المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسالك في أوربا - شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا

[زيغريد هونكه]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌شمس الله

- ‌مقدمة المؤلفة

- ‌مقدمة المترجم

- ‌الكتاب الأولالبهار اليومي

- ‌أسماء عربية لمنح عربية

- ‌أوربا تقاسي الحرمان لموقفها السلبي من التجارة العالمية

- ‌البندقية تحطم الحصار

- ‌في مدرسة العرب

- ‌الكتاب الثانيالكتابة العالمية للأعداد

- ‌ميراث هندي

- ‌البابا يمارس الحساب العربي

- ‌تاجر يعلم أوربا

- ‌حرب الأعداد

- ‌الكتاب الثالثالأبناء الثلاثة لموسى الفلكي

- ‌الابن الأول صانع الآلات

- ‌الابن الثاني لموسى «الفلكي»

- ‌الابن الثالث الرياضي

- ‌وينتمي إلى نفس الأسرة أيضًا علم الفلك

- ‌الكتاب الرابعالأيادي الشافية

- ‌الشفاء العجيب عند الإفرنج

- ‌مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم

- ‌أحد نوابغ الطب العالميين في مختلف العصور

- ‌قيود الماضي

- ‌يقظة أوربا

- ‌قال ابن سينا

- ‌أنصاب العبقرية العربية

- ‌الكتاب الخامسسيوف العقل

- ‌المعجزة العربية

- ‌أوربا تائهة في دياجير الظلام

- ‌شعار المنتصر

- ‌عملية إنقاذات قيمة تاريخية

- ‌الترجمة مجهود ثقافي

- ‌ولع بالكتب

- ‌شعب يدرس

- ‌الكتاب السادسموحد الشرق والغرب

- ‌دولة النورمان .. دولة بين عالمين

- ‌كانوا أعداء فألف بينهم

- ‌سلطان لوكيرا

- ‌على الأسس العربية

- ‌محادثات على الحدود

- ‌ميلاد نظرة جديدة للعالم

- ‌الكتاب السابعالفنون العربية الأندلسية

- ‌الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»

