المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌شعب يدرس ولا يفوتنا أن نذكر أن وسط أوربا كان فيما - شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا

[زيغريد هونكه]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌شمس الله

- ‌مقدمة المؤلفة

- ‌مقدمة المترجم

- ‌الكتاب الأولالبهار اليومي

- ‌أسماء عربية لمنح عربية

- ‌أوربا تقاسي الحرمان لموقفها السلبي من التجارة العالمية

- ‌البندقية تحطم الحصار

- ‌في مدرسة العرب

- ‌الكتاب الثانيالكتابة العالمية للأعداد

- ‌ميراث هندي

- ‌البابا يمارس الحساب العربي

- ‌تاجر يعلم أوربا

- ‌حرب الأعداد

- ‌الكتاب الثالثالأبناء الثلاثة لموسى الفلكي

- ‌الابن الأول صانع الآلات

- ‌الابن الثاني لموسى «الفلكي»

- ‌الابن الثالث الرياضي

- ‌وينتمي إلى نفس الأسرة أيضًا علم الفلك

- ‌الكتاب الرابعالأيادي الشافية

- ‌الشفاء العجيب عند الإفرنج

- ‌مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم

- ‌أحد نوابغ الطب العالميين في مختلف العصور

- ‌قيود الماضي

- ‌يقظة أوربا

- ‌قال ابن سينا

- ‌أنصاب العبقرية العربية

- ‌الكتاب الخامسسيوف العقل

- ‌المعجزة العربية

- ‌أوربا تائهة في دياجير الظلام

- ‌شعار المنتصر

- ‌عملية إنقاذات قيمة تاريخية

- ‌الترجمة مجهود ثقافي

- ‌ولع بالكتب

- ‌شعب يدرس

- ‌الكتاب السادسموحد الشرق والغرب

- ‌دولة النورمان .. دولة بين عالمين

- ‌كانوا أعداء فألف بينهم

- ‌سلطان لوكيرا

- ‌على الأسس العربية

- ‌محادثات على الحدود

- ‌ميلاد نظرة جديدة للعالم

- ‌الكتاب السابعالفنون العربية الأندلسية

- ‌الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»

