الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنصاب العبقرية العربية
قديسو الأطباء والصيادلة. .
من الخطأ أن تذكر «كورماس» على أنه الطبيب، ودميان هو الصيدلي.
حوالي عام 300 حينما عاش الأخوان العربيان، فيما يقال، لم تكن المهنتان الشافيتان قد انفصلتا بعد، كذلك الحال في العصر اليوناني. فالطبيب كان عادة هو الصيدلي وإن كان له مساعدون يحضرون له الدواء ويعدونه، فهم الذين كانوا يجمعون له البذور ومختلف أصناف العطارة، وكان هناك تجار يبيعون الأدوية والعقاقير والعطور والأصباغ الضرورية لحياتنا اليومية. لكن الطبيب كان هو الشخص الذي يناول المريض الدواء بيده، وذلك لأن تقسيم العمل والفصل بين المهن والحرف يصبح ضرورة عندما تتزايد هذه العقاقير وتتكاثر الأدوية، ثم كثر المخترعون وتزايد عدد المخترعات فتطلب هذا إعدادًا خاصًا لأنها أصبحت في الواقع أدوية جديدة.
فجميع هذه الحالات حدثت وبكثرة في الطب الإسلامي العربي. إن الدولة العربية لم تكن دولة ثقافة وعلوم فقط بل كانت أيضًا مركزًا للتجارة العالمية. ففي البلاد العربية كانت تلتقي الطرق التجارية العالمية التي كانت تجتاز البحار والقارات القريب منها والبعيد .. إنها كانت الشرايين التي تغذي الشرق والغرب والشمال والجنوب بمختلف أنواع السلع مستعينة بالسفن التي اشتهرت باسم «جنك» أو الجمال والبغال حاملة كنوز مختلف البلاد والعقاقير والأعشاب وغيرها من الأدوية
الحيوانية التي لم يعرفها الأطباء الأقدمون ولم يحفظوها في الجرار الفخارية، وقد جلبها العرب من الصين والهند وإفريقيا وسيلان (سرنديب) وملقا وسومطرة ومن شواطئ البلاد والجزر الأخرى.
ولم يكن هذا بالشيء الجديد فطرق القوافل قديمة قدم العصر الحجري. أما وقد تطورت الظروف فقد أصبح التجار أكثر خبرة ودراية بالتصدير والاستيراد وبخاصة فيما يتعلق بالأدوية التي حصلوا عليها كذلك عن طريق الرحلات الاستطلاعية الكشفية. وامتازت المستشفيات العربية الإسلامية بأن كل طبيب فيها كان يستطيع الحصول على أدوية جديدة ويجري تجاربه عليها وأن يسجل هذه النتائج في سجلات خاصة أعدت لهذا الغرض، ولم يكتف بالتسجيل فقط بل كانت هذه النتائج تنشر بين مختلف الأطباء والمستشفيات على أنها أدوية مجربة، وبذلك تقدم كهدية للطب للاستفادة منها. لذلك نجد عددًا كبيرًا من الأدوية التي كانت حتى ذلك الوقت غير معروفة مثل: القهوة والكافور والكبابة والمن والأرجان، واللبان، وجوز الطيب والعنبر والأسطراغالس وأخرى كثيرة جدًا، ومن ثم انتقلت بواسطة العرب إلى أوربا، كذلك تلك العقاقير التي لم يولها الإنسان من قبل اهتمامه، فقد أصبحت عقاقير طبية لا يستغني عنها الطب والصيدلة وأغراض أخرى.
وهكذا نجد الأطباء العرب يصفون القهوة لعلاج القلب كما يستخدمونها مسحوقة لعلاج التهاب اللوز والإسهال والجروح العسيرة الشفاء، والكافور لتنبيه القلب والكبابة لمكافحة الديدان. واستعاضوا عن الدواء القوي المألوف الذي ظل مستخدمًا عدة قرون، وكثيرًا ما كان يتسبب في إحداث القيء أو الإسهال والذي ورثه القوم عن اليونان بأوراق السنا والتمر الهندي والخيار الشنبر والعود والروند المهدئة الملينة المقيئة. وقد نادى باستخدامها ودعا إليها مختلف مؤلفات ماسويه والرازي كما نجد «محمدًا التميني» وهو أحد أبناء القدس يخترع مادة عالمية ضد التسمم، وقد خلدت هذه المادة اسمه وبحق إذ أطلق على المادة المسهلة التي اخترعها والتي تساعد على الهضم اسم مفتاح الفرح ومنعش الروح، وهناك أدوية أخرى يونانية كانت مستخدمة بالرغم من الأضرار الجسيمة التي قد تنشأ عنها فلما
تناولها العرب خففوها عن طريق عصير الليمون أو البرتقال أو إضافات أخرى. أما الأدوية التي كان يركبها جالينوس من خليط خاص فقد استعاض عنها ابن سينا بآخر أبسط لا ضرر منه. وفي كتاب القانون لابن سينا نجده يذكر ما لا يقل عن سبعمائة وستين دواء، وقد انتقلت جميعها إلى النباتات والصيدلة الأوربية. وبعض هذه الأدوية ما زالت محتفظة بأسمائها العربية حتى اليوم مثل: عنبر، دار صيني، زعفران، خشب الصندل، السني، الكافور، تمر هندي، عود، حشيش، خلنجان، جوز الطيب.
