الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شعب من الشعراء
إن الذي يسير في أمسيات الصيف الحارة في مرج الفضة، وقد سلط عليه القمر أضواءه الفضية، يقع بصره على شابين مرحين، فهنا نجد السكان، سكان إشبيلية، يبحثون عن أماكن اللهو أو يسيرون في المتنزهات، وقد أهداها الندى نسيماً عليلاً على طول الوادي الكبير، إلا أن أحداً لا يفكر في أن أحد الشابين الذي يرتدي ثياباً حريرية مهفهفة هو أبو القاسم محمد، ملك المستقبل.
فهذا الأمير المرح المحبب إلى النفوس كان يجد لذة في الاختلاط بمختلف طبقات الشعب متنكراً يرافقه صديقه الذي كان يكبره بتسعة أعوام، وهو ابن عمار. وكان ولي العهد يحب هذا الصديق حباً شديداً، لأن ابن عمار كان يجيد الشعر إجادة تامة ولم يكن ليتميز عليه في الأندلس في صناعة الشعر إلا ابن زيدون العظيم. وبالرغم من أن ابن عمار كان فقيراً جداً، إلا أنه كان مغامراً، لذلك استولى بشعره على قلب الأمير الذي كان أيضاً شاعراً، وطالما تنافسا في قرضه والمطارحة، كان يقول أحدهما بيتاً ويقول الآخر بيتاً يتفق والأول عروضاً وقافية.
ويوماً كانا يسيران يمرحان ويتمتعان باستنشاق هذا النسيم العليل، وقد هب على الشاطئ فحرك سطح الماء وهز الأمواج كرقائق الفضة. فقال المعتمد لصديقه الشاعر: أجز: «صنع الريح من الماء زرد» فأطال ابن عمار الفكرة، ولم يكن في نظمه للشعر من أوتوا البديهة الحاضرة، وكانت امرأة من الغسالات على مقربة منهما، وسمعت ما قاله المعتمد لابن عمار، ولما عجز الأخير عن الإجابة قالت المرأة على البديهة:«أي درع لقتال لو جمد» .
فتعجب المعتمد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي حسناء فاتنة، فأعجب بها وأخذ بجمالها، فسألها «أذات زوج هي؟ » فقالت:«لا» ، فلما ذهبت في سبيلها قال لخادم كان يتبعه:«سل عن هذه الفتاة واعرف مكان أهلها» ، وعلم أنها جارية رميك بن حجاج وأن اسمها اعتماد، فلما عاد إلى قصره استدعى صاحبها واشتراها منه وتزوجها، ومن فرط حبه لها أطلق على نفسه منذ تلك اللحظة اسم «المعتمد» ، وبهذا الاسم اشتهر كأكبر شاعر بين جميع ملوك العرب وخلفائهم.
وهكذا تجد الاثنين ينسجمان انسجام الروي في الشعر أو انسجام القافية، وقد ظل حبهما حياً مدى حياتهما حتى لقى كل منهما قضاءه الحزين المحتوم.
كما أن قصيدة مطلعها:
أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
…
والنجم قد صرف العنان عن السرى
هي التي ألفت بين المعتمد وصديقه ابن عمار. وقصائد ابن عمار هذا هي التي حررت المعتمد من السجن، حيث نجد ملك إشبيلية وهو المعتضد الذي كان سريع الغضب يأمر بإعدام ولي العهد الذي تسبب بإهماله في ضياع معركة وهزيمة جيشه. لكن أشعار ابن عمار شفعت له لدى المعتضد الذي اشتهر بالغلظة والقسوة، إلا أنه كان شاعراً يقدر الشعر الرصين وبسببه يعفو عن كل شيء.
فالشعر الجيد قد يفك من الأغلال، وقد عرف هذه الصفة موظف من موظفي المالية في قرطبة كان قد اختلس أموالاً عامة. فقد وجه الخليفة المنصور تهمة إلى هذا الموظف مستنكراً جرأته وسرقته أموال الخليفة، فاعتذر الموظف بأن القدر أقوى من الإرادة الحسنة، والفقر يضلل الفضيلة، وهكذا استطاع هذا اللص النجاة بفضل مهارته الشعرية، وكان المنصور يستصحب معه في حروبه أربعين من خيرة شعرائه، وكتب الأدب العربي تفيض بكثير من القصص التي تبين مدى تقدير العربي للشعر وتقديسه.
وقد أبهرت العقلية الشعرية للفيلسوف والطبيب ابن الخطيب، وهو ذلك
الطبيب الذي هدي أوربا إلى أن وباء الطاعون معد، فقربه الأمير إليه وبخاصة أنه أعجب بأسلوبه الجميل في رسائله إلى سائر الحكام، فعلا شأنه وازدادت شهرته واختص ملك قرطبة بخدماته، كما استطاع مرتين بقصائده الرائعة الاستحواذ على قلب ملك المغرب وعطفه فبادر مرتين إلى إنقاذ تاج هذا الملك الشاب وعرشه.
والقصيدة العصماء تحتل مكانة رفيعة في شعب يجد في الشعر ضرورة من ضرورات الحياة اليومية، وأن الحاجة إليه لا تقل عن الحاجة إلى اللغة. والشعر لدى العرب أسلوب من أساليب اللغة التي تهيمن على كل عربي حتى الفلاح في حقله والعالم في مدرسته والأميرة في خدرها. والقصيدة تتدفق من بين الشفاه في سهولة ودون تكلف ويستخدمها صياد السمك في الوادي الكبير والصانع في مصنعه. والعربي يقول الشعر في كل مناسبة. ويذكر أنه في إقليم (سيلفيز) كان فلاح يسير خلف الفدان ويرتجل الشعر، ويذكر أن أحد سكان هذا الإقليم من قبيلة بني الملاح ذهب لعمله مع ابنه الصغير يتمشى على ضفة النهر حيث تنقنق الضفادع فأخذ الوالد يدرب ابنه على قول الشعر؛ ففي الأندلس حيث يدرج الأطفال على صياغة الشعر ويسطرون المجلات بأسماء الشعراء يجعل من العسير الحكم على أشعر الشعراء، ومن هو الشاعر، بينما من السهل الإجابة على أي الملوك وأي الوزراء وأي رجال السيف والعلماء لم يكن شاعراً.
