الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخاتمة
تقوست ظهورهم على صهوات الجياد حتى قاربت جباههم أعراف الخيول، وقد لوحت الشمس وجوههم وبأيديهم السيوف مسلولة يكرون على البلاد التي هجرها أهلها. وتحت سيقان خيولهم تقوست الأرض ألماً ووجعاً. أما الحقول فقد تخربت والبيوت تهدمت، والأعشاب أحرقتها بصقة أبناء الصحراء.
هذه الصورة هي التي تصورها الكتب المدرسية في ألمانيا إذا لم ينجح كارل مارتل في إيقاف الزحف العربي الذي ترتب عليه إنقاذ أوربا المسيحية. ويتصل بهذه العبارة أيضاً ما يقال من أن العرب هم الوسيلة إلى إهداء الأوربيين التراث اليوناني. لكن هل حقيقة أن كارل في حربه هذه كان يعتقد أنه منقذ أوربا؟ حقاً إنه تملكته الخديعة عندما علم في الصباح بعد معركة غير فاصلة أن العدو انسحب حتى جنح الظلام. إن كارل ليس المنتصر على العرب بل هو الذي سخر السكسونيين والفريزيين والألمان، ولذلك لقبه معاصروه بأنه البطل صاحب المطرقة كما أن معاركه التي خاضها ضد العرب بعد ذلك عند «بواتييه» و «أفينيون» و «نيميس ومارسيليا» و «ناربون» التي حاصرها دون جدوى، كل هذه المعارك ميزته وفضلته على جميع الذين جاءوا بعده، وعندما أراد القيصر «لودفيج القديس» تمجيد أعمال أسلافه اعتبر إخضاع الفريزيين عملاً من أهم أعمال جده؛ لذلك رسمه على جدران «فلس» و «أنجيلهم» . كذلك الكنيسة لم تر في «بواتييه» منقذاً للمسيحية بل لعنته وقالت عنه إنه لص الكنائس، فقد سرق ممتلكات الكنائس والأديرة وكون من أملاكها وأموالها جيشاً كما منح أراضيها لفرسانه؛ لذلك فإن قبره خال وكأنه قطعة فحم، لأن الشيطان نقل جثمانه إلى جهنم!
وربما لا نبالغ في تصوير ما وقع عند «بواتييه» . إن مؤرخاً بلجيكاً يقرر أنه لم
يكن هناك فيما يرجح أكثر من الحيلولة دون القيام ببعض أعمال التخريب والتدمير. فهل عام 732 م كان حقاً هو الفيصل بين سيادة المسيحية أو الإسلام أو مسيحية طليقة حرة بعيدة عن سيطرة روما أو مسيحية مرتبطة بروما؟ في عام 732 م كان كل شيء مائعاً غير مستقر. في هذا العام الفيصل أعني عام 732 م أرسل جريجور الثالث وهو سوري إلى كبير الأساقفة أمراً لإخضاع سكان «هيسين» و «توربنجين» إلى روما. بينما في عام 738 م تقدم كارل مارتل من جديد ضد العرب، كذلك أخضع كبير الأساقفة أيضاً رجال الدين في بافاريا إلى الكرسي البابوي، كما أدخل نظام الكنيسة الروماني إلى ألمانيا.
وماذا تكون النتيجة لو أن هذه الحادثة انتهت بنتيجة أخرى؟ حقاً إن أوربا كانت لابد أن تصبح أوربا أخرى ولا يستطيع إنسان أن يتكهن ويقول غير هذا. هل كانت ستصبح أردأ أم أحسن، أوربا بربرية أو إنسانية، أوربا أتعس أم أسعد. إن ترجيح رأي على آخر غير مجد وليس هذا موضوع كتابة التاريخ أو هدف هذا الكتاب.
