الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصيانة توجب مزيد الخير إذا له، ومهابة إذا أدخلت مستخرج قمامة أصلحته وجعلت أعزّة أهلها أذلّة؛ لا يثني هممه النّفيسة، ولا يلتفت- كما يقال- لتبخير الكنيسة، بل يستعمل فراسة تروع من حمل عن أداء الحقّ بهتانا، ومناقشة تكشف عن جبال التّجلّد أكنانا، ورأفة مع ذلك بالظّاهري العجز: ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانا، ومتابعة للضّرائب القديمة لا يصرف عنها، واستخلاص ما على الرّأس حتّى يقال:«ليس تحت الزّرقاء أخضع منها» ، عاملا بتقوى الله تعالى فإنّ أهل معاملته أهل ذمّة، مجتهدا في استحقاق ما يترشح له من ولايات الأمور المهمّة.
الصنف الثاني (ممّا يكتب لأرباب الوظائف بدمشق- تواقيع أرباب الوظائف الدّينية؛ وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما يكتب لمن هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» )
وهذه نسخ تواقيع من ذلك:
توقيع بنظر الحسبة «1» بالشّام، كتب به للقاضي «نور الدين عليّ بن أبي الفرج» ب «الجناب الكريم» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جعل مقام الأولياء عليّا، ورقى بهم إلى طور العناية
فأشرق نورهم سنيّا، ووفّقهم للأمر بالمعروف فلم يزل غيث النّدى بهم وليّا، وزند سبل الرّشاد والحكمة وريّا.
نحمده حمدا كثيرا طيّبا زكيّا، ونشكره شكرا لا يزال غصنه بالزّيادة جنيّا، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة نكرّرها بكرة وعشيّا، ونسلك بها صراطا سويّا، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده الّذي اختاره صفيّا، وقرّبه نجيّا، ورسوله الّذي قام به الحقّ وأصبح به الباطل خفيّا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة ينال بها المؤمن يوم العطش ريّا، ويحوز بها في جنّة المأوى حللا وحليّا، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما يلزم الفكر [فيه] ويتعيّن، ويتمّ النّجح بحسن النّظر فيه ويتبيّن- أمر الحسبة الشريفة: فإنّها المنصب الّذي به صلاح أحوال الرّعية، وقوام إقامة الحدود الشّرعيّة؛ تسلك العامّة لمستوليه سبل صنائعه ذللا، وتكسو بإتقانها أنواع بضائعها حللا، وينتفع بمعرفته الآمر والمأمور، وتحاط المعايش عن غشيان الغشّ من حرمته بسور، وتطمئنّ القلوب بإصلاح المطاعم وتتهنّى، وتقول الألسنة: شكرا لمن سنّ هذه السّنّة الشّريفة وسنّى، وردع ذوي الغشّ عن غوايتهم: فم غشّنا ليس منّا؛ لا سيّما بدمشق فإنّها شامة البلاد المحروسة، وموطن البركة المأثورة والبهجة المأنوسة؛ بلد شاع ذكرها في المغارب والمشارق، وإنّ محاسنها لن تقاس بغيرها: والجامع الفارق.
وكان فلان ممن تحلّى من عقود المحامد بجواهرها، وارتدى من حلل المآثر بمفاخرها، وعرف بالنّهضة والعفاف، واتصّف بجميل المعرفة والإنصاف، وحسنت سيرته في أحكامه، وحمدت قواعد [تعهّده]«1» ونضارة نظامه.
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال يولي جميلا، ويولّي في الوظائف السّنيّة جليلا- أن يستقرّ المشار إليه في نظر الحسبة الشّريفة بالشام
المحروس، على عادة من تقدّمه في ذلك، والقاعدة المستمرة، بالمعلوم المستمرّ للوظيفة المذكورة، إلى آخر وقت: وضعا للشّيء في محلّه، وتفويضا لجميل النّظر إلى أهله.
