الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في مدرسة العرب
إن انتصار البندقية كان، ولحد ما، انتصارا لأوربا، فالبندقية هي همزة الوصل بين الشرق والغرب اقتصاديا وعلميا وأدبيا، وإليها يرجع الفضل في هذه النهضة الإيطالية الشرقية، ومن ثم أخذت بيد الألمانية فالفرنسية. فتجارة الأراضي المنخفضة، ونجحت البندقية فربطت بينها جميعها وكونت شبكة قوية شملت المدن والشوارع ومختلف الطرق حتى بلغت إنجلترا والبلاد الإسكندنافية الشمالية فنهضت هذه الدول نهضة غير متوقعة.
ثم نجد التجارة العربية تتخطى جبال الألب وكما كان الحال قديمًا في إيطاليا كذلك هنا عبر الألب حيث نجد خامات الأقمشة العربية وعليها الطرز العربية وقد صنعت صناعة حديثة، فمثلا القطن الذي أدخل العرب زراعته إلى أسبانيا وصقلية هو الذي يصنع منه هذا القماش الناعم الرقيق وتصدره سوريا وخراسان إلى مختلف الأسواق العالمية. فحوالي عام 1200 م نجد الفاتنان الغانيات اللواتي تشيد بهن أغاني «نيثارت فون روينتال» يلبسن البركان المجلوب إلى أسواق شمال ألمانيا من ميلان. وبعد ذلك بقرن نجد صناعة البركان تنتشر وبسرعة في «كونستنس» و «بازل» و «أولم» و «أوجسبورج» في جميع إقليم «سوابيا» .
وبعد ذلك بقرن أيضًا هاجر نساجان لقماش البركان من قرية «ليشفيلد» إلى «أوجسبورج» وأكبرهم سنا كان «أولريش» الذي قتله مبيضو القماش. أما الأخ الآخر «منز» فلم يقنع بعملية النسيج وتولى هو بيع بضاعته الجيدة كما نجد بالات
القطن السوري والقبرصي تصل إلى مصنع أبنائه، وتخرج منه البركان الحديث لصناعة القطنية والشك والجبة.
لكن ننبه الأبناء إلى أن انتشار التوابل والكسب الكثير الذي تدره على أصحابها أجدى لهم من النسيج، فأقبلوا على الاتجار في بالات القطن العربي وقفف الفلفل العربي، فلم يمض زمن طويل حتى أثرى أولئك العمال وأصبحوا قوة خطيرة يحسب لهم حساب في عالم المال وعرفوا باسم «فوجر» . فعن طريق البهارات والقطن والحرير وما يصنع منهما من أقمشة وضع مؤسسو أسرة «فوجر فون دير ليلى» ، كما سمي هذا الفرع الناجح من الأسرة نفسه، الأساس لهذه الثورة الطائلة التي دخلوا عن طريقها التاريخ، فقد بلغوا من السلطان والجاه أنهم كانوا يولون القياصرة والملوك ويمدون البابوات بالأموال كما ساعدوا الفقراء والمعوزين والذين غلبهم الحياء وهم في أشد الحاجة إلى المعونة، ويدين الإخوة «أولريش» و «مكس» و «يورج» و «يعقوب فوجر» بثرائهم إلى زهرة الليلك التي انتسبوا إليها وتبرعوا بالإنفاق على زواج ابن قيصر «هبسبورج» وهو مكسيمليان بوريثة «بورجوند» وهي «ماري» . وعن طريق هذا الزواج تمكن الملك الفرنسي من الحصول على بلاد وزوج لابنه الذي لم يتجاوز السابعة من عمره.
وتدين هذه الأسرة لهذا الاسم أيضًا بما أوحي إليها من ثقافة عربية، وحضارة عربية، وتقاليد عربية؛ وذلك لأنها اتخذت منه شعارًا لها ورنكًا يميزها. وقد أعجب الصليبيون بهذه الفكرة ونشروها عام 1150 في فرنسا وفي عام 1170 م في ألمانيا. فعن الفرسان العرب نشأت العادة الجرمانية، وهي اتخاذ صور الحيوانات إشارات للقوات والحروب، ومن ثم استخدمها الأوربيون أوسمة شرف للفرسان، ومن ثم تطورت إلى رنوك مدنية لها فنونها الخاصة ولغتها التي تتميز بها.
