الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سلطان لوكيرا
هكذا وصف «يعقوب بورخردت» القيصر فريدريش الثاني على أنه مثال الرجل الحر الموجود في المجال التاريخي العالمي، عقلية متحررة» من القيود والتقاليد وهو الرجل الذي يأتي في طليعة قادة النهضة الإصلاحية وحركة إحياء العلوم. وهذا الحكم جدير بالاعتبار والاهتمام، فالقيصر فريدريش كان أكثر أمراء الإصلاح شبها بالحكام العرب، مثله مثل المأمون أو الكامل، وإن الصلة بينه عقلاً وخلقاً وبين سلطان مصر تكاد تشبه الصلة بين أوراق الشجرة الواحدة فالميول واحدة والعادات متشابهة وطرق الحياة والنظرة إليها والسلوك والاتصالات بالناس تكاد تكون عند القيصر فريدريش صورة لتلك التي يتصف بها سلطان مصر، كما أن كلاً منهما يتصف بنظرته التحررية التي يتطلع بها إلى هذا العالم كعالم وحاكم ومصلح وبخاصة فيما يتصل بالمسائل الاقتصادية، وفريدريش كذلك مؤسس مدرسة عليا وليس أقل من الكامل بغضاً لإراقة الدماء.
وفي أعقاب حركة النهضة، نجد القوى التي شحنها فريدريش الثاني تتدخل في التاريخ وتؤثر فيه وتغير وجه أوربا من أساسه. وبالرغم من كل هذا لم يكن يعتقد أنه «إنسان عصري» ، ولم يكن الشخص الذي يشعر أنه متحرر وأنه قد يقال عنه إنه مفكر حر أو زنديق، بل كان بالرغم من كل ذلك مسيحياً مؤمناً بالمسيحية، وكان في مسيحيته أفضل من أولئك الذين يجلسون على كرسي بطرس أعني الباباوات: هؤلاء الذئاب في ثياب الحملان، أولئك الذين يخلقون الفرقة بين الناس
ويحرصون على ألا يسود السلام العالم، أولئك الذين يطردون المؤمنين من الكنيسة إشباعاً لميولهم كما يصبون جام غضبهم على خصومهم دون وازع من ضميرهم ويذهبون بعيداً فيستبيحون لأنفسهم تجريد المؤمنين من أموالهم ظلماً وعدواناً. أما هم فيتمرغون في الثراء حتى تقضى ثروتهم عليهم.
لقد كان فريدريش الثاني أسيراً للعصور الوسطى بالرغم من أنه نشأ وتربي في بيئة متعلمة متحررة عن تلك التربية الأوربية التي كانت سائدة في ذلك العصر، وهذه الحالة التي كان عليها فريدريش بالرغم من صلته القوية بالعصور الوسطى تجعلنا لا نتردد في الحكم عليه بأنه إنسان عصري، ومعنى ذلك أنه اقتبس المثل العربية وأثرت فيه وتأثر بها كما أضاف إليها أفكاراً عربية أخرى مكنتها من عروبتها وجعلتها أكثر أصالة من غيرها.
وليس معنى هذا أن هذه الشخصية الجبارة يجب أن ننظر إليها ونحكم عليها من هذه الزاوية فقط، فالشيء الذي يجب الاعتراف به أنه ما كان يبلغ ما بلغه دون القواعد والأسس العربية التي قامت عليها دولة النورمانيين، فضلاً عن الثقافة العربية التي كانت سائدة في صقلية وطنه. وقد أيد هذا الرأي كثيرون من علماء العرب ومن بينهم المؤرخ أبو الفدا الذي تحدث عن كرم الإمبراطور وغرامه بالدراسات الفلسفية والمنطق والطب، كما اشتهر بعطفه على المسلمين، وذلك لأنه نشأ وتربى في جزيرة صقلية حيث كان أغلبية سكانها من المسلمين.