- ‌إن العالم شيد لي مسجداً

- ‌الموسيقى تساير الحياة

- ‌زخرف العالم الوضاء

- ‌شعب من الشعراء

- ‌المسالك في أوربا

- ‌الخاتمة

- ‌تعليقات المترجم

- ‌قرتمن

- ‌قرنفل

- ‌جوز الطيب

- ‌برسيفال

- ‌قهوة

- ‌مات

- ‌الشك

- ‌الصفة

- ‌مطرح

- ‌قرمزي

- ‌قناد

- ‌مستقة

- ‌قطنية

- ‌طاسه

- ‌سكر

- ‌غرافة

- ‌ليمون

- ‌الكحول

- ‌برقوق

- ‌البنان

- ‌شربات

- ‌نارنج - أورنج

- ‌الخرشوف

- ‌برد

- ‌أرز

- ‌سبانخ

- ‌القرفة

- ‌العرق

- ‌مخا

- ‌ديوان

- ‌تسفتشجين

- ‌بيج أرمودي

- ‌عثماني

- ‌قبة

- ‌شطرنج

- ‌شيكيش

- ‌قفة

- ‌صفى

- ‌جدامس

- ‌جلا

- ‌بركان

- ‌قطن

- ‌موصلي

- ‌مخير

- ‌الشف

- ‌زيتوني

- ‌تفت

- ‌أطلس

- ‌الدمشقي

- ‌زعفراني

- ‌ليلا

- ‌ترياق. درياق

- ‌جنزبيل. زنجبيل

- ‌كمون

- ‌زعفران

- ‌كافور

- ‌بنزين

- ‌قلى

- ‌نطرون

- ‌صداع

- ‌بورق

- ‌سكرين

- ‌عنبر

- ‌لك

- ‌النيلة

- ‌قز

- ‌طلق

- ‌بطن

- ‌خلنجان

- ‌مر

- ‌سمسار

- ‌جبة

- ‌داو

- ‌دنجية

- ‌قربلة

- ‌فلوكة

- ‌ميزان

- ‌الحبل

- ‌دار الصناعة

- ‌أمير البحر

- ‌قلفاط

- ‌عوارية

- ‌كبر. كبار. قبار

- ‌ياسمين

- ‌ورد

- ‌خيرى البر

- ‌أسليح

- ‌فورسيسيا

- ‌بلد شين

- ‌بلوزه

- ‌جبة

الفصل: ‌المسالك في أوربا

‌المسالك في أوربا

إن مقدرة ملك قسطيليا وليون على لعبة الشطرنج يعتبرها ابن عمار، صديق المعتمد ووزيره الأول، شيئاً بدها، وذلك بسبب كثرة الاتصالات بين الملوك المسلمين والمسيحيين وجرأة «ألفونس» السادس على اللعب قد اكتسبها من زياراته المتعددة لقصر الكافر العنة الله عليه» (! ! ) إلا أن هزيمته أمام العربي كانت شيئاً طبيعياً، فالعربي ماهر جداً في لعبة الشطرنج العربية وهذا شيء بدهي ومؤكد حتى كان في استطاعته أن يراهن بمملكة إشبيلية، وقد خسر ألفونس السادس ملك قسطيلية وليون اللعبة، وهكذا أنقذت دولة المعتمد مرة أخرى ليس عن طريق السلاح بل بالعقل، وهكذا ترك ابن عمار خيمة العدو وخلفه خدمه يحملون لوح الشطرنج عائداً إلى داره منتصراً.

فقال باحتقار: نصف عربي!

لقد اعتاد الإنسان أن يشاهد عربياً عند الجيران المسيحيين بعد أن أغلق المسيحيون دورهم في وجه العرب في القرن الأول من دخول المسلمين الأندلس، تعصباً منهم ضد العرب والمسلمين لكن لم يمض زمن طويل حتى تغيرت الأوضاع وتلاشى التعصب المسيحي ضد المسلمين؛ وذلك بسبب المنازعات الداخلية واحتياج كل إلى مساعدة خارجية، وإلى من سيلجأ أحدهم إذا ما فقد عرشه واضطر إلى ترك بلاده؟

ومن يساعد ذلك الذي فقد تاجه في سبيل استرداده؟ لذلك اضطر المسيحيون في نهاية الأمر إلى عقد محالفات مع المسلمين. ولا ينسى اليوم الذي نجد فيه السيدة

ص: 436

الشجاعة «توتا فون نافارا» الملكة الأم ومعها ابنها الملك «جارسياس» والملك العظيم الجسم «سنخو فون ليون» الذي فقد عرشه بسبب جسمه السمين جداً المريض. يقصدون قصر الخليفة، هذا القصر العظيم جداً والمعروف باسم الصخرة، وألقى هذا الملك بنفسه تحت أقدام عبدالرحمن يرجوه مساعدته عسكرياً وأن يقدم له طبيباً، وهذا الطبيب يجب أن يكون الوحيد في فنه وفي قرطبة.

ثم نجد كيف أن «سنخو» قد شفى وأصبح نحيفاً ونجح في طرد مغتصب عرشه وهو «أوردوجنو» الرابع، وأن الأخير لجأ إلى الحكم الثاني راجياً مساعدته وقد تزيا بزي عربي حتى إن الإنسان لا يفرق بينه وبين عربي، وجدث أن عبيد الله بن قاسم كبير أساقفة طليطلة والوليد بن خيسران قاضى المسيحيين في قرطبة قد التقيا من قبل بالملك المخلوع «أوردوجنو» في دار الضيافة الملكية وعلماء التقاليد العربية الملكية وكلاهما كانا يلبسان لباساً عربياً من غطاء الرأس حتى القدمين، وكذلك كان يتسميان بأسماء عربية وكانا يعظان من الإنجيل وفي لغة عربية، إذ إن الإنجيل كان عبارة عن ترجمة عربية قام بها رئيس الأساقفة «يوحنا الأشبيلي» ، كما كان أولئك يجيدون الغناء العربي، ولم يجد أحد من المسيحيين في هذا عيباً، وبعد مائة عام من ذلك التاريخ نجد أسقف قرطبة المسمى «ألفارو» يشكو من أن كثيرين من أبناء عقيدته يقرأون أشعار وقصص العرب، كما يدرسون كتب رجال الدين المسلمين وكذلك كتب فلاسفتهم ليس لنقدها والرد عليها بل لدراستها وحفظها ولكي يتمكنوا من الحديث في عربية فصحى. وأين يوجد الآن الشخص الذي يستطيع فهم وقراءة التفاسير اللاتينية للكتاب المقدس من غير رجال الكنيسة؟ من منهم يدرس الأناجيل والأنبياء والرسل؟ آه إن جميع شباب المسيحيين وبخاصة الأذكياء لا يعرفونها بعكس اللغة العربية التي يجيدونها. كما يلتهمون العلوم العربية وينفقون الأموال الطائلة في سبيل اقتناء هذه الكتب وتكوين المكتبات ويعلنون صراحة عظمة هذه الآداب العربية. لكن إذا ما حدثهم متحدث عن الكتب المسيحية أجابوه في سخرية واحتقار أن هذه الكتب لا تستحق الالتفات إليها. وا أسفاه لقد نسى المسيحيون كل شيء مسيحي حتى لغتهم، ولا يوجد إنسان واحد بين الآلاف منهم من يستطيع

