الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن العالم شيد لي مسجداً
إسبانيا هي الحلم، هي الأمنية، إنها تاج العروبة. والتقدم الذي عرفته العروبة تم في إسبانيا، كما يقول العربي الأندلسي. وما حدث لم يكن مقصوراً على عالم المرأة بل عم كل ناحية من النواحي الثقافية العربية.
وهذه ظاهرة عجيبة حقاً تستحق التفكير أكثر من سائر الافتراضات والعجائب التي جاءت بها الثقافة العربية، وهذا يبدو فيه شيء من التناقض، فأخصب البقاع حضارة وثقافة ومدنية هي تلك التي كانت فيها قليلة جداً، وذلك لندرة وجود العنصر العربي وحيث لم تقم من قبل حضارة هامة، إن الحضارة الطارئة التي جاء بها الغزاة لم تتأصل فيها لتزدهر وظلت ضعيفة هزيلة، بخلاف الحال في الأقطار الأخرى التي تشبه إسبانيا تماماً وذلك مثل صقلية ومصر وسوريا والعراق وإيران حيث نجد شعوباً مثقفة ثقافة رفيعة تلعب دوراً هاماً في الثقافة البشرية مثل الهلينية والبيزنطية واليونانية والفارسية والهندية حيث تفاعلت مع الثقافة العربية.
أما في بلاد المغرب البربرية وفي إسبانيا حيث كانت الدولة الغوطية الغربية وريثة الاستقلال الروماني والاستعباد والمرض المزمن الذي أصاب البلاد من جراء الاستعمار الروماني والذي خلف طبقة من رجال الدين المتعصبين، فهنا لا يوجد شيء وتنعدم كل مقومات الحضارة، وعندما جاء الفاتحون أخذت الموجات العربية تفد من بلاد العرب ومن سوريا وليس حولهم شعوب قد يقتبسون منهم شيئاً ما. فهذه الثقافة الرفيعة العالية التي بلغها العرب في إسبانيا هي خير ما يدحض هذه
الادعاءات القائلة بأن العرب قد أخذوا الحضارات البائدة وأعادوها ثانية، وأنهم مقلدون فقط ولم يأتوا بجديد. ففي إسبانيا لم توجد حضارات يقال إن العرب قد اقتبسوها وتعلموها وقلدوها، والحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن جمال الثقافة الأندلسية لم يكن فارسياً أو يونانياً بل كان عربياً وعربياً فقط، وعندما اختفى العرب من إسبانيا انحطت البلاد وتدهورت حضارتها وخيم عليها الموت ولم تنتج شيئاً.
ففي إسبانيا ظل حكم العرب ثمانية قرون كانت أزهى وأغنى العصور، ومن خير ما عرف على يد البيوت الحاكمة وهي عربية قديمة، وهي بيوت أموية حكمت في قرطبة كما حكم العباديون في إشبيلية والناصريون في غرناطة بينما لم يقم البربر والمسيحيون إلا بأعمال التخريب والتدمير، وبخاصة إذا كانوا لم يتأثروا بالثقافة العربية والعقلية العربية. وفي شرق العالم العربي بعد القضاء على الأمويين على يد العباسيين الذين في عهدهم، توغلت العناصر الأجنبية في الحكم والسيادة ولو أنهم كانوا من العوامل المؤثرة في الثقافة العربية.
وما هي فترة ثمانية قرون؟ ! إنها قصيرة إلا أنها غنية جداً بالأحداث التاريخية! إنها فترة تساوي تلك التي تمتد من موت البطل «ليونيداس» حتى آخر اضطهاد حل بالمسيحيين أيام القيصر «ديو قليطيين» ، أو إذا ما قيست بالعصر الحديث عبارة عن فترة من الزمن هي التي تبدأ بهنري الثاني حتى مجيء الملكة الياصابات الثانية ملكة إنجلترا، وعلى الدقة منذ مجيء الملك فيليب الثاني ملك فرنسا حتى الجمهورية الخامسة للجنرال ديجول، أو منذ سقوط هنري قلب الأسد أمام القيصر فريدريش الأول بارباروسا حتى مجيء عصر الدكتور كونراد أديناور، فهذه الفترة بالضبط عبارة عن? ? ? عاماً ازدهرت وأينعت فيها الحضارة العربية في شبه الجزيرة الأوربية.
لكن الغرب لم يعرف شيئاً عنها.
والجار الغاضب المكشر عن أنيابه الذي كان يقيم على الجانب الآخر من جبال البرناس ظل قرنين، ثلاثة، أربعة أصم أعمى، فقد غشت عينيه غشاوة بفعل الأنوار الساطعة والجنة الغناء، وفيها المعماريون والمغنون والشعراء والعلماء، وهي كذلك
جنة النساء. وقد صور هذا الجار الغاضب تلك الجنة بأنها وطن السحرة وعبدة الشياطين وأنها وطن تقديم البشر قرباناً لمحمد، لماذا؟ خوفاً من هذا السحر الذي قد يأتي بالحقيقة. لكن هذا الجار فشل في سد أذنيه وإغماض عينيه تماماً وتأثر أثراً قوياً بحضارة جاره.
وبالقرب من قرطبة في حديقة قصر عبد الرحمن، هذا القصر الذي شيده حسب تصميم أجداده الذين شيدوا قصورهم في الصحراء السورية، كان هذا الأمير العربي يزرع أول نخلة في أرض الأندلس وعنها انتقل النخيل إلى أوربا.