وكذلك الرنك الذي أهداه القيصر فريدريش الثالث ولد مكسيميليان لأسرة الفوجر اعترافا بفضلها وأياديها البيضاء، كان عبارة عن زهرة الليلك الزرقاء والذهبية. والليلك هي الزهرة المحبوبة عند العرب وبخاصة في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقد انتقلت فيما بعد إلى الرنك الفرنسي حيث نشاهد زهرة الليلك الجميلة.
وأخذت أوربا عن العرب عارية أخرى هامة جدًا وهي التي اتخذتها القيصرية الألمانية والملكية النمسوية المجرية والقيصرية الروسية شعارًا لها، وأعني بذلك «النسريْن» . فهذه الشارة شرقية قديمة نجدها في الآثار السومارية والحيثية كما نجدها فيما بعد على النقود العربية. وفي أوائل القرن الثاني عشر الميلادي اتخذها سلاطين السلاجقة شعارًا لهم على رنوكهم، وبغتة يظهر النسران في القرن الرابع عشر في الرنك الخاص بقيصر ألمانيا.
* * *
وكان الشرق يذخر بالآيات الباهرة ثقافيًا وصناعيًا كل ما فيه يوحي لدعاة الإصلاح بإدخال الشيء الكثير إلى أوربا رغبة في الأخذ بيدها وتقدمها. ففي القرن الثاني عشر مثلًا عاد نفر من الحجاج المسيحيين من زيارة قاموا بها لقبر الرسول «يعقوب» في «سنتياجو ده كومبستيلا» في أقصى شمال غربي أسبانيا. عاد هؤلاء الحجاج ومعهم أول ورقة إلى أوربا جاءوا بها من الأندلس العربية، وذكر أولئك الحجاج أن العرب يستخدمون الورق للكتابة الجميلة وتدوين الكتب المقدسة ويدرس هناك كل كاتب الخط الجميل فهو الخط الوحيد الذي يستخدم للكتابة على الورق الجيد هذا الورق الذي كان يوجد بكثرة بحيث يسمح لاستخدامه في الأغراض التجارية كلف البضائع مثلًا.
وحدث في ذلك الوقت أن غزت أوربا توابل ممتازة وروائح عطرية قوية وثياب أنيقة من القطيفة والحرير، وسرعان ما غمرت هذه البضائع أسواق الغرب وقلوب الغربيين؛ لأن مثلها قوي الرغبة في حياة الأبهة والترف ودفعها إلى الأمام بخطوات واسعة سبقت الإقبال على العلم والحرص على تحصيله. ولعل السر في هذا الانصراف عن الاهتمام بالعلم ندرة وسائل الكتابة منذ وقف الاتجار من قبل مع العرب. ففي عصر المارونجيين كان الكتبة في المحال التجارية والخبراء والأديرة يستخدمون ورق البردي. ففي مرسيليا كانت تفرغ السفن بدون انقطاع شحناتها من ورق البردي المصري، إلا أن تحريم الاتجار مع الشرق استنفذ جميع هذه الكميات فاضطر الناس إلى الاقتصاد في استخدام ما تحت أيديهم، وكثيرًا ما كانوا يمحون ما
على الورق القديم لإعادة استخدامه ثانية. واستتبع اختفاء الورق ندرة الكتَّاب الذين يجيدون الخط وظل الحال كذلك عدة قرون حتى أحضر بعض الحجاج من أسبانيا هذا النوع الجديد من ورق الكتابة والذي كان يستخدمه العرب في جميع مراسلاتهم التجارية وغيرها. وما كاد القوم في أوربا يرون هذا الورق حتى تهافتوا على استيراده فسافرت وفود تجارية من «نورنبرج» و «رافينز برج» و «بازل» و «كونستنس» إلى برشلونة ومنها إلى بلنسية حيث تقوم في ضواحيها أكبر وأحسن مصانع للورق، وقد قال فيه الرحالة العربي الجغرافي الشهير بالإدريسي: إنه لا يوجد في العالم ورق يضارعه جودة.