ص: 437

كتابة خطاب لاتيني بينما نجد العدد العديد منهم يجيد العربية شعراً ونثراً بل أحياناً يبزون العرب.

فكيف لا يستولى الإعجاب على الإسباني الذي يشاهد ويدرك مثل هذا الرقي وهذه الثقافة وتلك الحضارة والمدنية التي تشكل حياته تشكيلاً جديداً؟ كيف يستطيع الإسباني التخلص من قوة عدوه وجبروت هذه المكانة الرفيعة التي يتمتع بها عدوه كان لزاماً على الإسباني أي يكافح جهد حياته للمحافظة على نفسه، فقد أثرت هذه البيئة وتلك الظروف مجتمعة عليه وبدون أن يشعر سواء في مظهره الخارجي أو شعوره الداخلي. ففي عصور الكفاح بين الشعبين أي بين العرب وخصومهم سيطر الإسلام على كثير من خصائص النفسية الإسبانية وكيفها تكيفاً خاصاً. ومنذ ذلك الحين أخذت الروح الإسبانية تظهر بطبيعتها الجديدة العلمية، تؤمن بحياة جديدة ومذاهب جديدة وبخاصة أنها ظلت نحو 750 عاماً وهي في جو مسيحي إسلامي يتنافر حيناً ويتلاءم حيناً آخر.

ثم نجد «أوروجنو» وقد شاهد في القصر الأموي ما أبهره وأذهله يعود ثانية إلى بلده ويقرر أنه شخصيا قد وضع نفسه في خدمة أمير المؤمنين، ثم نجد القلاع والمدن تستبدل سيداً بسيد وحاكماً بحاكم وثقافة بثقافة، كما نجد جيوشاً مسيحية تحارب إلى جانب المسلمين ويكسبون معركة عام 1010 م لصالح الخليفة، كما قتل ثلاثة أساقفة في سبيل أمير المؤمنين. وأيام المنصور وهو من أقوى الحكام الذين عرفتهم الأندلس يقبل عدد كبير من الفرسان المسيحيين من جانب جبال البرنات وينضمون تحت ألويته، كما نجد بعض أبناء ملوك إسبانيا الذين كانوا رهائن يبدون دهشتهم من الموسيقى التي يسمعونها والرقص الذي يرونه وأغاني مغنى المنصور كما أعجبوا أيضاً بالحياة العربية في قصور الخلفاء والأمراء، كما نجد أبناء الأمراء يأتون بعاداتهم ومعلوماتهم وأغانيهم وأشعارهم إلى القلاع القائمة في شمال إسبانيا. ومنذ زمن قصير كان ابن عمار ضيفاً على الجراف «ريمونديير ينجار» الثاني حيث كانت النقود المستعملة هناك نقوداً عربية الرسم والتقليد، كما أكدت زيارته الحلف الهجومي ضد أمير «مرسية» ، حيث قدم الجراف حفيده رهينة وحصل هو على رشيد الصغير ابن المعتمد.