وفي الشرق عرفت مؤلفات أبقراط وجالينوس، كما جمع «ديوسكوريديس» كل ما يتصل بطب العالم القديم، وقد وصل هذا الكتاب إلى أوربا عن طريق بعثة دبلوماسية، فالقيصر البيزنطي قنسطنطين السابق الذي عرف كيف يؤثر على الحكام العرب، وأرسل عام 948 م بعثة خاصة مزودة بكتاب غني بالرسوم إلى حاكم الأندلس، وكان القيصر يطمع عن طريق هذه الهدية القيمة في النجاح في عقد محالفة مع عبد الرحمن الثالث ضد خليفة بغداد. ولما لم يوجد في الأندلس من يستطيع فهم يونانية هذا الكتاب فهمًا جيدًا لتقدير قيمة هذه الهدية الثمينة طلب عبد الرحمن من بلاط القسطنطينية إرسال مترجم إليه. وفي عام 951 م وصل إلى قرطبة الراهب نيقولا، وكان يستطيع التفاهم مع الأطباء هناك باللغة اللاتينية، وهكذا تعاون معهم وترجموا هدية القيصر إلى العربية.
لكن عرب الأندلس لم يكونوا متخلفين في علم النبات والعقاقير فالطبيب الخاص للخليفة وهو ابن جلجل ألف كتابًا عن مآخذ ديوسكوريديس، ومن ملاحظاته الخاصة وتجاربه الكثيرة تجمعت لديه المادة لوصف أكثر من ألف وأربعمائة عقار نباتي ومواد أخرى قد يستعاض بها. وعقاقير ابن البيطار (1197 - 1248) أعني ابن الطبيب البيطري، وهو أكبر عالم نباتي عربي جمعها عدا المواد الحيوانية والمعدنية.
فالكتاب يحتوي على جميع الصيدلة في عصره، وقد كان كتابًا عظيمًا جدًا علميًا وفنيًا، فابن البيطار لم ينقع بدراسة مؤلفات نحو مائة وخمسين عالمًا سبقوه
في البحث والدرس وذكرهم جميعهم ودرس كتبهم دراسة فاحصة ناقدة بل قام هو بتجاربه الخاصة عليها، فقد رحل من مالقا مسقط رأسه وزار جميع بلاد إسبانيا ومراكش وشمال إفريقيا ومصر وسوريا وآسيا الصغرى، وقد شاهد بعينيه، واقتنع، أكثر من ألف وأربعمائة مرة بكل ما دونه. ومن الجدير بالبحث حقًا العناية بابن البيطار عند درسه وتأليفه لنذكر كيف كان التأليف في أوربا، وكذلك كيف استفاد قنسطنطين الإفريقي والعلماء الأوربيون من هذه المصادر العربية الفنية.
فابن البيطار يذكر في مقدمة كتابه الجامع لمفردات الأدوية والأغذية ما يأتي:
«الحمد لله الذي خلق بلطيف حكمته بني الإنسان واختصه بما علمه من بديع البيان وسخر له ما في الأرض من جماد ونبات وحيوان وجعلها له أسبابًا لحفظ الصحة وإماطة الداء يستعملها بتصريفه في حالتي عافيته ومرضه بين الداء والغذاء. نحمده حمد الشاكرين ونصلي على أنبيائه أجمعين «وبعد» فإنه لما رسم بالأوامر المطاعة العالية المولوية السلطانية الأعظمية الملكية الصالحية النجمية لا زالت نافذة في المغارب والمشارق وأرزاقها شاملة لكافة الخلائق وبواترها ماضية في قمم الأعداء والمفارق بوضع كتاب في الأدوية المفردة نذكر فيه ماهياتها وقواها ومنافعها ومضارها وإصلاح ضررها والمقدار المستعمل من جرمها أو عصارتها أو طبيخها. والبدل منها عند عدمها قابل عبد عتباتها وغذى نعمتها هذه الأوامر العالية بالامتثال وسارع إلى الانتهاء إليها في الحال ووضع هذا الكتاب مشتملا على ما رسم به وعرف بسببه، وأودع فيه من ذلك أغراضًا يتميز بها عما سواه ويفضل على غيره بما اشتمل عليه وحواه.
(الغرض الأول) بهذا الكتاب استيعاب القول في الأدوية المفردة والأغذية المستعملة على الدوام والاستمرار عند الاحتياج إليها في ليل كان أو نهار مضافًا إلى ذلك ذكر ما ينتفع به الناس من شعار ودثار، واستوعبت فيه جميع ما في الخمس مقالات من كتاب الأفضل «ديسكوريديس» بنصه. وكذا فعلت أيضًا بجميع ما أورده الفاضل جالينوس في الست مقالات من مفرداته بفصه، ثم ألحقت بقولهما من أقوال المحدثين في الأدوية النباتية والمعدنية والحيوانية ما لم يذكراه ووصفت فيه
عن ثقات المحدثين وعلماء النباتيين ما لم يصفاه وأسندت في جميع ذلك الأقوال إلى قائلها وعرفت طرق النقل فيها بذكر ناقلها واختصصت بما تم لي به الاستبداد وصح لي القول فيه ووضح عندي عليه الاعتماد.