- ‌إن العالم شيد لي مسجداً

- ‌الموسيقى تساير الحياة

- ‌زخرف العالم الوضاء

- ‌شعب من الشعراء

- ‌المسالك في أوربا

- ‌الخاتمة

- ‌تعليقات المترجم

- ‌قرتمن

- ‌قرنفل

- ‌جوز الطيب

- ‌برسيفال

- ‌قهوة

- ‌مات

- ‌الشك

- ‌الصفة

- ‌مطرح

- ‌قرمزي

- ‌قناد

- ‌مستقة

- ‌قطنية

- ‌طاسه

- ‌سكر

- ‌غرافة

- ‌ليمون

- ‌الكحول

- ‌برقوق

- ‌البنان

- ‌شربات

- ‌نارنج - أورنج

- ‌الخرشوف

- ‌برد

- ‌أرز

- ‌سبانخ

- ‌القرفة

- ‌العرق

- ‌مخا

- ‌ديوان

- ‌تسفتشجين

- ‌بيج أرمودي

- ‌عثماني

- ‌قبة

- ‌شطرنج

- ‌شيكيش

- ‌قفة

- ‌صفى

- ‌جدامس

- ‌جلا

- ‌بركان

- ‌قطن

- ‌موصلي

- ‌مخير

- ‌الشف

- ‌زيتوني

- ‌تفت

- ‌أطلس

- ‌الدمشقي

- ‌زعفراني

- ‌ليلا

- ‌ترياق. درياق

- ‌جنزبيل. زنجبيل

- ‌كمون

- ‌زعفران

- ‌كافور

- ‌بنزين

- ‌قلى

- ‌نطرون

- ‌صداع

- ‌بورق

- ‌سكرين

- ‌عنبر

- ‌لك

- ‌النيلة

- ‌قز

- ‌طلق

- ‌بطن

- ‌خلنجان

- ‌مر

- ‌سمسار

- ‌جبة

- ‌داو

- ‌دنجية

- ‌قربلة

- ‌فلوكة

- ‌ميزان

- ‌الحبل

- ‌دار الصناعة

- ‌أمير البحر

- ‌قلفاط

- ‌عوارية

- ‌كبر. كبار. قبار

- ‌ياسمين

- ‌ورد

- ‌خيرى البر

- ‌أسليح

- ‌فورسيسيا

- ‌بلد شين

- ‌بلوزه

- ‌جبة

الفصل: ‌ ‌شعب يدرس ولا يفوتنا أن نذكر أن وسط أوربا كان فيما

‌شعب يدرس

ولا يفوتنا أن نذكر أن وسط أوربا كان فيما بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلادين مسرحًا للأمية التي بلغت نسبتها خمسة وتسعين المائة.

وبينما حاول كارل الأكبر (شارلمان) وهو في سن متقدمة تعلم الهجاءة، وحتى هذه التوطئة قد أعيته. وبعده بعدة قرون نجد الأشراف الأوربيين يتحايلون على التهرب من تعلم القراءة والكتابة هذا الفن العسير، وفي الأديرة كان قليلا جدًا عدد الرهبان الذين يستطيعون القراءة والكتابة، بل في دير القديس جالين لم يوجد في عصر من العصور راهب واحد يقرأ ويكتب، وقد كان ذلك عام 1291 م -إذ بنا في نفس العصر نجد في قرى ومدن البلاد العربية آلاف الآلاف من المدارس التي تضيق بالصبية من الجنسين وهم في سن السادسة والحادية عشرة وكانوا يتعلمون القراءة والكتابة، قراءة القرآن الكريم وكتابته، إذ كانوا يستخدمون لهذه الغاية ألواحًا خشبية ومدادًا أسود بنيًا، ومن ثم يتلون القرآن سورة سورة بعد أن يحفظوها، ومن ثم يتقدمون في الدراسة تدريجيًا ويتلقنون النحو والصرف. وكان السر في تأسيس هذه المدارس الرغبة الصادقة في إبداء حسن إسلام أولئك الذين يعتنقونه. فقد نشأت هذه المدارس حرة وهبة وليست قسوة وجبرًا، وإن إتقان القرآن قراءة وكتابة كان من مقومات الثقة في الدين وفهم كتاب الله عز وجل. وهنا نجد البون شاسعًا بين الشرق والغرب وموقف الشرقيين والغربيين من الكتب المقدسة. فكتاب المسيحيين المقدس كان حكرًا على رجال الدين فقط. أما المسيحي العادي فكان يجهله جهلا تامًا، فرجل الدين فقط هو الذي يقرأ ويفهم لغة الوحي. ومنذ عام

ص: 296

800 م يعظ الواعظ المسيحي في لغة لاتينية لا يفهمها الشعب، لذلك قرر المجمع المقدس الذي انعقد في «تور» أن تكون لغة الواعظ هي لغته القروية الدارجة الساذجة، ومن هنا نتبين أنه حتى بين رجال الدين لم تتطلب الكنيسة الثقافة الدينية العميقة، وكانت تكتفي من رجال الدين بهذه الثقافة اللاتينية الضحلة والتي بعثتها النهضة العلمية الكارولينية. أما الشعب المسيحي وقتذاك فلم يكن في حاجة إلى دراسة اللاتينية، وذلك لأن تثقيف الشعب لم يكن من الأمور المرغوب فيها في ذلك العصر

