الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الابن الأول صانع الآلات
أسس يوناني الدراسة الفلكية العلمية وكان هذا العالم أقل يونانية من سائر اليونانيين فحتى ذلك الوقت كان علم الفلك اليوناني علمًا تأمليًا نظريًا وقليلا ما كان يدرك بالإبصار المنتظم، فالعقل اليوناني يهتم بالشكل والنظام والقانون؛ لذلك أسس مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال مسرحًا عالميًا من الكمال، فأوجد لكل العصور فكرة النظام القانوني العظيم للوجود، ومن هذه الناحية يختلف اليونانيون عن غيرهم من حيث إدراكهم للكون فهو شيء ملموس معقول محسوس بخلاف علماء الفلك على نهري دجلة والفرات.
لقد اشتهر البابليون بنظرتهم الثاقبة الدقيقة فقد آمنوا بجميع المظاهر السماوية وآثارها واقتنعوا بأن كل ما يجري في الكون مقدر من قبل. أما محاولة نسبة المظاهر الكونية إلى قوانين الطبيعة ومحاولة الاستفادة من هذه الصلة أو من نتائجها فلم تكن تهمهم أو تعنيهم.
أما الخصال التجريبية التي كثيرًا ما اتصف بها البابليون فلم تتوافر لدى اليونانيين الذين اشتهروا بالأناة عند الإدراك والحساب الدقيق، فجميع هذا أثر في عقليتهم النظرية تأثيرًا أقل من طبيعتهم الميالة إلى التعليل الفلسفي. ففي حوالي عام 500 ق. م. استطاعوا أن يتصوروا القبة السماوية المرئية وكأنها كرة هندسية جميلة تتفق والتناسق الإلهي، وفي وسطها الأرض التي كانوا يتصورونها قديمًا أنها أسطوانية الشكل تحلق في الفراغ. ثم جاء القرن الثالث ق. م. فنجد «أريسترخ» أحد أبناء مدينة «ساموس» يضع الشمس مكان الأرض في قلب الكون، لكن هذه الصورة
بالرغم من جمالها لقيت معارضة قوية من الخاصة والعامة الذين فضلوا تصور الأرض في قلب الكون، فالأرض هي التي أخرجت الإنسان وتعهدته والإنسان هو مقياس كل شيء إلا أن هذا الرأي ينقصه الدليل ولا يكفي الادعاء للأخذ به. وهكذا ظلت الأرض الوطن المقدس في الوجود، وظلت هكذا أيضًا حتى عام 150 ق. م. إذ ظهر في ذلك الوقت رجل من آسيا الصغرى بدأ بحثًا بطريقة أخرى غير يونانية إذ أخذ يقيس السماء ويفحص ويحسب في صبر وأناة ودقة لم يسبقه إليها أحد. والرجل الذي فتح هذا الفتح الجديد في دراسة النجوم ووضع أسس الدراسة العلمية الفلكية هو «هيبارش» فكان يقرأ صفحة السماء بعينين نافذتين ويعد ويقيس بآلات هو واضع معظمها، وقد أهدى هذا العالم ما توصل إليه من معرفة وتواريخ وفهارس للنجوم لجميع الذين يعنون بالدراسات الفلكية، وقد وصفه بطليموس المصري الذي جاء بعده بنحو مائتين وخمسين سنة بأنه أدق العلماء وأخلصهم.
والشيء الجدير بالملاحظة أن بطليموس المصري هذا اعتمد في كتابه الماجسطي على ما انتهى إليه «هيبارش» ، ولا عجب في هذا، فمجهود «هيبارش» ظل عصورًا طويلة كمثل أعلى للنتيجة التي انتهى إليها علم الفلك، إذ لم يظهر عالم آخر سواء عند الرومان أو من بين الهنود استطاع أن يخطو بهذا العلم خطوة أبعد، وظل الحال كذلك حتى جاء العرب فخلقوا الفلك خلقًا جديدًا، لقد زهر بين العرب فلكيان عظيمان يسمى كل منهما «عمر» وقد جلسا يومًا من الأيام عند عمود مسجد من المساجد وأمامهما كتاب الماجسطي فعبر عليهما جماعة من العلماء فوقفوا وسألوهما: ماذا يدرسان؟ «نحن نقرأ» أجاب أحد العمرين «تفسير قوله تعالى» :
{أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 17 - 18]
إن لعلم الفلك أثرًا بعيدًا ومكانة ممتازة عند كل مسلم فطلوع النجوم وشروق الشمس وظهور القمر آيات بينات ناطقة بعظمة الله وعلمه. هذا الله الذي ينطق القرآن الكريم بمجده وقوته هو خالق السماء والأرض والظلام والنور ويحيط بكل
شيء علمًا؛ لذلك قال أحد كبار فلكي العرب ألا وهو البتاني: إن معرفة النجوم تشبه معرفة الأشياء التي يجب على الإنسان أن يعرفها ويدركها كقوانين الذين وأوامره فعن طريقها يهتدي الإنسان إلى معرفة الأدلة التي تثبت وحدانية الله وعظمته وحكمته وقوته وكمال علمه، فلعلم الفلك عند المسلم قيمة علمية عظيمة.