(الغرض الثاني) صحة النقل فيما أذكره عن الأقدمين وأحرره عن المتأخرين فما صح عندي بالمشاهدة والنظر وثبت لدي بالخبر لا الخبر ادخرته كنزًا ثريًا وعددت نفسي عن الاستعانة بغيري فيه سوى الله غنيًا، وما كان مخالفًا في القوى والكيفية والمشاهدة الحسية في المنفعة والماهية للصواب والتحقيق أو أن ناقله أو قائله عدلا فيه عن سواء الطريق نبذته ظهريًا وهجرته مليًا، وقلت لناقله أو قائله لقد جئت شيئًا فريًا. ولم أحاب في ذلك قديمًا لسبقه ولا محدثًا اعتمد غيري على صدقه.
(الغرض الثالث) ترك التكرار حسب الإمكان إلا فيما تمس الحاجة إليه لزيادة معنى وتبيان.
(الغرض الرابع) تقريب مأخذه بحسب ترتيبه على حروف المعجم مقفي ليسهل على الطالب ما طلب من غير مشقة ولا عناء ولا تعب.
(الغرض الخامس) التنبيه على كل دواء وقع فيه وهم أو غلط لمتقدم أو متأخر لاعتماد أكثرهم على الصحف والنقل، واعتمادي على التجربة والمشاهدة حسب ما ذكرت من قبل.
(الغرض السادس) في أسماء الأدوية بسائر اللغات المتباينة في السمات، مع أني لم أذكر فيه ترجمة دواء إلا وفيه منفعة مذكورة أو تجربة مشهورة.
وذكرت كثيرًا منها بما يعرف به في الأماكن التي تنبت فيها الأدوية المسطورة كالألفاظ البربرية واللاطينية وهي أعجمية الأندلس إذ كانت مشهورة عندنا وجارية في معظم كتبنا، وقيدت ما يجب تقييده منها بالضبط وبالشكل والنقط تقييدًا يؤمن معه من التصحيف ويسلم قارئه من التبديل والتحريف إذ كان أكثر الوهم والغلط الداخل على الناظرين في الصحف إنما هو من تصحيفهم لما يقرأونه أو سهو الوراقين فيما يكتبونه «وسميته» بالجامع لكونه جمع بين الدواء والغذاء واحتوى على الغرض
المقصود مع الإيجاز والاستقصاء، وهذا حين أبتدي وبالله أستعين وأهتدي فأقول. .
فهذه العبارة ليست ألفاظًا جوفاء أراد بها المؤلف التهويل والتضليل، فلدينا من الأدلة ما يثبت كيف كان هذا العالم دقيقًا ومفكرًا عميقًا، فابن أبي أصيبعة زميل ابن النفيس في دراسة الطب على الدخوار الذي كان تلميذًا أيضًا لابن البيطار، فقد ذكر أن أول مقابلة معه كانت في دمشق وفي عام 633 هـ، 1235 م وقد درس عليه ورافقه في بعض رحلاته النباتية. وكانت عادته أن يذكر ما قاله «ديوسكوريديس» في كتابه وفي لغة يونانية صحيحة كما درسها إبان مدة دراسته في بلاد الروم (آسيا الصغرى). وابن البيطار يذكر «ديوسكوريديس» كما أراد أن يعرض لوصف وخواص دواء من الأدوية، ومن ثم يتبع هذا الرأي بأقوال جالينوس. وفي النهاية يذكر آراء الأطباء المعاصرين سواء اتفقوا أم اختلفوا ثم يبين موضع الخطأ. ويذكر ابن أبي أصيبعة كذلك أنه كان عندما يعود إلى منزله فاحصًا ملاحظات ابن البيطار في مختلف مراجعها يجده صادقًا عالمًا بكل شيء، وأغرب شيء فيه أنه اعتاد أن يذكر الفصل والمناسبة الخاصة سواء عند ديسكوريديس أو جالينوس أو الآخرين، وقد جاءت الأدوية العربية مساعدات أخرى عظيمة الفائدة جدًا، وهذه المساعدات مدهشة من حيث الكثرة والاختراعات الحديثة وهي أصلا عبارة عن مخلفات أشياء ومواد أخرى لم تحقق غايتها العلمية.
إن العثور على حجر الحكمة الذي بواسطته يمكن تحويل المعادن غير الثمينة إلى ذهب، أعني المادة المؤثرة أو «الإكسير» الذي يمنح الإنسان صحة جيدة وعمرًا طويلا. فبلوغ هذه الغاية كان أمل الإنسانية وحلمها منذ عصور طويلة، وكانت تسعى جاهدة في سبيل تحقيقه. فقد استولى على الإنسان العجب عندما حاول صهر المعادن وأدرك بالمشاهدة تحولها فبلوغ هذا الهدف لم تحققه مصر أو اليونان أو فارس أو العرب، كما عجز عن تحقيقه أيضًا الكيماويون الأوربيون.
لكن هذه الآمال التي اختلطت بعناصر روحية غير مرئية تناولها العرب وعالجوها بوسائلهم العلمية المنتظمة. وذلك لأن العقيدة الإسلامية والإيمان بالله
الواحد الأحد، الملك القوي، عدو لهذه الخرافات وتلك الخزعبلات التي تتعارض والإيمان بالله العلي العظيم. كذلك نجد إلى جانب الإسلام وتعاليمه عاملا آخر وهو الكيمياء، وقد تسربت بصورتها الصوفية وطرقها الإعجازية إلى الجماعات الساذجة أو المشعوذة المهرة وهم كما يقول ابن اللطيف ساخرًا هناك ثلثمائة وسيلة لجعل الناس أغبياء، تحويل المعادن، وعزل المواد المؤثرة، وقد دفع هذا الوضع المسلمين المتعلمين إلى القيام ببحوث منتظمة وتحليل العناصر والتفرقة، والتعريف في معاملهم للوصول إلى شيء لم يصل إليه أحد من قبل «التجربة الكيماوية» .
