الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال ابن سينا
كما يتشبع الإسفنج الظمآن بالماء والأرض الجافة الخالية بالغيث، كذلك كانت ظروف العالم عندما جاءت سحب العلوم والمعرفة والثقافة العربية الإسلامية، فقد هطلت عليه كتبًا امتازت بحسن التأليف ودقة التبويب وبراعة العرض وأخرى مترجمة قد اتسمت بركاكة الأسلوب وضعف العبارة. وما كاد المجتمع الإسلامي وغيره من المجتمعات التي اتصلت بالمسلمين ثقافيًا أو حربيًا أو تجاريًا يتسلم هذه الهبة العقلية حتى تفتحت العقول فأزهرت وأينعت وجاءت إلى الإنسانية بالخير العميم. وإذا تركنا الشرق إلى الغرب واتجهنا إلى سالرنو وجدناها -وقد استقبلت الموجة الثقافية الإسلامية الأولى- تنهض وتتطور وتتبوأ مكانًا ساميًا جعلها ذات شهرة عالمية، ثم لم تكد تهضم ما تناولته حتى جاءتها موجة ثانية لكن هذه المرة من خلف الحصون الإسبانية حيث تدفقت ينابيع الحضارة العربية على مونبيلييه فبعثت فيها وفي سائر الأنحاء الأوربية حياة جديدة فتية نلمس آثارها العلمية الطبية لا في مونبيلييه فقط بل بولونيا وبادوا وباريس وأكسفورد أيضًا.
ومن أكبر مظاهر إقبال أوربا على تحصيل العلوم العربية هذا الشغف العظيم باقتناء الكتب التي ظهرت في تلك العصور، والتي كانت عربية التأليف إنسانية الغايات، وحتى ما ألفته أوربا وقتذاك إنما كان صورة من المؤلفات العربية، وما أقبلت أوربا على ما أقبلت عليه إلا سدًا للفراغ العلمي الذي كان مخيما عليها
ومحاولة للحاق بالعرب في مختلف أنواع العلوم والفنون والآداب. والكتب الأوربية التي ظهرت -وإن افتقدت أحيانًا الاصطلاحات العربية- قد استمدت مضمونها ودلالتها. ولعل أكثر الكتب دراسة واستشهادًا مؤلفات أمثال: ابن سينا وأبي القاسم والرازي وابن زهر وحنين بن رسحق وإسحق يهودا. وكما طرق العرب قديمًا أبواب الثقافة اليونانية كذلك الحال عند أوربا الظمآي فإنها أقبلت واعتمدت في نهضتها على المراجع اليونانية العربية، وكانت هذه الكتب هي كل شيء في الطب، إلا أن الأزهار الأجنبية لم تتأصل جذورها في الأرض ولم تزدهر وتورق بل نمت في حدود ضيقة جدًا؛ لذلك بدت وكأنها أزهار ذابلة.
وكانت النتيجة أنه لم يظهر طب أوربي، كما ظهر في الشرق طب عربي منذ عصر الرازي، وأصبح عند العرب طب عربي خالص، وظل الأوربي عربيًا طيلة عصر الإنسانيين بالرغم من وجود أمثال «باراسيلسوس» بل امتدت فترة قيام الطب الأوربي المعرب حتى أوائل العصر الحديث.
والسبب في تأخر ظهور الطب كعلم أوربي هو طبيعة العصر وطبيعة نظرة الأوربين للحياة واهتمامهم بالإنسان فقط، وكل شيء خالق يتجمد ويكتفي فيه بالتفكير فقط، فنحن نجد الكنيسة تتطلب من المسيحيين الاستسلام بدون قيد أو شرط لها ولتعاليمها والخضوع لسلطانها، بينما أولئك الذين يدرسون ينتمون في الواقع إلى الطائفة المستقلة التي تفكر كيفما طاب لها التفكير، ونجد الأطباء العرب يحيون في معترك الحياة في الوقت الذي نجد فيه جميع معاهد الدروس -إذا ما استثينيا سالرنو والجامعة الحكومية في صقلية وفي نابولي- تخضع خضوعًا تامًا للكنيسة وتعاليمها.