ولولا أن عمه فيليب سارع وترك إيطاليا الثائرة وعمل بوصية والد فريدريش الثاني ونقل الطفل ابن الثلاث سنوات من إيطاليا إلى وطنه الأصلي ألمانيا لحصل فريدريش الطفل على تربية علمية أفضل وأعمق، فالطفل كحاكم للبلاد في المستقبل كان سيحصل ولا شك على كاهن متعلم يقوم على تربيته بصفته ابنا للملك، وهذا الكاهن سيعلمه القراءة والكتابة والحساب وكذلك اللغة اللاتينية. ومن المرجح أن فريدريش وتفكيره الحر، كان سينسجم وهذه التربية، إلا أن هناك عوامل أخرى قد انتهجها وتأثر بها. إن فريدريش لو قدر له أن يربي في قلعة ألمانية
لحظي بتربية ملكية رقيقة ووقتذاك ما كان لأحد من أعدائه أن يتهمه وهو ابن الثالثة عشرة بأنه سيئ الخلق والسيرة لأنه يكون قد تربي التربية التي تتفق وبيئتهم.
وهل من المستطاع أن يرجو الإنسان شيئاً آخر من شاب هو أقرب إلى الطفولة وانطباعاتها منه إلى الرجولة وجدتها، وبخاصة لم يهتم أحد به منذ طفولته، فكان يتجول طليقاً حراً بدون رقيب في مختلف الحواري والأزقة وأحياء الميناء إشباعاً لرغبته في المعرفة، فذهب إلى المساجد والأسواق وأرصفة الميناء، كما اختلط بشعب بالرمو الخليط، وكان في وحدته القاتلة يصادق الحيوان والطير والإنسان غير مكترث بنوعه أو جنسه أو ثقافته. فالوالد الذي أراد أن يصحبه معه إلى ألمانيا قد توفي، لذلك شب الطفل وترعرع، شب هذا الملك الطفل بين الآثار العربية الإسلامية الجميلة وأحجار الفسيفساء البراقة والقلاع العربية الشامخة المتناهية في العظمة، وهي إن كانت ملكاً للملك روجير فإن العمال والمهندسين المعماريين الذين شيدوها كانوا عرباً جنساً وفناً ومعماراً، كما أن الذين كانوا يقومون على العناية بها عرب. لقد نشأ الملك الشاب في وسط لا تقع عينه فيه إلا على صور عربية وخلق عربي وحياة عربية، إنها بيئة العروبة ولوحتها الخالدة التي لن ينساها من يشاهدها. وقد ظلت هذه الصور ملازمة له بالرغم من السنوات العديدة التي مرت عليها. لقد سمع الملك الطفل أغاني المغنين العرب مختلطة بصوت مياه النافورة بين مقاصيرها الملكية، وحولها الأعمدة وكل هذه الأشياء تتراءى له وكأنها حلم. أما أذان المؤذنين من أعلى المآذن فكان يعين ويحدد له نظام يومه.
وحدث أن أمه «كونستنزا» النورمانية، ابنة الملك روجير الثاني قد فارقت الحياة عقب وفاة زوجها بزمن قصير، وحينذاك بدأ النزاع حول الطفل وقامت المشاكل وتعقدت الأمور. فلسوء إدارة الأوصياء أصاب المزرعة الملكية ما أصاب الدولة، ودب الفقر وساءت الحالة مما اضطر هذا الملك الشاب وهو ما زال في السادسة من عمره، إلى الالتجاء سائلاً مستعطفاً مواطنيه العرب فمدوا له يد المساعدة فكانوا يعولونه ويطعمونه مناوبة، هذا لمدة أسبوع، وذلك لمدة شهر وهلم جراً حتى بلغ الطفل السابعة.
