المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌ولع بالكتب في أعقاب الحرب العالمية الثانية انتشر انتشار الوباء الرغبة - شمس الله تشرق على الغرب = فضل العرب على أوروبا

[زيغريد هونكه]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌شمس الله

- ‌مقدمة المؤلفة

- ‌مقدمة المترجم

- ‌الكتاب الأولالبهار اليومي

- ‌أسماء عربية لمنح عربية

- ‌أوربا تقاسي الحرمان لموقفها السلبي من التجارة العالمية

- ‌البندقية تحطم الحصار

- ‌في مدرسة العرب

- ‌الكتاب الثانيالكتابة العالمية للأعداد

- ‌ميراث هندي

- ‌البابا يمارس الحساب العربي

- ‌تاجر يعلم أوربا

- ‌حرب الأعداد

- ‌الكتاب الثالثالأبناء الثلاثة لموسى الفلكي

- ‌الابن الأول صانع الآلات

- ‌الابن الثاني لموسى «الفلكي»

- ‌الابن الثالث الرياضي

- ‌وينتمي إلى نفس الأسرة أيضًا علم الفلك

- ‌الكتاب الرابعالأيادي الشافية

- ‌الشفاء العجيب عند الإفرنج

- ‌مستشفيات وأطباء لم ير العالم نظيرهم

- ‌أحد نوابغ الطب العالميين في مختلف العصور

- ‌قيود الماضي

- ‌يقظة أوربا

- ‌قال ابن سينا

- ‌أنصاب العبقرية العربية

- ‌الكتاب الخامسسيوف العقل

- ‌المعجزة العربية

- ‌أوربا تائهة في دياجير الظلام

- ‌شعار المنتصر

- ‌عملية إنقاذات قيمة تاريخية

- ‌الترجمة مجهود ثقافي

- ‌ولع بالكتب

- ‌شعب يدرس

- ‌الكتاب السادسموحد الشرق والغرب

- ‌دولة النورمان .. دولة بين عالمين

- ‌كانوا أعداء فألف بينهم

- ‌سلطان لوكيرا

- ‌على الأسس العربية

- ‌محادثات على الحدود

- ‌ميلاد نظرة جديدة للعالم

- ‌الكتاب السابعالفنون العربية الأندلسية

- ‌الصور الأولى للعبارة الألمانية «السيدة المحترمة»