وإذا أراد الإنسان أن يتحدث عن شعب من الشعراء يجب أن يتحدث أولاً عن العرب وبخاصة عن العرب الجاهليين، وكذلك الحال عندما نتحدث عن عرب الأندلس إذ كان الشعر لديهم عبارة عن تطور لغوي. إن اللغة العربية تطورت إلى شعر وشعر من نوع خاص أو إلى فن من فنون الشعر الخاصة، فقد تحولت اللغة إلى نغم وقافية.
والخاصية المميزة التي تميز العربية وسائر أخواتها السامية عن الأسرة الهندسية الأوربية مثلاً هو مبدأ التثليث فأصول الكلمة ثلاثة صامتة تعبر عن المعنى المشترك، والحروف الصامتة هي التي تتغير فقط، وهي التي تميز بين المعاني المتكافئة والصيغ المصرفية المتنوعة.
لكن استخدام الحركات يخضع لقواعد خاصة، وهذه الحركات واستخدامها سبب من أسباب خلق ألفاظ عديدة جداً تتفق جرساً وتختلف معنى، كما نجد ألفاظا تختلف في حروفها المتحركة أعني نشأة السجع.
فهذه الصفة التي تمتاز بها العربية والتي تختصها بنغم واضح جلي تتطلب ولا شك قيام شعر مقفي أو نثر مسجوع، فهذه الصفة خاصة بالعربية، والعروض العربي لا اليوناني ولا اللاتيني هو الذي أثر في الآداب الأوربية والعالمية. وإذا كانت اللغات الجرمانية وعلى الأقل اللغة الألمانية لا تتفق والسجع، فإن اللغة العربية الشرقية نجحت في القضاء على منافساتها والإبقاء عليها سجينة حتى أصبحت اليونانية وكأنها أجنبية بالنسبة للألمانية والألمان.
لماذا يستخدم الشعراء الألمان اليوم الوزن (الهكساميتر) القديم؟ لماذا لا يقول الشاعر الألماني غزلاً في هذا الوزن القديم؟ لقد ظلت الترانيم الكنسية الدينية والأشعار الدنيوية زمناً طويلاً مرتدية ثوباً لاتينياً. ولماذا لم يستخدم الشعب الألماني عندما أخذ يقول الشعر العروض القديم لصياغة هذا الشعر؟ ولماذا فضل عليه العروض العربي؟ هل السبب هو الميل الشديد إلى النغم، وأن الشعر المقفى الذي يكسب الروح قوة ويقظة - وإن كان غير مفيد. يتفق واستعداد الشعب؟ أو هل كانت هي الحاجة الملحة إلى الموسيقي وليس التقطيع اللغوي للرومان أو الجمود الأجنبي اليوناني حيث يستعاض عنه بالنغم؟ من المؤكد أن أغاني «جوته» و «هينه» كانت شيئاً آخر غير تلك التي جاءتنا لو لم يقرر الذوق الشعبي فناً شعرياً آخر. والآن نتساءل: كيف بلغ السجع والنغم هذه المكانة العالمية؟
فأول عامل مؤثر جاء من صلوات اليهود في المعابد في القرن الأول الميلادي وذلك عن طريق بيزنطة والترانيم المسيحية القديمة والصلوات التي كانت تقام في الكنيسة الرومانية الشرقية في الشعر الديني اللاتيني في الكنيسة الرومانية الغربية التي كانت صدى للمؤثرات الشرقية. كما نجد رهباناً مصريين وسوريين وبعض البيزنطيين الذين هربوا إبان النزاع الذي قام حول الصور، قد أقاموا سداً منيعاً ضد هذا التيار في الأديرة الأوربية. أما الباباوات المنحدرون من أصل شرقي ومعهم
أنصارهم فقد حرصوا على ترك الطرق مفتوحة، فنجد الأوزان العربية تستخدم إلى جانب الأوزان القديمة المتأخرة زمناً طويلاً، كذلك نجد نتيجة أخرى لذلك غير موزونة وغير منغمة. ومصدر هذه الظاهرة الشعر الديني. وظلت القافية نحو نصف قرن وأطول غير مطردة، لكن حوالي القرن الحادي عشر أخذت هذه الظاهرة تنتشر بفضل العوامل القوية التي دخلت عليها ودفعتها إلى الأمام. وفي إنجيل «أوتفريد» نجد السجع مستعملاً، وقد كان ذلك حوالي عام 860 م إذ يظهر للمرة الأولى في اللغة الشعبية وينافس غيره، لكن ظل زمناً طويلاً قبل أن يفرض نفسه.
أما التيار الثاني الذي أثر في الشعر الأوربي فقد جاء عن طريق الشعر الغنائي العربي الصحراوي. وبغتة وبدون تمهيد نجد أنفسنا حوالي القرن الخامس الميلادي أمام شعر كامل موزون مقفى، وهذه الظاهرة تدعو إلى الاستغراب حقاً فكيف نجدها في هذه الحالة عند شعب يحيا حياة البداوة والحرب، بعيداً عن مقومات الثقافة والمدنية، فإذ به يصل إلى خلق هذا الشعر الكامل ذي الجانب العظيم من الجمال، إنه شعر بلغ مرحلة من الجمال الفني لا تدانيها مرحلة، فهو شعر يعبر عن منتهى بلوغ أكبر مرحلة من مراحل الرقي الفكري.
حقا إن لغة هذا الشعر تحمس العربي لفظا ووزناً، لكن بينما نجد القافية في الشعر السرياني عبارة عن شيء فريد وحيد إذ بالعربي يستخدمها كعنصر أساسي في الشعر العربي، وكما هو الحال في الفن العربي من حيث الزخرفة كذلك القافية التي بها يتم البيت ويقفل، هذا إلى جانب الكيفية التي تستخدم بها فالشاعر العربي يكيفها بعدد لا يحصى من النغم وأبيات تسير على وتيرة واحدة وترتبط معاً برباط النغم.