وبالرغم من هذا فإن المؤرخين كثيراً ما حاولوا معالجة هذا الموضوع والإجابة عليه، وقد أجابوا إجابة تكاد تكون حقيقة لا شك فيها ولا ترجيح، لذلك فهي من هذه الناحية تضطرنا إلى النظر إليها من زاوية جديدة. لا يوجد كتاب تاريخ لا يحاول مؤلفه إلا أن يذكر أن انتصار كارل مارتل أنقذ المسيحية أو بتعبير آخر أنقذ أوربا أو المدنية الأوربية، وحافظ عليها من الضياع. أما المثل الذي تقدمه إسبانيا لنا فيشير إلا أن البلاد الواقعة على هذا الجانب من البرنات ظلت محتفظة. إلى جانب الدين الوحيد الحقيقي. بعقائدها، وقد ظلت هذه العقائد المسيحية قائمة طيلة أيام الحكم العربي، أعني ثمانية قرون، وأن أحداً من المسلمين الحاكمين لم يفكر في القضاء على المسيحية أو محاربتها. كما أن مثل إسبانيا بدلنا أيضاً أن بلداً فقيراً معدماً مستعبداً أصبح في غضون مائتي عام تحت حكم العرب بلداً غنياً ارتفع فيه مستوى مختلف طبقاته، كما انتشر التعليم وازدهرت الثقافة بين سائر طبقات شعبه، وبفضل هذه الثقافة الرفيعة وتلك الحضارة المزدهرة أصبحت إسبانيا علمياً وفنياً أرقى من سائر الدول الأوربية. فقد أصبحت مثلاً يحتذى ونبعاً يقصده طلاب
العلم من كل فج، وظلت إسبانيا حاملة لواء العلم والمعرفة زهاء خمسمائة عام حتى قضى عليها بسبب الضربات التي وجهت إليها من الخارج.
نعم إن التاريخ لا يعرف «لو» أو «إذا» إنما يعرف الحقيقة والواقع. وفي أوربا أو على أطرافها حيث عاش الإسلام، ترك هذا الإسلام أحسن الآثار وأجلها. لقد خلق الإسلام وضعاً سياسياً عالمياً جديداً، فقد حطم حوض البحر الأبيض المتوسط، وبذلك خلق أوربا خلقاً جديداً ونقل مركز الثقل السياسي من البحر الأبيض المتوسط إلى جرمانيا وأصبح الرين وحوضه، وليس جنوب أوربا، مركزاً أو نقطة ارتكاز السياسة العالمية.
صوتكوين جيوش الفرسان واستخدام نظام التمليك هما الإجابة الجرمانية على التحدي العربي. ثم أوجدت ألمانيا نظام الفرسان «الفتوة» الديني وكان يقابل نظام الرباط عند المسلمين، والحملات الصليبية والفيكينج ضد فلسطين مشبعة بالفكرة الإسلامية «الجهاد» .
لكن انتصار الإسلام وزحفه المقدس ومكانته الرفيعة التي تمتع بها، هدد الكنيسة وهدد رغبتها في سيادة العالم. والإسلام هو الذي أنقذ الكنيسة من الضياع. لقد اضطر الإسلام الكنيسة المسيحية إلى العناية بالعلوم الدينية والأخلاقية وكل ما من شأنه تقويتها وشد أزرها ضد خصومها. أما المقاطعة العلمية والاقتصادية التي فرضتها أوربا ضد العالم الإسلامي، فقد عادت بأوخم العواقب على أوربا نفسها وتركت أثراً سيئاً جداً على الأوربيين لعدة قرون، وفي اللحظة التي قامت فيها العلاقات واستؤنفت بين الشرق والغرب أخذت تنتعش أوربا التي لم تكد تنهل من ينابيع العلوم العربية ومن فنون العرب وعلومهم ووسائل العناية الصحية والإدارية حتى استيقظ الوعي الأوربي بعد أن ظل جامداً قرون عديدة، وأخذت أوربا تنهض وترتقي نهضة غير منتظرة سواء في دروب الحياة أو الفنون وغيرها وانتعشت انتعاشاً جميلاً.
والواقع أن التعصب الديني وعدم التسامح كانا دائماً من أعدى أعداء الشعوب
فالعزلة عدو الحياة والنمو والتطور، ثم إن تبادل الثقافة بين الشرق والغرب إلى جانب الاحترام المتبادل إلى التعاون والتصافي أدي جميع هذا إلى تفتق العبقريات، وإذا تغاضينا عن بعض حالات التشاحن والبغضاء التي وقعت بين العرب والأوربيين أحياناً، فإن تعاون الشرق والغرب سيكون أخيراً وبركة للعالم أجمع.