ص: 438

ثم نجد الملك ألفونس السادس الذي كان يلاعب ابن عمار الشطرنج يحيا حياة عربية؛ لأنه فقد بلاده وعرشه على يد أخيه الطموح ولجأ ألفونس هذا إلى العرب فأووه، فأثر هذا في الملك الشاب تأثيراً بليغاً. فنجد يحيي مأمون ملك طليطلة يضم إليه هذا الفتى سنوات عديدة ويعامله كما لو كان ابنه الخاص كرماً وحسن معاملة وعطفاً ومنحه قصراً وعين له حاشية ورصيداً وجميع ما يكفل له حياة سعيدة مستقرة لذيذة، وعندما تمكن ملك قسطيلية بعد حرب دامت خمس سنوات من الاستيلاء على طليطلة افتخر بهذا الفتح وأطلق على نفسه حاكم أتباع الديانتين، وكان يستولي أيضاً على إشبيلية وقد بلغ به إعجابه بما حصل عليه أن تزوج بعربية وعاد بها إلى بلده، وقد حقق أمنيته عندما زوجه أكبر حكام الأندلس (المعتمد) الذي ينتمي إلى قبيلة عربية عريقة كبرى بناته البالغة من العمر عشرين عاما واسمها «سيدة» ويعتقد الإسبان أنها كانت على جانب عظيم من الرقة والرشاقة. هكذا تصورها الملك الذي كان في تلك اللحظة قد توفيت زوجته وهذه الرشيقة الرفيعة ما هي إلا ابنة «رميكة» التي أصبحت الملكة الصغيرة الجديدة، وقد جاءت ومعها كثير من معالم الحياة العربية الراقية في ذلك الوقت وقدمتها للقصر الملكي في قسطيلية. و «سيدة» هي العربية الوحيدة بين زوجاته الست الشرقيات اللواتي قدمهن له رئيس دير «كلوني» ، كما قدم له زوجاته غير الشرعيات. وقد ولدت «سيدة» للملك ألفونس السادس ملك قسطيلية ولياً للعهد. لكن «سنخو» الصغير الذي كان موضع فخر والده خر قتيلاً وهو لم يبلغ الحادية عشرة في معركة حارب فيها ببطولة لا تتناسب وسنه، وكانت هذه المعركة ضد البربر الذين كانوا أيضاً أعداء جده. أما بناته فقد زوجهن ألفونس بناء على توجيه رئيس الدير المسمى هوجو الأكبر رئيس دير «كلوني» إلى أمراء بوورجنديين وفرنسيين. كما أن ابنته «ألفييا» كانت أول زوجة للملك روجير الثاني ملك صقلية. وهكذا نجد العلاقة الودية القلبية واتباع سياسة الزواج، تعتبر القنطرة التي تعبر عليها الثقافة والحضارة.

والزواج بين فرسان شمال إسبانيا والأندلس أو حتى بين طبقات الشعب كان شيئاً عادياً مألوفاً، فقد اقترن شاعر أسباني بمغنية عربية وتوجه معها حيث أقاما في وطنها غرناطة واعتنق الإسلام، كما وقع كذلك في حب أختها التي تزوجها أيضاً.

ص: 439

وبعد ثلاثة عشر عاماً عاد إلى قسطيلية ومعه زوجناه وعدد من الأطفال الذين يتكلمون العربية؛ هذا إلى جانب الشعر والغناء والأدب الأندلسي، وشرع يدخل الأغاني العزلية والدينية وغيرها إلى قسطيلية وأدبها. وهناك عدد كبير من الطرق التي تسربت منها الآداب والعلوم والثقافة الأندلسية إلى شمال إسبانيا حيث عبرت البرنات فنحن نجد عربا يستخدمهم ملوك مسيحيون في تربية أبنائهم كما هو الحال مع ملك «أرجون» ، وقد استعان بهم المسيحيون كأطباء وكتاب في القصور الملكية، كما نجد موظفين عرباً في برشلونة وبورجوس ولشبونة حيث يقومون بدور إدخال واستخدام التقاليد والعادات العربية الملكية. وبعد أن تم فتح الأندلس على يد المرابطين من البربر والموحدين الذين وفدوا من إفريقيا هاجر عدد كبير من المسيحيين المستعربين الذين اشتهروا باسم «موتزاراير» بالآلاف من الأندلس إلى قسطيلية و «أرجون» حيث كان ينظر إليهم القوم كمثل أعلى للحضارة والرقي والمدنية، وأخذوا يقلدونهم كما قلدوا المسلمين الذين كانوا قد وقعوا في الأسر أو المسيحيين الذين سبق أن أسرهم المسلمون. لكن إسبانيا المسيحية لم تتجه إلى الجنوب أيضاً بل نجد كثيراً من الطرق والوسائل سواء كانت دينية أو سياسية أو تجارية أو روابط النسب والقرابة تربط بين أولئك الإسبان وبين الدول الأوربية الشمالية المتاخمة لهم. فجبال البرنات ليست حدوداً فاصلة كما أنها لا تساعد على التبادل بين إسبانيا العربية وأوروبا.