لقد توقف حياة البدو الرحل الفلاحين منذ عصور بعيدة جدًا على السماء وأحوالها الطبيعية؛ لذلك اهتم القوم بعلم الفلك ومجاري الأفلاك، ولما جاء الإسلام وجدت صلة قوية بين عقائده وفرائضه وبين النجوم وسائر الأجرام السماوية وبخاصة عند قيام المسلم بفروضه اليومية، وقد نادى القرآن الكريم بوجوب النظر إلى السماء وفشعائر الإسلام الدينية والمحافظة عليها وعلى مواقيتها تحتم على المسلم العناية بمراقبة الشروق والغروب وما بينهما.
فالمؤذن في المسجد يجب أن يكون ملمًا بشيء من علم الفلك ليستطيع توقيت مواعيد الصلاة، ويجب أن يعرف استخدام آلة تحديد شروق الشمس وجريانها في كبد السماء ليحدد مواعيد تأدية فرائض الصلاة، كذلك يجب عليه أن يعرف طلوع الهلال وغيابه في شهر رمضان شهر الصوم، كما هو مطالب بمعرفة غياب الشمس وشروقها ليحدد المغرب والعشاء والسحور والإمساك والفجر والظهر والعصر. والمسلم مطالب أيضًا بمعرفة مواعيد الكسوف والخسوف فكل منهما يتطلب الفرائض الخاصة. والاتجاه إلى مكة عند الصلاة شرط لا بد منه لإقامة الصلاة فالاهتمام بالسماء وما يجري فيها أهم للمسلم من الطعام.
فلا عجب إذا رأينا المسلمين يقبلون على كل ما يتصل بالنجوم والأفلاك لذلك شجع الخلفاء هذا الاتجاه ودفعوا الشعب إليه حتى لم يمض زمن طويل إلا وأصبح الفلك علمًا تأتي دراسته والعناية به في مقدمة العلوم الأخرى؛ لذلك تخرج منهم المراقبون والمساحون والمحاسبون كما فعل العالم «هيبارش» من قبل. واستتبعت دراسة الفلك إقامة المراصد، ولعل أشهرها هو ذلك الذي شيده المأمون في بغداد أو دمشق، ولا ننسى تلك التي شيدها الخلفاء الفاطميون أمثال العزيز والحاكم في القاهرة وعضد الدولة فيما بعد في بغداد في حديقة قصره. والمرصد الذي شيده
السلجوقي في ملك شاه في نيسابور في شرق فارس، وكذلك هولاكو المغولي في «مراغة» غرب فارس، وأولوغ بك الأمير التتري في سمرقند.
ولعل هولاكو كان الوحيد من بين جميع هؤلاء الذي لم يكن مقتنعًا تمامًا بأهمية هذا العلم وفائدته، ففي هجومه على قلب الدول العربية استطاع حفيد جنكيز خان القضاء على صغار أمراء فارس كما قتل بحد السيف الأمراء الإسماعيليين وزعماء الحشاشين، ولم يكتف بذلك بل خرب بغداد وأشعل فيها النيران وأزال من الوجود العباسيين، إلا أن الحضارة العباسية الإسلامية أبهرت أنظار هذا البدائي حتى إنه قرر العمل على الأخذ بيد القائمين عليها، فاتخذ من الرياضي العبقري والفلكي الذائع الصيت ناصر الدين الطوسي (1201 - 1274) -والذي كان في خدمة الأمير الإسماعيلي الذي قتله هولاكو- وزيرًا لماليته.