فالفرد المسيحي يجب عليه أن يأتمر بأوامر الكنيسة ويؤمن بها إيمانًا أعمى ولا يجوز له مناقشة ما تفرضه عليه، فالمسيحيون هم خدم الكنيسة، وهذه العادات وتلك الصفات أصبحت طبيعة ثانية للمسيحيين. فإذا حاد المسيحي عن هذا الطريق وأخذ يهتم بما يجده أو يراه حتى بجسده أو بالمرضى سعيًا وراء جمع المعلومات والتجارب، ضل الطريق القويم فطريق العقل يؤدي إلى الغرض والهدف. وتحدثنا
المصادر التي جاءتنا أن الوعي قد استيقظ في ذلك الوقت مسترشدًا ببعث التشريع الروماني في مدرسة الحقوق بمدينة بولونيا، وأخذت طريقة التفسير والتعريف والمناقشة مع استخدام المنطق ومراعاة الأصول المختلفة تنتشر منذ عهد «أنسليم فون كنتبري» ، ومنذ التعرف على أرسطو بفضل العرب.
فإذا تم مع التشريع والتقنين فلماذا لا يحدث مع اللاهوت أو الطب؟ فما هو حلال للقانون حلال للاهوت فيما يتعلق بالعقائد الكنسية وحلال للطب ولتعاليم العرب وجالينوس وأرسطو، فهذه العلوم العربية هي أهم شيء بالنسبة لهم، هي معجزتهم هي قانونهم هي إنجيلهم، قانون ابن سينا.
وأين ينشأ الطب إذا لم يجد في هذه القلعة التي عطرها القانون والتشريع والحقوق تربة خصبة له؟ ! في بولونيا نجد «تاديو الديروتي» يهتم بالقانون وشرحه، وقد نجح في تعاليمه التي أصبحت عقيدة لتلاميذه أجيالا متتابعة ومن بينهم أولئك الذين كرسوا حياتهم للطب فكانوا رسله وإن تزيوا بأزياء عربية. لقد قدس أولئك الرسل العلماء العرب والعلم العربي وبخاصة ابن سينا والرازي، وظل هذا التقدير قائمًا حتى القرن السابع عشر، وأصبحت عبارة «روح ابن سينا» من أكبر الألقاب التي يتشرف بحملها الطبيب الأوربي أو الطب عامة. أما درجة الامتياز التي كان لا ينالها إلا فطاحل الأطباء الأوربيين فهي «شعار ابن سينا» ؛ وفي القرن السادس عشر أطلق لفظ «ابن سيني» على جميع أتباع ابن سينا.
وأين ينشأ الطب إذا لم يجد في هذه القلعة التي عطرها القانون والتشريع والحقوق تربة خصبة له؟ في بولونيا نجد «تاديو الديروتي» يهتم بالقانون وشرحه، وقد نجح في تعاليمه التي أصبحت عقيدة لتلاميذه أجيالا متتابعة ومن بينهم أولئك الذين كرسوا حياتهم للطب فكانوا رسله وإن تزيوا بأزياء عربية. لقد قدس أولئك الرسل العلماء العرب والعلم العربي وبخاصة ابن سينا والرازي، وظل هذا التقدير قائمًا حتى القرن السابع عشر، وأصبحت عبارة «روح ابن سينا» من أكبر الألقاب التي يتشرف بحملها الطبيب الأوربي أو الطب عامة. أما درجة الامتياز التي كان لا ينالها إلا فطاحل الأطباء الأوربيين فهي
«شعار ابن سينا» ؛ وفي القرن السادس عشر أطلق لفظ «ابن سيني» على جميع أتباع ابن سينا.
أما المؤلفات التي ظهرت في ذلك العصر فكانت تحمل الصورة الصادقة لتعاليم ابن سينا وطريقته في التأليف والبحث، كما أننا نجد احتذى مؤلفوها غير ابن سينا من العلماء العرب.