وعندما هاجم ألفونس السادس عام 1085 طليطلة اشترك عدد كبير من الفرسان الألمان والإيطاليين والفرنسين في هذا الحصار كما قاموا بكثير من أعمال السلب والنهب والتخريب الثانية المدن العربية وعادوا إلى أوطانهم ومعهم هذه الذكريات. وأول أسقف لطليطلة كان قد عينه رئيس دير «كلوني» وكان رؤساء كاتدرائية ورهبانه من الفرنسيين. كما نجد الأسقف «ريموند» يؤسس مدرسة للترجمة تحتوي على مجموعة عظيمة جداً من ثمار العقلية العربية سواء في العلوم أو الآداب، وقد ظلت هذه المدرسة مركز الثقل عدة قرون حيث كان يقصدها الطلاب والعلماء من مختلف البلاد الأوربية. وفي عام 1147 سقطت لشبونة، وكان المحاصرون من الإنجليز والأمان والفرنسيين، وإلى الألمان يرجع الفضل في

ص: 440

إحراز النصر. وتقلد إنجليزي من «هستينجز» أول وظيفة كأسقف للشبونة. أما المدينة فقد أصبحت من نصيب الملك «ألفونسو أنريكو» لكن الأسلاب الكثيرة سلمت إلى الأجانب حسب اتفاق تم مع المسلمين. كذلك نعلم أنه أعتق الفرنسيين والألمان والبورجنديين والصقالبة الذين كانوا مستعبدين في الأندلس، وكثرت الأقاويل حولهم حول أقاربهم الذين كانوا يزورونهم رغبة في التحصيل والعلم في قرطبة وسرجوسة والماريا. فقد نقل هؤلاء كثيراً من ضروب الثقافة والحضارة العربية عبر جبال البرنات كما نقلها تجار من ليون وكونستنس وجنوه ونورنبرج، فقد كان هؤلاء التجار يقصدون سنوياً الأسواق التجارية الأندلسية. كذلك انتقلت هذه الحضارة الأندلسية إلى أوربا عن طريق ملايين الحجاج المسيحيين الذين كانوا يفدون من جنوب إسبانيا ومن جميع الجهات الأوربية مارين بفرنسا حيث الطريق المعروف باسم «فيا فرنسينيا» في بلاد يعقوب إلى سنتياجو ده كومبوستيلا، وكان أولئك الحجاج كثيراً ما يقصدهم التجار من مختلف الجنسيات ويقيمون محطات تجارية على طول الطريق الذي يسير فيه الحجاج. ومن أشهر الجماعات التجارية جماعة من البسك والبريتونين والألمان والإنجليز والبورجنديين والنورمان والبروفنسال واللومبارديين، وآخرين من طولوز، كما نجد تجاراً آخرين كثيرين من مختلف الأجناس ويرطنون مختلف اللغات. وقد وصلتنا وثيقة عثر عليها في دير. ثم نجد عدداً كبيراً من الرهبان والقس والفرسان والتجار الذين كانوا يفدون بدون انقطاع من فرنسا وبورجوند حيث يغمرون شبه جزيرة إيبيريا، وكما يقول المثل إذا اختصم اثنان فرح الثالث لأنه هو الذي سيكسب.

ومن رسل نقل الحضارة الأندلسية إلى أوربا أيضاً اليهود كتجار وأطباء وعلماء في العلوم العربية، فقد نقلوها بمختلف أنواعها وفروعها إلى أوربا، كما ساهموا في أعمال الترجمة في طليطلة. وكذلك عن هذا الطريق وصلت أوربا قصص عربية كثيرة ودخلت، بعد أن ارتدت رداءً جديداً، في القصص الأوربي والأساطير والأشعار.

أما الدور الهام في نقل فن الغناء العربي إلى القصور الملكية المسيحية فقد قام به

ص: 441

الجواري اللواتي كانت تحرص القصور الملكية المسيحية على الاحتفاظ بهن للموسيقى والغناء والرقص والسمر. وليس فقط في القصور الملكية بل في قصر «جراف» في «بورجوس» حيث يذكر رحالة من «بويمن» ما ملخصه أن سيدات جميلات كن يتحلين كما تتحلى المسلمات وكن في الطعام والشراب يتبعن عادات وتقاليد إسلامية وهن يرقصن رقصاً جميلاً حسب الطريقة الإسلامية. هكذا دون كاتب سر البارون فون روتز ميتال في مذكرة سيده وجميعهن سمر البشرة سود العيون، وكن يأكلن ويشربن قليلاً وكن يجبن سيدي في أدب جم وكن مع الألمان على جانب عظيم من التقدير. والمغنيات العربيات يتمتعن بتقدير وحب عظيمين حتى إنهن عند فتح البلاد كن يجلبن بكثرة.