- ‌إن العالم شيد لي مسجداً

- ‌الموسيقى تساير الحياة

- ‌زخرف العالم الوضاء

- ‌شعب من الشعراء

- ‌المسالك في أوربا

- ‌الخاتمة

- ‌تعليقات المترجم

- ‌قرتمن

- ‌قرنفل

- ‌جوز الطيب

- ‌برسيفال

- ‌قهوة

- ‌مات

- ‌الشك

- ‌الصفة

- ‌مطرح

- ‌قرمزي

- ‌قناد

- ‌مستقة

- ‌قطنية

- ‌طاسه

- ‌سكر

- ‌غرافة

- ‌ليمون

- ‌الكحول

- ‌برقوق

- ‌البنان

- ‌شربات

- ‌نارنج - أورنج

- ‌الخرشوف

- ‌برد

- ‌أرز

- ‌سبانخ

- ‌القرفة

- ‌العرق

- ‌مخا

- ‌ديوان

- ‌تسفتشجين

- ‌بيج أرمودي

- ‌عثماني

- ‌قبة

- ‌شطرنج

- ‌شيكيش

- ‌قفة

- ‌صفى

- ‌جدامس

- ‌جلا

- ‌بركان

- ‌قطن

- ‌موصلي

- ‌مخير

- ‌الشف

- ‌زيتوني

- ‌تفت

- ‌أطلس

- ‌الدمشقي

- ‌زعفراني

- ‌ليلا

- ‌ترياق. درياق

- ‌جنزبيل. زنجبيل

- ‌كمون

- ‌زعفران

- ‌كافور

- ‌بنزين

- ‌قلى

- ‌نطرون

- ‌صداع

- ‌بورق

- ‌سكرين

- ‌عنبر

- ‌لك

- ‌النيلة

- ‌قز

- ‌طلق

- ‌بطن

- ‌خلنجان

- ‌مر

- ‌سمسار

- ‌جبة

- ‌داو

- ‌دنجية

- ‌قربلة

- ‌فلوكة

- ‌ميزان

- ‌الحبل

- ‌دار الصناعة

- ‌أمير البحر

- ‌قلفاط

- ‌عوارية

- ‌كبر. كبار. قبار

- ‌ياسمين

- ‌ورد

- ‌خيرى البر

- ‌أسليح

- ‌فورسيسيا

- ‌بلد شين

- ‌بلوزه

- ‌جبة

الفصل: ‌ ‌ولع بالكتب في أعقاب الحرب العالمية الثانية انتشر انتشار الوباء الرغبة

‌ولع بالكتب

في أعقاب الحرب العالمية الثانية انتشر انتشار الوباء الرغبة الملحة في الحصول على سيارة وثلاجة وتليفزيون، هذا بينما كان العالم العربي قديمًا شديد الولع باقتناء الكتب، فأقبل على شرائها كل من استطاع إلى هذا سبيلا كما انتشرت الرغبة في الشراء انتشار العدوى في جميع البلاد العربية، وكانت هذه الرغبة لا تفوقها رغبة أخرى اللهم إلا رغبة العالم الحديث.

وكما أن المستوى الاقتصادي والعقلي والاجتماعي للإنسان في عصرنا الحالي يتطلب امتلاك السيارة والتليفزيون، فإن المستوى العربي فيما بين القرنين التاسع والثالث عشر كان يقاس بالمكتبة الخاصة.

ولا شك في أن الخليفة عندما أشار عليه وزيره البرمكي، الدالاي لاما، الوحيد من آسيا، بتأسيس مكتبة في دار الحكمة ببغداد، استجاب لتوه إلى هذه المشورة وشعر بالحاجة الماسة إليها. فدور الكتب تنمو وتزدهر بسرعة. فقد حدثنا رحالة عام 891 م أن بغداد المطلة على دجلة مائة مكتبة عامة يستعين بها كل طالب علم سواء أكان مستعيرًا أم مطلعًا بداخلها، وبكل مكتبة المترجمون والنساخ في قاعاتهم الخاصة، كما توجد بكل مكتبة قاعة كبرى عامة للندوات والمناقشات وهي شبيهة بالأندية الإنجليزية اليوم.

ومدينة صغيرة مثل النجف كانت في القرن العاشر الميلادي فخورة لامتلاكها أربعين ألف مجلد في الوقت الذي كانت فيه الأديرة الأوربية تقيد هذا العدد القليل

ص: 289

من الكتب الذي قد لا يتجاوز العشرة في السلاسل نظرًا لندرتها وخوفًا عليها من الضياع. أما مكتبة مدينة الري فقد سجلت أسماء كتبها في فهرس يقع في عشرة مجلدات كبيرة وكان في كل مسجد مكتبة، وكل مستشفى يستقبل زواره في قاعته الكبرى الغنية بالكتب، ويحرص على شراء جميع ما يظهر من الكتب الطبية إشباعًا لحاجة الطلاب والباحثين. وفي مرصد «مراغة» يدون ناصر الدين الطوسي أربعمائة ألف مخطوطة، فنجد في جنوب بلاد العرب أميرًا عالما يملك مكتبة بها مائة ألف مجلد؛ ثم نجد ابن سينا ولما يبلغ الثامنة عشرة يزور سلطان بخارى المريض واسمه محمد المنصور استجابة لرغبة طبيبه الخاص بمساعدته طبيًا، فتقديرًا لمجهوده أذن له السلطان في أن يختار من مكتبة القصر ما يحتاج إليه من كتب للدراسة، وهذه المكتبة منظمة تنظيمًا موضوعيًا، كما تشغل غرفًا كثيرة من غرق القصر؛ وقد شاهد ابن سينا فيها كتبًا لا يعرف الكثيرون أسماءها، كتبًا لم يرها ابن سينا من قبل ولا من بعد.

وبعد أن ترك ابن سينا القصر السلطاني بزمن قصير شبت النيران في القصر فأتت على المكتبة، وكان هذا الحادث من الأسباب التي دفعت جماعة من حساده وأعدائه إلى اتهامه بأنه هو الذي أحرقها، وحتى يحتكر هو ما بها وينسبه إلى نفسه.

لكن أحدًا -حتى خليفة قرطبة الذي كان يوفد المبعوثين والعملاء لاقتناء أهم الكتب وأشهرها لمكتبته الخاصة استكمالا لها وتيسيرًا للعلم لطلابه- لا يقارن بالخليفة العزيز في القاهرة. فمكتبة الفاطميين كان بها زهاء مليون وستمائة ألف مجلد وفي حالة جيدة كاملة، ومن بينها ستة آلاف وخمسمائة كتاب في الرياضيات وثمانية عشر ألفًا في الفلسفة. وهذه المكتبة لم تثن ابنه عندما تولى الحكم عن تأسيس مكتبة أخرى إلى جوار الأولى وكانت تشغل ثماني عشرة قاعة.