وهكذا نجد الحياة ذاتها تولى تربية الملك الطفل وتتعهده منذ سن مبكرة جداً. ففي ميادين بالرمو في المساجد والكنائس والمعابد اليهودية، في الحوانيت والسوق وفي الشوارع كان يتلقى الملك الشاب دروسه اليومية في اللغات التي كانت متداولة حية بين أفراد الشعب المختلط الأجناس، كما تعلم أيضاً عاداتهم ودياناتهم. إن فريدريش كان يتكلم طفلاً تسع لغات. أما العربية فقد كانت كأنها لسانه القومي، كان يعرف كذلك الحساب العربي وشارك في مجالات التجار العرب والأئمة من رجال الدين فأجاد فريدريش المحاولات والمجادلات حول الله والعالم، ومن الجدير بالذكر أن القاضي الشرعي للمسلمين المقيمين في بالرمو كان يتولى تعليم هذا الشاب المتعطش إلى العلم والمعرفة والفلسفة العربية، ويمده بالكتب إرضاء لرغبته الجامحة إلى العلم وتحصيله، ويتنفس عبيرها الباسم، كما ذكر فريدريش ذلك في أسلوب عربي رائع.
فهذه المعرفة التي اكتسبها هذا الملك الشاب النابه بشتى الطرق جعلته يختلف عن والده في كثير من خصائصه وصفاته، فوالده كان يقدر له أنه يكفيه أن يتعلم المبادئ الأولية على يد المعلم «فلهلم فرنسيسكوس» . أما الآن فالذي يكتب تاريخ هذا الشاب ابن الثلاث عشرة سنة يستولي عليه الإعجاب. نعم إنه يرفض الوصاية عليه مهما كان لونها ونوعها، هذه الوصاية التي تحدد إقامته وتحصي عليه تحركاته. إنه يأبى إلا أن يتنقل حراً طليقاً في الحياة العامة. لكن هذا المشرب من الحياة هو الذي يرجع إليه الفضل في إبراز خصائصه الخلقية وقدرته العقلية مما جعله يبدو وكأنه أكبر سناً مما هو عليه، فهو بالرغم من طفولته كان كثير المعرفة والاطلاع وذا عقل يضعه فوق سنه لذلك لا يحكم على فريدريش حسب سنه، وإن كان إدراك المرء مرتبطا بسن معينة فقد تبين أنه من حيث نضج التفكير وصحة الحكم على الأمور رجل مكتمل القوى العقلية، وأنه من حيث العظمة ملك.
ولو حدث مرة وبدت عليه علامات الطفولة فإنما مرجع ذلك حداثة سنه، إلا أن حياته الملكية التي كان يحياها وجهته التوجيه الصحيح، وهذا الاتجاه هو أيضاً من آثار الدماء النورمانية التي تجري في عروقه. هنا دولة اتسع صدرها لمختلف الثقافات
الموجودة بها، ومكنتها من التطور. كما أن احترام هذه الدولة لمختلف العقائد والعادات والتقاليد. إلا الزنادقة الذين كانوا في نظره مخربين للنظام القائم - يجعلنا نفهم ميله وحبه للروح الشرقية والثقافة الشرقية، وهذه الثقافة هي الأساس الذي اعتمدت عليه ثقافته وتكوينه العلمي، والثقافة العربية هي التي أفاضت عليه الألوان الثقافية المختلفة التي رفعت من منزلة فريدريش الثاني بين معاصريه، وهذه الثقافة أيضاً هي التي مكنته من تفهم العقلية العربية والحياة فيها والتفكير بها وحبه الشديد لكل ما هو عربي شعباً وثقافة وحضارة.
بدهي أن هذا الحب لم يكن صافياً كله عند غزو النورمانيين، ثم اضطهادهم للعرب بعد الغزو مما اضطر الأخيرين إلى المقاومة والاعتصام بالجهات الجبلية في قلب الجزيرة الصقلية، وذلك إباء من العرب وشمم من الخضوع للسيطرة الأجنبية. وهكذا نجد العرب من وقت لآخر يثيرون الاضطرابات ويهددون أمن الجزيرة. فهذا الموقف العدائي ودوافع التحرر والرغبة الصادقة في التخلص من أعدائهم .. كل هذه العوامل مجتمعة سببت للملك الشاب كثيراً من المتاعب، لذلك كان لا بد له للقضاء على الثائرين من خوض غمار حروب طويلة الأمد استمرت عدة سنوات، والجوع فقط هو الذي هزم العرب واضطرهم إلى التسليم، وقد وطنوا أنفسهم الأسوأ الاحتمالات، فقد قدروا عددهم خمسة وعشرون ألف عربي أنهم سيساقون إلى الإعدام، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، ففريدريش لم ينتقم حتى من المحرضين بل سلك مسلكاً يدل على أنه السياسي الحكيم حقاً.