فقد حاول اليوناني المفكر شرح وتعليل المعرفة عن طريق الفلسفة فباشر كيمياء نظرية وفلسفية طبيعية حيث نلاحظ هذه الحقيقة في الهليّنية الشرقية العملية المدركة للتجارب التي جمعت ونظمت وهذا هو نشأة العلوم الطبيعية. أما العرب فهم أول من ابتدع طريقة الملاحظة والملاحظة الدقيقة المنتظمة وتحت شروط صناعية تتكرر في كل وقت وتتغير وتراقب، وكان العرب هم سادة هذا الموقف. لقد خلق العرب الكيمياء التطبيقية التجريبية بمعناها العلمي المعروف لما ومن ثم طوروها، كما يعترف بذلك المؤرخ الإنجليزي «كستوم» ، حتى بلغت مكانة عالية رفيعة دفعت إلى اكتشاف الكيمياء العضوية وغير العضوية العصرية، وذلك بغية الوصول بها إلى المكانة التي بلغتها على يد العرب.
فعوضًا عن تحقيق الأمنية القديمة الخاصة بالحصول على الذهب بلغ العرب بالكيمياء مرحلة أخرى مكنتهم بفضل التجارب العملية التي قاموا بها من تحقيق تراكيب كيماوية جديدة، كما توصلوا إلى طرق كيماوية حديثة. ففي أواخر القرن التاسع نجد الكيمياء العربية تأخذ في الصعود فتبهر أنظار العالم بنورها الوضاء ولمعانها الباهر، وذلك بفضل شخصية عرفت باسم تنكري. وهذا الشخص الذي تدين له بالشيء الكثير جدًا يجب أن يكون سياسيًا من كبار زعماء وشيوخ الطائفة الإسماعيلية، هذه الطائفة المتحررة المسلمة المتطرفة، وقد عرف هذا العالم باسم «جابر» وكتب كسياسي كثيرًا من المؤلفات السياسية متسترة بأثواب الفلسفة
والعلوم، وكان «جابر» هذا شخصية مستقلة استقلالا عجيبًا جبارًا حقًا «لقد كان عالمًا مشهورًا ولو أنه عربي» . قال هذه العبارة رجل ممن اشتهروا بعداوتهم للعرب.
فعوضًا عن صهر المعادن التي كانت معروفة في عصره اخترع «جابر» وسيلة أخرى للصهر والتحليل وذلك عن طريق حامض ملح البارود أو حامض الملح وخليط من حامض الملح وملح البارود، و «جابر» هو صاحب جميع هذه الأحماض ومحضرها. وهكذا استطاع «جابر» ومن جاءوا بعده الحصول على مركبات عديدة من بينها أوكسيد الزئبق والزنجفر، والزرنيخ، والنوشادر، ونترات الفضة، والشب، وأملاح النحاس، والقلي الكاوي، ماء القلي، وأخرى كثيرة.
ويفرق العلماء بين الحامض والقلي كما لاحظوا زيادة وزن المعادن عند الأكسدة والكبرتة وأدركوا أولا أن النار تخمد عند انعدام الهواء. وإلى العرب يرجع الفضل في خلق العمليات الكيماوية الأساسية مثل: التبخير والتبلور والكلسنة والترشيح والتقطير، حيث فرقوا بين التقطير المباشر، وذلك الذي ينتج عن طريق الرمل أو الماء.
وقد استخدم الكيماويون العرب في عملياتهم هذه وتحاليلهم المنتجات الزجاجية العظيمة للعمال المصريين أو السوريين وبخاصة منتجات مصانع حلب حيث كانت مصنوعاتهم الزجاجية من أهم مواد التصدير العربية إلى الخارج وبخاصة سائر الأجهزة الكيماوية الزجاجية التي يحتاج إليها في سبيل إجراء التجارب وأنابيب الاختبار التي لا يستغني عنها معمل، وفي المدن السورية نجد الجهاز الذي اخترعه العرب للتقطير ألا وهو «الإنبيق» وكذلك «الأثال» . وهذان اللفظان يطلقان حتى اليوم على جزأي جهاز التقطير أعني العلوي والسفلي. وقد استخدم أبو القاسم عند التقطير جهازًا آخر، وهو عبارة عن فرن يشتعل فيه الوقود آليًا وكان يغلق الأواني الزجاجية المتداخلة في بعضها بعضا عن طريق لفها بقطعة من قماش الكتان.
وقد استخدم العرب الإنبيق لتنظيف الخل وعمل النبيذ والعرق من البلح عدا تطهير الماء غير النقي، وهكذا أصبح من الميسور تطهير الماء كيماويًا وإعداده للتجارة واستخدامه للدواء. وبهذه الطريقة كان الرازي أول ما استحضر هو حامض
الكبريتيك، ومن الوسائل الحامضة المحتوية على مواد نشوية أو سكرية استخرج الكحول (الكحل) ومعنى اللفظ الحرفي «الأكثر رقة» . والكحل هو في الأصل مسحوق الأنتيمون الناعم وكان يستخدمه الكحالون (أطباء العيون)؛ لذلك نجد طبيب العيون المشهور «علي بن عيسى» يلقب بلقب الكحال. وكان العرب يقطِّرون مختلف أنواع الزيوت في أوان فخارية مزججة.
