الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاجر يعلم أوربا
ولد «ليوناردو» حوالي 1180 م في «بيزا» ، وهي وطن خليط من السكان وقد أسسها الأتروسكيون عند مصب نهر «أورنو» ، وتأثرت هذه المدينة في تاريخها الطويل بالرومان والغوط واللنجو برديين وكذلك الإفرنج. كما أننا نجد راهبًا من رهبان القرن الثاني عشر يرتعد خوفًا من الوثنيين وحوش البحر وهم الأتراك والليبيون والبارثيون والكلدانيون الأقذار، هكذا كان يطيب له تسمية العرب ونعتهم أولئك العرب الذين كانوا يسيرون في شوارع «بيزا» بوجوههم البغيضة القاسية! !
وقد اشتهرت «بيزا» الواقعة على نهر «أرنو» بالصيد والانتصارات التي أحرزها أبناؤها على عرب سردينيا وتمكنوا من قوة صقلية وثرواتها. ثم نجد «بيزا» تستغل فكرة الحروب الصليبية وتتوسع في عمليات الشحن فازدهرت الملاحة وأخذت سفنها تشتغل في نقل التجارة بين الشرق والغرب واستولت على أهم القواعد التجارية الواقعة على الشواطئ، كما شيدت فنادقها على امتداد شاطئ البحر الأبيض المتوسط من استنبول إلى صور فالإسكندرية حتى باجه وكويتا.
والشيء الجدير بالذكر أن رئيس الجالية التجارية من أبناء بيزا في باجه الواقعة على ساحل الجزائر الممتد على البحر الأبيض المتوسط كان والد «ليوناردو» ولم يصلنا شيء أكثر عن اسم أسرته، وكل الذي جاءنا عنه اسمه الأول ألا وهو «بواكيو» أي «الطيب» . أما ابنه «ليوناردو» فقد ألف بعض الوسائل والكتب ومن
أشهرها «كتاب أباكي» ، وقد ذكر الابن في كتابه أنه ابن «بوناكيو» فصاغ منها «ليوناردو» الاسم «ليوناردو فيبوناكي» ، وهو الاسم الذي اشتهر فيه في التاريخ ابن بيزا العظيم.
والذي حدث أن استدعى الوالد ابنه من بيزا إلى باجه وكان الوالد بحكم عمله ككاتب بيزي في الجمرك على اتصال كبير بتجار الجلود والفراء في الصحراء وبلاد المغرب، مما اضطره إلى علم اللغة العربية والحساب العربي مثله في ذلك مثل زملائه العرب الذين يعملون في الجمارك البحرية. فانتهز فرصة حضور ابنه الذي يمارس هذه التجارة ونجح فيها وسلمه إلى يد معلم عربي لتثقيفه وتعليمه الحساب، وأعجب الشاب «ليوناردو» بعلم الحساب هذا الذي يستخدم الأعداد الهندية التي يسرت السبيل أمام المحاسبين في حل كثير من المشكلات الحسابية.
والآن نتساءل: ما قيمة الأعداد الرومانية، وما هي الفائدة التي قد نحصل عليها من استخدامها؟ يكفي للرد على هذا السؤال أن نقوم بعملية حسابية نشيطة كعمليات الطرح مثلًا لنتبين مدى الصعوبة التي سيعانيها المحاسب بخلاف الحال مع الأعداد الهندية والتجارب الحسابية الكثيرة التي قام بها العرب، وقد أدرك «ليوناردو» البون الواسع بين الطريقتين. فاستخدام الحساب العربي ييسر القيام بعمليات الضرب وليس فقط عن طريق الأعداد الصحيحة، بل الكسور أيضًا (من العربية-كسر-) كما يطلق سيدي عمر (السيد المعلم يعبر عن الصلة بين عددين بهذه الوسيلة). فقد شرح لتلميذه الذي كان غارقًا في التفكير كيف أن أساتذة المدارس العليا في بغداد والموصل كانوا يكسرون بين العددين المكتوب أحدهما فوق الآخر عن طريق خط بينهما فالخط مثل الكسر في الشيء. وقد تعلم «ليوناردو» كذلك حساب الأس (22 = 3 في 2 = 4 فالاثنان اس اثنين) وحساب الجذور مثل 2 هي جذر 8 أو 4، وتعلم أيضًا المعادلات والتربيع والتكعيب كما وضعها أبو كامل وعمر الخيام وابن سينا والبيروني وغيرهم. وهكذا نجد «ليوناردو» يلهو بالأعداد بينما أقرانه ولداته يتسلون باللعب في الحواري وعلى أرصفة المواني وبين دور الصناعة والمخازن.