وهكذا حدث أيضاً عام 1064، فقد ظهر في جنوب جبال البرنات رسول البابا الإسكندر الثاني والقائد الأعلى للجيش الروماني، وهو يتكون من جنود نورمانيين وفرنسيين وبورجنديين. لقد ظهروا مباشرة أمام «بارباسترو» المدينة العربية الحصينة وبعد مقاومة فاشلة استسلم المدافعون بعد تأمينهم على ترك الحصن لكن لم يكد الجنود العرب يتركون أبواب الحصن حتى قتلهم الأعداء جندياً جندياً، ولما حاول المدنيون العرب حسب الوعد الذي وعده العدو للجنود ترك المدينة، انقض عليهم العدو ذبحاً وقتلا حتى أفناهم جميعهم، وكان عددهم يتجاوز ستة آلاف شخص صعدت دماؤهم إلى خالقهم تشكو غدر العدو. أما النساء فقد سبين واقتسمهن العدو المسيحي وكان عددهن كبيرا جداً. أما مندوب البابا فقد أخذ معه إلى إيطاليا وروما أكثر من ألف سبية عربية. وفي عام 1064 نجد الدعاية الثقافية تبلغ أوجها ذلك لأن ألف سبية أخرى من العذارى العربيات والسيدات قد نقلن إلى نورمانديا وإلى بروفينس وإلى أكوبتانيا. وكان أحد المنتصرين عاد تصحبه الموسيقى والأغاني والسبايا اللواتي سباهن في حربه الصليبية إلى «بارباسترو» . كان هذا المنتصر الذي عاد إلى قصره هو الهرزوج فلهلم الثامن من أكويتانيا وهو جراف بواتييه، وهذا النبيل الفرنسي كانت له علاوة على هذا أسرة تسترعي الالتفات فعن طريق ابنته «إينيتس» أصبح حما الملك ألفونس السادس ملك قسطيلية الذي كان نصف عربي وكان كما نعلم بعد وفاة «إينيتس» قد تزوج سيدة» ابنة أكبر شاعر أندلسي وشاعر

ص: 442

غزلي، وقد نشأت وترعرت في قصر أبيها الملكي. أما الابن فقد أصبح منذ عام 1071 خلف الهرزوج فلهلم الثامن، وعلاوة على ذلك صهر ألفونس وسيدة وأخيراً فهو زوج أميرة من أرجون، وهذا الصهر هو في الواقع فلهلم التاسع أول شاعر تروبادور مشهور.

أما كلمة «تروبادور» كما يرى العلماء اليوم فهي الكلمة العربية «طرب» ومنها اشتق اسم الرجل وهو ينشد أغانيه في عروض عربي وقافية عربية هي عروض وقافية الأغاني العربية، كما كان يغنيها وينشدها المغني العربي الشهير ابن قزمان الذي توفي عام 1060 م، وقد أصبح بعد أن كان شاعر القصر في «بادايوز» مغنياً متنقلاً في الشوارع ومعه قرد إلا أن أزجاله في اللغة الدارجة ترجع إلى الأندلسية القديمة. وقد أصبحت فناً من فنون الشعر وانتشرت داخل البلاد وخارجها وأضحت فناً جديداً محبباً إلى الناس في قسطيلية حيث أثرت أثراً بعيداً في فنونها الشعرية، فنشأ الفن المعروف باسم «فيلشيشو» . وفي عام 1064 أحضر الهرزوج والعجوز مئات الفاطمات والعائشات والحبيبات من «بارباسترو» إلى «بواتييه» وكان ذلك في الوقت الذي أصبح فيه الابن كما يصوره مؤرخ عاصره «من أكبر رجال القصور في العالم ومن أعظم الذين يجرون وراء النساء فهو فارس يجيد القتال والغزل» . فإذا اهتدى باحث في غزلياته إلى بيت في اللهجة الإسبانية العربية أدرك مدى الأثر الذي تركته الثقافة العربية هناك.