وغير «نادو» نجد «بيترو» من «أبانو» وهو ابن رجل قانوني لنجو باردي، وكان مغرمًا بابن سينا وابن رشد وكانت له عقلية منطقية تستطيع إدراك الحقائق الطبيعية، التي قد تنشأ عنها حقائق تتعارض والتجارب، وعن طريق الفلسفة توصل إلى نتائج لا تقبل الشك خاصة بشراب الشعير الذي لا يسبب حمى؛ وذلك لأن عصير الشعير عبارة عن خلاصة بينما الحمى شيء طارئ، وعن طريق المنطق استطاع أن يثبت دون صعوبة أن النار ليست جسمًا باردًا بل ساخنًا، وعن طريق هذه المعاملة المنطقية ضرب مثلا كيف أن الإنسان يستطيع أن يحصل على آخر نقطة من الدم دون أن يجهد حواسه أو عقله.
والواقع أن التأملات الفلسفية قد خلقت الناحية التجريبية أو العملية أو التطبيقية، وأن استبداد النظرية التي أصبحت غريبة على الحقيقة خاصة بالتجارب الطبية قد سخرت منها العقيدة الشعبية في هذا الشهر:
جالينوس والعلامة أبقراط ..
علماني أنه ..
حيث يوجد ماء يوجد بلل ..
وإن لم يمت فستتحسن صحته!
ثم إن الكتب التي التزمت المنطق وبراعة الأسلوب مثل كتاب القانون نالت إعجاب أولئك الذين يقدرون فصاحة اللغة وبلاغتها. لكن علماء الطب من الأوربيين فهموا هذه الكتب همًا خاطئًا فخرجوا منها بنتائج لا تتصل والعلوم
العربية بصلة ما وهي منها بريئة.
فالعلوم العربية يجب ألا تنتهي إلى عقلية هؤلاء العلماء الأوربيين، وقد راعت جامعة سالرنو الدقة العلمية بفضل العقلية الناضجة التي امتازت بها فخرجت طبًا حقيقًا. وهذا يؤيد هذا التسامح العقائدي الذي دفع إلى السير في طريق الجامعات العربية في الدراسات الطبية، كما نلحظ هذا في جامعة مونبيلييه التي تأثرت بمختلف التيارات والأهواء، وبالرغم من ذلك تمسكت بتقاليدها السليمة وفتحت صدرها منذ البدء للثقافة العربية التي أقبلت عليها من مختلف الجهات وتأثرت بها مونبلييه حتى النهاية دون التأثر بالظروف المدرسية الأوربية.
ولا أدل على أهمية العرب والعربية والدور الهام الذي قام به العرب في ميادين الثقافة والحضارة، من أن الباحث كان مضطرًا إذا ما أقبل على عمل بحث من البحوث إلى دراسة اللغة العربية دراسة دقيقة، كما نشاهد هذا الظاهرة مع الإسباني الشهير، الذي انحدر من أسرة غوطية غربية واسمه «أرنلد» وهو أحد أبناء مدينة «فيلانويفا» (135 - 1311) فنحن نعلم أن «أرنلد» هذا فعل في بلده ما فعله من قبل «ميجويل ثرافيدا» ، فهو لم يكتف بدراسة اللغة العربية وإتقانها بل أقبل على العقلية العربية وتعمق في إدراكها ودراسة الكتب العربية الطبية كما اتصل بالأطباء العرب فحصل على علم ومعرفة تميز بهما على سائر مواطنيه وانفرد من بينهم بعدم اكتراثه بعلوم وآراء مفكري أوربا. فأقبل على العلوم العربية فجنى منها بعض تراثها. كما أبدى تجاهلا لأولئك العلماء الذي كانوا سببًا في نشر الغباوة والجهل بين الأطباء اللاتين، وكرس حبه وتقديره لأمثال: علي بن عباس وابن زهر والرازي الذي سلط عليهما نوره وعلمه. فالرازي هو الرجل الذي اشتهر بالبحث والتعمق والإنتاج والتقدم والقيام بالتجارب الخاصة. والسبب الذي من أجله قدر «أرنلد» الرازي فاحتل من نفسه مكانة رفيعة هو بعينه الذي رفع من منزلة «أرنلد» . وصفات الرازي كذلك هي التي احتذتها جامعة مونبيلييه فآلت أن تفكر التفكير الحر أسوة بالرازي، وأن تذود عن حرية الرأي والبحث العلمي كما فعل الرازي أيضًا.