لكن ناصر الدين كان شديد الحرص على مواصلة أبحاثه العلمية إلى جانب وظيفته؛ لذلك فهو في حاجة إلى مرصد فكان هذا الاقتراح، إلى جانب المطالبة باعتماد المبلغ اللازم لإقامته مدعاة لإشارة الشك والريب في قلب هذا البدائي المتوحش؛ لأنه ما كان يجول بخاطره أن علم الفلك هذا يتطلب إقامة مرصد، وأن المرصد يكلفه هذا المبلغ من المال. فأجابه ناصر الدين أن فائدة هذا المشروع سيتبينها هولاكو من هذا المثال البسيط الذي سيقدمه له. فقد طلب من هولاكو أن يسمح له بصناعة حوض كبير من النحاس ويضع هذا الحوض على سطح القصر، وفي المساء لما اجتمع سائر الأعيان والوجوه حول الخان أمر ناصر الدين سرًا بدحرجة هذا الحوض فأحدث صوتًا مخيفًا أوقع الرعب في قلوب جميع الحضور عدا ناصر الدين وهولاكو وكاد الآخرون يموتون رعبًا وفزعًا. فقال ناصر الدين لهولاكو تأمل أن الذي يعلم الأشياء لا يخشى وقوعها وهذا من فوائد علم الفلك، فالذي يفهم هذا اعلم لا يخشى ما قد يقه لأنه يعرف الأسباب؛ فإذا وقعت واقعة تقبلها العالم هادئ النفس لأنه عالم بها ولا يجهلها؛ فاقتنع الخان بكلام وزير ماليته وسارع إلى إجابة طلبه فرصد له الأموال الطائلة لبناء المرصد وتأثيثه فلما تم المرصد فرح به الخان فرحًا عظيمًا وأهداه مبلغا كبيرا من المال يقدر بعشرين ألف دوكات، كما زود
المرصد بمكتبة تحتوي على أربعمائة ألف مجلد جمعها من مكتبات بغداد وسوريا والعراق، كما استدعى عددا كبيرا من علماء أسبانيا ودمشق وتفليس والموصل والمراغة ليعملوا تحت إشراف ناصر الدين ويضعوا الزيح الفلكية الجديدة بتكليف من الخان.
أخذ ناصر الدين يوجه اهتمامه إلى السماء ومتابعة سير النجوم والأفلاك ومختلف الكوكبات واستنفدت هذه المراقبة من عمره زهاء الثلاثين عامًا، وذلك لأن زحل يحتاج إلى زمن يقرب من هذا لإتمام دورته، لكن هذا الخان البدوي غير المستقر اعتبر هذا الزمن طويلا جدًا فأصدر أمرًا يقول فيه إن هذه التأملات وتلك الدراسات يجب أن تتم في زمن لا يتجاوز اثني عشر عامًا، وفعلا تم وضع جداول الخان في الزمن الذي حدده.
لقد حصل ناصر الدين الطوسي على مرصده، وكان معهدًا للأبحاث لا يوجد ما يضارعه، وأصبح مشهورًا شهرة عالمية في أجهزته وأبحاث علمائه.
مهر العرب في صناعة الآلات وتركيبها كما شاهدنا هذا من مثل أحمد بن موسى، وبذل العرب جهدًا مشكورًا في سبيل استخدام الماء والاستفادة منه، والماء كما نعلم هو سر الحياة وعليه تتوقف، ففيما يتصل بري الأراضي صنعوا أنواعًا مختلفة من الوسائل مثل: السواقي والطلمبات والروافع، كما نجحوا في تركيب مضخات تعمل بالنار.
والشيء غير المؤكد هو مدى محاولة العرب التغلب على الهواء والتحليق فيه، والواقع أننا نجد في حوالي عام 880 م في أسبانيا الطبيب بن فرناس يبني أول طائرة من قماش ورياش، وقد نجح فعلا في التحليق بها مدة طويلة كما حاول القيام بعمليات انسيابية فسقط ولم يتحقق حلم «إيكاروس» .
لكن هواية صناعة الآلات عند العرب ظلت محصورة تقريبًا في عمل آلات الرصد ومختلف الآلات الفلكية وما جاءهم عن اليونان لم يغنهم شيئًا لتحقيق أهدافهم التي كانوا يرومون تحقيقها، فقد أدخلوا على هذه الآلات الكثير من
الإصلاحات، كما اخترعوا جديدًا للرصد والقياس، وقد بلغوا بها حد الكمال وأخذتها عنهم أوربا وظلت تستخدمها حتى اخترع المنظار البعيد.
