الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي: كتابة الدّرج القائمة مقام كتابة السّرّ «1» ، ونظر المال؛ ونظر الجيش. قال في «التثقيف» : أمّا قاضيها ومحتسبها ووكيل بيت المال بها، فإنّهم نوّاب عن أرباب هذه الوظائف بالشّام، فلا يكتب لأحد منهم شيء عن المواقف الشريفة.
قلت: وما ذكره بناء على أنّها تقدمه عسكر. أمّا إذا كانت نيابة فإنّ هذه الوظائف يكتب بها عن الأبواب السّلطانية. وقد يكتب حينئذ بوكالة بيت المال والحسبة عن النّائب، ويكون ذلك جميعه في قطع العادة، مفتتحا ب «أمّا بعد» في المنصوريّ «2» ، أو ب «- رسم» في الصّغير، على حسب ما يقتضيه الحال.
على أنّه قد حدث بها في الدولة الظاهرية قاض حنفيّ يكتب له من الأبواب السّلطانية.
النيابة السابعة (نيابة الكرك؛ وأرباب الولايات بها من الأبواب السلطانية على أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف)
وليس بها منهم غير نائب السّلطنة، ويكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المجلس العالي» .
وهذه نسخة تقليد بنيابة السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «سيف الدين أيتمش» «3» من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهو:
الحمد لله الّذي خصّ بعزائمنا معاقل الإسلام وحصونه، وبصّرنا باختيار من نرتّبه في كلّ معقل منها من أمجاد الأمراء ليحفظه ويصونه، وجعلها بعنايتنا روضا تجتلي أبصار الأولياء من بيض صفاحنا نوره وتجتني من سمر رماحنا غصونه، وعوّذها من آيات الحرس بما لا تزال حماتها وكماتها يروون خبره عن سيفنا المنتضى لحفظها ويقصّونه.
نحمده على نعمه الّتي أعلت بنا بناء الممالك، وحاطتها من نبل مهابتنا، بما لو تسلّلت بينه الأوهام ضاقت بها المسالك، وصفّحتها من صفاح عنايتنا، بما يحول برقه بينها وبين ما يستر طيف العدا من الظّلام الحالك، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعصم من أوى إلى حرم إخلاصها، وتنجي غدا من غدا من أهل تقريبها واختصاصها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت ملّته، فلم تخف على ذي بصر، وعلت شرعته، فغدا باع كلّ ذي باع عن معارضتها ذا قصر، وسمت أمّته، فلو جالدها معاد أوبقه الحصر أو جادلها مناو أوثقه الحصر، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانت معاقلهم صهوات جيادهم، وحصونهم عرصات جلادهم، وخيامهم ظلال سيوفهم، وظلالهم أفياء صعادهم، صلاة لا يزال الإخلاص لها مقيما، والإيمان لها مديما، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى الحصون الإسلامية بأن تحوط عنايتنا أركانه، وتتعاهد رعايتنا مكانه، وتلاحظ مهابتنا أحواله فتحلّيها، وتشاهد أوامرنا قواعده فتشيّدها بجميل النّظر وتعليها، وتحول سطواتنا بين آمال الأعداء وتوهّمه، وتحجب مخافة بأسنا أفكار أهل العناد عن تأمّل ما في الضّمير وتوسّمه- حصن انعقد الإجماع على انقطاع قرينه، وامتناع نظيره فيما خصّه الله به من تحصينه؛ فهو فرد الدّهر العزيز مثاله، البعيد مناله، المستكنّة في ضمائر الأودية الغوامض بقعته، المستجنّة بقلل الجبال الشواهق نقعته، السّائر في أقطار الأرض صيته وسمعته.
ولما كانت قلعة الكرك المحروسة هي هذه العقيلة الّتي كم ردّت آمال الملوك راغمة، ومنعت أهواء النّفوس أن تمثّلها في الكرى الأجفان الحالمة، وكان فلان ممّن ينهض مثله بحفظ مثلها، ويعلم أنّ أمانتها الّتي لا تحملها الجبال قد أودعت منه إلى كفئها ووضعت كفايتها في أهلها؛ فهو سيفنا الّذي يحوطها ذبابه، ووليّنا الّذي من طمح بصره إلى أفق حلّه أحرقه شهابه، ونشو أيّامنا الّتي تنشّيء كلّ ليث يقنص الظّفر ظفره وينبو بالسيوف نابه، وغذيّ دولتنا الذي ما اعتمدنا فيه على أمر إلّا كرم به نهوضه وحسن فيه منابه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نخصّها بمهابة سيفه، ونحصّنها بما فيه من قوّة في الحقّ تكفّ كلّ باغ عن حيفه.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زالت الحصون المصونة تختال من ملكه في أبهى الحلل، وتعلو معاقل الكفر بسلطانه علوّ ملّة الإسلام على الملل- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس تفويضا يعلي قدره، ويطلع في أفقها بدره، ويطلق في مصالحها سيفه بالحقّ وقلمه، ويمضي في حمايتها أفعاله وكلمه، ويسدّد في أمورها آراءه المقرونة بالصّواب وهممه.