وهناك فرع آخر من فروع الطب يقوم دليلا على بعد العرب عن الانحرافات
والالتواءات الأوربية الطبية، وهذا الفن هو الجراحة. فالجراحة تدين للعروبة في تطورها وتقدمها السريع بعد أن كانت مهنة من المهن الحقيرة، وسرعان ما بلغ الجراح منزلة قاضي الجنايات.
ففي عام 1163 م صدر قرار من المجلس الأعلى يمنع تدريس الجراحة في مدارس الطب، كما أن الجراحة اعتبرت مهنة مشينة تدنس شرف وكرامة الطبيب الذي يمارسها، بخلاف العرب الذين أقبلوا عليها وأولوها عنايتهم فأصبحت علمًا من أجلّ العلوم وأشرفها بل أصبحت الفن الطبي الوحيد الذي يتطلب اليقظة والانتباه وسرعة الإدراك وسلامة الطبيب وقواه، لأنه هو الفن الطبي الذي يأتي بنتائج إيجابية. وقد أخذت الجراحة تتبوأ مكانًا رفيعًا في أوربا على يد «روجر فون سالرنو» اللنجو باردي وتلميذه «رولند» و «هوجو فون بورجو جنوني» وابنه «تيودريش» ، ثم قدر للجراحة أن تخطو خطوة أبعد بفضل «فلهلم فون ساليسيت» اللنجو باردي وتلميذه الذي تفوق عليه وهو «لانفرنكو» ، ثم الفرنسي «جوي ده شولياك» .
والشيء الجدير بالملاحظة حقًا، هذه الحقيقة التي تدحض الافتراءات التي افتريت على الجراحة والجراحين، أعني هذا التقدم الذي أحرزته الجراحة على يد أمثال: أبي القاسم وابن سينا. وبفضل الأخير خاصة انتقلت إلى أوربا واشتركت اشتراكًا كليًا مع علم التشريح، ومن ثم ينتهي بها المطاف إلى هذا التقدم العظيم الذي أحرزته الجراحة في الطب الحديث.
ومرة أخرى نجد العرب يتقدمون لإنقاذ هذا العلم من خطر جديد أحدق به وفي أوقات حرجة جدًا، وليس هذا الموقف بجديد على العرب فقد سبق لهم أن سارعوا إلى إنقاذ الطب من سيطرة اللاهوت واستعباده وإقفال الطريق أمامه. لقد دنت ساعة الامتحان للطب والأطباء عندما انتشر وباء عام 1382 وحار الطب وأخفق الأطباء، في ذلك الوقت كان الطب العربي يتحدث عن الوباء وعن العدوى التي قد تصيب الإنسان من جرائه، وهذا بدوره قد ينقل جراثيم المرض إلى كثيرين ممن قد يتصلون بالمريض. وحدث أيضًا أن انتشر الوباء مرة أخرى وكانت أوربا مستعدة
لمكافحته وتجنب ويلاته فمنعت السفن التي يشتبه في وجود المرض بها من الاقتراب من الموانئ الإيطالية، ثم تقرر التبليغ عن جميع حالات المرض. وقام أول بناء للعزل ومنعت الاجتماعات وأحرقت جميع الأشياء الملوثة بجراثيم المرض، فكل هذه الاحتياطات تقوم دليلا على أن أوربا أخذت بالرأي العربي الخاص بطرق مقاومة المرض والحد من انتشار العدوى، وقد زلت هذه الوسائل متبعة حتى يومنا هذا.