وحدث أن ابن ناصر الدين الذي كان رئيسًا لمرصد المراغة زار يوما ما هذا المرصد فاستولت عليه الدهشة من كثرة ما عاينه ورآه من آلات الرصد، ومن بينها آلة عبارة عن كرة مشتملة على خمسة أطواق لقراءة مواقع النجوم، وهذه الأطواق الخمسة مصنوعة من النحاس، وأول هذه الأطواق هو دائرة نصف النهار وكان مثبتًا في الأرض والثاني خط الاستواء والثالث سمت الشمس والرابع خطوط العرض والخامس الاعتدالان، وقد شاهد ابن ناصر الدين علاوة على ذلك دائرة لقياس السمت وتعيينه.
ومع مرور الزمن أخذت هذه الحلقات في الكبر وهي المستخدمة في هذه الكرة ذات الحلقات الخمس النحاسية، وقد صنعها العرب كما وصفها بطليموس إلا أن المقاييس العربية كانت أدق وأضبط، وقد بلغ قُطر الحلقة النحاسية ثلاثة أمتار ونصف المتر أو أكبر.
وللإنسان أن يتساءل الآن: كيف استطاع العرب صناعة مثل هذه الحلقات العظيمة وهي تحتاج ولا شك إلى شيء كثير من الدقة والإتقان، فهل كان لدى العرب أجهزة تحول الدائرة إلى كرات، أعني آلات خراطة وصناعة مثل هذه الحلقات النحاسية الثقيلة والتي كان يبلغ قطر الواحدة منها نحو خمسة أمتار، وصنعها ابن قرقة حوالي عام 1100 في القاهرة، وتطلبت الاستعانة بوسائل أخرى تشبه ولا شك آلات الخراطة الحديثة المستخدمة اليوم في أوربا والتي توجد بها رقائق من الصلب قوية تدور وتقطع الحلقات.
ولما انتهى ابن قرقة من إعداد حلقته الكبرى في القاهرة اعترض عليه السلطان قائلًا: لو صنعت حلقة أصغر من هذه لوفرت على نفسك جهدا كبيرا، فأجابه ابن قرقة: لو استطعت أن أصنع حلقة طرفها عند الهرم والآخر يصل إلى الجانب الآخر من النيل لصنعتها، إذ كلما زادت الآلات حجمًا كانت النتائج التي يصل إليها الباحث أدق إذ ما أصغر آلاتنا إذا ما قيست بعظم الكون.
ولم ينجح العرب في صناعة الآلة ذات الحلقات والبلوغ بها فنيا مرتبة الكمال فقط، بل أضافوا إليها ثلاث حلقات يستطيعون بواسطتها عمل مقاييس الأفق فاستخدموا «الحداد» وهو الذراع المتحركة للقراءة تجنبًا لعدم الدقة التي قد يقع فيها الباحث من جراء الاقتصار على استخدام الجهاز المعروف باسم ذات الحلقات.
وزيادة في الرغبة في الحصول على قياس دقيق جدًا اخترع العرب آلات جديدة أخرى تقوم على نظريات جديدة وملاحظات جديدة وتجارب جديدة، وهذا الجهاز هو المعرف باسم السمت المربع وقد كان موجودا في مرصد «مراغه» وهو من أحسن وأدق الآلات وقد ركبه جابر بن أفلح، وهذا الجهاز هو الخطوة الأولى التي مهدت لظهور الجهاز الحديث المستخدم في قياس المساحات المعروف باسم «ثيودوليت» . وفي عام 1450 تمكن الألماني «يوحنا مللر» أحد أبناء «كونيجزبرج» بإقليم «فرنكين السفلى» ، والذي كان يطلق على نفسه «رجيومونتانوس» من تقليد جهاز جابر، وصنع جهازًا يشبهه تمامًا وأقامه في مدينة «نورنبرج» .