إن فريدريش الثاني يعرف العرب جيداً، وقد أدرك أيضاً أن إصدار حكم الموت على أميرهم إبان المعركة كان تصرفاً غير حكيم وأيقن أنه عند إحراز أي نصر فالشخص المتعطش إلى الانتقام لن يستطيع الاستفادة من هذا النصر، لأن الانتقام يزيد من اضطهاد المهزوم وإيلامه ودفعه إلى الرغبة في الثأر والانتقام متى سنحت له الفرصة. فالمنتصر الحقيقي هو ذلك المتسامح لا المنتقم، إن فريدريش أدرك أن الاضطهاد قد يضطر العرب إلى الخنوع والذل. أما العفو، أما حسن المعاملة، أما كرم الأخلاق فسيضطرهم إلى الإخلاص له والوفاء والتفاني في سبيل نصرته
والعمل لمصلحته، وقد وقع هذا فعلاً. فبالقرب من مكانه المحبب إليه هذا المستقر الملكي المعروف باسم «فوجيا» في إقليم «أبوليا» أنزل فريدريش الأشتوقي خصومه القدامى ومنحهم حرية العبادة والإخلاص للعقيدة، وهكذا أقام في هذه المنطقة الاستراتيجية الحساسة في شمال مملكته المستعمرات الإسلامية الحربية. لقد أنزل فريدريش العرب في «جيروفلكو» و «لوكيرا» وهما من أكثر المدن الإيطالية ازدحاماً بالسكان، وهناك كان يعيش نحو ثلاثين أو خمسة وثلاثين ألف أسرة عربية. وكان العرب بعيدين عن غيرهم ولهم أميرهم الخاص وحكومتهم الخاصة وكانوا يتمتعون بحريتهم كاملة، فلهم مساجدهم التي يدعو فيها المؤذن إلى إقامة الصلوات الخمس يومياً وللعرب مستشفياتهم ومدارسهم ومكاتبهم وحماماتهم، كما وهبهم القيصر حديقة للحيوان. فمسلك فريدريش من العرب يدل حقا على خبرة القيصر بالناس وحسن معاملتهم، فضلاً عن بعد نظره السياسي، وهو إذا أقبل على هذا العمل فقد رجا أن يؤتي أكله مئات المرات.
والاعتراف بالجميل، الذي اتصف به العرب، يتجلى لنا في مقابلتهم هذا الصنيع الكريم للقيصر وعفوه عنهم بالشكر والولاء، وأدرك فريدريش حسن طوية العرب وإخلاصهم له فاتخذ من شباب عرب «لوكيرا» حرسه الخاص فهم أبناء حرب وقتال وشباب امتلأت نفوسهم حباً للقيصر فلا تهمهم تهديدات البابا أو وعيده، كما أنهم لا يحترمون إلا القيصر ولا يأتمرون إلا بأمره فطاعتهم له عمياء وإخلاصهم لعرشه لا يعرف نهاية، وإن فرقة عربية تتألف من ثلاثين ألف مقاتل لن يتردد جنودها من خوض غمار الحروب دفاعاً عن قيصرهم وذودا عن عرشه. وهؤلاء الجنود العرب يقفون رهن إشارة القيصر لاستخلاص النصر من بين أنياب الموت. ولم يتجل إخلاص القيصر عند تجنيدهم فقط، بل وكل إلى عرب «لوكيرا» حراسة خزانة الدولة وممتلكاتها التي لم تكن تدر حتى ذلك الوقت إلا الدخل القليل. كذلك وكل القيصر إلى العرب الإشراف على القاعات الملكية وإدارة جميع أملاكه وضياعه الخاصة وأملاك الدولة والمصانع التي كانت تنجز جميع الأعمال التي يحتاج إليها القصر الملكي، وكذلك المصانع العربية التي كانت تنتج السهام والأقواس والدروع والجنات مختلف أنواع المجانيق، وكذلك اللجم وسرج الخيل
ورحل الجمال والخيام والسجاجيد والستائر وغطاء الحيطان والوسائد المطرزة بالذهب والمطارح الحريرية.