إن هذا الأمير هو الشاب عبد الرحمن الذي طالما حن إلى وطنه الأصلي وسجل هذا الحنين في أشعاره وهو أخر فرد من الأسرة الأموية وهو أحد حكامهم الأقوياء الأشداء. فقد نجا وهو ابن العشرين من المذبحة التي حلت بأهله في دمشق، وقد ظل خمسة أعوام ضالاً هائماً متعرضاً لمختلف الأخطار، في شمال إفريقيا، حتى استطاع أخيراً هذا الفقير المعدم بفضل شجاعته وعزيمته القوية وإرادته الحديدية أن يصير حاكماً على الأندلس التي كانت تقاسي من انقسامات العرب هناك وشحنائهم.
ومع هذه الشجرة العربية التي جاء بها من وطنه أخذ الفن العربي يدخل الأندلس ومن ثم أخذ هذا الفن يزدهر وينتشر خارج الأندلس ومختلف البلاد الأوربية، حيث أصبحنا نجد فناً معمارياً عربياً وموسيقى عربية وشعراً عربياً وغزلاً عربياً.
ففي فترة حكمه التي بلغت ثلاثة وثلاثين عاماً والتي كانت مليئة بالكفاح وضع عبد الرحمن الأول الأساس للدولة العظمى التي شاهدتها العصور الوسطى، وكل من جاءوا بعده من العباقرة الجبابرة أضافوا لبنة إلى هذا البناء الشاهق، كما ساهموا في بناء المسجد العظيم الذي وضع أساسه عبد الرحمن الأول في قرطبة عاصمته.
أما كاتدرائية القديس «فينسينس» فقد قدر ثمنها مائة ألف دينار وهذا مبلغ عظيم جداً في ذلك العصر مما يشير إلى أن الحالة كانت ميسرة مستقرة فلا هدم للمعابد ولا تكسير لصور مقدسة أو غيرها. نعم إنه عندما فتح طارق وبربره البلاد هدموا كثيراً
من الكنائس، لكن الكاتدرائية احتفظ بها مسيحيو قرطبة وأعدوها لتأدية طقوسهم الدينية وقد أخذوا بهذه عهداً مكتوباً. أما الفاتحون فقد اكتفوا بتشييد مساجدهم المتواضعة خارج المدينة.
ثم نجد العرب الذين قدموا من المدينة محاربين ومدافعين عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعهم ذراريهم وأتباعهم يستقبلون موجة أخرى من العرب السوريين فامتلأت بهم قرطبة مما جعل الحاجة ماسة إلى تشييد مسجد عظيم في العاصمة في قرطبة، وقد بلغت نفقات بناء هذا المسجد مائة ألف دينار، وقد اشترى عبد الرحمن الكاتدرائية المسيحية من المسيحيين بهذا المبلغ، أعني مائة ألف دينار، كما منح المسيحيين الحق في أن يجددوا بهذا المبلغ كنائسهم التي خربت.
والآن يستطيع المسلمون الانتقال إلى هذه الكنيسة التي آلت إليهم بحكم الشراء أو تحويرها التحرير الذي يتفق والشعائر الدينية الإسلامية، فكان مثلهم مثل المحاربين القدماء الذين لم يعتادوا البناء، فكانوا يستولون في البلاد المفتوحة على بعض دور العبادة المسيحية كما وقع في دمشق والقدس. وهكذا صنع جد عبد الرحمن ألا وهو الخليفة عبد الملك عندما حول كنيسة العذراء مريم، التي تنسب إلى «يوستنيان» والواقعة أمام المعبد في القدس، إلى المسجد الأقصى، كما حول ابنه الوليد كنيسة القديس يوحنا في دمشق إلى المسجد الكبير مع الإشارة إلى أن الكنيسة أصلا قد شيدت من أحجار وأعمدة معبد «جيوبيتر» القديم. لكن ليس معنى هذا أن المعابد التي شيدت للآلهة الأجانب قد استغلها المسلمون واستخدموها دوراً لعبادتهم، فالمساجد العظيمة كانت تشيدها الدولة في معسكرات جيوشها، فقد شيدت مثلا لجنودها المحاربين جامع ابن طولون في القاهرة وسيدي عقبة في القيروان، فهذه المساجد كانت تشيد عادة في الفضاء الواسع كما كانت في هندستها المعمارية، إذا ما استثنينا قبة الصخرة، ومساجد القبور، تتبع تخطيطاً بعينه أعني نظام المسجد ذي الصحن المربع غير المسقوف وبه ميضأة للوضوء ويحاط بسور يشبه سور الحصن وحوله صفوف من الأعمدة التي تظلل أولئك الذين يريدون الانصراف إلى الله في الصلاة، وذلك عن طريق الصلاة في القاعة المسقوفة. وهذا
الفن المعماري برجع في الواقع إلى فن قديم قد يكون هو الذي كان مستخدماً في العصر الجاهلي عند تشييد المعابد مثل معبد صرواح في بلاد العرب الجنوبية وفي نظام المصلي الذي كان موجوداً إبان حياة الرسول. وكان تخطيط المصلى معروفاً في المدينة قبل تشييد أول مسجد بزمن بعيد، وقد استخدمه الرسول في مناسبات خاصة.
أما الحفيد الأموي في الأندلس فقد كان يدرك أنه لا يمكن الجمع بين المسجد والكنيسة فلم يحول الأخيرة إلى مسجد، وما كان في حاجة إلى ذلك، فقد مضى العهد الأول، العهد الذي لازم صدر الإسلام، لذلك نجد عبد الرحمن يدفع ثمن الكنيسة غالياً جداً ويهدمها ويشيد مكانها بناءً جديداً، حيث استخدم الأعمدة القديمة أيضاً.