فليباشر هذه الرّتبة العليّة صورة ومعنى، المليّة إذا طاولت الكواكب بأن لا يعلم [منها]«1» أسمى وأسنى، وليجتهد في مصالحها اجتهادا يوالي له من شكرنا المنح، ويأتي فيه من مواضينا بالغرض المقترح، ويزيدها إلى حصانتها حصانة وقوّة، ويزينها بسياسته الّتي تغدو قلوب أهل العناد بمخافتها مغزوّة، ولينظر في مصالح رجالها فيكون لحماتهم مقدّما، ولمقدّميهم مكرما، ولأعذارهم مزيحا، ولخواطرهم بتيسير مقرّراتهم مريحا، وليكن لمنار الشّرع الشريف معظّما، ولأحكامه في كل عقد محكّما، ولما قرب وبعد من بلاد نيابته عامرا، ولأكفّ الجور عن الرعية كافّا: فلا يبرح عن الظّلم ناهيا وبالعدل آمرا؛ وملاك الوصايا
تقوى الله فليجعلها حلية نفسه، ونجيّ أنسه، ووظيفة اجتهاده الّتي تظهر بها مزيّة يومه على أمسه؛ والله تعالى يسدّده في أحواله، ويعضّده في أفعاله وأقواله، بمنّه وكرمه!.
وهذه نسخة تقليد السّلطنة بالكرك، كتب به للأمير «تلكتمر الناصريّ» عندما كان المقرّ الشّهابيّ أحمد «1» ولد السلطان الملك النّاصر بالكرك، وهو:
الحمد لله الّذي جعل بنا الممالك محصّنة الحصون، محميّة بكلّ سيف يقطر من حدّه المنون، ممنّعة لا تتخطّى إليها الظّنون، محجّبة لا تراها من النجوم عيون، رافلة من الكواكب في عقد ثمين، منيعة أشبهت السّماء واشتبهت بها فأصبحت هذه البروج من هذه لا تبين.
نحمده على نعمه الّتي رفعت الأقدار، وشرّفت المقدار، وحلّت في ممالكنا الشّريفة كلّ عقيلة ما كان معصمها الممتدّ إلى الهلال ليترك بغير سوار، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة رفعت للحصون العالية رتبا، وملئت بها سماؤها حرسا وشهبا، وأعلت مكانها فاقتبست من البرق نارا ووردت من السّحاب قلبا، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من بعث ولاة على الأمصار، وكفاة على الأقطار، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه ما صدحت الحمائم، وسفحت الغمائم، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإنّ خير من حميت به الممالك، وحمدت- ولله المنّة- منه
المسالك، وارتقت هممه إلى الشّمس والقمر والنّجوم وما أشبه ذلك، من حصل الوثوق به في أشرف مملكة لدينا، وأفضل ما يعرض في دولتنا الشريفة من أعمالها الصالحة علينا: وهي الّتي قعدت من الجبال على مفارقها، واتّصلت من النّجوم بعلائقها، وتحدّرت الغمائم من ذيولها، وطفت على السماء وطافت على الكواكب فجرت المجرّة من سيولها، وكان الكرك المحروس هو المراد، ومدينته التي لم يخلق مثلها في البلاد، وقلعته تتشكّى الرّياح لها طلوع واد ونزول واد؛ وهي أرض تمتّ بأنّها لنا سكن، ونمّت مناقبها بما في قلوبنا من حبّ الوطن، واستقرّت للمقامات العالية أولادنا- أعزّهم الله بنصره- فانتقلت من يمين إلى يسار، وتقابلت بين شموس وأقمار، وجاد بها البحر على الأنهار.