ومن أكبر الأدلة التي تؤيد مدى نشاط العرب في الحقل الكيماوي هذه الاصطلاحات الفنية التي لا تحصى والتي ما زالت إلى اليوم مستخدمة بالرغم من عروبتها، وقد جاءت طريقها إلى مختلف اللغات العالمية، ولا يقتصر استخدامها على الكيماوي فقط بل حتى ربات البيوت أيضًا. ومن هذه الألفاظ: كيميا، الكيميا، الإنبيق، الشب، العصارة، والحنظل، والعصارة القلي، الكحل، الأثال، الملغم، النيل، الإثمد، العرق، لازورد، بدوار بنزين، لبان جاوي، بازهر = بنزهير، بورق، ترياق، درياق، (مكان) الدرياق، إكسير قلي، قلقثار، لك، نطرون، رهج الغار، صداع، طلق. . ومما هو جدير بالذكر أن الكيماوي كان عند إجراء تجاربه قد تتبقى لديه بقايا تصلح للعلاج فكان الرازي أول من استخدم الكيمياء لخدمة الطب، وهذا ما لجأ إليه فيما بعد «باراسيلسوس» .
لقد تنبه الرازي إلى أنه عن طريق تحسين وتشكيل المواد الأولية الطبيعية يحصل على أدوية جديدة لا توجد في الطبيعة، وبذلك رفع من شأن الكيمياء الطبية وساوى بينها وبين الأدوية المستخرجة من النباتات. لكن قبل استخدامها كان الرازي يجرب هذه العقاقير الناتجة عن تركيبات صناعية وبطرق صناعية في الحيوان. هكذا نجد التركيبات الزئبقية التي تطورت واستخدمت في العلاج، كما استطاع عن طريق التجارب التي أجراها على الحيوان استكمال استخدام الأفيون والحشيش من الناحية العلاجية وبخاصة في التخدير. ومن المواد العلاجية والأدوية التي أوجدها الرازي هذا الصنف الذي ما زال يحمل اسمه في فرنسا ويعرف باسم «بلانك رازي» ، وقد تطورت هذه التسمية في فم الشعب وأصبحت «بلانك ريزين» أي العنب الأبيض.
ويدين الطب أيضًا للكيمياء العربية للوصول إلى عدد كبير جدًا من الأدوية مثل الشراب المستخرج من تقطير بعض الأعشاب والمن أو السكر. وهذا النوع من الأدوية يلعب دورًا خطيرًا في شفاء كثير من الأمراض، وذلك لأن شراب الجلاب وهو هذا الشراب الحلو المرطب أكثر رقة عند طبخه وإعداده من الشراب العادي.
كذلك الفواكه المقندة في عسل أو سكر أو أجزاء أخرى من النباتات، لقد عرفتها أوربا عن طريق العرب فلفظ (قند هو لفظ عربي بمعنى سكر).
كذلك يطلق الرازي على نوع من أدوية علاج العيون «سيف» وهو يتعاطى في شكل ملبس، وقد تمكن الرازي من تحويل شراب الرب وهو هذا العصير النباتي إلى حبوب، وذلك عن طريق طبخ العصير؛ وبذلك جعله سهل التناول في الطريق وأثناء السفر.
وأدرك الرازي بعض المتاعب التي يقاسيها المرضى من جراء تجرع الدواء المعروف باسم «رب» فقد كان رديء الطعم، لذلك لمّا حوله إلى حبوب كساه بطبقة حلوة من السكر أي جعله ملبسًا كما هو الحال اليوم. من هذا النوع المعروف في أوربا باسم «دراجا» وإلى الرازي يرجع الفضل في استخدام عصير الفواكه وطبخه وإضافة العسل أو السكر إليه ومواد أخرى، وصنع منه ملبسًا، وذلك بصب هذا الخليط بعد طبخه على رخام وتشكيله حسب المطلوب.
أما العادة السائدة اليوم والخاصة بتذهيب أو تفضيض الحبوب (البلوعات) فترجع في الواقع إلى ابن سينا، وذلك لأنه كان يعتبر الذهب والفضة من المواد المنبهة للقلب أو الدورة الدموية، لذلك استخدم الذهب والفضة لكساء أو طلاء الحبوب التي تبلع.
وقد أظهر العرب براعة فائقة في إعداد الأربطة واللبخ والمعاجين والمساحيق، هذا عدا علاج الالتهابات التي تحدث تحت الجلد أو الخراجات ومختلف أنواع الأمراض الجلدية وسائر الجروح ووقف الأوجاع ومنع تقيح الجروح حيث أوجد العرب المضادات الحيوية على أساس البنسلين والإسبرجليوس وغيرهما من المواد
التي لم نعرفها إلا منذ عهد قريب، كذلك استخدام النبيذ وهو لا يقل فائدة عن غيره، والبن المطحون، وقد أحضر هذه الطريقة إلى أوربا كيماوي ألماني وأطلق عليها «فحم البن» . وقد ذكر أن العرب أنقذوا منذ ثلاثين عامًا حياته بالبن، ومن ثم استخدم البن في ألمانيا في شفاء الالتهابات المزمنة وقد جاء بنتائج عظيمة.