لكن الاعتماد على فن المعمار الأجنبي أصبح في غير موضعه، واستخدام بعض المواد القديمة في البناء ليس معناه استخدام نفس الفن الذي استخدمت فيه هذه المواد بل استخدمت في تشييد فن جديد وهذا الفن المعماري الذي يعبر عن روح ذلك العصر وثقافته وحضارته وعقيدته، وبخاصة أنها تستخدم في تشييد مسجد الإسلام. وبالرغم من أن المنفذين لهذا الفن المعماري، من بنائين وعمال وغيرهم قد انحدروا من عناصر مختلفة إلا أن المعمار العربي كان مستقلاً عربياً خالصاً، وهذا الفن يستمد كيانه من خصائص وعناصر إسلامية دينية مثل: المحراب والمنبر والأريكة والمئذنة. فالفن المعماري، وفن المسجد إن كان سقفه يقوم على أعمدة كانت في الأصل في كنائس مسيحية فلا رابطة تربط بينها وبين الكنيسة بالرغم من أن الأعمدة قد أخذت من الكنيسة. والواقع أن المسجد والكنيسة معبدان يختلف كل منهما عن الآخر.
إن المسجد ليس هو بيت الله المقدس الذي يستطيع فيه المؤمن بواسطة رجل الدين التقرب إلى الله، بخلاف الحال مع الكنيسة فهي متى قدست أصبحت حقاً لا رمزاً مدينة سماوية يحكم فيها المسيح وأن القدس السماوية قد نزلت من السماء إلى الأرض، هذا هو معنى الكنيسة عند المسيحي في مختلف العصور، فمنذ القرن
الرابع الميلادي نجد الكاتدرائية المسيحية القديمة والقدس السماوية كمدينة قديمة وفيها أقواس النصر وقاعات ذوات عقود وقصر القيصر وقاعة العرش. وفي عصور متأخرة نجد الكنيسة الرومانية هي البرج السماوي لملك الجيش والكنيسة بأبراجها وحيطانها القوية ونوافذ لإطلاق النيران وحتى أبواب المدينة ممثلة فيها. والكاتدرائية القوطية تمتاز ببساطة البناء يضيئها نور سماوي وزخرف السماء وجمالها مما لا يجده الإنسان على الأرض. وهذه المدينة السماوية المضيئة تقرب بين المعاني القوية كما قال ذلك العالم «سيدلماير» . إن جميع هذه المعاني لا يشير إليها المسجد كما أن هذا المعنى الشعري يعبر عنه المسجد تعبيراً واقعياً وهذه هي ميزته:
{يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)} [العنكبوت: 56] وقال تعالى أيضاً: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 150]. هذه هي عقلية القدامى من البدو الذين عاشوا في الصحراء غير المتناهية فكانوا يشاهدون الكائنات غير المرئية، لذلك نجد المسلم مثل أسلافه يصلي في كل بقعة من الأرض ففيها يواجه الله. فلا توجد قواعد خاصة تقيد المسلم كما لم يفرض عليه الإسلام مكاناً خاصاً بالذات لتأدية فرائضه الدينية لا معبد ولا كنيسة كما أن تعبده لا يرتبط كما هو الحال في المسيحية بقسيس أو وسيلة تجمع بينه وبين الله. فلدى المسلم كل شخص يمثل الله وكل مسلم له الحق في أن يصلي بالمصلين ويكون إماماً في المسجد.
وغير الصلاة الخاصة الفردية التي يؤديها المسلم، على المسلمين أن يجتمعوا معاً ليصلوا جماعة، والبيت الذي يؤذن فيه لصلاة الجماعة هو «الجامع» الذي لا تقتصر مهمته على إقامة الصلاة به فقط بل هو مدرسة لتعليم التلاميذ والتفقه في المسائل الشرعية؛ لذلك يسمى الجامع الكبير حيث تؤدي صلاة الجمعة ويؤديها المسلمون يوم الجمعة، ويسمى هذا المسجد «المسجد الجامع» أو بالاختصار «جامع» . والمسجد الجامع ليس مكاناً يمتاز بقدسية خاصة، وإنما يمتاز على غيره بميزات أخرى كما تمتاز الكنيسة على الأماكن الأخرى العادية ومساكن الناس، لذلك لم يلاحظ عند تشييد الجامع أن يؤثر بمظهره الخارجي في المصلين، كما أن تصميمه لا يختلف عن أي
شكل هندسي لبناء قائم الزوايا أو مكعب، كما أن شكله الخارجي غير جذاب ومهمل وحيطانه ملساء عارية من الزخرفة تشبه حيطان حصن من الحصون أو مصنع أو قصر حاكم. وفي الداخل فقط نجد بعض الزخارف. أما الأعمدة الداخلية فقد يبلغ عددها خمسة عشر عموداً، كما أنه يشتمل على كثير من العقود حيث يركع المسلم غير مقيد بعقد خاص أو مذبح، وهذا يتفق وتعاليم الإسلام الذي لا يميز بين طبقة وطبقة. فالمحراب في المسجد غير المذبح، فالمحراب يبين فقط اتجاه المصلين حيث نجد العالم يقف إلى جوار السقاء والقائد إلى جوار الجندي، كما نجد الإمام في ملابسه العادية يؤم المصلين مثله مثل ماسح الأحذية وسائر الأفراد، يركع ويسجد ويقوم بسائر الفروض الدينية.