فلمّا خلت نيابة السلطنة المعظمة بها عرضنا على آرائنا الشّريفة من تطمئنّ به القلوب، ويحصل المطلوب، وتجري الأمور به على الحسنى فيما ينوب، وتباري عزائمه الرياح بمرمى كل مقلة وهزّة جيد، ولا يشكّ في أنّه كفوّ هذه العقيلة، وكافي هذه الكفالة الّتي ما هي عند الله ولا عندنا قليلة، وكافل هذه المملكة الّتي كم بها بنيّة أحسن من بنيّة وخميلة أحسن من خميلة، من كان من أبوابنا العالية مطلعه، وبين أيدينا الشّريفة لا يجهل موضعه؛ طالما تكمّلت به الصفوف، وتجمّلت به الوقوف، وحسن كلّ موصوف، ولم تخف محاسنه الّتي هو بها معروف؛ كم له شيمة عليّة، وهمّة جليّة، وتقدمات إقدام بكلّ نهاية غاية مليّة، وعزائم لها بنعته مضاء السّيف وباسمه قوّة الحديد وهي بالنسبة إليه ملكيّة؛ وكان المجلس العالي- أدام الله نعمته- هو لابس هذه البرود الّتي رقمت، والعقود الّتي نظمت، وجامع هذه الدّرر الّتي قسمت، والدّراريّ الّتي سمت إلى السماء لما وسمت، وهو من الملائك في الوقار، وله حكم كالماس وبأس يقطع الأحجار، وهو ملك نصفه الآخر من حديد كما أنّ لله ملائكة نصفهم من الثّلج ونصفهم من نار، وهو الّذي اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعله في خدمة ولدنا- أمتعه الله ببقائنا- نائبا بها، وقائما بحسن منابها، والمتصرّف فيها بين أيديه الكريمة، والمتلقّي دونه لأمورها الّتي قلّدنا بها عنقه أمانة عظيمة.
فلذلك خرج الأمر الشريف- لا زال به سيف الدّين ماضيا، ولا برح كلّ واحد بحكم سيفه في كلّ تجريد وقلمه في كلّ تقليد راضيا- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالكرك المحروس وما معه على عادة من تقدّمه فيها، وقاعدته التي يتكفل لها بالإحسان وبكفّ العدوان ويكفيها؛ وكلّ ما فيها من أمر فهو به منوط، وكلّ عمل لها به محوط، وحكمه في مصالحنا الشريفة في جميع بلادها مبسوط، وله تطالع الأمور، ومنه تصدر المطالعة، وبه تزال كلّ ظلامة، وتزاح كلّ ملامة، ويؤيّد الشرع الشريف ويؤبد حكمه، وينثر علمه وينشر علمه، وتقام الحدود بحدّه، والمهابة بجدّه. ورجال هذه القلعة به تتألّف على طاعتنا الشريفة قلوبهم، والرعايا يعمهم بالعدل والإحسان وأيسر ما عندنا مطلوبهم؛ وهؤلاء هم شيعتنا قبلك، ورعيّتنا الذين هم لنا ولك؛ فرفرف عليهم بجناحك، وخذهم بسماحك؛ والمسارعة إلى امتثال مراسمنا الشريفة هي أوّل ما نوصيك باعتماده، وأولى ما يقبس من نوره ويستمدّ من أمداده؛ فلا تقدّم شيئا على الانتهاء إلى أمره المطاع؛ والعمل في السّمع والطاعة باكر له ما يمكن أن يستطاع؛ وخدمة أولادنا فلا تدع فيها ممكنا، واعلم بأنّ خدمتهم وخدمتنا الشريفة سواء لأنّه لا فرق بينهم وبيننا؛ وهذه القلعة هي الّتي أودعناها في يمين أمانتك، وحميناها بسيفك وصنّاها بصيانتك؛ فالله الله في هذه الوديعة، وأدّ الأمانة فإنّها نعمت الذّريعة، واحفظها بقوّة الله وتحفّظ بأسوارها المنيعة، وعليك بالتّقوى لتّقوى والوقوف عند الشّريعة؛ والله تعالى يزيدك علوّا، ويبلّغك مرجوّا؛ والاعتماد......
قلت: وربّما ولي نيابة الكرك من هو جليل الرتبة رفيع القدر، من أولاد السلطان أو غيرهم، فتعظم النيابة بعظمه، ويرفع قدرها بارتفاع قدره، وتكون مكاتبته وتقليده فوق ما تقدّم، بحسب ما يقتضيه الحال من «الجناب» أو غيره.