وبدهي أن هذه الاحتياطات التي أتت بأحسن النتائج في سبيل مقاومة الوباء والقضاء عليه لم تتعارض وتعاليم الكنيسة فالعبارات الواردة في العهد القديم والخاصة بالعقوبات والعذاب الذي قد يلحقه الله بالمذنبين على يد ملائكته شاهدة على عدم انحراف المسيحيين عن تعاليم دينهم، إذا ما فهمت على أنها لا تحمل إلا معنى رمزيًا. إن الإيمان بالآيات الواردة في الكتاب المقدس حالت لمدة عدة قرون دون تقدم البحوث الخاصة بالعدوى، فإلى جانب سرير المريض كان يقف الطبيب العظيم والعالم المشهود له بالكفاية العلمية لكنه لا يستطيع أن يقدم للمريض أدنى مساعدة؛ وذلك لأن العلوم الطبية قاست الكثير من التخمة التي أصابت الأوربيين الذين عجزوا عن فهم العلوم الأجنبية. كما أن العلوم الأوربية لم تتقدم قط حتى في الوقت الذي كان يصرح فيه لخريج الطب الحديث وتحت إشراف طبيب آخر بمعالجة المريض، إذ إن سائر معلوماته كانت في الواقع مستقاة من الكتب والصور المأخوذة عن رسومات خيالية خاطئة. أما الدراسة العلمية في المستشفيات كما هو الحال عند العرب فلم تكن مستعملة في أوربا، فمدرسة الطب كانت مقطوعة الصلة بالمستشفى، فلما عاد الصليبيون وشاهدوا ما شاهدوا عند العرب، وفي مدارس الطب العربية طالبوا بإدخال هذه النظم في أوربا، وأخذ البابا إينوسنس الثالث يطالب جمعية روح القدس ببناء المستشفيات وجمع المرضى فيها كما أشرفوا هم على رعاية أولئك المرضى في المستشفيات التي كانت خالية من الأطباء. وفقط في عام 1500 م عين ولأول مرة في مستشفى ستراسبورج طبيب دائم مقيم، وكان هذا بعد ثمانية قرون من تشييد الخليفة الأموي الوليد للمستشفى العربي، الذي عين له عددًا كبيرًا من الأطباء المختصين في مختلف الأمراض. وبعد ستراسبورج نجد في
مستشفى ليبزج عام 1517 ثم «أوتيل ديه» في باريس عام 1531 م.
وفي منتصف القرن السادس عشر حدث أن طبيبًا من «فيرونا» أخذ يدرس شرح ابن سينا في مستشفى «بادوا» مع دراسة علمية، فأثار هذا التجديد العجب. فقد قصد «بادوا» طلبة من مختلف البلاد ليشاهدوا العرض الجديد لنصوص ابن سينا وجاينوس مطبقًا على المرضى ويشترك الطلاب مع أستاذهم. كذلك نسج على نفس المنوال طبيب آخر كان يعمي في مدينة «إينجولستات» إلا أن هاتين الحالتين كانت وحيدتين، وفي القرن الثامن عشر فقط نجد الطبيب الشهير الذي كان يعمل في مستشفى «هرمان بيرهافا» ولو أنه من مدينة ليدن يطبق العلم على العمل في المستشفى بالرغم من الحالة البدائية التي كانت عليها المستشفيات الأوربية عامة في ذلك الوقت، فقد كانت تستحق السخرية حقًا فضلا عن عدم ملاءمتها للقواعد الصحية. وبالرغم من ذلك فقد خطا هذا النطاسي البارع بالدراسة الطبية خطوة واسعة.
ولما انبثقت حركة إحياء العلوم والاهتمام بالعلوم اليونانية كان من المتوقع أن تؤثر في مكانة الطب العربي، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، وعلى العكس، بخلاف ما وقع مع الفنون وسائر العلوم العقلية وبخاصة الفلسفة. أما العلوم القائمة على التجارب والخبرة فلم تستفد شيئًا من العلوم اليونانية.
وفيما يتصل بالطب وسائر العلوم التجريبية أو التطبيقية التي أخذها العرب عن اليونان وقدموها لأوربا. فقد كانت أيسر قبولا وأكثر رواجًا من تلك التي عرفت في بيزنطية بل امتازت عليها بحسن التنسيق وجمال العرض ودقة الملاحظة، ولم تقتصر هذه المفاضلة على البيزنطية فقط بل امتدت إلى اليونانية أيضًا.