وهكذا نجد هذه اللغة العربية وما تخلقه من فن شعري تسترسل فيه الصور الشعرية والمشاعر الإنسانية كالأمواج تدفع الموجة الأخرى إلى اللانهائية، وقد تبلغ القصيدة مائة بيت وتكون وحدة في الروي ووحدة في العروض مثل تلك التي قالها إمرؤ القيس في المطر، إمرؤ القيس الذي عاش قبل مجيء الرسول بنحو خمسين سنة ومنها:
ديمة هطلاء فيها وطف
…
طبق الأرض يجري وندر
ففي هذه القصيدة وهي الصورة الشعرية القديمة حيث تتكرر بها الأنغام ويتكرر الروى أو القافية قدم العربي الصورة الصادقة حقاً للفن العربي في زخرفة المساحات، وهذا الفن الشعرى يعرف حتى اليوم على أنه قديم. لكن المدارس الشعرية الحديثة كمدرسة أبي نواس في بغداد، أو مدرسة الشاعر الأعمى الذي عاش في نهاية القرن التاسع الميلادي في بلاط الأمويين في قرطبة، قد حطمت القيود القديمة للشعر العربي والقصيدة العربية وجاءتنا بفنون أخرى جديدة. فالقصيدة مقسمة إلى أدوار مستقلة في هيئة أغان مع تغيير وتنويع القافية مع الشيء الكثير من البيان والبديع. فمثل هذه الفنون الجديدة أو هذا التطور في القصيدة العربية ظهر في إيران على يد الفردوسي وعمر الخيام وآخرين، وانتشر هذا الفن بسرعة ونقله وردده العرب في العالم الإسلامي من قرطبة حتى قرى القوقاز ومن طوس ونيسابور في إيران حتى نهر النيجر والجنج. لكن هذا الفن الشعري قد استقبلته أوربا استقبالاً حسناً وحماسياً فشعراء التروبادور بزعامة الهرزوج «فلهلم التاسع فون أكويتانين» استخدموا هم والشعراء الغزاليون نغماً عربياً وقافية عربية كما استخدموا الأدوار العربية والأوزان العربية وخصائص أخرى من خصائص الشعراء الغنائيين الأندلسيين، وكذلك مغني الدروب أعني المغني المتجول. ويتجلى هذا الأثر في صورة واضحة جلية في الأغاني الدينية للملك ألفونس الحكيم الذي تأثر بلاطه بالعرب الذين كانوا يحيون فيه أو بالعرب عامة، كما نجد هذا الأثر العربي في مؤلفات «يوان رويز» كبير قساوسة «هيتا» الذي كان منغمسا في الحياة الإسلامية والتقاليد الإسلامية كما قال شعرا وأغاني راقصة لصديقاته بين المغنيات العربيات، كما نجد الأثر العربي في أغاني عيد الميلاد في اللغة اللاتينية وفي الأدوار الفرنسية والقصائد.
أما في إيطاليا فالأثر العربي أشد وأقوى منه عند التروبادور، فهنا في إيطاليا نجد الأغنية العربية تجد معجبين كثيرين وبخاصة في الحياة والترانيم الدينية كما هو مشاهد عند القديس «فرنس فون أسيسي» والفرنسيسكاني «فراجا كابوني دا تودي» الذي كان معاصراً لدانتي كما في «دولش ستيل نوفو» ، وعند دانتي نفسه. وأشد ما يكون الشعر
العربي أثراً في الشعر الشعبي في «أومبريان» و «توسكانا» والبندقية. فمن الأوزان العربية نشأ الفن المعروف باسم «مدريجال» العلماني وحتى «لو رينسو ده مديشي» و «مكيافل» قالا الشعر في أوزان عربية.
وعلاوة على ذلك نجد العرب في صقلية يؤثرون في الأغاني الشعبية أثراً بليغاً ما زلنا حتى اليوم نجده في إيطاليا، كما أثر العرب في النوع المعروف باسم «سونيت» في شمال إيطاليا.
وحيث يقال الشعر في مختلف أجزاء الدولة العربية نجد اللغة العربية والأسلوب العربي كما هما عند البدو، لذلك كان العرب يرسلون أولادهم إلى البادية ليتلقنوا عليهم اللغة العربية الخالصة لغة الشعر الفصيح ولو أن أولئك العرب البدو قد خرجوا من بلادهم وانسابوا في العالم واختلطوا مع شعوب وأجناس أخرى، فإن الشعر العربي ظل محتفظاً بخصائصه ولغته في مختلف تلك الأقطار التي انتشر فيها العرب.
والشعر العربي شعر غنائي يعبر عادة عن مشاعر شخصية وانطباعات الشاعر نفسه فالقصيدة والحالة هذه عبارة عن عقد من اللآلئ، كما أن الغناء هو الفن السائد في الشعر كما هو الحال اليوم في أوربا، وكما أن الملحمة آخذة في الزوال تدريجياً.
واللغة تؤثر تأثيراً منتجاً سواء كانت نثراً أو شعراً، ومن هنا نجد الثروة اللغوية العربية غنية جداً، فقد يعبر البدوي أو المحارب عن أدق المعاني الإنسانية والمشاعر عن طريقها، بخلاف اللغة الألمانية فهي فقيرة في مفرداتها الموجودة تحت تصرف الشاعر الألماني، وهي المفردات التي يستخدمها عند وصف شيء بعينه من زواياه المختلفة، بينما نجد ساكن الصحراء بنظره الثاقب وقوة مشاهدته والصبر على التأمل، فضلاً عن صفاته التي يمتاز بها، ولو أنها في عالم الماديات تجعل عالمه محدوداً? يتسع هذا العالم أمام إدراكه التنبئي الذي يتميز به وجهه ونظرته التي تتجلى لنا من عينيه. كل هذه الخصائص تترك أثراً في الرمل وصرخة في الليل
وعبيراً وجرساً، وهنا ندرك السرور عند بلوغ الهدف والتعبير عن غرضه التعبير الصادق.