أما في العالم الإسلامي فقد كان الحال غير الحال فكان من مصلحة الدولة العربية نشر الثقافة والمعرفة بين رعاياها، فالأطفال من جميع الطبقات كانوا يقصدون المدارس الأولية نظير نفقات ضئيلة جدًا، وعندما شرعت الدولة في تعيين المدرسين منحت المجانية الكاملة لغير القادرين، هذا وفي جهات أخرى كان التعليم مجانًا لسائر الطبقات حتى في إسبانيا. ففي قرطبة كانت توجد ثمانون مدرسة عامة، وفي عام 965 م أسس الحكم الثاني سبعة وعشرين مدرسة أخرى لأولاد الفقراء، وفي القاهرة أسس المنصور قلاوون مدرسة بالمستشفى المنصوري خاصة بالأيتام كما قرر لكل طفل يوميًا رطل خبز وجلبابًا للشتاء وثانيًا للصيف. وكان كذلك للبدو مدرسون متنقلون. إن ثغرة واحدة لم توجد في العالم الإسلامي وكان يجب سدها. فضلا عن أن التعليم عند العرب لم يبق في حدوده الأولية الضيقة وذلك لأسباب سياسية فالخصومة بين المعارضة وأحزاب الحكومة ومنافسة كلّ في كسب جموع الشعب إلى صفوفه أدت إلى العمل على رفع مستوى الشعب علميًا بغض النظر عن اختلاف الطبقات، وقد دفعت هذه الفكرة إلى التنفيذ في القرن العاشر الميلادي الأحزاب اليسارية لكي تتمكن من القيام بحركة دعاية واسعة ضد المحافظين الذي اهتمت برامجهم السياسية بالمطالبة بتعميم تعليم مختلف الطبقات، وأسسوا المدارس العالية وجعلوا التعليم فيها مجانيًا. فلم يسع الحكومة إلا أن سارعت وافتتحت مدارس أخرى لتقاوم دعاية خصومها، وهكذا انتشرت المدارس العالية في مختلف المدن الإسلامية وكان الطلاب يقطنون في المدارس ويتنازلون شهريًا مرتبات لسد حاجاتهم ونفقاتهم الخاصة. وكانت الطوابق

ص: 297

الأرضية في المدارس معدة للمطابخ وإعداد الطعام وتناوله، كما أنشئت بهذه الطوابق أيضًا الحمامات. أما حجر الدرس فكانت في الطابق الأول، وكانت تحيط بالغرف الدهاليز والمكتبة وكلها تقع حول النافورة الموجودة في الردهة الداخلية.

وهنا كان يتعلم الشبان العرب الطموحون: القرآن الكريم، والحديث الشريف والنحو والصرف، وفقه اللغة والفصاحة والبلاغة والآداب، والتاريخ، وعلم الشعوب، والجغرافية والمنطق، والرياضيات، وعلم الفلك. فكان المنهج الدراسي منهجًا غنيًا، كما كانت طريقة التدريس تعتمد على المناقشات التي كانت تثار بين الطلاب وأساتذتهم. وإلى جانب ذلك كان هناك مساعدون من الخريجين أو المتقدمين لمعاونة الطلاب على فهم المشاكل وتحصيل المواد، فكان طنين المذاكرة والتحصيل كطنين النحل إذ كان الطلاب يجنون شهد المعرفة من ألف زهرة من أزهار الحكمة.

ومن هؤلاء الطلاب كانت تتكون طبقة القادة سواء في الدين أو السياسة. ويذكر أن أحد الأساتذة عاد يومًا من جولة من جولاته الاستطلاعية فذكر أنه لم يتوجه إلى مدينة أو مكان ما إلا وجد تلميذًا من تلاميذه قد تقلد منصبًا هامًا.