وفي عام 1389 نجد تاجر التوابل المشهور «أولمان شترومر» أنشط أبناء الأسرة التجارية المعروفة بهذا الاسم في «نورنبرج» والذي كان يتولىة تجارة الزعفران ونقله إلى أسبانيا يقرر إدخال صناعة الورق إلى وطنه فأسس في ذلك العام بالقرب من «نورنبرج» أول مصنع للورق في ألمانيا مستعينا ببعض العمال من إيطاليا التي كانت قد سبقت وأسست أول مصنع ورق في أوربا عام 1340 م.
لكن ألم تدون قبل قرنين ونصف قرن أول وثيقة على الورق في دولة مسيحية أوربية وكان ذلك عام 1090؟ أو أن المؤرخ لا يعتبر جزيرة صقلية التي انتزعت حديثًا من العرب وسكانها المسلمين، وآلت إلى النورمان جزءًا من أوربا؟
ففي عام 1115 تأكد تجديد أحقية روجر الثاني في عرش صقلية بناء على وثيقة من والده الجراف الأكبر روجر عام 1090 بحجة أن هذه الوثيقة مدونة على ورق بالرغم أنه من هذا النوع الرقيق المصنوع من القطن في القيروان والذي كان من الصعب الاحتفاظ به في حالة جيدة، وجرت العادة أن تدون الوثائق على الورق القوي. والسبب في هذه الصعوبة التي اعترضت أحقية روجر الثاني في العرش تمزيق هذه الوثيقة وتشويهها مما أشكل على القارئ قراءتها مع وجود بعض التغيير فيها؛ لذلك ظل الملك روجر الثاني طيلة مدة حكمه مشغولا بفحص وثائق آبائه ووثائقه وإعادة كتابتها. ومن بين هذه الوثائق التي أعاد كتابتها تلك التي دونت عام
1101، وفيها تهب والدته الأميرة «أديلاسيا» دير القديس «فيلييو» مصنعًا للورق شيده العرب، والدافع إلى تغييرها عام 1002 هو كتابتها على الورق.
والشيء الجدير بالذكر هنا أن صناعة طواحين (مصانع) الورق كانت من اختصاص العرب وعنهم أخذها الغرب كما أخذت أوربا كذلك طواحين الماء والهواء وغيرها. وصناعة الورق لم تظهر إلى الوجود بين عشية وضحاها فالورق قبل أن تعرفه أوربا قطع طريقًا طويلًا محفوفًا بالمتاعب والمشاق. ولعل من أهم الدوافع التي دعت إلى اختراعه الحاجة الملحة إلى مادة للكتابة في متناول مختلف طبقات الشعب ولا سيما أن أسعار الحرير الصيني الذي ظل زمنًا طويلًا مستخدمًا للكتابة كانت خيالية مما اضطر المفكرين إلى إيجاد حل لهذه المشكلة، ففي عام 1010 م وفق «تساي لون» مدير المصانع الحربية القيصرية إلى حل هذا اللغز، ولعل سرجًا من اللباد أو شعر الماعز أو البقر والذي تخصص فيه الأتراك الرحل الشرقيون، هو الذي أوحى إلى «تساي لون» فكرته الجديدة وشرع توًا في تنفيذها فاستغل قشور الشجر والحلفاء والخرق وشباك الصيادين القديمة فقطعه إربًا. فكان له هذا الورق الذي استغنى به عن الحرير الغالي الثمن.