فهذه الخصال الشعبية حقاً تتمثل في المسجد كما تتمثل في أي بناء آخر فالمسجد إذا ما أريد تكبيره اتسع أفقياً لا علوياً. وبقدر عدم اكتراث العربي بالبناء الخارجي ومظهره إذ به يهتم اهتماماً كبيراً بالزخرفة الداخلية.
إن المسجد لا يعني البتة برقصات المعبد أو الأغاني أو الصور أو البخور أو بعض المظاهر المغرية للتأثير في المسلمين لتنقلهم من ملاذ الدنيا، وعن طريقها، إلى ملاذ الآخرة، بينما نجد الكاتدرائية الغوطية تحول الشيء غير المحسوس محسوساً وتتفنن في هذا بخلاف الإسلام الذي يحول الماديات إلى روحانيات. إن الصحراء الجرداء التي لا شيء فيها تخلق من العربي شخصاً لا يؤمن بالماديات إيمانه بالمعنويات، فالعربي يحول المادية إلى معنوية إلى رياضة. إن طبيعة الصحراء ذات النمط الواحد تكرار وتكرار لهذا النمط الذي يتراءى في الهواء لا عمق له، لا أبعاد له، لأن هذا النور الذي يغمر الصحراء قد يقضي على الأبعاد والانعكاسات ويقرب البعيد في الأفق وغير ذلك.
كذلك لا نجد في المسجد شيئاً مادياً أو محسوساً، ولا شيء فيه يؤثر في الإنسان بل يؤثر في غير المرئي الكائن في كل عصر ومكان، ولا يتصف بصفات الإنسان أو الكائنات الطبيعية، إنه واحد في نفسه وليس كائناً آخر يشبهه وهو موجود في نفسه.
وليس الفن العربي (أرابيسك) شيئاً آخر، واسمه يدلنا على أصالته العربية، وهو خير من يعرض الخصائص الرياضية المعنوية حيث نجد دوراتنا في الوسط وهذا الدوران يرجع إلى حيث بدأ، وبذلك يكمل نفسه تلقائياً ويكون شكلاً هندسياً كاملاً. إن الزخرفة العربية لا تمر سريعاً وليست حركة تتجه اتجاهين كما هو الحال في اللولب الكريتي أو «ميندر» اليوناني. وهكذا نجد الفن العربي فتاً حاضراً لا نهاية له فهو نظام خاص وهو أساس كل الكائنات وهو يتجلى في جميع المظاهر الطبيعية، وهكذا نجد الفن العربي يتزايد وينمو نمواً متجانساً ذا نغم ثابت. إن الفن العربي حاضر ولا نهاية له، إن الفن العربي لا أول له ولا آخر لا تحده حدود، فالمساحة في الفن العربي لا تعرف حدوداً بل تمتد وتمتد في مختلف الجهات لكن بالرغم من هذا لا تنمو نمواً غير مهذب ولا تتضخم تضخماً مريضاً فكل شيء في الفن العربي قد أحكمنه نظم وقواعد جبارة واضحة وضوح البلور وكأنها نغم متسق.
لقد تعمق «جوته» في الحياة العقلية الشرقية وعاش فيها، لذلك ندرك تماماً عباراته الشعرية التي صاغها في الشعر العربي ووصفه بها، وما يقال عن الشعر يقال أيضاً عن الفن العربي. ولماذا؟ لأن الشخص الذي تملكت شعوره وإحساساته الطباع والمشاعر الشرق به يتصف ولا شك بهذه العقلية العربية:
إن عدم نهايتك دليل عظمتك.
وعدم بدايتك مقدر لك.
إن قصيدتك تدور كالقبة الزرقاء.
الأول هو الآخر دائماً. دائماً لا يتغيران.
وما أبي به الوسط معروف.
الذي يبقى إلى النهاية كان هو الأول.
والتأثير العربي أو التعريب يقع عندما يحاول الفن العربي الاستعانة بالنباتات الفارسية أو المصرية للزخرفة، فنجد الفن العربي سرعان ما يجرد هذه الزخرفة من قيمها المحسوسة كما يجردها من جسدها.
وتتفق مع الفن العربي في هذه الخاصية زخرفة الحيوان في الفن الجرماني النورماني، فإن هذا الفن يجرد جسم الحيوان من إحساسياته حتى يحوله إلى مجرد حركات أو خطوط ويربط بينها حسب قواعد النغم، فهذا الشبه الظاهري بدين به الفن العربي، وهو يتفق في هذه الظاهرة مع الفن الجرماني أو الأوربي عديم الصورة، الذي يعرض إلى تجسيد وتصوير الكائنات غير الأرضية، وقد أقبلت عليها أوربا واستخدمتها في الزخرفة. وفي المجال الواسع للفنون الأوربية وبخاصة في الزخرفة التي ظهرت في عصر النهضة تشرع أوربا تلعب دورها الهام.
وقد أخذت أوربا أيضاً الزخرفة العربية للكتابة، وذلك لأن الفن العربي قد امتد إلى الكتابة فاتخذها مادة للزخرفة سواء كانت خطوطاً أو آيات قرآنية حيث تعبر عن الأشياء المجردة أو المواضيع غير المجسدة، كما استخدم الأفقية منها في الزخرفة وذلك باستخدامها كخيوط ذهبية ممتدة على الحيطان والأعمدة في القصور والمساجد. وهذا مظهر من مظاهر الرغبة في التجرد من الحساسية وهذه خاصية من خواص العقلية الإسلامية وهي ليست جديدة في العقلية الشرقية. لذلك لم يجد القرآن ضرورة لإصدار حكم بخصوصها.