وقد شجع هذا الاستعداد لدى الخلفاء والسلاطين الوزراء وغيرهم من رجال القصر على النسج على منوالهم، فنجد الوزير المهلبي يترك عندما توفي عام 963 م نحو مائة وسبعة عشر ألف مجلد، وهذا العدد لم يكن نادرًا، كما نجد زميله ابن

ص: 290

عباد يقتني مكتبة من مئتين وستة آلاف مجلد كما خلف أحد القضاة مليونًا وخمسين ألف مجلد، ولو أن هذه الأرقام مبالغ فيها، وأن لفظ مجلد قد يطلق على فصل مستقل، إلا أن المبالغة في ذكر هذه الأعداد تشير إلى مدى المفاخرة باقتناء الكتب والأهمية التي كان يعلقها القوم على اقتنائها؛ وهذا الغرام باقتناء الكتب حقيقة لا مراء فيها بدليل هذا الخبر الذي يروي عن أحد الوزراء، أنه لم يقم يومًا من الأيام برحلة ما دون أن ترافقه مكتبته وكانت حمولة ثلاثين جملا. وقد قلد القيصر فريدريش الثاني العرب في هواية الكتب وتشجيع العلم والعلماء، ولا غرابة في هذا فالقصير فريدريش الثاني هو تلميذ العرب في كل شيء فحتى في تنقلاته كان يحمل معه مكتبته على ظهور الإبل. ولدينا الآن سؤال آخر؟

أين اليوم المكتبات الخاصة التي تشتمل كل واحدة منها على ما يتراوح بين عشرين وثلاثين ألف مجلد، كما جمعها من قبل أمثال طبيب صلاح الدين الخاص المسمى ابن المطران ثم الصيدلي الشهير ابن التلميذ وكذلك ابن القفطي المؤرخ؟ ولا يفوتنا أن نذكر أن الكتب لم تكن تطبع في ذلك الحين بل كانت تنسخ والنسخ قد يستغرق الأشهر أو السنوات، فهي لم تكن رخيصة بل غالية، فابن الهيثم مؤسس علم البصريات تناول خمسة وسبعين درهمًا أجرًا لنسخ جزء من أويقليد، وقد عاش ابن الهيثم عامًا كاملًا ينفق من نصف هذا المبلغ. وابن الجزار الطبيب الرحالة المرح، أحد أبناء القيروان، خلف مائتين وخمسين قنطارًا من الرق الذي كتبه بيده، وهذا الرق هو جلد غزال. ويحكى عن طبيب آخر خبر لا يقبل شكًا من أحد من معاصريه، أن سلطان بخارى دعاه إلى قصره فرفض الدعوة لأن انتقاله إلى بخارى يضطره إلى الحصول على أربعمائة جمل لنقل مكتبته التي تزن حوالي عشرة آلاف كيلو جرام. كذلك يحكى عن عالم آخر توفي عن ستمائة صندوق كتب في مختلف العلوم الفنون، ويقال إن حمل كل صندوق كان يتطلب عددًا كبيرًا من الرجال. نعم إن الإنسان قد يجد عددًا قليلًا من العلماء الذين يحتاجون إلى مراجع علمية خاصة، فهؤلاء كانوا يوجدون في مختلف العصور، ولو أنهم كانوا أحيانًا قلة. لكن الأمر عند العرب كان على عكس ذلك، فهواة الكتب كانوا كثرة وكانوا

ص: 291

يوجدون بين سائر الطبقات وليس فقط بين العلماء. فكل متعلم من السياسي إلى تاجر الفحم، ومن قاضي المدينة إلى المؤذن خبير بالكتب وتجارتها. فالمكتبة المتوسطة الخاصة في القرن العاشر كانت تحتوي على كتب تفوق بكثير محتويات جميع مكتبات أوربا وقتذاك.