وحدث أن نزل العرب عام 751 م عددا كبيرا من أسرى الحرب الصينيين في مدينة سمرقند وخيروا الأسير بين العتق والرق وجعلوا ثمن العتق مباشرة حرفة من الحرف فاتضح أن عددا كبيرا من أولئك الأسرى الصينيين يجيد صناعة الورق فأعتقهم المسلمون وشيدوا لهم المصانع الضرورية فنشروا صناعة الورق في العالم الإسلامي، ومع مضي الزمن تقدمت هذه الصناعة باستخدام الكتان والقطن في صناعة الورق الأبيض الناعم الجميل الذي وجد أسواقًا رائجة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي وبخاصة في عاصمة الدولة العباسية بغداد، ومن ثم اقتبست أوربا هذه الصناعة، كما اقتبست غيرها من العرب. فالورق صفحة من صفحات الفخار للعروبة والعربية.
وأدرك الخليفة المنصور (754 - 775 م) أهمية هذه الورق وكثرة الحاجة إليه في مختلف الدواوين والمعاهد العلمية، وتهافت عليه العلماء والنساخ والتجار وغيرهم
مما اضطر الخليفة إلى التوسع في صناعته خدمة للاقتصاد واستغناء عن البردي المصري، كما أصدر مرسومًا يحرم استخدام البردي في الأعمال الحكومية وطالب الموظفين وغيرهم باستخدام الورق الرخيص فقط. ولما تولى هارون الرشيد بلغ تشجيع الورق وصناعته حتى إن الوزير البرمكي يحيى بن خالد أقام عام 794 م أول مصنع لصناعة الورق في بغداد، وهكذا نجد المصانع في دمشق وطرابلس الشام وفلسطين ومصر وتونس ومراكش وأسبانيا. وعن صقلية وأسبانيا أخذت أوربا صناعة الورق الذي هو أهم ركن من أركان الثقافة الإنسانية. فالورق يختم عصرًا من عصور تاريخ الحضارة كما أن انتشاره قضى على عصر احتكار العلم والمعرفة وبعد أن كانت الحكمة ملكًا لطائفة بعينها أصبحت اليوم للجميع وهي ترحب بكل من يخطبها. الورق هو العمود الفقري للمعرفة الإنسانية وهو أهم الوسائل لنشرها في مختلف الطبقات والأصقاع للمعرفة الإنسانية وهو من أهم الوسائل لنشرها في مختلف الطبقات والأصقاع بالرغم من أننا نعيش في عصر الراديو والكهرباء. واستتبع ظهور الورق اختراع الطباعة لا في أوربا فقط بل حتى عند الصينيين والعرب. ففي الغرب نجد أمثال «كوستر» الهولندي و «جوتنبرج» الألماني وقد ساهم كلاهما في هذا الحدث العظيم مساهمة كبرى.
والآن نتساءل: ما هي الوسائل التي استخدمها وزير الخليفة عبد الرحمن الثالث لإعداد أكثر من نسخة من الوثائق الرسمية التي كانت توزع على الدواوين الحكومية في الأندلس؟ هذا ما نجهله، لكن المعروف الثابت أن العرب أوجدوا بعض وسائل الطباعة التي استخدموها في طباعة أوراق النقود وأوراق اللعب، وقد انتقلت أوراق اللعب هذه مع غيرها مثل الشطرنج والضامة. والتي ما زالت تحتفظ باسمها حتى اليوم في أوربا من أسبانيا إلى الغرب.