أما كتب أمثال: علي بن العباس وابن سينا فقد كانت مثلا لامعًا في التأليف وترويض هذه المواد الجامحة، فقد تناولت هذه الكتب ما جاءها وخلقته خلقًا جديدًا فأضافت إليه الشيء الكثير فاستعاض القارئ عن سفسطة جالينوس علمًا غزيرًا جديدًا لا يستغني عنه باحث أو طالب معرفة، ومعنى هذا استعباد جديد وتبعية جديدة وحيلولة دون خلق جديد في عالم التأليف.
وعلاوة على ذلك فقد كانت التراجم الجديدة المباشرة للكتب اليونانية تتصف بالفوضى والاضطراب وضعف الفائدة بخلاف تلك التراجم التي اعتمدت على العربية. وقد كشف الإنسان عن مؤلفات أمثال: «روفوس» و «بولوس» و «سيلسوس» ونقلها إلى لغة العصر إلا أن تقادم عهدها جعلها لا تصلح للعصر الذي ترجمت فيه بخلاف الحال مع المؤلفات العربية التي ترجمت في نفس الوقت إلى اللاتينية مثل القانون لابن سينا الذي ترجم مرة في دمشق وأخرى أحسن وأدق في إيطاليا.
لكن هناك شيئًا هامًا أثر بواسطته الإنسانيون في الأطباء ولو أن هذا الشيء لا يمت إلى الطب بصلة فهو إنتاج لغوي نبه القوم إلى وجوب الاهتمام بفحص النصوص وتحليلها وإن كان هذا الاتجاه قد صرف القوم عن فهم المعنى إلى الأسلوب بما فيه من فصاحة وبلاغة، لكن حتى هذا لم يصرف الأوربيين عن الاهتمام بأساتذتهم العرب وذلك لأنهم قد تبينوا مدى تفوق العرب على اليونان، فمن بين الأطباء المشهورين الذين زينوا جبين القرن الخامس عشر والذي طارت شهرتهم إلى كل مكان: ابن سينا والرازي وابن زهر وعلى بن عباس وأبي القاسم، وقد كانوا المثل الأعلى في الطب، كما أنهم هم أساتذة الذين خلفوهم وبخاصة في الطب العملي.
وقد انصرف نفر من العلماء إلى دراسة التراثين العربي واليوناني والمقابلة بينهما وبخاصة فيما يتصل بالطب ومعرفة مدى أثر اليونانيين على الأطباء العرب الذين خلقوا الطب العملي التجريبي، وقد قدم أولئك العلماء إحصائية عن هذا الأثر. ومن أهم الكتب التي ألفت في هذا الموضوع كتاب الجراف «فراري دا جرادو» أستاذ جامعة بافيا الذي وضح شرحًا وتفسيرًا للكتاب التاسع من كتاب المنصور للرازي، وهو أول كتاب طبي طبع عام 1469. ففي مؤلفات «فراري» جاءت إحصائية تبين أن ابن سينا ذكر أكثر من ثلاثة آلاف مرة والرازي وجالينوس ألف مرة وأبقراط مائة وأربعين مرة.
والجدير بالملاحظة إلقاء نظرة على الطبعات القديمة للكتب الطبية وأولها ولا
شك قانون ابن سينا، فقد ظهر هذا الكتاب في فبراير 1473 في ميلانو، وبعد عامين ظهرت الطبعة الثانية، بينما ظهر في نفس الوقت شرح ابن سينا، وقد نشره ذلك الإيطالي، وهو الكتاب المعروف باسم «روح ابن سينا» وظهرت طبعة ثالثة للقانون قبل طبع أول رسالة جالينوس؛ ومن ثم أخذت تتوالى الطبعات، فظهرت الطبعات الأولى لكتب المنصور والحاوي للرازي، ثم الكليات لابن رشد وإيساغوجي حنين بن إسحق والذي يعرف الآن برسم «يوحنتيوس» .
ثم كتاب الأطعمة لإسحق يهوذا والكتاب الملكي لعلي بن عباس، وهكذا حتى عام 1500 ظهرت الطبعة السادسة عشرة لكتب القانون بينما لم تظهر لجالينوس إلا طبعة أولى في مجلدين. وفي القرن السادس عشر بلغت الطبعات للقانون العشرين، ومن ثم أخذت تتوالى حتى منتصف القرن السادس عشر، وهكذا نجد قانون ابن سينا هو أكثر الكتب الطبية دراسة وانتشارًا في عالم الطب. أما طبعا شرحه فلا تحصى.