ولكي نصور قوة اللغة في التعبير عن الصور تعبيراً دقيقاً نذكر لامية الشنفري، وهذا شاعر جاهلي، والشنفري هنا ثائر على الناس وعلى الله؛ لذلك فهو يهرب إلى حيث الوحوش الضارية والذئاب والضياع فيتخذ منها أصدقاء له.
ومن فرط إعجاب الشعب بهذه اللامية ضمها إلى المعلقات هذه القصائد التي تعتبر من مفاخر الشعر الجاهلي فأجازها وأجاز قائليها. كذلك لنقرأ القرآن الكريم حيث نلمس قوة اللغة وجمال الأسلوب وفصاحته:
{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)} [العاديات: 1 - 5]. أو قوله تعالى:
وما جاءنا في الشعر العربي خاصاً بالحيوانات العزيزة لديهم كثير جداً، كهذا الوصف الجميل في الفرس ومنه:
غدونا بضاف كالعسيب مجلل
…
طويناه حيناً فهو شرب ملوح
ولم يقف الشعر عند هذا بل نجد الأندلسي يصف قوسه وصفاً دقيقاً حياً، كما يعرض ابن شرف لطلوع الشمس فيصورها كما صورها الشاعر الألماني «موريكه» .
إن الخيال العربي لا يعرف حدوداً، فهو عوضاً عن أن يصف الأشياء من ظاهرها يبعث فيها الحياة والحركة فكل زهرة تتفتح في الظلام وتفتح فاها باحثة عن ضرع
السحابة لتشرب. ثم نجد الشاعر يتنقل من صورة إلى أخرى، فهو يقول إن يدي الربيع قد شيدتا أبراج زهرة الزنزلخت على سيقان عالية، وإنها لأبراج ذوات مجار فضية. وهكذا نجد العربي يخلق فناً مختلف الألوان يأخذ بالأبصار ويبدو وكأنه أغنية من أغاني الشاعر «موريكه» ، ثم نجد انعكاسات شاطئ الوادي الكبير تصور وكأنها معركة تدور رحاها بين الزهور والماء.
إن الموضوعات التي يعالجها هذا الشعر تشبه النفس البشرية فجميع النغمات تعبر عن الأحزان والكآبة والشكوك التي تودي بصاحبها، كما نجد فيها البعض العنيف والحزن العميق والحب الصارخ، هذا جميعه نجده مثلاً في قصيدة شاعر مثل ابن خفاجة كما نجد شعراً أكثر مرحاً كما هو الحال مع ابن الأبار.
ويقال إن الخليفة المعتضد لما دب إليه المرض وأحس بقرب منينه استدعى مغنياً يغنيه ليجعل أول ما يبدأ به فألا، فأول ما غني قصيدة ابن الأبار هذه وفيها:
نطوى الليالي علماً أن ستطوينا
…
فشعشعيها بماء المزن واسقينا
فتطير من ذلك ولم يعش بعدها سوى خمسة أيام وقد خلفه ابنه المعتمد زوج اعتماد أو رميكة كما كانت تسمى نفسها، وقد ظل جالساً على العرش رغماً من تلبد الجو بالغيوم السياسية زهاء اثنين وعشرين عاماً كانت كلها أيام سعادة وعزة، وقد أحبه العرب حبا لم يمنحوه إلا للقليلين من أمرائهم، وكان المعتمد معاصراً لكل من «هينريش الرابع» و «جريجور السابع» و «وليم الفاتح» والجراف «روجير» الأول في صقلية. وكان المعتمد كما يروى ابن خلكان أكرم وأحسن وأشجع أمير إسباني، كما كان قصره مزار المسافرين وملتقى العبقريات والكعبة التي تتجه إليها آمال القوم وأمانيهم. وكان يعيش معه في قصره طبيبه الخاص أبو العلاء بن زهر وهو الثالث من الأسرة الإشبيلية التي اشتهرت بالطب وهي تنتمي إلى قبيلة إياد، هذه القبيلة العربية القديمة، وقد اشتهر ابن زهر هذا بالطب والفلسفة واعتاد أن يكتب بطاقة وصف العلاج على جذاذات قطعها من أسطوانة سميكة أهداها إليه تاجر عراقي ولم تكن إلا قانون ابن سينا، وكانت هذه هي النسخة الأولى التي وصلت إلى الأندلس. وطبيب المعتمد كان والد الطبيب والفيلسوف الشهير ابن زهر وجد طبيب
آخر اشتهر كذلك بالشعر فخرج هذا الحفيد ابن زهر من إشبيلية إلى قصر حاكم مراكش فحدث في أحد الأيام أن بعض أشعار هذا الطبيب الخاص بالسلطان قد وقعت في يده، وفي هذه الأبيات يشكو ابن زهر حنينه إلى ابنه فتأثر السلطان أثراً بليغاً واستدعى سراً أسرة ابن زهر من إسبانيا ورفع لابن زهر مرتبه.
وفي بلاط الأسرة العبادية بإشبيلية عاش أيضاً شاعر عظيم بل من أعظم الشعراء العرب، ألا وهو ابن زيدون حيث اتخذ من قصرهم ملجأ له، وكان له ابن وزر للمعتمد، خلفاً للصديق والوزير الأول ابن عمار أكثر الرجال نفوذاً في القصر، كما أن المعتمد استمد اسمه من اسم حبيبته اعتماد. وهكذا نجد الشاعر ابن زيدون يجعل من اسم ابنه الوليد نصباً للحب، هذا الحب الذي أضناه وأشقاه طوال حياته. وقد حمل هو أثر هذا الشقاء حيث تسمى: أبا الوليد بن زيدون.