وفي نفس الوقت الذي كان فيه ناصر الدين الطوسي في شرق الدولة الإسلامية يعمل في مرصد المراغة ويراقب النجوم، كان يعيش ملك مسيحي في مدينة «بورجوس» في شمال إسبانيا، وكان هذا الملك قد اقتنع تمامًا بمقدرة المسلمين العلمية وتفوقهم، ولم يتردد في الاستفادة من هذه العبقرية الإسلامية. فهذا الملك المسيحي الذي كان يقدر المسلمين وعبقريتهم العلمية، المسلمين الذين كانوا أعداءه، هو الملك ألفونس العاشر ملك قسطيليا وقد عرفه التاريخ تحت اسم الحكيم ولو أنه لم يشتهر بكياسة سياسته أو إلمامه بأطراف المعرفة أو الثقافة. وكل ما كان يمتاز به هو تقديره للثقافة الإسلامية وتبجيلها، وقد أولع بها حتى إنه أحبها حبًا أفلاطونيًا ولعل الناحية العلمية الإسلامية التي استولت على لبه بصفة خاصة هي نبوغ المسلمين في علم الفلك، هذا العلم الذي يكشف عن مقدرات البشر، والذي ينتقل بالإنسان من الأرض إلى السماء وفي الوقت الذي يكسب فيه الإنسان السماء يخسر الأرض، لذلك شغف هذا الملك جدًا بعلم الفلك الذي أتقنه العرب ونبغوا فيه بينما كانت أوربا حتى الوقت تجهل هذا العلم جهلًا تامًا، أما هو -كما يأمل مستشاروه اليهود- فيجب أن يكون الأول الذي يشيد مرصدًا في مملكته مثله في ذلك مثل
خلفاء العرب وحكامهم بل يجب أن يكون مرصده أكبر وأن يزوده بآلات وأجهزة أحسن وأكمل لكي يصير أكمل وأحسن مرصد في العالم. لكن لتحقيق هذه الغاية يجب عليه أن يستعين بالعلماء العرب أو اليهود الذين تخرجوا على الأساتذة العرب وأخذوا عنهم الكثير، لذلك أمر هذا الملك المسيحي بترجمة سائر الكتب العربية إلى اللغة القسطيلية الدارجة وأسوة بما فعل العرب يجب أن تركب وتقام أكمل وأدق حلقات في العالم.
لكن أوربا لم تكن حتى ذلك الوقت تشعر بهذه الحياة العلمية التي وجدت طريقها إلى قلب ذلك الملك المسيحي، هذا الملك الذي كان يفخر أيضًا بأنه يحمل لقب الملك الألماني ولو أن قدمه لم تطأ أرض ألمانيا. وأخذ يبذل كل جهده في سبيل خدمة العلم ونشره في بلاده دون أن يحمل بين طيات قلبه بغضًا لأعداء بلاده أو عقيدته، وإن ظلت مجهوداته مجهولة خارج بلاده، ولما شيد «رجيومونتانوس» في منتصف القرن الخامس عشر في مدينة «نورنبرج» جهاز الحلقات مستأنسًا بمواصفات بطليموس اتضح له أن هذا الجهاز لا يداني الجهاز العربي دقة وإتقانًا.
أما جداول ألفونس فقد كان حظها أحسن فهي في الواقع من وضع الفلكي العربي «الزركلي» الذي عاش قبل ذلك بنحو مائتي عام في طليطلة، وقد ترجم الطبيب الملكي «دون أبراهام» كتابه إلى اللغة القسطيلية فاعترف منه جميع فليكي أوربا في دراساتهم فنحن نعلم أن «نيقولوس كوزانوس» قد اجتمع بأولئك الفلكيين عام 1436 باحثين اقتراحًا لتعديل التقويم إلا أنهم لم يوفقوا؛ لأن جميع الأسس الضرورية لمثل هذا العمل لم تكن متوافرة، وبالرغم من تقادم الزيج الفلكية في ذلك الوقت إلا أنها ظلت هي المعتمدة حتى أيام «كوبيرنيكوس» . وكانت هي الأسس لحساب التقويمات السنوية، وفي عام 1551 فقط قام الأستاذ «رينهولد» من مدينة «فيتنبرج» بمجاولته الناقصة وهي الاستعاضة عنها بزيجة البروسية.