وفي القرن السادس عشر فقط، أخذ الطب الأوربي يشعر بالخجل من الطب العربي، وذلك لأنه ظل زمنًا طويلًا ينقل ويقتبس ويأخذ عن العربي حتى إنه كان صورة مشوهة منه، ولا يوجد مثل أصدق يصور لنا الحالة التي كان عليها الطب الأولى من هذه العبارات الخاوية التي تدل على لا شيء والتي قالها «باراسيلسوس» في ميدان السوق بمدينة «بازل» عندما أحرق علانية كتب جالينوس وابن سينا مما أثار غضب الشعب.
لكن يجب ألا يتبادر إلى أذهاننا أن هذه العملية التي قام بها «بارسيلسوس» جاءت بنتيجة ما فالعلم العربي ظل قائمًا يزين رؤوس العلماء المفكرين، ودور الكتب الأوربية لم تتوان في اقتناء هذه الكتب العربية والتنافس في هذا الاقتناء والمفاخرة به بل حتى حقائب الأطباء كانت غاصة بهذه المؤلفات العربية الطبية. نعم إن ميخائيل ثروت هاجم وانتقد الشراب العربي الذي اعتمد على مبدأ العصير اليوناني، لكنه في نفس الوقت نشر الاختراع العربي للدورة الدموية الصغرى دون أن يذكر المراجع العربية التي أخذ عنها.
أما أستاذه في التشريح «سيلفيوس» فقد كتب عام 1545 شرحًا على الرازي هو نفسه أبو التشريح وأبو الطب الأوربي عامة؛ كذلك نعلم أن الألماني «أندرياس فيزاليوس» قد تعلم اللغة العربية أيضًا وأجهد نفسه في سبيل إعادة نشر الكتاب التاسع من الكتاب المنصوري لمؤلفه الرازي وفي لاتينية أسلم وأقوم. كما ظهر من الكتاب العربي العظيم الموسوم باسم كتاب الحاوي في الفترة الممتدة بين عامي 1486 و 1542 خمس طبعات كاملة، كذلك عدة طبعات من بعض فصوله. أما كتابه عن الجدري والحصبة، فقد طبع بين عامي 1498 و 1866 أكثر من أربعين مرة، وقد ظلت هذه الرسالة الصغيرة موضع اهتمام وتقدير العالم المتمدين زهاء ألف عام وما زالت حتى يومنا هذا المرجع الهام الذي يستغنى عنه والمثال الذي يحتذى.
ومن المؤلفات القيمة التي لها مكانة لا تقل عن معاجم الجيب، تلك الجداول التي وضعها ابن جزلة وابن بطلان، فقد ترجمت هذه الجداول أكثر من مرة إلى اللاتينية وعليها اسم المؤلف في صيغة لاتينية غامضة جدًا، وقد ترجمت إلى الألمانية وظهرت في مجلد واحد تحت اسم مفاده «جداول الشطرنج الصحي» .