وقد حضر العرب أيضًا معاجين تجفيف الجروح تمامًا مثلها مثل اللبخة أو الرباط اللاصق. ومن الواضح أن مثل هذا الدواء الذي يشفي مختلف الأمراض كان يحضر بنفس الطريقة التي تستخدم اليوم في المعامل الحديثة، إن هذا الدواء فوق ما يتصوره الإنسان وهو يتطلب معرفة خاصة ونشاطًا خاصًا ومهارة خاصة من الشخص الذي يقوم بتحضيره.
وفرق العرب كذلك بين الذين يعدون الدواء وأولئك الذين يأمرون بإعداده وبتعبير أدق لقد أوجد العرب الصيدلي ومهنة الصيدلة. فالصيدلي بدراسته والمسئولية التي يتحملها يمتاز على تاجر الأدوية العادي في العصور الأولى، لذلك كانت منزلة الصيدلي منزلة عالية رفيعة.
وقد أسس العرب أول صيدلية عامة في القرن الثامن الميلادي، وكان ذلك أيام حكم الخليفة المنصور، فكان كل مستشفى يحتوي على صيدلية كاملة شاملة، وكانت أخرى في جنديسابور. وأوجد العرب أيضًا صيدليات محمولة ترافق المستشفيات المحمولة. وكانت الصيدليات وما إليها من مستشفيات محمولة عسكرية خاضعة منذ عهد الخليفة المأمون في القرن التاسع الميلادي للرقابة الحكومية، وكما كان يوجد أيضًا نقيب للأطباء، كذلك الحال مع الصيادلة إذ كانت توجد في كل مدينة نقابة للصيادلة لها نقيب، كان يختبره الصيادلة ويمنحهم الشهادات التي تخول لهم حق ممارسة المهنة، وقد كان ابن البيطار نقيبًا للصيادلة زمنًا طويلًا في القاهرة وخلفه «الكوهين العطار» (1)، وهو مؤلف كتاب ما زال إلى اليوم مشهورًا موجودًا في الشرق مستخدمًا في الصيدلة.
(1))) تعني المؤلفة كتاب الدستور في العلاج البرئي، ويعرف بالدستور البيمارستاني لأبي الفضل داود بن أبي نصر، أو البيان لكوهين العطار المتوفى عام 634 هـ.
وكانت الصيدليات خاضعة لتفتيش حكومي دقيق، فقد كان يراقبها موظفون من مصلحة الصحة، كما كانت تخضع في نفس الوقت لرقابة التموين وهي الرقابة التي كانت تشرف أيضًا على الطحانين والخبازين وتجار البن ومحلات المواد الغذائية مطالبة بمراعاة النظافة: نظافة المحال والأواني، وجودة البضاعة ودقة الموازين والمكاييل واللحوم في المذابح الواقعة خارج المدن والجزارة تجنبًا لوقوع تسمم في الأغذية أو انتشار وباء. وعند تحضير الأدوية يجب على الصيدلي أن ينفذ التعليمات المطلوبة بكل دقة، فهو مقيد بقوانين رسمية تتصل بالتحضير والمواصفات الطبية لأمثال: ماسويه وسابور بن سهل والعنتري وابن التلميذ وآخرين.
إن مراعاة القواعد الصحية والصحة العامة صورة مثالية احتذتها أوربا ففي الشرق نجد التعليمات الخاصة بتأسيس المستشفيات وتنظيمها والعناية بها خيرًا ألف مرة من مثيلاتها في أوربا، والتي أمر البابا جماعة روح القدس بتشييدها. أما موضوع تنظيم جماعة الأطباء والصيادلة فقد وضع في أيدي رجال يقظين حريصين مدركين لحاجة المرضى، كما أدركوا مباشرة الفوائد والمنافع الجليلة للتقدم العربي، ولم تحل العقائد الدينية دون إدراك هذا كما أن هذه العقائد لم تغلق عقولهم.
وحصل اللقاء في صقلية التي خضعت لحكم العرب مدة لا تقل عن 250 سنة، لذلك أدخل العرب إلى البلاد الأنظمة والقوانين واستقرت في البلاد، ولما جاء الملك النورماني روجر الثاني دعم وثبت ما وجده. ففي عام 140 أصدر قانونه الخاص باعتبار الأطباء، كما فعل من قبل الخليفة المقتدر في بغداد لكيلا تتعرض حياة الرعية للخطر لجهل الأطباء أو قلة خبرتهم.
وفي عامي 1231 و 1240 قيل عن القيصر فريدريش الثاني بعد أن استقر له الأمر إنه يفهم كل داء وكل دواء، لذلك كان في نشراته الطبية يرمي إلى إقرار جميع القوانين والأنظمة التي كانت سائدة بين الأطباء والصيادلة العرب المستوطنين في مملكته في صقلية.
وهذه المنشورات هي غالبًا تكرار لقوانين روجر الخاصة بامتحان الطبيب على يد مجلس من المدرسين في سالرنو، ومبالغة في جودة التحصيل زادت مدة الدراسة
وأصبحت ثمانية أعوام، كما أن السماح للطبيب بمزاولة الطب كان يمنح عن طريق مندوب للقيصر وفي حضوره الشخصي. وهنا أيضًا كما هو الحال في الدولة العربية نجد الحرص على الفصل بين الطبيب والصيدلي، كما نجد عناية كبرى توجه للإشراف على الصيدليات، وتحضير الأدوية والتعاليم الخاصة التي تحتم وجوب اتباع كتاب صيدلة رسمي والعمل بما جاء به. فهذا الكتاب كان يستخدم كمرشد لإعداد الأدوية، ووجوده يؤيد قيام هيئة للصيادلة والصيدليات عامة، وهذا ما يفترض القانون وجوده.
