلك اليونانية والإسكندرانية.

لكن ما وجده العرب لم يكن كافيًا لسد حاجياتهم وإشباع رغباتهم وإرضاء مطامعهم وطموحهم. فالعرب يحرصون على الحصول على كل ما يمكن الحصول عليه وتحصيله، وهكذا اندفعوا يبحثون وينقبون ويستعينون بالبعوث المختلفة من علمية وسياسية.

ص: 278