ففي القاعات الملكية في «لوكيرا» و «مسينا» والأماكن الأخرى كان يطرز المطرزون الملابس الملكية بالحرير والذهب، كذلك المفارش الفاخرة والسرج والأغطية المختلفة للخيول والإبل الموجودة في الإسطبلات القيصرية. إن أعمال التطريز هذه كانت تقوم بها هذه الأنامل الرقيقة الجميلة الماهرة للآنسات اللواتي اشتهرن أيضاً بغزل الحرير والصوف والقطن ونسجه وحياكته تحت إشراف الأغاوات. إن أولئك الآنسات كن سبباً في إساءة سمعة القيصر.
وكان فريدريش الثاني عندما يخرج بالشارات القيصرية التي كانت غاية في الأبهة والعظمة ممتطياً صهوة جواده الذي أهداه إليه العرب. كانت تسير خلفه النوق والإبل سيرها الوئيد دون إحداث صوت أو جلبة، وقد حمل بعضها بجزء من مكتبته، ثم الفيلة المهمة والبغال والقردة والنمر، والعرب في ثيابهم الملونة والحبش السمر يحرسونه، ثم نرى المسلمين رماة الحدق والخدم والخادمات المحجبات والأجنبيات فكان جميع هذا مادة طيبة للخيال. لذلك كان العجب يستولي على النظارة ويعتقد القوم أن للقيصر حريماً، وهذا المنظر يؤيد الشائعة التي انتشرت مروجة أن للقيصر حريماً مما دفع البابا أن يشكوه باكياً إلى المجلس المقدس:«من عدا القيصر يستطيع أن يثبت هذه التهمة؟ » .
وكان كل طفل مسلم نابه في بلاط صقلية يحمل مفتاحاً يخول له الدخول مباشرة على القيصر، وكان جميع الناس مع اختلاف ألوانهم وأجناسهم وعقائدهم وألسنتهم والذين يحملون الألقاب الرفيعة، سواء عند القيصر. وإذا أظهر خادم من خدمه نبوغاً واستعداداً لتحصيل العلم تعهده القيصر ويسر له السبيل، وقد حدث أن المعلم «يواقيم» علم خادم القصر «عبد الله» اللغة العربية قراءة وكتابة فأمر القيصر بصرف مبلغ من المال له. كما نجد الطفلين الزنجبين «مرسوخ» و «موسكا» يتلقيان علم النفخ في الأبواق الفضية التي صنعت خصيصاً لهما تنفيذاً لرغبة عالية.
كذلك نجد الطفل العربي العريض الجبين المتألق العينين والذي تبدو على محياه دلائل الفطنة والذكاء ينال رضاء القيصر عندما شاهده واقفا بين الخدم، وهو ابن جارية مسلمة ووالد مسلم من البربر القاطنين في جبال مراكش فيسر له السبيل وفتح الطريق أمامه حتى بلغ أرقى مناصب الدولة. وكان هذا الطفل يسمى «جيوفيني» ويلقب «آل مورو» أي المسلم. وورد في المذكرات تحت اسم «يوحنيس موروس» وهو الذي اشتهر بإتقانه عدة لغات مما حدا بالقصر إلى ترقيته بسرعة فبعد أن كان أمين القصر رقاه إلى وظيفة كاتم أسرار المجلس الاستشاري القيصري. ومثل هذا «المسلم» مثل «جورج الأنطاكي» العربي الذي حاز ثقة الملك روجير الثاني فرقاه إلى أعلى منصب الدولة، ثم أقطعه عدداً من الضياع.