أما الكتاب الملكي لعلي بن العباس، فقد شاءت الأقدار أن ينال خطوة عظيمة وذلك عن طريق عالمين من العلماء الإنسانيين تجمع بينهما صلات القرابة في مدينة نورنبرج. ففي حوالي عيد ميلاد عام 1493 م تسلم العالم النورنبرجي الطبيب الشهير «هارتمان شيدل» رسالة من بادوا حيث كان يدرس صديقه الشاب «هيرونيموس هولز شوهر» أبلغه فيها عظم فرحه لشرائه الكتاب الطبي العربي الشهير جدًا، الذي ظهر حديثًا في ترجمته اللاتينية في مدينة البندقية. أما مترجمه فهو «إسطفان فون بيزا» فما كان من «شيدل» إلا أن أطلع زميله الطبيب «هيرونيموس مينزر» طبيب مدينة نورنبرج على هذه الرسالة، وقد كان «مينزر» هذا إلى جانب طبه هاويًا القيام بالرحلات ودراسة الجغرافيا، وهو الذي أرسل إلى ملك البرتغال رسالة تحثه على وجوب الاهتمام بتمكين «كولومبوس» من القيام برحلته
إلى الهند مجتازًا الطريق البحري الغربي. وكان هذان الطبيبان يهويان اقتناء الكتب المطبوعة الحديثة؛ لذلك فرح «مينزر» كثيرًا عندما أطلع على مضمون هذه الرسالة وحصول «هير ونيموس هولز شوهر» على هذا الكتاب القيم، كما أعجبه تقديره واهتمامه بالعلم هذا التقدير الذي دفعه إلى شراء هذا الكتاب؛ لذلك قرر «مينزر» إهداء «هولزشوهر» كريمته الوحيدة كزوج له. فقد كان كتاب علي بن العباي هو الدافع إلى هذا الزواج الذي تم بين «هيرونيموس هولز شوهر» و «دورثيا مينزر» وهكذا أصبحنا نجد «هولز شوهر» يصير عضو مجلس المدينة وعمدة نورنبرج و «هولز شوهر» هذا هو الذي رسمه الفنان الخالد «ديرر» .
كذلك من الكتب التي لقيت رواجًا عظيمًا وأقبل عليها المترجمون كتاب «دليل المسافرين» أو «الرحلة» ، وقد نبه إلى عظيم فائدته قنسطنطين الإفريقي. ففي باريس وكولونيا وجامعات أخرى كان يدرس هذا الكتاب كمادة إجبارية على الطلاب، وظل الحال كذلك مئات السنين. وهو يعتبر إلى جانب إيساغوجي حنين بن إسحق والمنصوري للرازي والتيسير لابن زهر والكليات لابن رشد والقانون لابن سينا من أهم الكتب الرئيسية في برامج الدراسة الطبية في مختلف الجامعات حتى القرن السادس عشر في أوربا. وفي جامعتي «توبنجن» و «فرنكفورت» الواقعة على الأودر كانت برامج كليات الطب تعتمد حتى القرن السادس عشر على مؤلفات ابن سينا والرازي.
وبالرغم من أن الغرب تنكر للغرب إلا أن المؤلفات العربية وبخاصة ما يختص منها بأمراض العيون ظلت متداولة حتى القرن الثامن عشر، وقد دخل كثير من اختراعات العرب وتجاربهم القيمة الطب الدولي بالرغم من إخفاء الأسماء العربية والتغاضي عن ذكر فضل العرب.
لكم من هم الذين لا يزالون يعرفونهم اليوم؟ ومن يعرف المؤثرات الطبية العربية التي أخذت تلعب دورها في أوربا منذ عهد قنسطنطين الإفريقي؟ ومن يعرف حتى اليوم عظمة وخطورة الدور الذي قام به العرب في سبيل تطور ونشأة الطب في أوربا؟
إن «أجريبا فون نتسهيم» هو الشخص الوحيد بين الإنسانيين الذي قاسى منه كثيرون، وهو شاب من كولونيا وكان يسمى «هينريش كورنيليس» ، وكان يغني أغنية هامة في أثر العرب في الطب. فالعرب كما يقول: مشهورون، حتى إن الإنسان يعتبرهم خالقي هذا العلم، وكان من السهل إصدار مثل هذا الحكم إذا لم يستخدم العرب كثيرًا من الألفاظ اللاتينية واليونانية، وبذلك كشفوا النقاب عن حقيقتهم، فكتب ابن سينا والرازي وابن رشد لا تقل أهمية عن كتب أبقراط وجالينوس، وقد بلغت الكتب العربية مكانة هامة في العلوم حتى إن استخدامها كان ضرورة لا بد منها للوصول إلى الشفاء. أما الطبيب الذي لا يستخدمها في العلاج فقد يتسبب في موت المريض الذي يعالجه.
أليست هذه نبوءة أن القديسين من الأطباء المسيحيين والصيادلة، والذين اختصهم الباب فيلكس الرابع في أوائل القرن السادس الميلادي بكتدرائية قديمة في الفوروم رومانوم كانوا حسب صلاة القديسين عربًا؟ !