وهذه نسخة تقليد بنيابة السلطنة بالكرك، كتب بها عن السلطان الملك الناصر «محمد بن قلاوون» لولده الملك الناصر «أحمد» قبل سلطنته، وكتب له فيه ب «الجناب العاليّ» من إنشاء الشريف شهاب الدّين، وهي:
الحمد لله الّذي أسعدنا بوراثة الملك والممالك، وأرشدنا للرّأي المصيب في أن نستنيب من نشاء من ذلك، وأيّدنا بالعون والصّون في حفظ ما هنا ولحظ ما هنالك، وعوّدنا الإمداد بيمنه المتداول والإنجاد بمنّه المتدارك، وسدّدنا بالفضل والإسعاف إلى أن نتّبع من العدل والإنصاف أنجح السّبل وأوضح المسالك، وعضّدنا من ذريّتنا بكلّ نجل معرق، ونجم مشرق، يرشق شهابه، في الكرب الحالّ ويأتلق صوابه، في الخطب الحالك، وأفردنا بالنّظر الجميل، والفكر الجليل، إلى أسعد تخويل تنير بمرآته في الآفاق الشّهب الطوالع وتسير ببشراه في الأقطار النّجب الرّواتك «1» نحمده! وكيف لا يحمد العبد المالك!، ونشكره على أن أهّلنا لإقامة الشّعائر وإدامة المناسك، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في جبروته، عن مشابه وتعالى في ملكوته، عن مشارك، ونشهد أنّ سيّدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أنجد جنوده من الملأ الأعلى بالملائك، وأمدّ بعوثه بالنّصر والظّفر في جميع المواقف والمعارك، وأيّد أمّته بولاية ملوك يجلسون في النّعيم على الأرائك، ويحرسون حمى الدّين بجهادهم واجتهادهم من كلّ فاتن وفاتك، صلّى الله عليه وعلى آله سفن النّجاة المؤمّنين من المخاوف والمنقذين من المهالك، ورضي الله عن أصحابه الذين نظموا شمل الإيمان، وهزموا جمع البهتان، بكلّ باتر وفاتك، صلاة ورضوانا يضحي لقائلهما في اليوم العبوس الوجه الطّلق والثّغر الضّاحك، وينشر فيحشر مع النّبيّين والصدّيقين والشّهداء والصّالحين وحسن أولئك، ما ابتهل بصالح الدّعاء، وناجح الاستدعاء، لأيّامنا كلّ عابد وناسك، وعوّل حسن آرائنا على تقديم من هو لجميل آثارنا سالك، وأقبل بالإقبال سنا شهابه المنير يجلو ما تثير من ليل نقعها السّنابك، فحصل للكرك والشّوبك بهذا القدوم فخار مسيرك بينهما وبين النجوم الشّوابك.
أمّا بعد، فإن الله تعالى آثرنا بتوفير التوفيق، ويسّرنا من الهدى إلى أقوم
طريق، ووهبنا في الملك النّسب العليّ العريق، والحسب الّذي هو بالتّقديم والتّحكيم حقيق، وقلّدنا من عهد بيعة السّلطنة ما لحمده في الآفاق تطريق، ولعقده في الأعناق تطويق، ففيّأنا من شجرة هذا البيت الشريف النّاصريّ المنصوريّ كلّ غصن وريق، وهيّأ للبريّة تكريما عميما بتقديم من له المجد يتعيّن وبه السّؤدد يليق، وأطلع في أفق أعزّ الممالك علينا من بيتنا شهاب علا هو للبدر في الكمال والجمال شبيه وشقيق، وأطعنا أمر الله تعالى في معاملة الولد البارّ معاملة الوالد الشّفيق، وأودعنا لديه ما أودعه الله تعالى لدينا: مملكة مرتفعة متسعة ليرتفع محلّه ويتّسع أمله ولا يضيق، وجمعنا له أطرافها لتكون لكلمته العليا بها الاجتماع من غير تفريق.