وكان بعض الفلاحين يسلمون أولادهم إلى مدرسين خصوصيين لتعليمهم مقابل مكافأة تدفع نقدًا أو حبوبًا، ويتولى المدرس تدريس الطلاب في بيته الخاص على أن يثقفهم الثقافة التي تؤهلهم لتقلد وظائف خاصة في الدولة، كأن يصير الطالب قاضيًا أو موظفًا من موظفي القصر. ولا تقتصر مهمة المدرس الخاص على تلقين الطالب العلوم نظريًا، بل كان يتولى أيضًا تدريبه عمليًا كأن يرافقه في الأسواق ويشاركه في شراء الأشياء أو زيارة الحمامات أو دخول المسجد. كذلك قد نقرأ أحيانًا كيف أن أستاذًا يشكر تلميذه الذي عنى به أثناء مرضه، فباع الطالب حماره الوحيد ليشتري بثمنه دواء لأستاذه، أو كيف أنه كان يحمل أستاذه المريض على كتفه إلى الحمام الساخن. وجرت عادة بعض الآباء أنهم كانوا يحضرون مربين خصوصيين لتربية أبنائهم في منازلهم. وإن طفلًا نابغًا مثل ابن سينا الذي حفظ القرآن وهو ابن عشر سنوات، كما حفظ كثيرًا من الكتب اللغوية عن ظهر قلب قد

ص: 298

تخطى حدود المدرسة وضاقت هي به. فقد بدأ حياته الدراسية بالشريعة وكان ذلك على يد مدرس خاص، كما تعلم الحساب على يد تاجر فحم، ثم نجد والده يستدعي أبا عبد الله النثيبي إلى منزله وكان يدعي معرفة الفلسفة وأخذ يدرس الطفل النابه إيساجوجي فورفوريوس. لكن سرعان ما فاق الطالب المدرس وأجاب عن الأسئلة أحسن منه ثم شرع يدرس المنطق فأدرك ابن سينا أن أستاذه لا يفقه شيئًا من هذا، فشرع ابن سينا يدرس المنطق بمفرده مستعينًا بتفسير خاص كما استعان بالمدرس لفهم أويقليد، فقرأ عليه خمس أو ست صفحات وواصل هو بمفرده دراسة الباقي. ثم أقبل على الماجسطي، وما كاد ينتهي من المقدمة حتى أقبل على الهندسة، وقال النثيبي: في استطاعتك أن تقرأ هذا الكتاب مستقلا ومن ثم تشرحه لي لأصحح لك أخطاءك. ولم يدم هذا الحال طويلا إذ غادر النثيبي بخارى فأقبل ابن سينا باشتياق على دراسة الطبيعة وما بعد الطبيعة، كما شرع في دراسة الطب على عيسى بن يحيى المصحي فقرأ أصعب الكتب ثم قال فيما بعد إن الطب ليس صعبًا، وقد ألم به في زمن قصير، إذ كان عمره وقتذاك ست عشرة سنة. وصرف نحو عام ونصف عام في التوسع في دراسات علمية أخرى وبخاصة المنطق والفروع الأخرى للفلسفة ومراجعتها. وفي ذلك الوقت شفى ابن سينا السلطان الذي اختاره عملا بنصيحة أطبائه المسنين. وقد استكمل دراساته في مكتبة القصر وفي المستشفيات؛ ولما بلغ الثامنة عشرة كان قد أتم دراسته. وكأنى بالفوز العظيم والتوفيق الكبير في تحصيل العلوم من خصائص هذا العبقري.

أما الطريق العادي لكل طالب فهو التوجه إلى المسجد، إذ إن المساجد ليست دور عبادة فقط بل دور علم وتعليم أيضًا، والعلم كما يقول الرسول فوق العبادة العمياء. ألم يقل النبي هذا الحديث:«مِدَادُ أقلامِ العُلَمَاء خَيْرٌ مِن دِماء الشهداء» !

ولا شك في أن روما تدخل صاحب مثل هذا القول في زمرة الزنادقة.

ففي المساجد يجلس إلى جوار الأعمدة الدقيقة الجميلة الأساتذة وحلقة الدرس من الطلاب. وهم يلقون محاضراتهم والأبواب مفتوحة والحضور مباح للجميع. لكل رجل وكل امرأة، ولكل فرد الحق في توجيه الأسئلة إلى الأستاذ وهذا ممّا

ص: 299

يضطره إلى الدقة في التحضير والاستعداد للمحاضرةـ ولكل فرد الحق في أن يحاضر إذا ما شعر بأنه متمكن في مادته لكن أسئلة الطلاب تحول دون وصول الأدعياء إلى مكان الأستاذية.