وقد لازم حب الأعداد والحساب «ليوناردو» حتى صار تاجرًا وأسند إليه والده بعض الأعمال التجارية، وكان لا يخفى شغفه بالحساب حتى في أسفاره إلى مصر وسوريا واليونان وصقلية وأسبانيا وصور وكورنسه وكويتا وتونس بل حتى في مكاتب المحاسبة، إذ رأى زملاءه التجار يعدون على الأصابع. وانتهز «ليوناردو» فرصة وجوده في الشرق العربي وزار دور الكتب في دمشق والإسكندرية كما تناقش مع علماء القصر في القاهرة. وعنى بالتجارة كعلم من العلوم فدرس كل شيء يخدمها ويفيدها سواء كانت تلك المعلومات في المخطوطات أو متداولة بين المتعلمين وبخاصة المتضلعين في العلوم الرياضية ومقارنتها، ولم تفته المقابلة بين العلوم الرياضية كما عرفها الهنود واليونان والعرب.
وإذا تركنا الشرق إلى الغرب، والعرب إلى اللاتين وجدنا جهلا تامًا بالأعداد الهندية وطرق الحساب العربية حتى أتاح الله لأوربا «ليوناردو» فوضع وهو لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره كتابًا باللغة اللاتينية حول الطريقة الحسابية التي تعرف باسم «أباكي» ، وقد كان هذا الكتاب سببًا في شهرة مؤلفه وقد أدهش كثيرين من المعاصرين مثل «موريس كنتور» ، إذ قدر الجهد القيم الذي بذله المؤلف في وضعه؛ مما اضطر «موريس» إلى التعليق عليه بقوله: نعرف عددًا كبيرًا من الرياضيين السابقين والذين ألفوا في لغات مختلفة، لكن أحدًا منهم لن يجاري «ليوناردو» . قليلون أولئك الذين قد نعجب بهم، لكن وضع كتاب مثل هذا في القرن الثالث عشر ووجود من يقدرونه حق قدره في القصر القيصري مما يثير الإعجاب حقًا.
ولا عجب في أن يستولي هذا الكتاب على لب القيصر الأشتوفي، فقد كان خير الكتب التي ظهرت في ذلك العصر، وقد أعجب به فريدريش الثاني وهو الضليع في الرياضيات العربية وعلوم العرب الطبيعية، ولم تكد تظهر الطبعة الثانية من الكتاب عام 1228 حتى أهداها المؤلف إلى فيلسوف القصر «ميخائيل سكونوس» الذي كان متضلعًا أيضًا في العلوم العربية فقويت الصلات بين «ليوناردو» والقيصر، وكثيرًا ما كان يحل ضيفًا عليه وتدور بينه وبين فريدريش الثاني أحاديث علمية كثيرًا ما نالت رضاء القيصر وإعجابه.