ولما كان الجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، سليل الملوك والسلاطين، خليل أمير المؤمنين، هو الّذي تشير رتب الكفالة بترقّيه، وتقرّ عيون الأولياء بتعيّنه لإلقاء أمرنا المطاع وتلقّيه، وتلهج الألسنة ضارعة إلى الله تعالى أن يخلّد ملك بيته الشريف ويبقيه، وتعرج إلى السّموات دعوات الأتقياء أن يوقّيه الله مما يتقيّه؛ ونمسك في هذا المقام لسان المقال عن مدحه أدبا، ونترك الافتخار بالمال والعديد إيثارا لثواب الله وطلبا، وندرك موعظة الله سبحانه في كتابه قصدا وأربا؛ والباقيات الصّالحات خير عند ربّك ثوابا وخير عقبا «1» وببركة هذا القصد يتمّ لنا فيه المراد، ويعمّ هذه المملكة النفع بهذا الإفراد، فإنها معهد النصر والفتح، ومشهد الوفر والمنح، ومصعد العزّ الّذي لما وطئنا صرحه تدكدك للعدا كلّ صرح، وتملّك للهدى كلّ سرح، ونشقنا بها لقرب المزار من طيب طيبة «2» أعظم نفح، وقد بقينا بجاه الحالّ بها في تيسير التّأييد فكان كاللّمح، وجرى خلفنا السّمح بعد ذلك على عادته في الحكم والصّفح، وسرى ذكرنا في
الشّرق والغرب وللحداة به أطرب صدح، وآتى الله من فضله ملكنا نعما تجلّ عن العدّ والشّرح، فيها منشأ دولة الدّول ومنها فتح الفتوح، وبإضافته إلينا تفاؤل خير مشهور ملموح، كما قيل قبلها كرك نوح «1» ؛ فبتطهير الأرض من الكفّار، عزائمنا تغدو وتروح، وبالاستناد بأطول الأعمار، أمارة بادية الوضوح، وآثار بركة الاسم الشّريف المحمّديّ تظهر علينا في الحركات والسّكنات وتلوح، وفخار هذه المملكة المباركة: لاختصاصها بالحرمين الشّريفين عليها طلاوة وسعادة وفيها روح؛ وكنّا قد سلكنا بهذا الولد النّبيل، سنّة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل، في ولده إسماعيل، عليهما السلام التامّ في كلّ بكرة وأصيل، حيث فارقه وأفرده، وتفقّده في كلّ حين وتعهّده، حتّى شدّ الله تعالى به عضده ورفع هو وأبوه قواعد البيت وأعانه لمّا شيّده، فأجمل الله لنا هذا القصد وأحمده، وكمّل هذا الشّروع وأسعده؛ وأجزل له من فوائده أوفر هبة وأنجز له من عوائده أصدق عدة، فأحللناه في هذه المدّة بمملكة الكرك فسلك من حسن السجايا أحسن مسلك، وملك قلوب الرّعايا وبما وهب من المنح تملك، وبسنتنا في التواضع للحق مع الخلق تمسك وبشيمنا وخلقنا في الجود تخلّق فبذل وما أمسك.
ولما بلغ أشدّه واستوى، وبزغ شهاب علاه الّذي هو وبدر السماء سوا، وحاز مكارم الأخلاق وحوى، وفاز سلطاننا في نجابته بحسن النية:«وإنّما لكل امريء ما نوى» - حكّمناه في هذه النيابة الّتي ألفها ودرّبها، وعرف أمورها وجرّبها، واستعمال خواطر أهلها واستجلبها، وأدنى لهم لمّا دنا منهم الميامن ولمّا قرّبها منهم قرّبها، واستحقّ كفالتها واستوجبها، وأظهر الله تعالى فيه من الشّمائل أنجبها، ومن الخلائق أرحبها، ومن الأعراق أطيبها، ومن العوارف أنسبها، ومن العواطف أقربها، ومن البسالة أرهفها وأرهبها، ومن الجلالة أحبّها
إلى القلوب وأعجبها، ومن السيادة ما أخذت نفسه لها أهبها، ومن الزيادة ما يتعيّن له شكر الله الواهب الّذي وهبها، ومن السّعادة ما رفعت الأقدار على مناكب الكواكب رتبها، وأطلعت لحماته سماء العلياء شهبها، ورقّت على هامة الجوزاء منصبها، واستصحبت من العناية لهذا البيت مزيّة فرض الله بها له الطاعة وكتبها؛ فاستخرنا الله تعالى الّذي يختار لنا ويخير، وسألناه التّأييد والتّيسير؛ وفوّضنا إليه وهو الكفيل لنا بالتدبير، في كلّ مبدإ ومصير، واستعنّا به وهو نعم النّصير، واقتضى حسن الرّأي الشريف أن نسرج شهابه المنير، وننتج للأولياء يمن التّأثيل بحسن هذا التّأثير، وننهج في برّه سبلّا تقدّمنا إليها كلّ ذي منبر وسرير، ونثلج الصّدور ونقرّ العيون بسعيد هذا الإصدار وحميد هذا التّقرير.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا برح أمره يصيب السّداد فيما إليه يصير، وخبره يحمل الموافاة فللألسنة عن مكافأة برّه تقصير- أن تفوّض نيابة السّلطنة الشريفة بالكرك المحروس والشّوبك للجناب العاليّ، الولديّ، الشهابيّ، وما ينضم إلى ذلك وينضاف، من جميع الأقطار والأكناف؛ وجمعنا له من هذه المملكة الأطراف، وجعلنا له على سهلها وجبلها إشراف، وصرّفناه منها فيما هو عن علمه الكريم غير خاف، نيابة كاملة، كافلة شاملة، عامّة، تامّة، وافرة، سافرة، يستلزم طاعته فيها الافتراض، وتنحسم عنه فيها موادّ الاعتراض، وتنفذ مراسمه من غير توقّف ولا انتقاض، وتبسط يده البيضاء من غير انقباض، ويرتفع رأيه من غير انخفاض.