ففي صحون المساجد كان للطالب الحق في أن يستمع إلى من يشاء من الأساتذة ولا سيما المشهورين منهم والذين يفدون من مختلف أرجاء العالم العربي، فالعلماء الذين هم في طريقهم إلى الحج ينتهزون فرصة مرورهم بمركز شهير من مراكز البحث والدرس فيلقون دروسهم، فنجد هؤلاء ومنهم المؤرخ والجغرافي والنباتي والمحدث والأديب وهم من بين أبناء البلاد العربية الممتدة من المحيط الأطلسي إلى بحر الخزر، فكان هؤلاء العلماء يقصدون أساتذة دمشق أو بغداد وقد يكونون هم أيضًا أستاذة الأزهر في القاهرة أو القيروان أو فاس أو الزيتونة في تونس، فهؤلاء الحجاج كانوا ينقلون في الوقت نفسه نقل الصحافة فهم ينقلون ما يجري في طليطلة أو الري وهكذا من البصرة حتى فاس وقرطبة.

وما أسهل السرقات الأدبية والعلمية في مثل هذه الرحلات وتلك الأسفار إذ تنتقل الآراء العلمية الجديدة والنظرية الخطيرة من فم إلى فم، ويذكر يحيى بن عيسى في شيء من البساطة أنه سمع عن أبي بكر البغدادي كيف أن الشيخ سعيد بن ياقوت أعلن هذا الرأي في مجلس عام.

إن العربي لن يلوك لسانه أفكار الآخرين، فكل من يريد استخدام كتاب لمؤلف آخر في الدرس، عليه أن يحصل قبل كل شيء على موافقة كتابية من المؤلف، فليس من المسموح به أن أحدًا يستشهد في محاضراته ولو شفويًا بأقوال أستاذه دون أن يكون قد حصل على تصريح مكتوب، كما لا يجوز لأحد أن يستشهد أو ينشد أشعار شاعر دون رضاء الشاعر عن هذا، كما هو الحال في الجاهلية حيث كان للراوي الحق فقط في رواية ونشر شعر شاعره. هكذا كان احترام حقوق المؤلفين أو الشعراء أو آراء الآخرين. فلكل مؤلف حق حماية مؤلفاته طيلة حياته، وبعد وفاته ينتقل هذا الحق إلى ورثته. كما أن له الحق في أن يوصي بأن يرثه أبناؤه أو أحد تلاميذه.

ص: 300

فيروى عن أستاذ أنه كان سخيًا في منح الإجازات الدراسية لتلاميذه حتى قال فيه تلاميذه: إنه يغطي الأرض بالشهادات خاصًا بما يسمع وإجازات للتدريس كذلك.

والتصريح بنشر ما يقرأ أو يسمع يعتبر دليلًا على كفاية الطالب، والذي يحصل على الإجازة يحصل في نفس الوقت على حق التدريس علانية أي إجازة التدريس «ليسنتيا دوكندي» ، وهكذا نجد حق التأليف أو الاختراع العربي الذي كان يلازم إنشاء المدارس العليا العربية ينتقل إلى الجامعات الأوربية، وهذا هو أصل الدرجة العلمية الجامعية المعروفة باسم «ليسنتياتين» والتي ما زلنا نجدها حتى اليوم في الدرجة اللاهوتية ليسانس اللاهوت، وربما أيضًا «البكالوريا» ، وهي تقابل في العربية «الحق في تفويض آخر بالتدريس» ، أعني «بحق الرواية» .