وابن زيدون من أشهر عائلات قرطبة والسيدة التي اقترن حظه بها هي الأميرة الأموية الجميلة الشاعرة الشهيرة «ولادة» التي كانت موضع تقدير سائر رجال قرطبة. وكان يحسده ويحقد عليه وزير ابن جهور، لذلك عكر على ابن زيدون حبه وحياته من زوجه حتى انتهت بمأساة، فقد وشى هذا الحاسد بهذا الشاعر الممتاز الذي كان قد وقع عليه الاختيار والذي كان يتبوأ مركزاً ممتازاً في الإدارة والسياسة، وشى به لدى حاكم قرطبة وشاية سياسية. فوجه ابن زيدون إلى خصمه خطاباً فيه الكثير من التورية السياسية والعبارات القوية حتى جعل خصمه سخرية الجميع، كما رفع مكانته هو الأدبية، لكنه فقد عطف رئيسه فزج به في السجن. ولما لم يجد مفراً من رئيسه صاحب القوة والسلطان هرب ابن زيدون طالب الخلاص، وظل كذلك زمناً طويلاً، لكن حبه الشديد لولادة كان يضطره إلى المجازفة بحياته والاقتراب من قرطبة.
ففي خرائب قلعة الصخرة الأموية العظيمة التي هدمها البربر وخربوها، وحيث الآن ينعق البوم، كان ابن زيدون يرسل من هناك أشواقه إلى حبيبته التي أحبها كثيراً وخلد هذا الحب في كثير من قصائده. وانتهى بابن زيدون المطاف إلى قصر ملك إشبيلية حيث تمكن قبل وفاته من خدمة المعتمد عند فتح قرطبة.
وقد انضم إلى عقد أولئك الشعراء شعراء آخرون صقليون تركوا صقلية لما سقطت في يد النورمان ومنهم «أبو العرب» و «ابن حمديس» وكان النجم المتألق في هذا العقد الملك الشاعر المعتمد فقد جذبت شاعريته الكثيرين وتفوقت عليهم، وقد اشتهر المعتمد كذلك بالشعر الغرامي الغزلي فتغزل في «رميكة» فوصف نفسه بأنه عبد الجميلات الفاتنات، وقد أفرد كثيراً من غزلياته في وصفهن ووصف جمالهن وكان شعره كأنه قد صيغ من أحجار كريمة تضيء كالبلور والماس. وشعره يبين الروح العربية وطبيعتها الرشيقة الرقيقة، وهذا ما جعل منه شاعراً فحلاً.
ثم جاء المسيحيون طامعين في الاستيلاء على الأندلس، لذلك سارع الأمراء الأندلسيون واستدعوا يوسف الحاكم البربري لمراكش ليساهم تحت إمرة المعتمد في رد المسيحيين فنشبت معركة بين المسلمين والمسيحيين أبلى فيها المعتمد بلاءً حسناً، كما حارب حرب الأبطال المغاوير وهزم المسيحيين شر هزيمة.
ورجع يوسف إلى مراكش «وفي نفسه من أمر الجزيرة المقيم المقعد» كما يقول المراكشي، وقال لبعض ثقاته من وجوه أصحابه:«كنت أظن أني قد ملكت شيئاً، فلما رأيت تلك البلاد صغرت في عيني مملكتي، فكيف الحال في تحصيلها» .
ورأى أصحابه أن يشيروا عليه برأي يجعل الاستيلاء عليها ميسوراً إلى حد كبير، وأغلب الظن أنهم كانوا مثله يطمعون في امتلاكها فسير حملة واستولى عليها. ويصف الفتح المعتمد يوم سقوط إشبيلية في يد المرابطين بقوله: «ولما انتشر الداخلون في البلد وأوهنوا القوى والجلد، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر، وقد ضاق بهم فضاؤها، وتضعضعت من رحبتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتها فرقاً، وملأتهم فرقاً، وما زال يوالى عليهم الكر، حتى أوردهم النهر، وما بهم جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاب ماله، وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك به يومه وليلته مانعاً لحوزته، دافعاً للذل من عزته، وقد عزم على أفظع أمر، وقال بيدي لا بيد عمرو، ثم صرف تقاه، عما كان نواه، فنزل من القصر بالقسر، إلى قبة الأسر، فقيد للحين، وحان له يوم شر ما ظن أنه يحين، ولما قيدت قدماه، وبعدت عنه رقبة الكبة ورحماه قال يخاطبه:
تبدلت من عز ظل البنود
…
بذل الحديد وثقل القيود
وبعد أن كبله يوسف نقله وأسرته في سفينة فبكاه شعبه على ضفاف الوادي الكبير ولطم النساء وجوههن، ونقل المعتمد وأسرته من طنجة إلى مكناس جنوباً حتى «أغمات» ، ومن ثم عزل عن باقي أفراد أسرته ليمضي حياته في السجن.
وهكذا نجد المعتمد يقضي آخر سنى حياته في البؤس والشقاء، وإن أصبح شاعراً مفلقاً بل أعظم شاعر أندلسي، وتوفي ووري اللحد كسير النفس شقى الفؤاد بعد أن رثى نفسه قبل وفاته بكثير من المراثي التي تعتبر من أشهر ما قيل في هذا الفن سواء في الجاهلية أو الإسلام. فقد ظل في السجن خمس سنوات قاسي فيها ويلات الذل والسجن والمرض وفي عام 1095 ترك الحياة وهو ابن خمس وخمسين سنة، ودفن إلى جانب «رميكة» في «أغمات» .
وفي أوائل القرن الثاني عشر خرج رجل من إشبيلية مخترقاً الصحراء العربية فلقى ترحيباً عظيماً من أفراد قبيلة لحم. وفي إحدى الليالي أصابه أرق فخرج من خيمته وأخذ يتطلع إلى السماء المليئة بالنجوم ورأى في القمر الوضاء ما ذكره بسيده السابق فأخذ يردد بعض الأشعار.