فلتقدر رعيّة هذه البلاد نعمة هذا التفويض قدرها، وليسألوا الله أن يوزعهم لحسن هذا التفويض شكرها؛ فقد أنشأ لهم يسرها، وأفاء لهم برّها، وألقى إليهم جودها وخيرها، وأبقى عندهم عزّها ونصرها، وليتّبعوا السّبيل القويم، وليجمعوا على الطاعة الّتي تبقي عليهم نعمة العافية وتديم، وليسمعوا ويطيعوا لما يرد إليهم من المراسيم؛ فمن لم يستقم كما أمر لا يستمرّ بهذه البلاد ولا يقيم؛ والعاقل لنفسه خصيم، والجاهل من عدم النّعمة وحرم النّعيم؛
وفراستنا تلمح نتائج الخير من هذا التّقديم، وسياستنا تصلح ما قرب منّا وما بعد بتعريف أحكام التّحكيم؛ وكيف لا؟ وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، المؤمّل لتمام السّؤدد قبل أن يعقد عليه التّميم، المشتمل على الخلال الموجبة له الفضل العميم، المتوصّل بيمن حركاته إلى أن يكون لمثل هذا الملك العظيم، وإلى أمانته استيداع وإلى صيانته تسليم، المقبل وجهدنا الإقبال فتتلو الرّجال: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ
«1» ونحن نأمرك من التّقوى بما به من الله أمرنا، ونبصّرك من الهدى بما له هدينا وبصّرنا، ونبقي لديك من بدائعها ما به خصصنا وأوثرنا، ونوصيك اتّباعا للكتاب والسّنّة، ونؤتيك من الهداية ما لله في الإرشاد إليه المنّة: فقد وعظ ووصّى لقمان- عليه السلام ابنه، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل لمّا بعثه إلى اليمن فحقّق الله تعالى في نجاحه رجاءه وفي فلاحه ظنّه، ونذكّر جنابك، ونرجو أن تكون ممن تنفعه الذّكرى، ونسيّر شهابك، إلى أفق السّعد، ونأمل أن تيسّر لليسرى، ونؤمّرك فنزيد علم عزّك رفعا ولواء مجدك نشرا، ونأمرك ثقة بحسن أخلاقك، فيتلو لسان وفاقك: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً
«2» ؛ فمثلك من أيّدته العصم، وأصعدته الهمم، وحمدته الأمم، وأرشدته إلى الحكم ما عهدته فكرته من الحكم، وسدّدته أعراقه وأخلاقه فلا يزاد على ما فيه من كرم؛ فلا نذكّر منك ناسيا، ولا نفكّر لاهيا، ولا نأمر وننهى إلّا من لم يزل بالمعروف آمرا وعن المنكر ناهيا.
فاتّق الله تعالى: فعلى التّقوى مرباك، وراقب الله تعالى: فالمراقبة للملوك من بيتك ملاك، وجدّ في نصرة الحقّ ولا تأب: فقد أنجد الله تعالى بذلك جدّك وأباك، واعدل فبالعدل تعمر الدّول وأقم منار الشّرع، فهو الأصل الذي يرّد إليه من القضايا كلّ فرع، ومجاله الرّحب إذا ضاق الذّرع؛ فأيّد حاكمه، وشيّد معالمه، وأكّد الإلزام بأحكامه اللّازمة.