وفي الجهات الأوربية الأخرى كانت مثل هذه التعليمات موضع الاستنكار والعجب، إذ إن الدولة وليست الكنيسة هي التي تولت الإشراف على الحالة الصحية العامة، كما أننا نجد القيصر هنا سلك مسلك الخليفة والسلطان في الشرق وهو الذي يشعر كذلك بالمسئولية ووجوب النهوض بها للفائدة العامة من الناحية الصحية للرعية، وكان يدقق في وجوب مراقبة السماح للأطباء بمزاولة المهنة ويشترط في الطبيب الشرف والضمير والمهارة الكافية. ويجب أن يقسم الطبيب والصيدلي قسما أمامه، كما راقبت الحكومة الصيدليات، وفقدت الطائفة الدينية كل سلطان خاص، وكان هذا تحديًا صريحًا للكنيسة، كما أدرك هذا البابا جريجور التاسع ولم يسعه إلا أن يلتزم الصمت أمام القيصر وتحديه وبعض المساوئ التي يقترفها.
ثم أصبحت قوانين فريدريش الثاني هي الأساس الذي اعتمدت عليه القوانين الطبية فيما بعد، وهكذا نجد الخطوات الأولى تتخذ في أوربا، وفي العصور الوسطى المظلمة في سبيل الدخول في عصر جديد، وبفضل هذه القوانين وتلك الخطوات فقط نستطيع أن نقول إننا الآن حديثون متقدمون، كما أن الواقع أن القنطرة التي عبرتها أوربا لبلوغ هذه المرحلة شيدها العرب في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.
فتأسيس الصيدليات عامة وافتتاحها وإيجاد جماعة الصيادلة ومهنة الصيدلة بالمعنى العربي والمعنى الحديث في هذا المعنى العربي ظل فترة ما قائمًا في شمال
الألب. ففي الوثائق القديمة نجد لفظ «أبوتيكا» يستخدم للدلالة على حانوت العطارة، وفيما بعد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الصيدليات في معناها الحديث.
وتحدثنا المصادر العربية أيضًا أن فكرة تركيب الدواء اعتمدت قبل كل شيء على مجموعة الوصفات الرسمية، وهي المعروفة باسم «فرما كوبين» وهي التي يتحتم على الصيدلي مراعاتها والعمل بها وقد ظلت متبعة حتى القرن السابع عشر إذ كان الصيدلي يجهز الدواء حسب هذه المجموعة. وعن طريق التجارة وبخاصة مع البندقية انتقلت العقاقير والأدوية العربية إلى أوربا.
وساعد على نشر الصيدلة في أوربا قرب صقلية العربية من أوربا أولا وترجمة قنسطنطين الإفريقي للكثير من كتب الطب العربية ثانيًا، ولم يقف أثر هذه النهضة على صقلية وجنوب إيطاليا بل بلغ وادي الرين كما هو ثابت من مؤلفات «هيلدجارد فون رينجن» ، وبعد وفاة قنسطنطين بزمن قصير نجد عميد مدرسة سالرنو وهو «نيكولوس بريبوزيتوس» يضع كتابًا في المواصفات العلاجية على غزار الكتب العربية، وظل هذا الكتاب مستعملا لأجيال كثيرة من الصيادلة الذين ظهروا فيما بعد كما أصبح مثل كتاب «سركا إنستنس» الذي كان يستخدم كثيرًا، وهو يشمل على المواد المضادة لعالم آخر من علماء سالرنو. ولم يقف الأثر العربي عند هذا الطريق بل شق طريقه إلى أوربا أيضًا عن طريق بيزنطة، وذلك بفضل مؤلفات (شمعون زيت) و «نيكولاوس ميريبسوس» التي كانت متأثرة تأثيرًا قويًا بالمؤلفات العربية. وقد رحلت هذه الكتب البيزنطية إلى دور كتب الصيدلة في أوربا، ومن هذا الطريق أيضًا أثرت الثقافة العربية في الصيدلة.
ومن الجدير بالذكر أن الثقافة العربية في ذلك العصر كانت قد بلغت شهرة عظيمة جدًا في أوربا حتى إن الأطباء في شمال إيطاليا إذا ما أرادوا رفع قيمة مؤلفاتهم نسبوها إلى العربي ماسويه الصغير من بغداد وأنه هو مؤلفها وهو فيما يقال تلميذ ابن سينا الشهير العظيم فنسبوا كتابهم الخاص بالمضادات إلى المؤلف الذي صاغوا
اسمه صياغة لاتينية ألا وهو «جرابادين ماسويه الصغير» ، وهكذا ضمنوا الشهرة لكتابهم، وهذا دليل من الأدلة الكثيرة على محاولة تقليد الاستفادة من الصيدلة العربية.
ثم نجد العلوم العربية تخطو خطوات واسعة تكاد تكون خيالية، والفضل في ذلك يرجع إلى كيماوي مجهول عاش في القرن الثالث عشر، ومن إنتاجه العلمي نتبين إلمامه التام بجميع المراجع العربية. وقد اشتهر هذا الكيماوي العربي باسم «أبقراط الكيميا» وهو «جابر» وفي اللاتينية «جيبر» ، وقد فطنت إلى مكانته العلمية سائر الهيئات حتى الأوربية منها وصار اسمه في العربية ضمانًا علميًا رفيعًا لكل بحث من البحوث، وأن البحث بعيد عن التهويش والسفسطة.