* * *
وفي أوربا فكرة سائدة تقول: إن مخترع البوصلة هو «فلافيو جيويا» وهو أحد أبناء «أمالقي» . والواقع أن فلافيو هذا ليس هو مخترعها وليس هو أول من جاء أوربا بها فأصحاب الفضل في إيجادها هم العرب. وحقيقة اتجاه إبرة البوصلة المغنطيسية إلى الشمال قد عرفها الصينيون في أواخر القرن الأول قبل الميلاد، ويقرر
الصينيون فيما جاءنا من وثائق أن استخدامهم للبوصلة في الملاحة أخذوه عن أجانب، وكان ذلك في القرن الحادي عشر الميلادي وهو العصر الذهبي للأسطول العربي التجاري وأسفاره وبخاصة المحيط الهندي ودولة الصين فيتبادر إلى أذهاننا أن هؤلاء الأجانب الذين أخذ الصينيون عنهم استخدام البوصلة في الملاحة كانوا العرب ولا سيما أن بعض المصادر العربية التي ترجع إلى تلك العصور تؤكد استخدام العرب للبوصلة في هذا الغرض، وعن العرب أخذ الصليبي «بطرس فون ماريكورت» وأهداها إلى أوربا. وكان «ماريكورت» مدرسًا لروجر بيكون ومن توجه «ماريكورت» إلى فرنسا حيث كان قد ألم بالمغنطيسية والبوصلة وأدخلهما إلى أوربا وكان ذلك عام 1269، وذلك عن طريق رسالته حول المغنطيسية. وبعد ذلك بمدة تبلغ نحو ثلاث وثلاثين سنة أي حوالي عام 1302 م بدأ هذا الإيطالي من «أمالقي» يهتم بالبوصلة. والشيء الجدير بالذكر أن «أمالقي» هي أول ثغر يجري بجوار البندقية، وكانت تقوم بدور هام في تجارتها مع أصدقائها العرب، كما كان لهذا لثغر الإيطالي جاليات كبيرة في مختلف المواني العربية شرقًا وغربًا، وبالرغم من أن عصر «أمالقي» الذهبي كان قد ولى وانتهى إلا أن سكانها حتى عصر فريدريش الثاني كانوا أذكى وأحسن تجار وملاحين في جنوب إيطاليا، ومن أولئك الأبناء «فلافيو جيويا» الذي نجح في الحصول على هذه المعلومات من العرب ومن الشرق. لكن الأوربيين يحرصون على نسبة اختراع البوصلة إلى هذا الإيطالي، ولما أعجزهم الدليل وثبت للعيان أنه جاء بالبوصلة من العرب قال ذلك النفر المتعصب من الأوربيين إن «فلافيو» هذا أدخل على هذه البوصلة بعض التعديلات، وبعد ذلك قدمها لأوربا لاستخدامها في الملاحة ولا يستغنى عنها في البحار العالية والشواطئ الجديدة.
*
…
* *
واليوم نقف حيارى لا نحير جوابًا أمام هذه الصواريخ التي تنطلق في الفضاء وتجوب أرجاء الكون وتعود من حيث بدأت، فهل فكر أحد وقد أخذنا بهول وعظمة ما نشاهد فيمن يجب أن نقدم له الشكر لهذا الاختراع؟ ثم أليس من المحتمل
أن الأوربيين ليسوا هم أول من فكر في اختراعه؟ لقد ثبت أن الفكرة الخاصة بإطلاق قنابل عن طريق قوة متفجرة من البارود هي فكرة صينية، وقد نفذت عام 1233 م في معركة نشبت حول «بيين كيننج» بين الجيشين الصيني والمغولي، وكادت تدور الدائرة على الصينيين لولا أن فاجأوا العدو بهذا الاختراع وهو عبارة عن سهام تطلق عن طريق مادة محترقة تحتوي على ملح البارود. وحوالي عام 1270 م استخدم المغول نفس السلاح مستعينين بقوة التفجير الناتجة من ملح البارود، وللمرة الأولى في تاريخ الحروب نجد هذه الصواريخ تلعب دورًا هامًا في كسب المعارك أو فك الحصار المضروب كما وقع فعلا عند القضاء على الحصار المضروب حول مدينة «فان تشينج» . وبفضل هذه الصواريخ انتصر المغولي «كوبلاي خان» على الصينيين وقضى على مقاومتهم. لكن هل انتصر المغول على الصينيين دون تلقي مساعدة أجنبية؟ وإن كان للمغول حليف فمن هو هذا الحليف الذي استغاث به «كوبلاي خان» وأجابه إلى أرجائه وأعانه على القضاء على الصينيين؟ يحدثنا المؤرخ رشيد الدين حديثًا يثير دهشتنا فهو يذكر في سياق كلامه عن السلطان العربي أنه علم من حاشيته أن السلطان استجاب إلى طلب «كوبلاي خان» وأمر أن يرسل إليه المهندس الذي حضر من بعلبك ودمشق، وأبناء هذا المهندس وهم أبو بكر وإبراهيم ومحمد بنوا بمساعدة الفنيين الذين رافقوهم سبع آلات كبيرة وتوجهوا بها إلى المدينة المحاصرة، فهل سبق أن ساهم المهندسون العرب في فك الحصار المضروب حول مدينة «بيين كينج» عام 1232 أيضًا؟ وهل هذا السلاح العجيب الذي استخدم هو بعينه الذي استخدمه القائد المصري فخر الدين، صديق فريدريش الثاني، عند ضرب جيش الإفرنج وملكهم لويس المقدس عام 1249 حيث دارت رحى المعركة الصليبية للحملة الخامسة، واستخدم فيها القائد المصري فخر الدين نيرانًا عربية جديدة؟ وقد أثار هذا السلاح الجديد الخوف والفزع في صفوف الصليبيين حتى إن المؤرخين الأوربيين يذكرون أن كل مرة كان يطلق فيها الصاروخ المصري يشعر ملك فرنسا بخيبة عظيمة ويصرخ يا حبيبي يا سيد يا يسوع المسيح نجني واحمني ورجالي!