ولم يكن حظ «المسلم» أيام القصر فريدريش الثاني أقل من حظه أيام الملك كونراد، ففي عهده تولى علاوة على أمانة القصر محافظة مدينة «لوكيرا» مسقط رأسه، ومن ثم رقاه إلى وظيفة كبير أمناء المملكة الصقلية. فهذا التدرج في الرقي الذي يشبه إطلاق الصواريخ والذي بلغه هذا العربي الفقير الأصل تلاشي في أقل من وميض البصر، وذلك لأنه سقط مرة وأفشى سر الأسرة الأشتوفية ممثلة في الملك منفرد صديق العرب وحببهم للبابا، فما كان من العرب أنفسهم إلا أن اقتصوا من هذا الخائن الوضيع وقتلوه انتقاماً لكرامتهم التي أهدرت إخلاصهم الذي لطخه هذا الوضيع بالعار.
أما وظيفته فقد تولاها عربي آخر صقلي يحمل اسماً جرمانياً ألا وهو «ريتشارد» وكان على نصيب عظيم من العلم. وهو في الأصل من رجال القانون فكان يعمل قاضياً، ثم أصبح في الدولة المسيحية كبير الأمناء، ثم تدرج في الرقي حتى عينه الملك مستشاره الخاص وظل في منصبه هذا زهاء عشرين عاماً. ففي عام 1221 م نجد هذا العربي الذكي الخلص الأمين يقف إلى جانب الملك البالغ من العمر الثامنة عشرة والذي كان يحاول الحصول على تراث والده، فرافق «ريتشارد» الملك الشاب إلى ألمانيا ومنذ ذلك الحين أصبح رفيقه في الحل والترحال، في الحرب والسلم.
وقد تجلى إخلاص هذا العربي أيضاً عند موقفه من فريدريش وأصبح هذا الإخلاص مضرب الأمثال، وذلك لأنه حدث عام 1216 أن البابا «هونوريوس» الثالث لما أراد اختيار وصى لابنه الحبيب فريدريش كتب إلى العربي «ريتشارد» الرجل الذي اشتهر في روما بأنه موضع الثقة الوحيد لدى الأسرة الأشتوفية، أعني فريدريش.
ثم خلت وظيفة المستشار منذ أن فضل «فالتير فون فليجيارا» -هذا الرجل الأناني والوصي المتقلب منذ عهد شباب فريدريش. الإقامة في الخارج. فبعد عودة القيصر من ألمانيا عام 1220 م تولى العربي ريتشارد كبير أمناء مملكة صقلية إلى جانب عمله وزارة المالية والخزانة، وكذلك الإدارة العامة للرأي. ومنحه سيده كثيراً من الأملاك في صقلية وقد ظل هذا العربي قائماً بهذه الوظائف الخطيرة في الدولة حتى وفاته عام 1236 م وظهور هذا التغير الجوهري الخطير في التشريعات القانونية في مدارس الحقوق في شمال إيطاليا، وذلك بسبب وجود القاضيين «بطرس فون فينيا» و «ثاديوس فون سويسه» في البلاط الملكي، فقد انتقلت إليهما إدارة مصلحة الرأي بينما انتقل «يوجنيس موروس» إلى مصلحة الأمانة.
لقد بلغ وفاء ريتشارد للقيصر فريدريش حداً دفعه إلى مرافقته حتى في حملته الصليبية، ولم يكن هو المسلم الوحيد في حاشية القيصر، لذلك كان ريتشارد المسلم قذي في عيون وعاظ الحملة الصليبية فاتهموه أنه نجس قدس الأقداس. أما القول بأن ابن الجوزي أستاذ القيصر فريدريش في المنطق قد قام بدور الترجمة في هذه الحملة بين القيصر والطرف الآخر فبعيد عن الصواب، وذلك لأن القيصر كان يجيد العربية إجادة تامة. وما يقال عن ابن الجوزي يقال أيضاً عن اشتراك حملة عربية إسلامية من أبناء «لوكيرا» في هذه الحملة الصليبية، إذ إنه من المستبعد جداً أن يقاتل مسلمو صقلية مسلمي سلطان مصر وبخاصة أن القيصر فريدريش بما عرف عنه من صداقته للإسلام والمسلمين أحصف من أن يحاول هذه المحاولة، وأن يزج بالمسلمين من رعيته في حرب ضد المسلمين في الشرق وفي عكا. والآن نتساءل:
لماذا تظاهر فريدريش وكأنه المسلم المؤمن الحقيقي؟ إنها حيلة دبلوماسية عظيمة أن يتقدم للمفاوضات في الشرق وهو في زي شرقي وتحيط به حاشية شرقية. إنها خدمة عظيمة لأن يفاوض السلطان كسلطان وبتقاليد سلطانية.