أما ما يقال عن تحريم الصور، فالقرآن لم ينص على هذا التحريم إلا في هذه الآية:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90]، وأما فيما يتعلق بتصوير الكائنات الحية فلم يعرض له القرآن، وفي العصور المتأخرة فقط استنكر الفقهاء التصوير لأنه تقليد لله أو تشبه بالخالق. لكن تحريماً لتصوير الأشكال لم يرد ذكره في القرآن الكريم. ففي العصور المختلفة سواء في صدر الإسلام أو بعده، نشاهد كثيراً من الصور التي تزين الأسقف والحوائط في القصور كما تزين بها الموائد في الولائم كما نجد تماثيل السباع تحت صحون النافورات أو تقذف المياه في الأطباق الرخامية. وفي قلعة الصخرة بالقرب من قرطبة نجد في قاعة نوم الخليفة. حيث يقع نظره عندما يستيقظ. نافورة خضراء وحولها اثنا عشر حيواناً من الذهب الخالص ترقص. فنحن نرى أسداً وغزالاً وتمساحاً وثعباناً ونسراً وفيلاً وحمامة وصقراً ودجاجة وديكاً وحدأة وبازاً.
وقد قال الشاعر الصقلي ابن حمديس يصف داراً بناها المنصور بن أعلى الناس ببجاية ومطلعها:
واعمر بقصر الملك ناديك الذي
…
أضحى بمجدك بيته معموراً
وفي القلاع العربية نجد زخرفة ورسوماً تزينها، وليست هذه الرسوم عبارة عن نباتات وحيوانات فقط بل تعبر عن آدميين أيضاً: ملوك ونسائهم وصيادين وشعراء ونساء جميلات وفرسان وسيدات وكأنهم يطلون من الحيطان والأبواب والقاعات، وحتى في مسجد قرطبة نجد رسوماً تصور القصص الديني الإسلامي مثل أهل الكهف وأغربة نوح، كما نجد الأسد والنسر مستخدمين كعنصرين من عناصر الزخرفة والزينة. وقد ظلت هذه الفنون التعبيرية مستخدمة مثلها مثل الفنون الزخرفية.
وغير الفن العربي نجد زخرفة الأسقف والقباب والردهات والأعمدة، وذلك بتجريدها من ماديتها حتى إن الحائط يكاد يختفى ولا تتبينه العين، وذلك باستخدام الزخارف الجصية ومختلف وسائل الزخرفة، ولعل هذا النوع أثر من آثار الفن الفارسي مثله مثل العقود المدببة التي أكثر الفن الإسلامي من استخدامها، كزخرفة غالباً، أو للتغطية أو بين الأعمدة، على أن تزخرف زخرفة عربية بأوراق الأعشاب أو أعمدة على شكل مراوح. وفي الفن الإسلامي الهندي نجد أحجاراً صماء ونادراً ما تستخدم كأجزاء أساسية في البناء.
ثم انتقل الفن العربي الإسلامي إلى أوربا المسيحية، وكان خط سيره من سمراء المقر العظيم للخليفة على نهر دجلة، وجامع ابن طولون في القاهرة ثم إلى الفاطميين فصقلية النورمانية حيث أحرز هذا الفن نصراً مبيناً؛ وربما انتقل مباشرة إلى النورمانيين في «إيل دفرانس» ، لكن من المؤكد أنه انتقل من صقلية العربية كغنائم حرب «بيزية» ، ومن ثم انتقل إلى الفن البيزى الرومانتيكي من ناحية أو من ناحية أخرى عن طريق كنيسة «ديزيدريوس» التي شيدها البابا فيكتور الثالث وهي تقع فوق جبل «كاسينو» وهي من الفن البورجندى الرومانتيكي الذي هو عبارة عن غطاء للفن الغوطي الذى نهض به رهبان «كلوني» ورئيس الدير «هوجو»: وذلك
لأن رئيس دير «كلوني» لاحظ عام? ? ? ? ومعه مرافقوه العقود المدببة في بناء جبل كاسينو الذي كان قد شيده رئيس الدير المسمى «ديزيدريوس» خبير صقلية والعالم بها وبغزاتها النورمانيين. وقد تم له ذلك بمساعدة معماريين عرب وعمال مصريين وهم الذين علموا رهبانه فنهم المعماري. كذلك يلاحظ أن الصلات بين صقلية وبورجند كانت كثيرة وقوية، فالبلاد المقدسة بالنسبة لـ «كلوني» تقع جنوب البرنات وممتدة على طول الطريق المؤدي إلى قبر حواري «سنتياجو» وهو الإسباني الذي كان يعارض الدعوة الإسلامية. وإن الطريق الطويل للحج الذي يبدأ من باريس يمر فيه سنويا الآلاف من الحجاج إلى أقدس المقدسات المسيحية في أوربا يملأون جوانب الأديرة الكبرى وكنائس «كلوني» ومعظمها مهداة من ملوك إسبانيا. كما نجد كثيرين من سكان «كلوني» الفرنسيين كانوا في القرن الحادي عشر أول الأساقفة والقسس ورؤساء الكاتدرائيات في الأقاليم الأندلسية التي استولت عليها المسيحية. أما الأمراء الإسبانيون المسيحيون وعلى رأسهم الملك المستعرب ألفونس السادس والذي كان أصلاً أحد السكان ثم صار فاتحاً لطليطلة العربية، فقد كانوا يقدمون طاعتهم وولاءهم لرئيس دير «كلوني» ، وذلك عن طريق تقديم هدايا، وأموال طائلة ليست فقط ذهبا بل غنائم حربية عربية وغيرها من الهدايا القيمة. وهذه الهدايا التي قدمها ألفونس السادس هي التي استغلها رئيس الدير المسمى هوجوه في سبيل تشييد الكنيسة العظيمة في «كلوني» ، كما تعهد بإقامة صلاة على روح المهدي، أعني ألفونس السادس وعلى مذبح خاص.