لكن شهرة كل من الرازي وابن سينا الشعبية العامة كان يجب استغلالها ليحظى بالوصول إلى الهيئات العلمية العليا ومختلف الدوائر العلمية العربية التي كانت تقدس الرازي وابن سينا. فالمعروف أن ابن سينا كان خصمًا عنيدًا للكيمياء، والذي حدث أن أية محاولة لكسب أصدقاء وأنصار للمؤلفات الكيميائية التي تحمل اسمه كانت محاولة رابحة.
ولعل أول كتاب في الصيدلة بالمعنى الحديث هو ذلك الذي صدر لمؤلف تسمى باسم عربي، وهو طبيب إيطالي كان يدرس الصيدلة في القرن الخامس عشر في مدرسة سالرنو، فقد تسمى هذا الإيطالي باسم «صلاح الدين» وكان يحترم ويقدر أولئك الذين كانوا يشجعون العلم والعلماء والذين كان هو في خدمتهم، فاقترح الاستفادة من تلك الكتب التي لا يستغني عن اقتنائها صيدلي، وكان ثلثا عدد هذه الكتب التي يجب أن تتكون منها المكتبة الصيدلية عربيًا.
ولا عجب في هذا فالخمسة المشهورون في العلوم الطبيعية في أوربا في العصور الوسطى كانوا يقومون على أكتاف العرب. وهؤلاء الخمسة هم الفرنسي «فنسنت ده بوفيه» وقد توفي عام 1264، والأسبانيان «ريموندوس للوس» (1232 - 1316)، و «أرنلد» أحد أبناء «فيلا نويفا» (1235 - 1312) ثم الجراف الألماني «ألبرت فون بولشتيدت»
(1193 - 1280)، وهو يسمى «ألبرتوس مجنوس» ، والإنجليزي «روجير بيكون» (1214 - 1292) وكانوا جميعهم يدرسون في باريس مؤلفات كبار العلماء العرب.
وقد أقبل جميعهم على دراسة الكيمياء، وقد أعمتهم فكرة البحث عن حجر الحكمة الذي يحول المعادن ذهبًا، وكذلك أثره في إطالة العمر. وكان العرب هم المرجع الوحيد لهؤلاء الباحثين عن حجر الحكمة، وكان هذا بدهيًا، لذلك كان هؤلاء الكيمائيون في حالة تصوف ويقظة مثل «ريمون ليل» أو «ألبرت» الذي كان يتظاهر بالسعي وراء العلم والحقيقة العلمية فقط. ولم يهتد أولئك العلماء إلى نتائج جديدة أو مستقلة، وقد انتهت جميع محاولاتهم إلى تأييد ما توصل إليه العلماء العرب، وكان الأوربيون عبارة عن مترجمين فقط.
اثنان من بين هؤلاء العلماء حرصا على الاستقلال العلمي وحرية البحث، وهذا الاثنان نظرًا إلى الصيدلة العربية والكيمياء العربية على أنهما مادة حية وهذه المادة يجب أن تخضع للبحث والتجارب، وبذلك فقط يستطاع إنقاذ الصيدلة والكيمياء والعلوم العربية من الضياع. فهذا العالمان المتحرران اللذان سارا في نفس الطريق الذي سبقهما إليه الرازي، هما «روجير بيكون» و «أرنلد» المنتسب إلى مدينة «فيلانويفا» . لكن من الناحية العلمية لم يتفوق «بيكون» على زملائه المعاصرين ففكرة التجربة أخذها عن العرب لكن أخذها نظريًا أكثر منها علميًا، وهذا هو المرشد الذي هدى اللاحقين من العلماء إلى الاتجاه إلى الكيمياء التجريبية.
لذلك كان كل من «روجير بيكون» و «أرنلد» في عصرهما كالنجمين الساطعين اللذين خرجا من العصور الوسطى المظلمة إلى النور، فهنا نجد هذه الروح التي انبعثت من حكمة الوزير العربي الطبيب الشاعر ابن الخطيب الغرناطي حيث قال في صدد الحديث عن العلم:«ثم المسائل المنقولة عن العلماء الجلة، والتدرب في طرق النظر وتصحيح الأدلة، وهذه هي الغاية القصوى في الملة .. » .
إن الأثر المباشر للعرب على أوربا في الصيدلة ظل طيلة عصري الإنسانية والنهضة، بل ظل تأثيره قائمًا حتى القرن التاسع عشر. ففي عام 1758 أعيد نشر
أجزاء من مفردات ابن البيطار. وفي عام 1830 استخدمت مراجع عربية كمصادر أساسية للصيدلة والوصفات العلاجية الأوربية. وفي عام 1832 أعيد نشر كتاب عربي فارسي يرجع إلى القرن الثاني عشر وقد جمع هذه المخطوطة الأرمني «مخيثار» .
ثم تنقطع الصلة الأدبية.
لكن حتى اليوم فكل مستشفى بنظامه وكل معمل كيمائي وكل صيدلية وكل مخزن أدوية إنما هو نصب تذكاري للعبقرية العربية. وكل حبة مسكرة أو مفضضة إنما هي تذكار صغير مرئي من الطبيبين العربيين العظيمين وأستاذي أوربا ألا وهما الرازي وابن سينا.