وفي غرب أوربا سواء في «أكريتانيا» أو «بروفينس» أو «بنجويدوك» كانت الأرض خصبة حقاً لنمو الحضارة العربية وازدهارها، فقد انتشرت هناك وأينعت المدة جيلين وثلاثة وأربعة طيلة امتداد الفتوحات الإسلامية في «أكويتانيا» و «بروفينس» بما في ذلك إقليم الريفيرا، وهذه الثقافة العربية لم تنحسر عن تلك الأقاليم دون أن تترك أثراً. وأخيراً نجد اتجاهاً يقول إن لقيطاً وجد على باب دصر «أوريلاك» وأصبح عام 999 بابا في روما كان ابناً عربياً. وكيفما كان الحال فإن الفترة الممتدة من 890 حتى 975 كانت تعيش في «بروفينس» وغرب الألب مستعمرات مسلمة، وكثيراً ما كانت تنضم إليها أسرات جديدة قادمة من إسبانيا

ص: 443

وإفريقيا. وكما تزوج «فلهلم فون أكويتانيا» تزوج القيصر فريدريش الثاني، زواج الأول كان أميرة من «أرجون» ، كما أن «كونستنزا» الشقراء جاءت معها وصيفات إسبانيات وتروبادور وخمسمائة فارس. وكان هؤلاء الفرسان تحت قيادة أخيها «ألفونس فون بروفينس» ، وذلك عند زواجها بفريدريش الثاني. ففي ذلك الوقت كانت تتدفق الحضارة والثقافة العربية من إسبانيا والبروفينس على صقلية حيث كانت توجد أيضاً هذه الثقافة العربية. وهنا في صقلية ندرك ظاهرة جديدة إذ بينما نجد الحب العذري في بروفينس وجنوب فرنسا عبارة عن تقاليد وعادات اجتماعية، وفيه نجد المرأة النبيلة هي التي يخضع أمامها ويركع النبيل المحب الولهان، إذ بنا في صقلية السيدة التي يركع أمامها المحب هي تلك التي تعتقد أنها أهل لذلك. والقيصر نفسه وأبناؤه كانوا يحبون ومعهم جماعة من الشعراء يؤلفون الغزليات ويتفننون في الغناء، وكما كان الحال في بروفينس وألمانيا أخذوا هنا في صقلية يعنون بقول الشعر في اللهجة المحلية وهذه بدورها أصبحت الخلية للشعر الإيطالي القديم، وفي وقت قصير قال بترارك»:«لقد أصبح فن قول الشعر كما ولد من جديد في صقلية فهو ينتشر تدريجياً لا في إيطاليا فقط بل خارجها أيضاً» : وقال «دانتي» : «لذلك أصبح كل شيء ألفه أجدادنا في اللغة المحلية يدعى صقلياً» .

ففي أشعار هاتين العبقريتين الإيطاليتين «بترارك» و «دانتي» نجد حقائق هامة جداً وهي الاتفاق التام مع أشعار العرب، وهذا الاتفاق وقع عند بترارك تلقائياً دون تعمد ويرجح في «بولونيا» والأوساط الشعرية التي كانت ملتفة حول الملك الأسير «أنزيو» بن فريدريش الثاني الذي هو من أم ألمانية. وإذا كان الأثر العربي تلقائياً عند «بترارك» فعند «دانتي» جاء عن طريق اهتمامه واطلاعه على الشعر العربي والقصص الإسلامي والصوفية الأندلسية وفلسفة ابن رشد، وبينما نجد هذا الأثر أيضاً عند «بترارك» ، وبخاصة في الشعر الغزلي العربي القديم، نجد الوسائل التي أعانت «دانتي» على التأثر بالثقافة العربية كثيرة جداً منها القرآن الكريم ومؤلفات ابن عربي.

ص: 444

وفي الوقت نفسه نجد تيارًا قوياً يأتي من جنوب فرنسا إلى قلب أوربا إلى ألمانيا ويؤثر تأثيراً قوياً في أولئك الذين يؤمنون بالحياة الثانية، وأولئك الذين يفضلونها على الحياة الدنيا، وبذلك كانت هذه التعاليم مصدر بعث عصر جديد. وهكذا نجد فجر عهد جديد يبزغ ويدعو إلى المثالية الخلقية واستتبع هذا ظهور شعر جديد عظيم موضوعه الحب النبيل حب الفروسية. إن هذه الفكرة فكرة ثورية، ويكاد الإنسان لا يصدقها في هذا الزمن إذ إن المرأة بالنسبة لأنوثتها مصدر خطيئة وتغرى بارتكابها وعصيان الله.

والآن نجد المرأة المضطهدة عقلياً وجسمانياً تخرج من هذا الوضع الدنيء التعس حيث كان ينظر إليها على أنها وسيلة الشيطان للتنكيل بالرجل وإبعاده عن السير في الطريق المستقيم، فالمرأة أصبحت الآن ينظر إليها على أنها سيدة رفيعة يركع أمامها الرجال راجين رضاءها.