وفي هذه اللحظة فتح باب الخيمة التي كان فيها وخرج منها رئيس القبيلة وسأله: لمن هذه الأشعار الواضحة كالنهر العذبة كالمرج الذي سقاه ماء المطر؟ إنها أشعار حلوة كصوت الغانية وقد حلت عنقها بقلادة من الذهب. إنها أشعار قوية لها رنين يشبه صوت البعير. وحكم البدرى على اللغة يعتد به كمرجع من مراجع جودة اللغة والشعر وهو حكم يغاير حكم سكان المدن.
فأجاب الرجل الإشبيلي أنه لملك ملك على وطنه من العباديين ومن قبيلة اللخميين، فامتلأ رئيس القبيلة فخاراً وعجباً إذ اكتشف مأثرة أخرى من مآثر قبيلته فنادى الشيخ أفراد قبيلته وأخبرهم ما يشرفهم أن شاعراً عظيماً قد ظهر منهم. وهكذا نجد الأشبيلي يقص على كل القبيلة خبر ملكه الشاعر العظيم الكريم الذي كان فارساً عظيماً لا يخاف الموت ولا يخشاه، وأميراً كريماً لا يجاري في كرمه، ولما انتهى من الخبر امتطى البدو الخيل فرحين فخورين ليحتفلوا بهذا الخبر فاهتزت
الأرض تحت أقدامهم تحية للملك الشاعر وهو من قبيلتهم؛ وبعد ذلك بمائتين وخمسين عاماً رحل حاج مخترقاً مراكش وكان وزير ملك غرناطة، وهذا الحاج هو ابن الخطيب الطبيب ومكتشف وباء الطاعون فأدى به طريقه إلى «أغمات، إلى قبر المعتمد واعتماد، وذلك في سفح تل تكسوه زهرة اللوتس وعندما وقف أمام القبور المهدمة الموحشة وعيناه تذرفان الدموع ارتجل أبياتاً منها:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات
…
رأيت ذلك من أولى المهمات
وذيل الكتاب بقوله إنه سيعود إليها «إن شاء الله ربي» أو شاء ابن عمار. ولما علم ابن عمار بالأمر وجه إليه أبياتاً منها:
مولاي عندي لما تهوى مساعدة
…
كما يتابع خطف البارق الساري
والمعتمد يعرف تماماً أن الصديق يدرك تماماً الإدراك مدى حبه لاعتماد، وأن هذا الحب جعل منه عبداً لاعتماد. وبالرغم من أنها لم تكن مثقفة ثقافة عالية أو تربت تربية خاصة إلا أنها سحرته وقد ملك كل ما فيها قلبه. إنها ذكية نبيهة وشاعرة موهوبة، هذا فضلاً عن مرحها وطفولتها وما يبدو منها أحياناً من دلع ودلال. ففي أحد أيام شهر فبراير شاهدها تبكي في أحد نوافذ القصر وهي تشاهد الثلج يتساقط من السماء فسألها المعتمد عن سبب بكائها فأجابته:«إنك طاغية جبار غشوم، انظر إلى جمال ندف الثلوج البارقة اللينة العالقة بغصون الأشجار، وأنت أيها الناكر للجميل لا يخطر ببالك أن توفر لي مثل هذا المنظر الجميل كل شتاء ولا تصحبني إلى بلد يتساقط فيه الثلج في الشتاء» فسارع المعتمد وجفف دموعها قائلاً: «لا تحزني ولا تستسلمي لليأس يا سلوة النفس ومنية القلب فإني أعدك وعداً صادقاً أنك سترين هذا المنظر الذي أدخل على قلبك السرور كل شتاء، وأمر بزرع أشجار اللوز على جبل قرطبة حتى إذا نور زهره بدت الأشجار وكأنها محملة بقطع الثلج الناصعة البياض.
ومن مشهور أخبارها مع المعتمد القصة المعروفة في قولها: «ولا يوم الطين» ، وذلك أنها رأت الناس يمشون في الطين فاشتهت المشي فيه فأمر المعتمد فسحقت أشياء من الطيب وذرت في ساحة القصر حتى عمته ثم نصبت الغرابيل وصب فيها
ماء الورد على أخلاط الطبيب وعجنت بالأيدي حتى عادت كالطين وخاضتها مع جواريها، وغاضبها في بعض الأيام فأقسمت أنها لم تر منه خيراً قط فقال لها:«ولا يوم الطين» فاستحيت واعتذرت.
وكان المعتمد متيماً باعتماد لا يتردد في الركوع أمامها واسترضائها، لم يكن يهمه أنها كانت فتاة من الشعب، وأنها ولدت في أفقر الأحياء بينما ولد هو في قصر، كذلك كان حال الحاكم الأموي «الحكم الأول» حوالي عام 800 م حيث كان أميراً على الأندلس. فبالرغم من قسوته وجبروته كان أمام جميلات قصره ضعيفاً كالأسير الذليل، كذلك كان في شرق العالم الإسلامي الخليفة هارون الرشيد وخليفة قرطبة سليمان حفيد عبد الرحمن الأكبر.
إن الشعب العربي شعب شعراء وغزلياته لم تكن رياء ونفاقاً بل حقيقة تعبر عن شعور حقيقي، وإن الضعف أمام الحبيبة لم يكن أقل من الخضوع والتوسل إلى الله وإن صلة الإنسان بحبيبته لم تكن تخالف صلته بخالقه.