فالثراء لا يتم لشخص دون ملكيته لمكتبة غنية بالكتب النادرة القيمة، فقد ذكر مؤرخ عربي أنه لما كان في قرطبة وقعت له حادثة في سوق تجارة الكتب أغضبته، وذلك لأنه اعتاد أن يكثر من التردد على السوق لمشاهدة الكتب الحديثة وشراء ما قد يحتاج إليه فوجد مرة كتابًا أعجبه فعرض ثمنًا وعرض آخر ثمنًا أعلى، فقلت لمنافسي: أرجو الله أن يحافظ على سيدنا الطالب المجتهد، إذا كان لديك سبب قوي يحتم عليك شراء هذا الكتاب أتركه لك، وذلك لأن الثمن المعروض تخطى الحدود. فأجابه الرجل: لست طالبًا ولا أعرف محتويات الكتاب إلا أنني قد أسست حديثًا مكتبة رفعًا لمرتبتي بين مواطني، ووجد أن مكانًا خاليًا في المكتبة، وهذا الكتاب يملؤه. وعلاوة على هذا فخط هذا الكتاب جميل جدًا وهو يسرني كثيرًا كما أنه مجلد تجليدًا فاخرًا، لذلك لا يهمني الثمن الذي أدفعه فيه. فأجبته: إن الناس الذين هم مثلك لديهم الوسيلة لتحقيق رغباتهم «الجوز للذي لا أسنان له» !

نعم إن الذين لا أسنان لهم كثيرون، لذلك ستستمر هذه الحالة لا عشرات السنوات بل المئات، وهذا عنصر هام من عناصر الحياة الاقتصادية العربية، فقد كانت تجارة الكتب تكلف المجتمع العربي ملايين الملايين سنويًا، فالمكتبة النظامية لجامعة بغداد مثلا كانت ميزانيتها السنوية مليونين ونصف مليون فرنك ذهبي لشراء الكتب والمخطوطات، لذلك كانت الكتب مصدرًا من أهم مصادر الرزق لمئات الآلاف من البشر.

فالنساخ والخطاطون كانوا فنانين في مهنتهم فكل مكتبة وكل تاجر كتب يوظف لديه عددًا من هؤلاء الموظفين ومعظمهم من الطلبة الذين يريدون أن يكسبوا قوتهم اليومي أو من فقراء المتعلمين، ثم نحد صناع الورق في سمرقند وبغداد ودمشق

ص: 292

وطرابلس الشام وطبرية بفلسطين و «ياتيفا» الشهيرة بالقرب من بلنسية في الأندلس، ثم نجد مجلدي الكتب يطبقون الورق على الطريقة الصينية مثنى ورباع وثمان وسداس عشر في الحجم المعروف باسم المنصوري أو كما يعرف الآن باسم «فوليو» والبغدادي وهو المعروف الآن باسم «كوارت» .

وكما نجد اليوم الكتب كذلك الحال مع عمال الجلد فهم الذين كانوا يزخرفون جلد الكتاب. وكم رزمة ورق وكم لتر مداد من الكحل والصمغ العربي تستهلك سنويًا؟ وكم من ورق غزال أو ماعز يستخدم والرق الجميل والسختيان وغيرها؟

فتجارة الكتب والصيدلة مهنتان من اختراع العرب. فتاجر الكتب رسول من رسل الثقافة، كما أن مكان بيعها مركز ثقافي هام في المدينة. فهذه التجارة وجدت أولا لزمن طويل فقط عند العرب.

ففي سوق الوراقين هكذا كان يسمى الحي الواقع عند باب البصرة حيث كان يوجد أكثر من مائة وراق في محالهم -كان يلتقي علماء بغداد، وعلماء العالم الإسلامي. هنا يلتقي الفيلسوف مع الشاعر والفلكي حول الكتب الجديدة، وهنا التقى الطبيب مع المؤرخ وجامع الكتب النادرة، وهنا كانت تعقد حلقات المحاورات العلمية والندوات الأدبية، فهنا مركز الثقافة العربية، هنا يتبادل العلماء الآراء.

لذلك لا عجب إذا ظهر عام 1000 م «كتاب تبادل الآراء» ، وهو يشتمل على مائة حديث وستة جرت بين العلماء في بيت فيلسوف حينًا وفي سوق الوراقين أحيانًا.

وفي ذلك العصر ظهر فهرس ابن النديم، وهو من أشهر تجار الكتب كما كان من كبار العلماء، وفي هذا الفهرس ذكر سائر الكتب العربية الأصيلة أو المنقولة إليها من اللغات الأجنبية. وقد عرف كل مؤلف أو كل كتاب بمقدمة شخصية يعرف فيها القارئ بصاحب الكتاب. وقد قدم ابن النديم لهذا الكتاب بمقدمة تحدث فيها عن حيل الوراقين وآلاعيبهم.