ورب ضارة نافعة فقد تكتلت أوربا ضد العرب المسلمين وشن المسيحيون حربًا لا هوادة فيها؛ مما اضطر سلاطين الإسلام إلى تجنيد العلماء العرب في القرن الثاني
عشر الميلادي وبخاصة أولئك الذين يهتمون بالدراسات الكيماوية وأرسلوهم إلى مصانع المفرقعات حيث نجحوا في إيجاد مادة مفرقعة كاوية حارقة. وفي النصف الثاني من القرن الثالث عشر استكملوا خلق مادة مفرقعة دافعة للصواريخ واستخدموها في حروب المسلمين ضد الصليبيين. ففي كتاب الحرب لحسن الرماح وبعض المؤلفات الأخرى الخاصة بالحروب في ذلك العصر نجد ذكر كثير من المواد المفرقعة والأسلحة النارية وهي: بيض يندفع تلقائيًا ويحرق، وهي تطير نافثة اللهب، وهي تحدث صوتًا مثل الرعد
…
وهكذا، فالعرب هم أول من صنع لغمًا تقذفه الصواريخ.
والآن استطعنا أن نتوصل عن طريق بعض التراجم اللاتينية على معلومات دقيقة حول هذا الخليط العربي العجيب الذي يحدث رعدًا وبرقًا، وأن هذا الخليط قد وصل إلى بعض علماء أوربا أمثال «روجر بيكون» و «ألبرتوس مجنوس» والجراف الألماني الواسع الاطلاع «فون بولشتدت» ، وقد يكون الأخير هو الذي اتصل أثناء تجواله بذلك الذي يدعي أنه مخترع البارود ألا هو الفرنسيسكاني «برتولد شفرز» في فريبورج عن هذا الاختراع العربي.
ثم حدث أن انتقلت النظرية إلى التجارب العملية التي هزت كيان العالم؛ فالعرب في الأندلس هم أول من استخدم في أوربا. فالعرب الأندلسيون هم صانعو القنابل من البارود في أوربا وقد استخدموها فعلا في كثير من حروبهم. فالتاريخ يحدثنا أن المدفعية العربية قذفت بقنابلها في الأعوام 1325 و 1331 و 1342 م مدنًا مثل: «بازا» و «أليكتنا» و «الجيكيراس» فأحدثت هذه القنابل ذعرًا شديدًا في صفوف الأعداء حتى إنهم اعتقدوا أن الساعة قد اقتربت وأذنت الدنيا بزوال. وفي عام 1346 دارت معركة طاحنة هي المعروفة باسم «كريسي» فأصلت فوهة المدفعية العربية، التي أطلق عليها الأوربيون وقتذاك فوهة الشيطان، العدو نيرانًا حامية واستولى الرعب على الإنجليز الذين كانوا في «الجزيرة» كما نكل العرب بالفرسان الفرنسيين تنكيلًا عظيمًا وأحرزوا عليهم نصرًا مبينًا. والنتيجة المحتومة لهذا السلاح الجديد أنه نقل فنون الحرب من مرحلة إلى أخرى إذ كان هو نقطة
التحول في الذخيرة والعتاد، وما زال منذ الحرب العالمية الثانية يطلع علينا بالعجائب.