ومما لا شك فيه أن الجامعات العربية التي أينعت وازدهرت منذ القرن التاسع الميلادي، ومنذ عصر «جربرت» تغري وتجذب بعض المتعطشين الأوربيين إلى العلوم والمعارف، فكانوا يتسللون سرًا عبر جبال البرنات، ولا غرابة في هذا فالجامعات العربية كانت قد بلغت مرتبة رفيعة جدًا، وما كانت هناك في مختلف أنحاء العالم جامعة تنافسها، لذلك نظر إليها الأوربيون على أنها الصورة المثالية للجامعات عامة وبخاصة الأوربية، فلا غرابة إذا رأينا الأوربيين يقلدونها فيقتبسون عن الجامعات العربية الإجازات العلمية ونظام الكليات وطرق التدريس. جميع هذه الهبات وهبها العرب للأوربيين.

لم يقدم العرب لأوربا البناء فقط بل محتوياته أيضًا أعني العلوم والمعارف. فقد أهدوا لأوربا مواد هذه الدراسة اليونانية، فالعرب قد اعترفوا بأهميتها وضرورة تدريسها لذلك أعطى العرب أوربا العلوم اليونانية والفلسفة اليونانية.

فهذا المدح القيم الذي يتجاهل ويتعامى عن الإنتاج العربي العلمي، هذا الإنتاج العربي الذي هو الدعامة التي تقوم عليها المعرفة الأوربية، والذي يتفوه به الأوربيون جريمة وإثم لا تجاه العرب فقط بل تجاه الحقيقة ذاتها.

ص: 301

وسيطًا كان أيضًا اليونانيون والهنود فالعالم اليوناني، «تاليس» وكذلك «فيثاغورس» يدينان بالفضل في معرفتهما الرياضية وما حصَّلاه لمصر، وفي الفلك لبابل. فهذان العالمان اليونانيان أخذا عن مصر وبابل هذه الأصول وتلك القواعد، فاليونان ورثة، فقد ورثوا الشرق القديم، واليونان هم الوسطاء الذين نقلوا عن الشرق القديم علومه، ومن ثم قدموها إلى الشعوب الأخرى، كما هو الحال مع العرب فهم وسطاء اليونان والشرق القديم ومن شعوبه انحدروا، وأوربا هي وريثة العرب والعالم القديم.

وكل عصر يكيف العلم القائم ويشكله كما يريده أبناء العصر، فإن كان هؤلاء من الرجال الأفذاذ تناولوا هذا العلم وأبدعوا فيه فنحن نجد «تاليس» يدرك في القواعد الهندسية المصرية الأصول العلمية العامة، وهكذا نجد العقلية اليونانية تتجلى في المادة التي كانت خاصة وتجعلها شيئًا عامًا وتخرج من حقل التجارب الواقعية إلى العملية المجردة، وهذه خاصية امتازت بها العقلية اليونانية. والواقع أن كل ثقافة سواء المصرية القديمة أو البابلية تكوِّن وحدة مستقلة مثلها مثل الثقافة العربية، أو الأوربية حيث نميز في شيء من الوضوح بين حالتي الثقافتين. ومن الخطأ أن يستخدم شخص ما، إذا ما أراد دراسة ثقافة بعينها، نفس المقاييس لكل الثقافات التي يعرض لها.

كان العنصر الهام في العقلية اليونانية يهتم بإثبات جوهر الشيء، حتى إذا ما تعب من السير في طريق التجارب واحتقر العمل اليدوي في الحقل مثلا واعتبر أن مثل هذا العمل هو من شأن العبيد لا الأحرار، فإن هذا اليوناني يطير إلى جبل أوليمب باحثًا عن القوانين العامة والأفكار التي مكنته من بلوغ منتهاه وإدراك الخلود، لكن تنقصه القدرة على المقابلة عن طريق الملاحظة فالتجربة واقعية. بدهي أن يونانيين لاحظوا وجربوا وقابلوا بين ما قاموا به هنا وهناك من تجارب، بدهي أن أرسطو أجهد نفسه في سبيل دراسة الفرد، لكن هيكل العلوم اليونانية لم يتغير بسبب مسلك أرسطو فالطب اليوناني والطبيعة اليونانية والكيمياء والحيوان والنبات ظلت بل بقيت فلسفة، وبذلك فهي يونانية. لكن العقلية الهلّينية اشتقت طريقًا آخر بخلاف الأوربيين، كما سلكت كذلك طريقًا يخالف طريق العرب.