وابن النديم كزملائه الوراقين على جانب عظيم من العلم والمعرفة، فقد حضر

ص: 293

محاضرات مشاهير فلاسفة عصره كما تزاور معهم، وكان على صلة قوية بهم وبمختلف الهيئات العلمية التي لعب دورًا هامًا في الحياة العقلية العربية في القرن العاشر الميلادي، لقد كان ابن النديم صديقًا حميمًا لعلي بن عيسى أكبر طبيب عيون في العصور الوسطى، كما كان صديقًا لكثيرين من العلماء الآخرين البارزين، وكان يمضي الليل معهم في محاورات ومساجلات وندوات علمية؛ وهذا العالم الفاضل الواسع الاطلاع لم يكن نادرًا في ذلك العصر وفي تلك البيئة بين زملائه المنتشرين في مختلف مراكز الثقافة العربية والذين كانوا يأتونه بإنتاج العصور المختلفة في مختلف فنون العلوم والمعارف. ومن بين هذه الكتب التي كانوا يحضرونها إليه القديمة النادرة وهي مصادر هامة لعلم فهرسة الكتب ومعرفتها ولا يبحث عنها الناشر بل الوراق الذي كان يتنقل بين مختلف المدن باحثًا عن كنوز علمية جديدة تملأ خزائنه. ومما يذكر نقلا عن ابن أبي أصيبعة في ترجمته لحياة الطبيب «أفرايم بن الزفان» ما نصه:

«هو أبو كثير أفرايم بن الحسن بن إسحق. . . وهو من الأطباء المشهورين بديار مصر، وخدم الخلفاء الذين كان في زمانهم، وحصَّل من جهتهم من الأموال والنعم شيئًا كثيرًا جدًا. وكان قد قرأ صناعة الطب على أبي الحسن علي بن رضوان وهو من أجلِّ تلامذته، وكانت له همة عالية في تحصيل الكتب، وفي استنساخها حتى كانت عنده خزائن كثيرة من الكتب الطبية وغيرها، وكان أبدًا عنده النساخ يكتبون ولهم ما يقوم بكفايتهم منه. ومن جملتهم محمد بن سعيد بن هشام الحجري وهو المعروف بابن ما ساقة، ووجدت بخط هذا عدة كتب قد كتبها الأفرايم وعليها خط أفرايم. وحدثني أبي أن رجلا من العراق كان قد أتى إلى الديار المصرية ليشتري كتبًا ويتوجه بها وأنه اجتمع مع أفرايم واتفق الحال فيما بينهما أن باعه أفرايم من الكتب التي عنده عشرة آلاف مجلد وكان ذلك في أيام ولاية الأفضل بن الأمير الجيوش. فلما سمع بذلك أراد أن تبقى تلك الكتب في الديار المصرية ولا تنتقل إلى موضع آخر فبعث إلى أفرايم من عنده بجملة المال الذي قد اتفق تثمينه بين أفرايم والعراقي ونقلت الكتب إلى خزانة الأفضل وكتب

ص: 294

عليها ألقابه، ولهذا فإني قد وجدت كتبًا كثيرة من الكتب الطبية وغيرها وعليها اسم أفرايم وألقاب الفاضل أيضًا. وخلف أفرايم من الكتب ما يزيد على عشرين ألف مجلد ومن الأموال والنعم شيئًا كثيرًا».

واهتمام سياسي خطير مثل الأفضل بالعلوم والفنون والفلك والخصومة الشعرية التي نشبت بينه وبين أخيه -شيء طبيعي، فالولع بالعلوم والآداب من خصائص العرب في ذلك العصر كاهتمام جيل اليوم بكرة القدم، فالعناية بالعلوم كانت من مقومات الحضارة والمدنية والمفاخرة في ذلك العصر.

فنحن نجد رجلا مثل أسامة بن منقذ الذي ذكر ما ذكر من أخبار تقشعر لها الأبدان خاصة بالطب والجراحة عند الإفرنج، وحدث أن غرقت يومًا ما سفينة له وسلب الصليبيون كل ما فيها وأذاقوا عشيرته من العذاب ألوانًا وفي ذلك يقول أسامة:

إلى الله أشكو فرقة دميت لها .... جفوني وأذكت بالهموم ضميري

تمادت إلى أن لاذت النفس بالمنى

وطارت بها الأشواق كل مطير

فلما قضى الله اللقاء تعرضت

مساءة دهري في طريق سروري

إن هذه المعاني لم تصدر عن عالم شاعر بل عبارات محارب وسياسي كان كغيره من أبناء جلدته قد تلقن القراءة والكتابة منذ الطفولة.

ص: 295