وهذه الظاهرة الجديدة قد ازدهرت وانتشرت، وإن تكن قد اختفت فإن بذورها ما زالت موجودة، وهكذا أصبحنا نجد بين عصر وآخر عصوراً مظلمة يقوى فيها خصوم المرأة أولئك الرجال المغرورون الذين يعتقدون أن حواء هي مصدر سقوط الرجل في الخطيئة، كما نجد عصراً تقدس فيه المرأة، وهذا العصر متأثر ولا شك بالعرب ونظرتهم إلى المرأة، وقد تأثر بهذا الشعور الجرمان.

وفي? يناير 1492 رفع الكاردينال «د. بيدرو جوانزاليس ده مندوزا» الصليب على الحمراء، وهي القلعة الملكية للأسرة النصرية، وكان ذلك إعلاناً بانتهاء حكم العرب على إسبانيا.

فهنا في غرناطة كانت قد انتهت العروبة في الأندلس إذ كانت قد شاخت وبلغت نهايتها، فقد قضى على قرطبة وبلنسية وإشبيلية والأقاليم الأخرى التي منيت بالهزيمة. وبضياع سيادة العرب وحكمهم انتهت هذه الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على القارة الأوروبية طيلة العصور الوسطى، كما انتهت كذلك المدنية والحضارة التي ظهرت عظمتها ومكانتها في الإدارة والتنظيم ورفع مستوى حياة

ص: 445

الشعب، إلى جانب الثراء الذي بلغته المدن ووفرة إنتاجها وتنوع صناعاتها وإصلاح أراضيها وإعدادها للزراعة، فازدادت المحاصيل وعم الرخاء وتنوعت الفنون وازدهرت الآداب وكثر قادة الفكر.

وقد احترمت لحد ما المسيحية المنتصرة للاتفاقيات التي تمت بينها وبين المسلمين وظل هذا الاحترام قائما مدة ثماني سنوات، وذلك بفضل كبير الأساقفة «تالافيرا» وتسامحه وإعجابه بالعرب وعظيم تقديره لهم، وقد أثر عنه أنه كان يقول: تنقص العرب عقيدة الإسبان، وتنقص الإسبان الأعمال الطبية التي يتصف بها العرب، وهذه الأعمال تنقص الإسبان لتجعل منهم مسيحيين حقيقيين، وقد وقع في ذلك الوقت ما أكد رأي كبير الأساقفة وأيده، ففي عهد خلفه كبير الأساقفة «يوان كيمينيس» وقعت أحداث قضت على المسلمين وبقايا ثقافتهم وحضارتهم، وتعرضوا لاضطهادات شنيعة، فقد حرم عليهم الإسلام وتعاليمه وأوامره كما حرم عليهم استخدام لغتهم العربية، وحتى نطق كلمة عربية أو أغنية عربية أو شعر عربي. كما حرموا عليهم أيضاً حتى العزف على الآلات الموسيقية العربية واستخدام الأسماء العربية وارتداء لباسهم القومي وزيارة الحمامات، وفرضت المسيحية على من يخالف هذا من المسلمين أشد العقوبات من سجن وطرد وحرق، والمسلم على قيد الحياة.

أما الذي تبقى من كنوز العرب وآثارهم بعد أعمال السلب والنهب والتخريب التي قام بها المسيحيون أو البربر - أما ما تبقى من كتب أدبية وعلمية فقد جمعه رجال الكنيسة من دور الكتب وقدموه طعاماً للنيران، اللهم إلا بعض المؤلفات الطبية فقد استثنيت من الحرق، وهكذا انتصر كبير الأساقفة وأنصاره وأنقذوا هذه الكتب، بينما أحرقت كتب يتجاوز عددها المليون والخمسة آلاف كتاب، وهي ثمار حضارة وثقافة عاشت ثمانية قرون.

هذه هي آخر قصيدة قيلت وأنشدها شعب يحب الشعر، هذه آخر قصيدة قيلت على أرض إسبانيا وهذه القصيدة أرفقت بالخطاب الذي أرسل إلى الإخوة في

ص: 446

شمال إفريقيا طلباً للعون والمساعدة، وهي للعلامة خاتمة أدباء الأندلس أبي صالح بن شريف الرندي ومطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهكذا نجد إسبانيا التي كانت أينع وأرقى بلاد العالم تخلو من سكانها العرب وتصبح صحراء جرداء، وبذلك تم النصر على العروبة، وذلك عن طريق مختلف أنواع العذاب والاضطهاد من حرق وقتل وتعذيب.

ص: 447