الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطرف الثاني (في نسخ التواقيع المكتتبة عن نوّاب السلطنة بالممالك الشامية)
قد تقدّم في المقالة الثانية أنّ بالبلاد الشامية سبع نيابات: دمشق، وحلب، وطرابلس، وحماة، وصفد، وغزّة إن كانت نيابة، والكرك. وأنّ أعلاها دمشق، ثم حلب، ثم طرابلس. وفي معنى طرابلس حماة وصفد.
وقد اقتصرت في نسخ التواقيع على ما يكتب في ثلاث نيابات [تقديما لها]«1» على ما عداها.
النيابة الأولى الشام (والتواقيع الّتي تكتب بها على خمسة أصناف)
الصنف الأوّل (ما يكتب بوظائف أرباب السيوف، وهو على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق؛ وهو على مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» وفيها وظائف)
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
نسخة توقيع بولاية دمشق:
الحمد لله الّذي جعل هذه الأيّام الزاهرة تنقل أولياء آلائه الشريفة إلى أعلى المراتب، وتجزل لهم من مننه الجمّة المواهب، وتضاعف لهم النّعمة بكرمها الّذي إذا أنهمل كان كالغيث السّاكب.
نحمده على أن جعل نظرنا يلمح أهل الهمم ويراقب، ونشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له شهادة يبلغ قائلها ببركتها المنى والمآرب، وتهون عليه كلّ المصاعب، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أظهر الله ببعثته الحقّ في المشارق والمغارب، وأنار به ظلم الغياهب، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين شيّدوا منار الإسلام وأقاموه بالسيوف القواضب، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ المناصب بمتولّيها، والمعالي بمعلّيها، والعقود ليست بمن تحلّيه بل بمن يحلّيها، وأطيب البقاع جنابا ما طاب أرجا وثمارا، وفجّر خلاله كلّ نهر «يروع حصاه حالية العذارى» ، ورنّحت معاطف غصونه سلاف النّسيم فتراها سكارى، وتمتدّ ظلال الغصون فيخال أنّها على وجنات الأنهار عذارا.
ولمّا كانت دمشق المحروسة لها هذه الصفات، وعلى ضفّاتها تهبّ نسمات هذه السّمات، لم يتّصف غيرها بهذه الصفة، [ولا اتفق أولو الألباب إلا على محاسنها المختلفة]«1» وكان الجناب الكريم هو من أعيان الدّولة وأماثلهم، ووجوه رؤسائهم وأفاضلهم، وله في طاعتنا استرسال الأمن من سوء مواطن المخاوف، ووصل في ولائها القديم بالحديث والتّالد بالطّارف، وتولّى مهمّات الخدم فأبان في جميعها عن مضاء عزمه، وكان من حسن آثاره فيها ما شهر غفلها بوسمه؛ فمن ناواه من أقرانه أربى عليه وزاد، ومن باراه من أنظاره أنسى ذكره أو كاد.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف أن يستقرّ في ولاية مدينة دمشق المحروسة.
فليباشر هذه الولاية، عاملا بتقوى الله تعالى التي أمر بها في محكم الكتاب، حيث يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ
«2» ، وليشمل كافّة الرّعايا بالحفظ والرّعاية، ويجزل حظّهم من
الملاحظة والعناية، وليساو في الحقّ بين ضعيفهم وقويّهم، وفقيرهم وغنيّهم، وليلزم أتباعه بحفظ الشوارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، مع مواصلة التّطواف كلّ ليلة بنفسه في أوفى عدّة، وأظهر عدّة، منتهيا في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهاده، ويعرب عن سداده، ويعلم منه صواب قصده واعتماده، وبذل مناصحته في إصداره وإيراده؛ والله تعالى يعينه على ما ولّاه، ويحفظ عليه ما نوّله وأولاه، بمنّه وكرمه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، لصاحب سيف: كتب به في الدّولة الظّاهرية «برقوق» لناصر الدين «محمد» ابن الأمير جمال الدين، عبد الله ابن الحاجب، عند مصاهرته الأمير بطا الدوادار «1» ، وهي:
الحمد لله الّذي قدّم أعظم الأمراء ليعمّ مواطن الذّكر بنظره السّعيد، وأقام لتعظيم بيوت أذن الله أن ترفع، [أميرا]«2» في الاكتساب للأجور أسرع من البريد، وأطرب المسامع بسيرته في أحسن معبد جلّيت فيه عروس مهرها كتاب الله تعالى والنّور من زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة ومرئيّ «3» عليه من مكان بعيد.
نحمده على أن أحلّ ناصر الدين بجماله الأسنى أشرف المراتب، وبوّأه المحلّ الرّفيع الّذي بلّغ به الأمّة المحمديّة المآرب، وسار خبر سيرته في المشارق والمغارب، وبلّغ بمشارفة نظره السعيد الشّاهد والغائب، حمدا نرفعه على النّسر الطائر، ونتمثل بقول القائل: كم ترك الأوّل للآخر، ونشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له الّذي خلق العباد لعبادته، وفضّل بعض المساجد على بعض لما سبق في علمه من إرادته، ونشهد أنّ سيدنا محمدا خير الخلائق عبده ورسوله الّذي سنّ الجمعة والجماعة، وعمر المساجد بالرّكوع والسّجود إلى قيام السّاعة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين اتّبعوه في قيام الليل إلّا قليلا، ولازموا المساجد بكرة وأصيلا، وحضّوا على الجماعة إلى يوم تكون الجبال فيه كثيبا مهيلا «1» ، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فلمّا كان جامع دمشق المحروسة رابع المساجد، وموطن كلّ راكع وساجد، وتقصده الأمم من الأقطار، ولم يخل من العبادة في اللّيل والنهار، ورواتب حكّام الشريعة عليه، والعلماء الأعلام تبثّ فيه العلوم وتأوي إليه، وغالب المساجد إلى سماط وقفه مضافة، وخطابته تضاهي مرتبة الخلافة؛ وهو أجلّ عجائب الدّنيا التي وضعت على غير مثال، وبه يفتخر أهل الهدى على أهل الضّلال- تعيّن أن يكون الناظر في أمره من عظم قدرا، وطاب ذكرا، وفتح لوقفه باب الزّيادة على مضيّ الساعات، وجمع أمواله بعد الشّتات، ووصل الحقوق لأربابها الذين كأنّهم جراد منتشر، ولم يضع من ماله مثقال حبّة ومن قال: إنّه صدقة فيومه يوم عسر، وعمّ جميع المساجد المضافة إليه بالفرش والتّنوير، وبدّأ الأئمّة والمؤذّنين والخدمة بعد العمارة على الكبير والصّغير.
وكان الجناب الكريم- ضاعف الله تعالى نعمته- هو الّذي يقوم في هذا الأمر أحسن مقام، ويصلح له في مصلحته الكلام.
رسم بالأمر العاليّ، المولويّ، السّلطانيّ، الملكيّ، الظّاهريّ، السّيفيّ- لا زال هذا الدّين القيّم قائما بمحمّده، والمساجد المعمورة [معمورة]«2» بإكرام مسجده- أن يستقرّ الجناب الناصريّ المشار إليه في النّظر