إن العربي في صحرائه التي لا تعرف إلا اللانهائية كان يدرك تفاهته بالنسبة للبيئة التي يعيش فيها وضعف قواه وإرادته، كما يؤمن بأن وجوده يتوقف على إرادة القوى العظيم، لذلك وصف الله بأنه الرحمن الرحيم، وهاتان هما أهم صفاته، ولن يستطيع إنسان بلوغ رحمة الله إلا عن طريق التواضع والاستسلام له، لذلك كان المسلمون الحقيقيون هم «المسلمين» وعن طريق التواضع يفرق بين المؤمن وغير المؤمن. الإسلام هو الاستسلام لله وإرادته وأن يصير الإنسان عبداً لله. فهذه الصفات التي يتصف بها الحب الإلهي، انعكست على الشعر العربي الغزلي، وهذه الظاهرة ندركها حتى في الغزل الجاهلي. ولعل من أقدم وأنبل أنواع الحب والغزل ذلك النوع المعروف باسم الحب العذري نسبة إلى قبيلة بني عذرة الذين يموتون عندما يحبون. وهذا النوع قد يشبه الحب الأفلاطوني عند اليونان، وكان لهذا الحب الأفلاطوني في أوربا الأوقات الخاصة وذلك عندما يجد العرب نوعاً من الحب الذي يتحكم فيه العقل، وقد انتشر على طول حدود العالم الإسلامي حيث انتشر هذا الحب العذري، فنجد أمثال جميل بثينة يغني في الحب أي حب بثينة، حيث
يعتقد أنها له وأنه لها منذ أول الخليقة، وهي فكرة تذكرنا بحب «جوته» للسيدة «فون شتين» .
إلا أن المحبين لا يتغلب كل منهما على قبيلته والموقف العدائي لكل قبيلة من الأخرى. لكن حبه يقضى على الزمان والمكان، إنه حب قوي عنيف إلا أنه بالرغم من ذلك قنوع متواضع حيث يتوسل إلى حبيبته التي لا ينالها معتقداً أنها له ولا لشيء أرضى حتى الموت يربطه ويتصل به أو يقضي على هذا الحب.
وهناك نوع آخر من الحب هو ذلك الذي نجده بين الحارث بن عوف شيخ قبيلة مرة وبين بهيسة، وبالرغم من قوة الحارث كان يضعف ويخضع لحبيبته التي كانت في حين لآخر تريد أن تفرض عليه إرادتها وقوتها.
وحوالي عام? ? ? م نجد هذا النوع من الحب العذري حب جميل نجده عند عباس ابن الأحنف في قصر هارون الرشيد لإحدى جواري هارون الرشيد مثلها مثل عباس بن الأحنف ذاته، إلا أنها تتفوق عليه لجمالها وعفتها؛ لذلك قال إذا عبد إنسان كائناً لجماله فملكتي يجب أن تكون إلهاً. وبالرغم من أنها جارية عادية فإنه كان يقدسها كما لو أنها كائن سماوي رحمته أو قست عليه، وكما أن المسلم عبدالله فهو عبدها المخلص الأمين. وكانت الحبيبة تسيطر على فؤاده، واستسلامه لها هو الذي يرفعه ويسمو به.
أما «أوفيد» العرب في الغزل فهو على بن حزم (994 - 1064) ولو أنه أصلاً من أسرة غوطية غريبة اعتنق الجيل الرابع منها الإسلام، وكان يعيش عيشة عربية وتزوج عربية وتقلد أسمى المناصب في بلاط قرطبة، ويدعى العرب أنه زور في نسبه، وأنه يقول إنه انحدر من مولى أعتقه الخلفاء الأمويون في دمشق. ومثل هذه الأخبار ليست نادرة، لكن النادر حقاً أن دخيلاً على العرب تتقمصه الروح العربية والعقلية العربية مثل ابن حزم، هذا الشاعر الغزلي العذري وإلى جانب ذلك كان فيلسوفاً وصوفياً، ففي كتابه الشهير حول الحب نظرياً وعملياً، والمعروف باسم» طوق الحمامة» يعترف بأن الاستسلام للحبيب موقف يعجز الوصف عن تصويره، وتخرس الألسنة عن التعبير عنه كما سبق أن تبينا هذا من عباراته وشعره.
مستوى الآلهة بين «دانتي» وابن عربي (1165 - 1240). وليس صدفة أن هذا الصوفي الأندلسي من مرسية الذي كان معاصراً لفريدريش الثاني، والذي عاش مائة عام سبقت الشاعر الإيطالي اللاهوتي، قد اقتبس «دانتي» الشيء الكثير من مؤلفاته فحب «دانتي» «باتريس» أخذ يتطور في عقلبته حتى جاء بها إلى الجنة، ومن ثم أخذ ينتقل من مرحلة إلى أخرى، فصوره مأخوذة عن ابن عربي، بل حتى بباتريس لها سابقتها وهي الجميلة «نظام» ابنة ابن رستم في مكة فقد اتخذها مصدر وحيه الشعر في ديوانه، إنها معقد آماله ومصدر تفكيره وإن كل اسم اختاره يشير إليها وكل بيت في الرثاء لها إلا أنه كان يذكر دائماً أن الله هو مصدر الوحي والإلهام لأنه يجب على الإنسان أن يؤثر الآجلة على العاجلة، وقد اقحم شراح بن عربي وخصومه في شعره الصوفي ما قاله في نظام، ويعبر حقيقة عن حبه العذري الظاهر كما فعل «دانتي» فيما بعد.
فالرفع من مكانة المرأة العربية والسمو بها إلى مكانة قريبة من الذات الإلهية دليل قوي بالرغم من انتشار نظام الحريم على مكانتها الحرة في المجتمع. فالنساء الأندلسيات كن يتمتعن بقسط وافر من المساواة وكن يساوين الرجال كما كان لهن حظ وافر من الحرية والعمل في المجتمعات سواء كن من السيدات أو فتيات عاديات بل حتى الجواري كن بفضل هذه الحرية التي يتمتعن بها يتساوين مع الرجال في الحياة العامة. فقد شاركنهم الحياة العقلية فألفن كتب علمية كما قلن الشعر وكتبن النثر وألقين الخطب وتفنن في مختلف فنون الشعر حتى الغزل فعبرن عن حبهن وكن وحالهن هكذا يشبهن تماماً الجاهليات. وقد جاءتنا أخبار ستين سيدة اشتهرن بقول الشعر، كما وصلنا ديوان كامل لشاعرة من الشاعرات الشهيرات. والتاريخ الأندلسي يعرف أسماء شاعرات عديدات بلغن في قولهن الشعر صيتاً بعيداً، ومن بينهن هذه الجميلة التي نبغت في إجادة الشعر والعزف على العود. وكذلك الشاعرة العظيمة حفصة التي اشتهرت بحبها للشاعر أبي جعفر وذاع صيتها وصيت هذا الحب في جميع أنحاء الأندلس. ثم نجد الأميرة «أمر الكرام» والمغنية التي غنت أمير الأندلس الولهان المسمى المنصور حيث أبانت عن حبها دون خجل لوزيره، ولما أدركت غيرته عليها وغضبه انتقدت نفسها ببيت شعر.