فلو كان العقد المدبب عبارة عن زخرفة فقط عند العرب ما وجدناه شاحباً في جبل «كاسينو» و «بيزا» و «كلوني» والفن البورجندي الرومانتيكي. إن الدور الهام لهذا العقد في أوربا هو الدور المعماري البنائي الأصل في الفن الغوطي؛ وبذلك احتل دورا هاما في الكاتدرائيات الغوطية. وهذا الدور الذي بلغه العقد المدبب لم يبلغه العقد المستدير في الفن الرومانتيكي.
لكن هذا الفن لم ينتقل بمفرده إلى الفن الغوطي بل نقل معه ورقة العشب والعقد من إسبانيا وكانت تستخدم في زخرفة النوافذ والمحاريب. ثم نجد التناقض يبدو
واضحاً في العقود ذات أوراق العشب أو المدببة التي أحبها العرب لميلهم الفطري إلى الرياضة إلا أنها في الفن الغوطي تلعب دوراً هاماً، وهذا الفن يستخدمها في زخرفة الحوائط. ومع العقد المدبب جاءت أيضاً النافذة، وبفضل الأثر الفني الساساني ظهرت النافذة المستديرة في الفن الغوطي.
وفي القرن التاسع الميلادي حدث تجديد في الفن العربي فنجد حزمة من الرماح تظهر في زوايا الأعمدة وهي هامة جداً في فن المعمار الغوطي وبخاصة في القباب. ومن القاهرة عن طريق إيطاليا جاءت إلى السقف الغوطي زخرفة القباب. والمآذن الإسلامية التي امتازت بقيامها على قواعد مربعة، ثم أصبحت مثمنة ثم تطورت إلى دائرة هي التي كونت في الفن الغوطي برج الناقوس.
والآن نتساءل: هل الفن الغوطي يتكون غالباً من كثير من عناصر الفن العربي؟ إن الذي يريد أن يصدر مثل هذا الحكم تفوته الحقيقة القائلة: إن المواد الأولية ليست هي التي يتكون منها الفن بل الترتيب والتنظيم هما في الواقع العنصر الخالق في الفن وهو الذي يصنعه وينوب عنه. إنها الاستعارة العقلية سواء كانت عن طريق الأفكار الدينية أو الدنيوية أو سواء كانت من ناحية معمارية أو شعرية أو علمية، ولا أدل على هذا من العقد المدبب وما تستفيده منه. إن الفن والاستعارة الفنية ليست فيما يستعيره الشعب بل هي الطريقة التي يستفيد بها من العنصر الذي يستعيره وكيف يشكل هذا العنصر وطريقة استغلاله. فهذه الوسيلة هي في الواقع العامل الرئيسي الخالق. أما طريقة الخلق والتكوين فهي التي تحدد القطعة الفنية وتعينها؛ لأن العبقرية الخالقة لا تقتبس كل شيء بل تختار من بين ما يروقها ما يساعدها على خلق نموذج فني ممتاز.
والتبادل الثقافي ظاهرة موجودة عند كل الشعوب ولا يمكن الشك في أن أي شعب لن يستطيع أن يتجنب هذا التبادل. والاقتباس لا يضير الشعب أو يحط من مكانته ومكانة فته طالما لا يفنى هذا الشعب ويذوب أو يتلاشى فنه في فن شعب آخر. وهذه الحقيقة ندركها في الفن الغوطي وفي أوربا، لذلك ليس من العدالة أن ننكر هذه الظاهرة على العروبة والإسلام. والملاحظ أنه سواء في الفن أو العلوم
يكال دائماً بكيلين فأوروبا عند الاستفادة تهتم بالشكل بينما العرب بالجوهر، وعند دراسة الجوهر في الفن الأوربي نجد الدارس يحاول إرجاعه إلى الثقافة القديمة فإن لم يوفق أهمله وانصرف عنه. وهذه الظاهرة ندركها في الفن الغوطي حيث نجد فيه العناصر العربية الجوهرية، كذلك الفن الروماني فقد صب في الواقع في قوالب شرفية قديمة من آسيا الصغرى، وهكذا أيضاً الفن الجرماني الخاص باستخدام الحيوان في الزخرفة، فهو غالباً فن شعبي آسيوي. أما المعمار العربي الإسلامي فكثيراً ما استعار من البابلي أو الفارسي أو البيزنطي.
وفي «كلوني» يجرى تبار عربي إسلامي ويستمر هذا التيار جارياً حتى يبلغ إنجلترا حيث نجد العقد المدبب العربي الذي انتقل إلى «كلوني» ودخله بعض التطور وأصبح في القرن الرابع عشر على هيئة قطعة فنية تشبه اللهب، وهو يستخدم في النوافذ والمسطحات. وقد انتقل هذا الفن مباشرة من العرب إلى «كلوني» ومنها إلى إنجلترا حيث التقى بالفن المعروف باسم فن «تودور» حيث يوجد عقد تودور وكذلك عقد «كيل» (نسبة إلى مدينة كيل) ونحن نجد الفنين في الجامع الأزهر بالقاهرة حيث يوجد ما يعرف باسم «ظهر الحمار» هو عقد المروحة مع القباب المعروفة والشبابيك كعنصر من عناصر الزخرفة.