وفي عام 1220 وهو عام تتويج القيصر الأشتوفي ألف «ليوناردو» استجابة لرغبة فلكي القصر القيصري «دومينوس هيسبانوس» كتابًا في الهندسة أثار إعجاب القيصر، الذي كان قد عاد من ألمانيا لنبوغ صاحبه وعبقريته، وقد نظم فيلسوف القصر وهو «ماجستير يوحنا فون بالرمو» استقبالا عظيما في القصر القيصري في «بيزا» إعجابًا منه بالكتاب الذي ألفه «ليوناردو» . فالفيلسوف يوحنا كان ملمًا ببعض المعلومات الرياضية إلا أنه لا يرتفع إلى مستوى ابن «بيزا» . وكان بين علماء القصر عالم عربي اسمه تيودور الأنطاكي، وقد درس في الموصل على يد العالم العربي الشهير كمال الدين بن يونس أشهر الكتب للرياضيين العرب، كما سمع في البلاد العربية عن شهرة وعظمة إمبراطور الإفرنج، لذلك رافق أحد رسل القيصر فريدريش الثاني وهو أحد أبناء الشرق وتبعه إلى جنوب إيطاليا. وهناك نجد العلماء مع قيصرهم يتناقشون ويتجادلون، ويتجلى نبوغ هذا الشاب وعبقريته في قائمة بالأسئلة الرياضية الصعبة أعدها بنفسه.
وكان حضور «ليوناردو» هذا الاجتماع نصرًا عظيمًا له ولنبوغه، إذ أدرك الحاضرون عبقرية ابن تاجر بيزا، وكيف أجاب على المسائل الرياضية التي عرضت ولم يدركها إلا القيصر وتيودور تلمذي ابن يونس، والذي درس كتب الفرابي وابن سينا وإيكليد وكتاب الماجست لبطليموس. وقد أدرك الحضور عبقرية ليوناردو وإحاطته بعلوم اليونان والعرب. وقد سجل ليوناردو هذه المقابلة مع سيده القيصر في رسالتين رياضيتين تحدث فيهما عن كل ما دار في هذا الاجتماع. لقد ذكر المسائل التي عرض لها في المجلس وشرحها كما شرح القواعد التي اعتمد عليها، وبالرغم من هذا فإنه حتى اليوم لم يتوصل إلى حل جميعها، أعني هذه المسائل التي تعرض لها وأدلى فيها برأيه وهي مسائل تدهش الرياضة الحديثة.
وقد كتب المؤرخ «كنتور» عن الرسالتين ما ترجمته: وبعد أن عرضنا لرسالة ليوناردو اعتقدنا أننا عبرنا بما فيه الكفاية عن إعجابنا بالعالم ليوناردو. أما الآن فإننا نعتذر، إذ إننا لا نجد الكلمات التي تعبر عن تقديرنا العظيم للمؤلف ليوناردو بعد الاطلاع على رسالتيه.
في حضوركم يا صاحب الجلالة فريدريش أيها الأمير العظيم: هكذا كتب ليوناردو إلى القيصر عند أول زيارة له لقصر القيصر في بيزا، لقد تحدث معي فيلسوفكم العالك يوحنا فون بالرمو عن الأعداد، وقد أفرد ليوناردو الفصل الأول من كتابه «الباكي» للحديث عن الأعداد التي تعلمها على يد الأستاذ العربي الذي أخذ عنه علم الحساب العربي وطرق استخدامه في أسفاره التجارية الطويلة والإشارات التسع الدالة على الأعداد عند الهنود وهي:
9 8 7 6 5 4 3 2 1
فهذه الإشارات التسع مضافًا إليها الإشارة (0)، أي «صفر» في العربية تعبر عن أي عدد من الأعداد.
أما ترتيبها فعجيب جدًا فالصف يبدأ عادة بالعدد (9) وينتهي بالعدد (1) حسب طريقة الكتابة الأوربية. أما العرب فيكتبون من اليمين إلى اليسار وحتى العدد الكامل إذا صاحبه كسر يكتب هكذا (1 - ) أي واحدًا ونصفًا، هكذا يذكر ليوناردو كما علمه مدرس الحساب العربي مراعيًا النظام العربي في الكتابة، وقد اتبع نفس الطريقة مع الأوربيين فعلمهم كتابة الأعداد التسعة الجديدة مع الإشارة (0) والتي تسمى في العربية «صفرًا» .