ومن بين الآلات والأجهزة التي كانت في مرصد الملك ألفونس والتي أخذت عن الآلات والأجهزة العربية هذا العدد الكبير من الأسطرلابات المختلفة وأحسنها هو ذلك المعروف باسم الأسطرلاب الكروي، كما عثر
في هذا المرصد على آله صغيرة في متناول اليد وسهلة الاستعمال، وهي عبارة عن أسطرلاب، وكانت أكثر تداولا بين العرب من القطوع المخروطية. أما ذات الحلقات فكانت تستخدم في المرصد فقط بينما نجد هذه الآلة الصغيرة، بمساعدة كبسولة معدنية، تؤدي أجلّ الخدمات التي تؤديها اليوم لنا ساعة الجيب فبواسطتها يستطيع المسلم تحديد أوقات النهار، فالصلاة والقبلة. كذلك كان من المستطاع بواسطة هذا الجهاز إجراء الحسابات الفلكية فكانت هذه الآلة التي أطلق عليها اليونان اسم ماسك النجوم أحب آلة توقيت عند العرب وأكثرها تنوعًا.
وبينما لم يستخدم اليونان الأسطرلاب إلا في استعمالين أو أكثر قليلًا إذا بنا نجد في كتاب الخوارزمي حول الأسطرلابات ذكر ثلاثة وأربعين نوعًا، وبعد ذلك بزمن قصير نجد مؤلفًا آخر يذكر ما يقرب من ألف ويصفها وصفًا دقيقًا. وقد طور العرب الأسطرلاب وهذبوه كما استعملوه في مختلف الأغراض. وهناك نوع كروي من الأسطرلابات وآخر على شكل العدسة وثالث بيضاوي ورابع على هيئة بطيخة وخامس وكأنه عصا. والشيء الجدير بالذكر أنه يندر أن نجد فلكيا مسلما لم يعن بنبأ الأسطرلابات واستخدامها، وأقبلت أوربا على هذا الأسطرلاب وأخذته، ففي القرن العاشر الميلادي أحضر بعض طلاب العلم المتجولين أولى هذه الآلات الدقيقة ذكرى لدراساتهم الطويلة في الجامعات العربية، وفي النصف الأول من القرن الحادي عشر كتب ألماني كتابين حول فوائد الأسطرلاب، والكتابان يفيضان بالاصطلاحات والآراء العربية.
ومؤلف هذين الكتابين النادرين كان الابن التعس للجراف السويبي «فولفراد» وقد أصيب هذا الابن الشقي عند ولادته بشلل الأطفال فلازم المحفة منذ طفولته، وكان هذا الشلل الذي أصابه في عموده الفقري مؤلما جدا حتى أصبح عاجزا عن تحريك جسده دون مساعدة آخرين. ولما بلغ السابعة من عمره نقل هذا الطفل البائس «هرمان» إلى دير «ريشناو» حيث ظل به حتى بلغ الحادية والأربعين.
لكن بالرغم من هذا الجسم المريض كانت روحه وثابة طموحة مرحة حتى جعلت من «هرمان» المشلول أو كما سمى نفسه «هرمانوس كونتراكتوس» أشهر وأعلم أستاذ في الدير. والشيء الغريب حقًا أن هذا الشخص المشلول العاجز عن
الحركة والتنقل أخذ يتأثر بالحضارة العربية تأثرًا عظيمًا، ولا يعرف هل كان تفاعله مع العلوم العربية جاءه عن طريق بعض خريجي الجامعات العربية الذين كانوا يقيمون في دور الضيافة في «ريشناو» ومعهم بعض الآلات العربية العجيبة والأسطرلابات في أيديهم، وكانوا يتفوهون ببعض الألفاظ العربية والاصطلاحات الفنية التي ترامت إلى سمع هذا المريض المشلول أو حصل عليها من طريق آخر؟ وفي كتب «هرمان» نجد هذه العبارات وتلك الاصطلاحات العربية ولو أنها أحيانًا غامضة مشوهة إلا أنها حية، وإن ظلت غريبة على المطلعين على هذه الكتب.
لقد وصف «هرمان» في كتبه الأسطرلاب وصفًا دقيقًا لكن أحدًا لم يجرؤ ويركب آله لقياس الزمن وإبان العصور المتتالية نجد استخدام الأجهزة الآلية إذ ظل العلماء المسلمون منهمكين في تركيب هذه الآلات وصناعتها وتصديرها إلى بعض أجزاء أوربا المسيحية وعليها العناوين في اللغة اللاتينية. وفي القرن الرابع عشر فقط استطاع الغرب تركيب هذا الجهاز العجيب، فالأسطرلاب لا يمتاز بتحديد الزمان والمكان فقط بل يؤدي خدمات جليلة جدًا للبحارة في عرض البحار والمحيطات.