ثم أخذ الفن التودوري ينتشر من الجزر البريطانية حتى بلغ الولايات المتحدة وأصبح فيها هو الفن المستعمل في الجامعات الأمريكية.
ومع مرور الزمن أخذ فن المعمار العربي يتغلغل في داخل القارة الأوربية، وأصبحت هذه البلاد وطناً للفن العربي قروناً طويلة، فنجد الغزاة المسيحيين للأندلس يشيدون قصورهم وكنائسهم حسب الفن المعماري العربي الذي استولى على قلوبهم واضطرهم إلى الاستعانة بالفنيين العرب. وما زلنا إلى اليوم نشاهد هذا الفن العربي المعماري. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر نجد الفن المعماري العربي الإسباني يتطور وينتقل إلى الأميريكتين الجنوبية والوسطى حيث نجد الفنين المعروفين باسم «بلاترسكين» و «خورير جرسكين» كما نجد الفن المعماري الذي أخذ عن إسبانيا والمعروف باسم
«أزوليوس» والذي استخدمه العرب في المباني الدينية والدنيوية وهو القيشاني الذي ما زال حتى يومنا هذا يزين كنائس المكسيك ومساكن أمريكا اللاتينية والدور الإسبانية الحديثة والمكسيكية الجديدة وكذلك في أمريكا الشمالية.
وفي صقلية نجد المعمار العربي أيام حكم النورمان والأشتوفيين يتطور تطوراً عظيماً وينتشر في مختلف جهات إيطاليا، هذا مع الإشارة إلى أن كل ميناء عظيم كان يحتفظ بعلاقاته الخاصة مع العرب والفنون العربية والثقافة العربية سواء عن طريق التجارة أو عن طريق خضوعها للعرب. وليست فقط البندقية بل أيضاً «بيزا» التي أخذت تنمو وتكبر تدريجياً حتى أصبحت سيدة البحار وملكة توسكانا، وذلك بفضل علاقاتها مع العرب. ولما تحالف أسطول «بيزا» مع أسطول جنوة وطردا العرب من سريدينيا، اتحدت بيزا مع النورمانيين للاستيلاء على صقلية وانتزاعها من العرب. ففي عام 1063 م أخذت بيزا تشيد كاتدرائيتها الشهيرة وذلك من الغنائم العربية التي غنمتها عند الاستيلاء على بالرمو كما استخدم المسيحيون بقايا مخلفات المساجد التي هدموها في بناء كنيسة «بابتيستريوم» و «كامبانيلا» ؛ وهكذا نجد الكاتدرائية متأثرة بالفن العربي تأثراً كبيراً وبخاصة باستخدام الرخام الأسود والأبيض في العقود عند دورانها، وهذا الفن العربي قد استعاره البور جنديون في الفن الروماني، ثم الخطوط الرمادية السوداء التي تزخرف الحوائط الخارجية الرخامية الأفقية والزخرفية التي على السطوح، ثم طريقة استخدام العقود السبعة المختلفة. وعند العرب العقود العادية والعقد المدبب والتطعيم العربي المختلف الألوان، والقاعات ذوات الأعمدة وأخرى كثيرة قد اكتسبتها أوربا من العرب المقيمين في صقلية. فالاتصال مع المدن التجارية الشرقية قوى الرغبة في اقتباس كل ما هو عربي، وهكذا نشأ الفن الرومانتيكي الإيطالي الجميل، وكذلك الفن البيزي الذي شمل بيزا وجميع إقليم توسكانا وعبر حدوده.
أما البندقية فقد اقتبست إلى جانب الفن البيزنطي كثيراً من مختلف الفنون العربية، فالمآذن العربية أصبحت في عصر النهضة أبراج النواقيس في إيطاليا،
والكومبانيلي القائمة قد تأثرت أيضاً بالمئذنة، كما نجد المهندس المعماري الإنجليزي الشهير «ورين» الذي تأثر بالفن الإسلامي يستغل هذا الأثر الإسلامي في تشييد أبراج كنائسه، وأخذ الإيطاليون يجمعون بين القباب والأبراج وجعلوا منها قطعة فنية جميلة. كذلك الحال مع المحاريب التي تشبه الأصداف والتي ظهرت في عصر النهضة والتي هي في الواقع تقليد للمساجد الإسلامية بمآذنها.