ومن بين شهيرات الشاعرات الأميرة «ولادة» وقد ذكر عنها عربي أنها كانت أول عربية سيدة في عصرها فقد كانت سافرة تحتقر الحجاب فضلاً عن طبيعتها الملتهبة، وكانت هذه خير وسيلة تظهر فيها طبيعتها وطبائعها الظاهرة والخافية، فضلاً عن جمال وجهها وحميد أخلاقها وصفاتها، وقد كان بيتها في قرطبة ملتقى الأشراف الذين كانوا يتنافسون في إنشاد الشعر، كما قصده العلماء والكتاب واشتهرت بالكرم وحسن الأخلاق وحدة الذهن.
تحت رعاية مثل هذه الأديبة الشاعرة انتشر الشعر العربي الغزلي الأندلسي فتخطى الحدود إلى أوربا، وإلى مثل هذه السيدة وجه الصوفي ابن الفارض غزله وشعره وقصيدته التي مطلعها:
ته دلالاً فأنت أهل لذاكا
…
وتحكم فالحسن قد أعطاكا
إن أوربا لم تعرف في تاريخها مثل هؤلاء الناس. لم يظهر في أوربا شاعر عبر عن حبه بهذه الطريقة، لم تعرف أوربا محباً ركع أمام حبيبته وسجد على أعتابها راجياً رضاها. لم يسلك هذا المسلك أمثال «أنا كريون» أو «ثيوكريت» أو «سافو» أو «أفلاطون» ، فهؤلاء لم يعرفوا الخضوع والخشوع أمام هذه الحبيبة التي تتمتع بهذا الحب الإلهي. هذه الحبيبة التي تتوقف الحياة أو الموت عليها. كذلك لم يعرف «أوفيد» بالرغم من أنه كان أستاذ الشعر الغرامي هذا النوع العربي. وكذلك الحال مع الشعراء الجرمان وتقديمهم للمرأة، فقد كان يعتمد على المساواة بين الرجل والمرأة أو احتقار ابنة حواء الخاطئة، فكيف حدث أن ظهر في جنوب فرنسا أولا الهر زوج فلهلم التاسع هر زوج (إكريتانين وبواتييه) ومعه بغتة جيش من المغنين يغنون أغاني تدل على أنهم العبيد المخلصون والخدم الأوفياء للسيدة، وأنهم بخضوعهم وتواضعهم وطاعتهم يبلغون عطف السيدة ولو أنها في الحقيقة كائن غير ذي شخصية؟
إن المرأة قد خضعت لقوة الرجل ربما بسبب خطيئتها، والكنيسة تحتقر المرأة لأن احترامها يتعارض والذات الإلهية وبخاصة الزوجة ليست هذه التي لم يصبها العار عار اتصالها برجل بل هي عذراء، فالآن أصبحت وللمرة الأولى تخاطب وتعامل
وكأنها كائن سماوي قريب من الله أو شبيهة به بل كنائبة عن الله بل يصلي لها وكأنها إله فهي تخاطب بعبارة «السيدة المحترمة» «الرحيمة» «العطوف» وهي التي تمنح الرحمة للفارس المتواضع، وحتى الشعر الديني كان يخاطب «أم الله على أنها الخادمة المطبعة والخادمة السيد» . بدأت النظرة إليها تتغير فأصبحت تخاطب بعبارة «الحبيبة، السيدة الوقور» وهي التي يجثو تحت قدميها العظماء وبعطفها يرتفع مقدارهم.
فهذه الفكرة أخذت تنتشر مثل الزوبعة أو الإعصار في المجتمعات الموجودة في الأقاليم ومنها إلى مختلف أرجاء فرنسا فإيطاليا فصقلية فالنمسا وألمانيا. إن الألفاظ أصبحت كأوراق الشجر تشبه في عروضها وقافيتها أصولها العربية، وفي أول العهد كانت عادة إخفاء اسم الحبيبة سائدة كما هو الحال عند عباس بن الأحنف، ويعوض عن اسمها باسم آخر مصطنع، وقد يكون اسم ذكركما نجد كثيراً من مميزات الشعر العربي الغنائي.
لكن يجب أن نذكر هنا أن الشيء الأصيل عند العربي أصبح هنا في أوربا شيئاً مستحدثاً فعندما يؤكد التروبادور أنه لا يوجد شيء يسعده مثل صيرورته في قبضتها وتحت سلطانها وأن يصير عبداً لها، تعتبر مثل هذه التعبيرات عبارة عن ألفاظ شعرية فقط، وذلك لأن مكانه قائلها كفارس أو سيد لا تقل اجتماعيا عن زوجها فهي عبارة من عبارات الآداب التي تستخدم عادة بين الرجال والنساء في المجتمعات. أما الخضوع العربي فما هو إلا نصائح كنصائح «أوفيد» وهي عرض خدمات النساء أو إظهار التقدير لهن بخلاف الحال في أوربا حيث تعتبر هذه المعاملة من مقومات المجتمع بين الرجال والنساء. وقد اهتدى العالم «بورداخ» إلى أن الشعر الغزلي الغنائي الأندلسي هو أصل الأوربي، وهذا الرأي ما زال إلى يومنا قائماً. ومثل هذا الفن الأدبي العربي يمثل الثروات العقلية الأخرى التي وجدت طريقها إلى أوربا. وموقع الأندلس جغرافياُ وسياسياُ ساعدها على القيام بهذه الرسالة.