ص: 302

من الخطأ أيضًا، كما حدث اليوم، أن نقابل بين العرب واليونان، وأن نتهم العرب بنقص في فهم العالم وتفسيره تفسيرًا فلسفيًا، كذلك ليس من العدل أن نصف العلوم العربية بأنها تقليد أعمى للعلوم الهلّينية، وأن العربية عبارة عن أخذ ورد للعلوم اليونانية أو الهندية، كما أن إنتاج أمثال «تاليس» و «فيثاغورس» هو نقل عن المصريين والبابليين. إن العرب عندما أخذوا ما أخذوا عن اليونانيين أخضعوه لأبحاثهم التجريبية وتوسعوا فيما أخذوا عن اليونانيين، نعم إن العرب هم مخترعوا العلوم التطبيقية والوسائل التجريبية بكل ما تدل عليه هذه العبارة.

والعرب هم المخترعون الحقيقيون للأبحاث التجريبية.

ومما هو جدير بالذكر أن العلماء الهلّينيين وجلهم ليسوا من أصل يوناني بل من أصل شرقي امتازوا بالاستعداد للملاحظة ومختلف الوسائل التجريبية، ولو اضطر هذا العالم الهلّيني إلى إخضاع العملي للنظري أحيانًا. فكل بحث عند العرب يجب أن يبدأ ويعتمد على حقائق مستقلة، والعرب هم أول من نادى بهذا، ومن ثم تطور البحث، فبعد أن كان يعني بالحقائق الجزئية أصبح يهتم بالكليات التي تقوم على الحقائق الثابتة. وعن طريق المثابرة في البحث والمقاييس استطاع العرب حصر الحقائق والإحاطة بها، وبعد تجارب مضنية كثيرة أجريت على النظريات قرر العربي قبولها والاعتراف بصحتها أو رفضها، هذا إلى جانب حرية البحث والتفكير. وقد سبق العرب الأوربيين في هذا النوع من الأبحاث الحرة بنحو ثمانية قرون وشعارهم «الشك أول شروط المعرفة» .

واعتمادًا على هذا الرأي ظهر العلماء الطبائعيون العرب، وكانوا أول من فتح الطريق في العالم فسار في طريقهم الأوربيون وظهر أمثال:«روجير بيكون» و «ألبرتوس مجنوس» و «فيتيليو» و «ليوناردوا دا فنشي» و «جليلي» .

وهناك حقيقة يجب أن نقررها مرة ومرات، وهي أن العرب لم ينقذوا الثروة العقلية اليونانية فقط، ولولا هم لضاعت وقبرت، بل العرب هم الذين نظموها فبوبوها ورتبوها، ومن ثم قدموها لأوربا في ثوب علمي قشيب. العرب هم مؤسسو الكيمياء التجريبية وكذلك الطبيعة العملية والجبر والحساب بمعناه الحديث،

ص: 303

وحساب المثلثات الكروي، وعلم طبقات الأرض، والاجتماع وغير ذلك من الاختراعات الكثيرة الأخرى في مختلف العلوم والمعرفة، وغالبًا ما سطا عليهم اللصوص ونسبوها إلى أنفسهم. فالعرب هم الذين قدموا للعالم أغنى وأثمن هدية، فهم أصحاب البحوث المنتظمة في الطبيعيات، هذه البحوث التي كانت العامل القوي في بعث العلوم الطبيعية في أوربا.

ولعل أول وأعظم أوربي تأثر بالعقل العربي والعلوم العربية ولم يخش التعاون مع العرب هو القيصر العظيم، القيصر الأشتوفي الصقلي «فريدريش الثاني» .

ص: 304