أما تاريخ الصفر فهام جدًا وهو يستحق الشيء الكثير من الاهتمام. استخدم الهنود هذه الدارة كإشارة للتعبير عن نقص شيء من الأشياء أعني «لا شيء» ، ويعبر عنه في الهندية «سونيا» أي «فراغ» فلما عرف العرب هذه الإشارة ومدلولها ترجموها بلفظ «صفر» أي «خالي» أو «خلو» ، ثم جاء ليوناردو وتتلمذ على العرب في الحساب فأخذ اللفظ العربي كما هو واستخدمه كما استخدمه العرب وإن كان قد صاغ لفظ «صفر» صياغة لاتينية فأصبح «صفرم» ، وعرفه بقوله:
ومعناها بالعربي: هذه الدارة (0) تعرف في العربية بلفظ «صفر» .
وإذا انتقلنا إلى إيطاليا وجدنا في آخر كتاب ليوناردو لفظ «صفرم» يكتب «زفرو»
ثم «زيرو» ، فقد تعرضت هذه الكلمة لشيء من التغييرات الصوتية التي تعرضت لها كلمات أخرى مثل «ليفرا» التي أصبحت «ليرا» . أما في فرنسا فقد تحولت كلمة «صفر» العربية إلى لفظ «شفر» الذي استخدم أيضًا إلى جانب دلالته العربية للتعبير عن «إشارة سرية» ، ثم ذهبت اللغة بعيدًا فضاعت من الاسم فعلا هو «شفريرن» في الألمانية مستخدمًا في المعنيين، لذلك اضطر القوم إلى استعمال الصيغة الإيطالية «زيرو» كما نجد في إنجلترا «صيفر» و «زيرو» وفي ألمانيا «تزيفر» .
والواقع أن الدارة كانت أصلا هي الإشارة المعبرة عن الصفر إلا أن انتشار الأمية بين عامة الشعب اضطرهم إلى تعلم أسماء الأعداد التسعة عن طريق السماع فقط؛ ولذلك أصبح لفظ «صفر» لديهم شيئًا غامضًا إن دل على شيء في مفهومهم فعلى اللاشيئية أو الإشارة الأجنبية. ففي القرن الرابع عشر نجد الإشارات الدالة على الأعداد العشرة تسمى «أصفارًا» ، وهذا من باب التعميم وإن احتفظت فرنسا بلفظ «شيفر» وإنجلترا بكلمة «صيفر» واستخدمت الألمانية الكلمة الإيطالية «زيرو» للتعبير عن هذه الدارة المعروفة في العربية بلفظ «صفر». فهذا التطور في التسمية أدى إلى شيء كثير من الاضطراب كما تعدت هذه البلبلة التسمية إلى الأعداد ذاتها وأصبح العلماء في حيرة. وأخيرًا استقر الرأي على استخدام الإشارة العاشرة المعروفة باسم «شيفر» الدالة على الدارة. أما سائر الإشارات الأخرى فقد أطلقوا عليها التسمية «فيجورين» أي أشكال. لهذا نجد عام 1357 م عالمًا يذكر في رسالة وضعها في هذا: هل يجب على هذا الشعب أن ينساق وراء الأميين ويستخدم لفظ «تزيفرن» للدلالة على الأعداد العشرة التي يجب أن يعبر عنها بلفظ «فيجورين» لا «تزيفرن» ؟
إن الإشارة الدالة على الصفر لا تشير بتاتًا إلى عدد ما، ومن هنا أطلق العرب عليها لفظ «صفر» . أما العلماء الأوربيون فقد اضطروا رغم أنوفهم إلى مجاراة العامة وعمموا لفظ «تزيفر» على سائر الأعداد الدالة في الواقع على قيم حسابية وميزوا الإشارة العاشرة على سواها بعبارة «نوللا فيجورا» ، ومن ثم اختصرت إلى «نوللا» وأخيرًا «نل» .