ثم دارت عجلة الزمن واضطر العرب أن يتركوا مكانهم لغيرهم سواء في الثقافة أو التجارة إلا أنهم أبوا أن يتنازلوا عن مكانتهم إلا بعد أن يتركوا للعالم آثارًا ناطقة بمجدهم وعظمتهم وفضلهم على العالم. فمن هذه الآثار الاصطلاحات الخاصة بالملاحة والتي ربطت بين تجارة البلاد المطلة على البحر الأبيض المتوسط وبين بقين الدول الأوربية فنحن نجد مثلًا أسماء أنواع كثيرة من السفن مثل: «داو» و «دنجي» و «قربلة» و «فلوكه» «الشراع، و «الميزان» و «الحبل» و «دار الصناعة» و «أمير البحر» و «قلفاط» و «قلفاطي» ، وهو الذي يساعد نجار السفن بمطرقة القلفطية التي يصلح بها الأجزاء التي أصابها عطب في السفينة حتى لا تتعرض لعوارية. ومن آثار العرب أيضًا شكل الجندول البندقي والجندول هو ذكرى حب البندقية للشرق العربي.
ومن مخلفات العرب أيضًا الحمام الزاجل فهو: أسرع من البرق وأنجز من سحابة؛ فقد كان يستخدمه العرب في خدمة البريد ونقله وبخاصة الأخبار السرية، ومن ثم اقتبس الصليبيون هذا النظام وأدخلوه أوربا، وما زال الخطاب في منقار الحمامة إلى يومنا هذا رمزًا للحب. كما تزين أوربا كعكة الأطفال برسم الحمامة عليها. ومن آثار الشرق على الغرب أيضًا الحدائق والعناية بها فالحدائق الأوربية تدين لا للعرب فقط بل للشرق قاصيه ودانيه أيضًا، وذلك منذ عدة قرون فقد أخذ الأوربيون النباتات المفيدة للطعام مثل الخيار والقرع والبطيخ والشمام والخرشوف والسبانخ والكبر والليمون والبرتقال والخوخ والتسفتشجين والأرز والزعفران وقصب السكر. وأخذت أوربا أيضًا نباتات الزينة أزهارها مثل الكستناء والبجلة وهي هذه الشجيرة ذات الأزهار البيضاء أو الحمراء والياسمين والورد وخيري البر والكاميليا والأسليح والفورسيسيا والسوسن، وعلاوة على هذه النباتات وتلك الزهور أخذت أوربا عن العرب طرق الري حيث كان العرب ماهرين في هذا الفن منذ أقدم العصور.
وخلف العرب وراءهم أيضًا أثرًا حتى في الكنائس مثل استخدام السبح في الصلوات، فقد جاءت السبحة من الهند واقتبسها الإسلام، ومن ثم أهداها إلى الكنيسة الرومانية وأجهزة الطقوس الدينية والمباخر والبخور والمر، كما نجد بعض الأقمشة العربية الحريرية والموشاة بالخيوط الذهبية والفضية تستر المذابح ورجال الكهنوت فتترك بجمالها أثرا بعيدا في الطقوس الدينية بالكنيسة الكاثوليكية، كذلك البلدشين العربي الذي نشاهده حتى اليوم يزين المذابح ويشهد لبغداد بالمكانة التي بلغتها في العصور الوسطى.
ولا أدل على تغلغل الأثر العربي في أوربا من النظر إلى الملابس التي يرتديها الأوربيون حتى يومنا هذا سواء كانت هذه الملابس شعبية قديمة متوارثة عن العصور الوسطى أو حديثة تشكلها الحضارة وتوحي بها الأذواق. فهذه الملابس مصنوعة من أقمشة عربية الخامات عربية النسج عربية الذوق عربية الاسم عربية الوطن، فها هي «المستقة» تناسب كرنرادين في قطنيته الجميلة والبلوزة التي ترتديها] ريا [تحت شكة الكسوة الأنيقة. وفي البيت يرتدي الوالد جبة، وجبته الإنجليزية القديمة عندما يريد غسل سيارته، ثم الجبة الصغيرة التي يرتديها الطفل، وتلك التي ترتديها السيدة الأنيقة، وهي قطعة من الملابس الداخلية التي أعارتنا إياها المدنية الفرنسية.