والرحلة التي سبق أن وعد القيصر في «إكس لاشبل» بالقيام بها نفذها، لكن ليس لسبب ديني، إنها رحلة كما وصفها لأصدقائه العرب في غير حياء أو خجل ذات فائدة سياسية هامة له، وكان يتمنى أن يزور الشرق العربي، هذا الشرق الذي كان يؤمن بعظمته ورقيه وتفوقه، كما كان يحترم العرب ويعجب بهم كثيراً ويشعر بفضلهم العظيم عليه وكم هو مدين لهم، دين العالم لهم أيضاً، فرحلته إلى العالم العربي ستمكنه من الاجتماع بأنداده.
لذلك لم تكن الدبلوماسية فقط هي التي دفعته إلى تبادل الهدايا والدخول في محاورات ومساجلات في الفروسية من العرب، إنما كان يريد أن يثبت أنه ليس أقل من العرب شأناً؛ والواقع أن هذه النوايا قد ظهرت واضحة وتجلت عندما حرص سلطان مصر على المحافظة على الشعور الديني للقيصر، فأمر المؤذن في القدس أن يتوقف عن الأذان طيلة إقامة القيصر؛ كما نجد السلطان يعين القاضي شمس الدين مرافقاً للإمبراطور وملازماً له طيلة مدة ضيافته وإقامته في القدس؛ فدار حديث بين القيصر والقاضي:«أيها القاضي لماذا لا يؤذن المؤذنون للصلاة؟ » فأجابه القاضي: «يا ملك الملوك إننا نعرف كيف نقدر زيارتكم» فتألم القيصر وقال له: «إنكم تأتون ظلماً في بلدكم ووطنكم من أجلى وذلك بتغييركم عاداتكم وتقاليدكم، إنكم لستم في حاجة إلى هذه المخالفات لو كنتم في بلادي؛ وعلاوة على ذلك فقد سرني جداً سماع المؤذن ليلاً» .
إن الرحلة إلى بلاد العجائب كانت للتسلية بالنسبة للآخرين، لكن القيصر كان ينظر إليها وكأنها عودة إلى مصدر ووطن عقليته وثقافته التي تثقف بها، فرحلته هذه تفتح الآن له عينيه وبصيرته، وعند عودته إلى مملكته سيراعى تجاربه التي جمعها ويحاول تطبيقها.
لقد أقام في القدس يومين إلا أنه بالرغم من ذلك شاهد قبة الصخرة المقدسة
وهي الثانية بعد الكعبة، والإمبراطور يشبه جده روجير الثاني الذي اهتم اهتماماً كثيراً بمشاهدة كنيسة أو قلعة أو مستودع أسلحة فكان يتفقد هذه الأماكن تفقد الخبير «لقد شاهد كل شيء بعناية ودقة عظيمتين» ، هكذا ذكر الذي كان يرافق الإمبراطور كعضو بعثة شرف «أولاً شاهد المسجد من بعيد وأبدى إعجابه بجماله ومعماره والأثر الذي يتركه في النفس ثم فحص الحائط القائم على الصخرة وأبدى إعجابه ببنائه وبناء المنبر. ولكي يشاهد كل شيء تسلق حتى بلغ القبة وتأبطني عندما خرجنا» .
وفي القاعدة المثمنة الأضلاع والتي تعتبر من أكبر الآثار التي شيدها في حكمه «كاستيل ديل مونتيه» ، أعني قلعة الجبل - نجد تخليداً لذكريات القيصر لزيارته لقبة الصخرة ومسجدها.
إن الذكريات التي جمعها فريدريش من رحلته إلى الشرق ظلت ملازمة له طيلة حياته كما أثرت فيه ووجهته التوجيه الذي امتاز به: ثقافة روحية نورمانية، وشباب فريدريش الثاني الذي مضاه في صقلية.