وفي القرن السادس عشر ازدهرت الآداب والكتب التي اهتمت بالأسطرلاب وصناعته، ولم يأت القرن الثامن عشر إلا وكان البحارة المسيحيون يعتمدون عليه اعتمادًا كليًا في هداية السفن وتوجيهها، وظل الحال كذلك حتى حلت محله أجهزة أخرى.
ولم يقف النشاط العقلي العربي عند هذا بل أقبل العرب على المزولة البسيطة لبطليموس وتفننوا واخترعوا منها أجهزة أخرى جديدة مثل: مزولة الحائط ومزولة السمت والمزولة الأخرى السهلة الحمل وغيرها من الآلات التي تجاوزت الثمانية عشر نوعًا. وكان البيروني يستخدم مزولة حائط قطرها سبعة أمتار ونصف المتر، وهي مزولة أقل بكثير من تلك التي كانت موجودة في مرصد «أولوغ بيك» ، إذ يبلغ قطرها أربعين مترًا. وصنع العرب نوعًا جديدًا أيضًا وهو المعروف باسم ذات السدس، وهي آلة بصرية ذات مقياس مدرج على شكل قوس دائري طوله سدس محيط الدائرة تستعمل لقياس الأبعاد «ذات الزوايا» ، كما اخترع العرب «ذات الثمن» «الثمينة» . وفي أول مرصد بأوربا وهو أورانينبرج لتشيو براها في جزيرة
«هفين باوست زيه» نجد الأجهزة العربية كذلك. وهي أول أجهزة قدمها العرب لأوربا وذلك بفضل هرمان ابن الجراف السويبي.
وللعرب أيضًا يرجع الفضل في اختراع الساعات الشمسية التي استطاعوا بواسطتها تحديد وتعيين أوقات النهار بمساعدة النظرية الكروية للمثلث والجدول الذي كان يبين موقع الشمس. وخير ما اخترعوا في هذا الموضوع ساعة شمسية متحركة أسطوانية الشكل، وهذه الساعات الشمسية السفرية قد وصلت أيضًا إلى دير «ريشناو» حيث يعيش «هرمانوس كونتراكتوس» ، واستطاع هو أن يصف تركيبها وصفًا دقيقًا، وقد تدفقت قطع من هذه الساعات السفرية فيما بعد على أوربا.
وعند تركيب الساعات الشمسية لعب الخيال العربي كثيرًا، وبخاصة في الساعات التي تتحرك بواسطة الماء أو الزئبق أو الشموع المتقدة أو الأثقال. فقد اخترع الساعاتية العرب ساعات شمسية بالطبل فهي تحدث قرعًا في حوض عندما تبلغ الثانية عشرة ظهرًا. والساعات المائية التي تلقي عند كل ساعة كرة في حوض معدني. ثم نجد قرصًا وعليه الأفلاك وعندما يتحرك القرص تظهر الكوكبات أو عند تمام الساعة الثانية عشرة ليلا نجد في هيئة نصف دائرة شبابيك يضيء كل منها عقب الآخر بينما يمر بها هلال. وفي عام 807 م أهدى عربي وهو رسول هارون الرشيد واسمه عبد الله القيصر شارلمان في «إكس لاشبل» ساعة من هذا النوع: الساعة كانت من المعدن: هكذا يذكر مؤرخ القيصر واسمه «إينهرد» في مذكراته «وكانت مركبة بطريقة عجيبة فنية جدًا. ساعة مائية بين اثنتا عشرة كرة، وعن طريق سقوطها يرن مضرب متصل بآخرها، وفيها أيضًا اثنا عشر فارسًا. وفي نهاية الساعة يقفز الفرسان من اثني عشر بابًا وبعد قفزهم تغلق الأبواب التي كانت مفتوحة من قبل. لكن الشيء الذي يثير العجب حقًا في هذه الساعة لا أستطيع الحديث عنه لأن الحديث عنه يتطلب زمنًا طويلًا .. » !
واليوم يستولي علينا العجب عندما نقف أمام دار بلدية ونسمع دقات الساعة ونرى قرصًا يتحرك وشخوصًا لا تستقر في مكان، كما فكر العرب من قبل ووجدوا لذة في مثل هذه الصناعة.