وعند تشييد الأبراج العربية من الأحجار أدخلت فيها معدات حربية كثيرة عاد بها الصليبيون من الشرق، وهذه المعدات العربية قد استخدمت في تشييد أسوار المدن الألمانية والأبراج البورجندية والقلاع الإنجليزية والحصون الفرنسية. ومن بين هذه الوسائل الحربية العربية المداخل المستديرة التي تعرقل وتعطل القوة الهجومية للعدو، وكذلك الخوارج للدفاع فمثلها مثل الأبراج القائمة على الحوائط إذ هي تمكن من القيام بهجوم أو دفاع جانبي. أما الخوارج الدافقة والتي يسميها الأوربيون «ماخيكوليس» ، فقد أقبل عليها الأوربيون إقبالاً عظيماً، فهذا النوع من الخوارج عربي أصلي جاهلي، وهو عبارة عن حوامل تبرز من الحائط وفوقها مبنى بشبه الشرفة وفي أرضه فتحة يتدفق منها على العدو الزيت الحار الساخن أو القار. ولم تمض عشرة أعوام على معرفة أوربا لها واشتهارها في ألمانيا باسم «أنف القار» حتى استخدمتها فرنسا وإنجلترا في أربعة أبراج، وعوضاً عن الحواجز الخشبية استخدمت أوربا منذ القرن الرابع عشر، لرفع الأبواب وأبراجها وبخاصة في القلاع الإسبانية والفرنسية والإنجليزية والسويسرية والألمانية، صفا من الخوارج المصبوبة تقوم عليها الممرات الواقية المثبتة بالحيطان. وهي تقوم مقام الخوذة من السلاح. وهكذا أصبحنا نجدها من خصائص الأبراج المشيدة للدفاع، وقد انتشرت ما بين اسكتلندة والقسطنطينية، وأصبحت ضرورية لكل برج ولو كحلية زخرفية.
وقد أحضر الصليبيون معهم من الشرق علاوة على ما ذكر، عادة تغطية الأبراج بخوذات من الحجر كما هو مشاهد في «لارن» ببلجيكا «وروديلزبرج» في ألمانيا.
فخوذات الأبراج العربية استعارها الصليبيون الألمان من «ورمس» واستخدموها في كنيستهم المعروفة باسم كنيسة القديس بولس، وللإشارة إلى حربهم الصليبية رسموا سفنهم الصليبية. وكما هو الحال في قبابهم الرمادية التي تعلوها سماء بلادهم المغطاة بالسحب والغيوم تقوم على سطوح مبانيهم المائلة المنحدرة والممتدة على ضفاف الرين توحي إلى الناظرين إليها بأجنبيتها، فهي تعبر عن هذه الخوذة العربية الحجرية، وهي التي تتدرج من مربعات إلى مثمنات ثم إلى دوائر، وهي التي قلدها الألمان على طول نهر الرين في «ديتلزهيم» و «الزهيم» و «جونتر زبلوم» بل حتى في «شبير» و «فيتزلار» و «أمورياخ» .
أما في إسبانيا ذاتها فقد اختفت آثار العصور العربية الذهبية ولم يبق بها إلا القليل جداً، وآخر آثار الماضي الذهبي التي تحمل بعض الآثار الفنية لمشيديها السالفين:«الحمراء» وقصر السلطان العظيم في غرناطة وبقايا القلعة الصيفية وقصر طليطلة وغير ذلك وبخاصة برج إشبيلية الذي كان يستخدم قديماً مرصداً للفلكيين، وهذا البناء لا يقوم على مصاطب مدرجة يستطيع الفارس بلوغها بل على سهل منحدر. أما واجهة البناء ذات الألوان المختلفة اللامعة فكأنها زجاج وتغطيها نوافذ مزدوجة جميلة على أشكال مدببة أو على هيئة أوراق العشب أو حدوة فرس. ومن بقايا الآثار العربية العظيمة في الأندلس وهذه الثقافة الرفيعة: هذا المسجد العظيم الذي شرع عبد الرحمن الأول في تشييده في قرطبة، لكن مما يؤسف له حقاً أن الكنيسة التي بنيت في داخله تبين لنا عظمة هذا المكان الذي كان قديماً يشتمل على أكثر من ألف وأربعمائة عمود، وبين العقود التي تشبه حدوة الفرس يتدلى أربعة آلاف وسبعمائة مصباح من الفضة من سقف مصنوع من خشب الأرز المزخرف. ولما جاء هشام الأول وهو الابن المتواضع المحافظ لعبد الرحمن الأول أتم البناء الذي بدأه والده وأضاف إليه المئذنة. والحكم الأول الذي كان واسع الأفق وميالاً إلى المرح والسرور ترك المسجد قائماً كما هو، لكن عبد الرحمن الثاني الذي كان هاوياً للفنون الزخرفية رغب في إيجاد عمل للعمال العاطلين فشيد كثيراً من المباني فقرر توسيع المسجد وشيد فيه محراباً ثانياً. أما ابنه محمد الأول الذي كان متزمتاً جداً
ومتديناً، فقد زخرف الحوائط والأبواب وأقام حاجزاً يفصل بين المقصورة التي يصلى فيها الحاكم وبقية المساجد. ثم خلفه عبد الله وكان حاكماً مستبداً جاهلاً فشيد طريقاً مسقوفاً من القصر الواقع غرب المسجد إلى المقصورة. وجاء بعده الحاكمان الأمويان العظيمان في الأندلس وهما اللذان جعلا من الإمارة خلافة، وخلافة ناجحة، وهما عبد الرحمن الثالث العظيم والحكم الثاني، وكانا معاصرين للملك هينريش الأول والقيصر أوتو الأعظم. وقد جدد الأمويان المنارة التي هدمها زلزال ووسعا المسجد ناحية الجنوب وشيدا المقصورة الجديدة التي كان يجب تشييدها، كما أقاما أيضاً محراباً جديداً. ثم جاء المنصور وكان وصياً على هشام الثاني فزاد في المسجد من الجهة الشرقية وقد تطلب هذا هدم بعض المنازل فاضطر إلى تعويض أصحابها.
وهكذا نجد هذا البناء يصاحبه التقدم والرقي إبان حكم الأسرة الأموية، ويعتبر عصرها أزهى العصور الإسبانية، فقد اشتهر بكثرة المباني كما ارتقت في عهده الموسيقى.