وفضل العرب على المرأة وزينتها وأناقتها يتجلى لنا أيضا في غير ملابسها، يتجلى في المساحيق والعطور، فشهرة الشرق في البخور والعطور وإعدادها قديمة جدًا. ولم تقف وسائل الزينة والتبرج على النساء بل تعدتها إلى الرجال، فالرجل المسلم قد اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتزين بإطلاق اللحية، ثم اتصلت أوربا بالمسلمين في الحروب الصليبية فاقتبسها الرجال وأصبحت حتى اليوم من العادات المستحبة عند الغربيين.
وهناك عادة هامة بالنسبة للعربي احتفظ بها الأوربي ألا وهي عادة الاستحمام وخلع الملابس. فالجرمان المخشوشنون اعتادوا كما يحدثنا (تتسيستوس) الاستحمام صباحا وغالبا بالماء الساخن عقب قيامهم من النوم، وكان الجرماني
يعتبر الاستحمام رياضة يومية، ويذكر (قيصر) أن الجرماني كان يستحم بالرغم من قسوة البرد في الأنهار، كما كان الجنسان يستحمان معا دون خجل. ولما زار الطرطوشي بلاد الفرنج لاحظ شيئا آخر، فكان وهو المسلم الذي يتوضأ قبل كل فرض من فروض الصلاة الخمسة يستنكر حال القذارة التي يحياها الشعب؛ لذلك صور هذه الحالة التي شاهدها بقوله إنه لم يشاهد في حياته أقذر منهم لا يغتسلون إلا مرة أو مرتين كل عام وبالماء البارد. أما ملابسهم فلا يغسلونها بعد أن لبسوها لكيلا تتمزق، والسر في هذا التحول العظيم في عادات الشعب الجرماني هذه التعاليم الجديدة التي تقول إن تجريد الجسد من الملابس مدعاة لإثارة الغرائز الجنسية والفوضى الخلقية؛ لذلك عدلوا عن الاستحمام وخلع الملابس ولجأوا إلى غرف صغيرة لتغيير ملابسهم، فاتهمتهم التعاليم الجديدة بالفسق والدعارة، بينما القذارة مظهر من مظاهر العفاف.
ثم اندلعت نيران الحروب الصليبية وأقبل الصليبيون على الشرق فشاهدوا الحمامات في كل مكان، فنحن نعلم مثلا أن بغداد وحدها كان فيها في القرن العاشر الميلادي آلاف الحمامات الساخنة والحمامون والمدلكون والحلاقون للرجال والنساء للعناية بالجسد لا أسبوعيًا فقد بل يوميًا أيضًا، وقد لمس الصليبيون هذه الحياة العربية وأدركوا أثر الحمامات بما فيها من وسائل الراحة والنظافة والزينة فهاموا بها كما هام أولئك الغربيون الذين شاهدوها في إسبانيا وصقلية فألحدوا جميعهم في إدخالها إلى أوربا بالرغم من المعارضات الشديدة وصرخات الاستنكار التي دوت في كل مكان.
وهكذا أخذت قلاع الدفاع التي شيدتها أوربا المسيحية في وجه العرب والإسلام والحضارة العربية تستسلم الواحدة بعد الأخرى، وذلك بفضل القنطرة التجارية التي أقامتها الجمهوريات الإيطالية مع العرب وبفضل التجار والمسافرين والصليبيين، واندفع تيار الحضارة العربية يكتسح ما أمامه من عوائق فأفاقت أوربا من نعاسها وأدركت أثر الجهالة التي تغط فيها ونهضت بفضل العرب والعروبة والحضارة العربية.