فليباشر ذلك آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر، سالكا من حسن الطريقة ما يحمد به ويشكر، ويسرّه حين تتلى سور محاسنه وتذكر، متفّقدا أحوال العامّة ومعايشها في كلّ آن، ملتفتا في أمر ما يكال أو يوزن إلى قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ
«1» ، مشمّرا عن ساعده في الإجراء على العوائد المستحبّة، محترزا فيما يأمر به: فإنّ الله تعالى لا يخفى عليه مثقال حبّة؛ ولينظر في الدّقيق والجليل، والكثير والقليل، وليستكثر الأخبار، وليستعلم الأسعار، ولا يغفل عن تعاهد السّوقة آناء الليل وأطراف النّهار، وليلاحظ أمر السّكّة السلطانية بإصلاح العيار، وضبط أحوال النّقود بمقدار، وليقم من خدمته رقيبا على من اتّهم في صنعته أو استراب، وليبالغ في النّظر في أمر المآكل والمشارب فإنّ أكثر الدّاء من الطعام والشّراب، وليزجر بتأديبه من افترى، أو تلقّى الرّكبان أو غدا في الأقوات محتكرا؛ وليعلم أنّه قلّد أمر هذه الوظيفة المباركة: فليختر من يستنيب، وليبصر كيف يسلك برعايته من حكم عليه فما يلفظ من قول إلّا لديه رقيب؛ والوصايا كثيرة وأصلها التقوى الّتي هي أجلّ ما يقتني المؤمن ويكتسب، وأجدر بالزّيادة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ
«2» . والله تعالى يديم علاه، ويتولاه فيما تولّاه.
وهذه نسخة توقيع بنظر الجامع الأمويّ، من إنشاء الشيخ جمال الدّين بن
نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين بن الشيرازي» في الدولة الصالحية «1» «صالح بن الناصر محمد» ب «الجناب الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي أذن لبيوته أن ترفع فرفع عمادها، وأعاد أحسنها إلى نظر من صرّف أمورها بما حسن وصرفها عمّا دهى، وأحيا الآثار الأمويّة حتّى غدت كالهاشمية تدعو أجوادها وسجّادها، وأنجز وعد أهلها بمن أشارت إلى مباشرته أعلام أعلام المنابر بالأصابع ونصّت المآذن أجيادها.
نحمده على ماهيّأ من الفوائد، وهنّأ من العوائد، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة يقوم بها الخطاب شاهدا ويقوم بها الخطباء في المشاهد، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي الجوامع من الكلم وجعلت له الأرض من المساجد، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين عمروا بيوت العبادات بهدايته، وظهروا في مجال الجمع وسجال الجموع تحت رايته، صلاة متصلة السّير كالسّيل، مسبلة الغمام كالذّيل، واضحة كردع الخلوق لدلوك الشّمس «2» فائحة كفتيت المسك إلى غسق اللّيل.
وبعد، فإنّ أولى الأمور الدّينية بتقديم الاهتمام، وتقرير الاعتزاء إلى الاعتزام، وتشمير ساعد الرّأي وزهراته على الأكمام- أمر تكون إقامة الصّلوات أحد أركانه، وتدبير المصالح مشيرا إلى علوّ شانه، وأرزاق العلماء والصّلحاء تستدرّ من هطّاله وهتّانه.
وكان الجامع الأمويّ بدمشق المحروسة لهذه الأركان بمنزلة الأسّ الرّاسخ تمكينه، والفرع الشّامخ في وجه السّحاب عرنينه، وبنية زمان بني أميّة
الذين عفا شرف مفاخرهم وما عفا شرفه وفخره، ووكر الإسلام الّذي مضى لبد «1» أمثاله وما بقي إلّا نسر السماء ونسره؛ ذو المرأى الشارح والفضل المشروح، والحسن الّذي إن تغالى في وصف الجوامع قوم قيل: باب الزيادة مفتوح؛ تفخر به دمشق وحقّ لها على كلّ مصر أن تفخر، وتبعث نظرات حسنه الفخر من حملة فصوص الترخيم إلى الأسود والأحمر؛ يحمد المجاور به مغناه وغناه، ويسع أرباب العلم والمقاصد ناديه ونداه، ويطالع المسك سطور مياهه المتجعّدة فأوّل ما يقرأ من تنبيه عزمه باب المياه؛ وقد عهد أن يتولّى نظره كلّ سنيّ المفاخر، سريّ المآثر، كريم الفرع والأصل، ماضي العزم كالنّصل، حائز من أقلامه أمد العلياء وقصب الخصل «2» ولذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زال وجه الفضل بدولته الشريفة واضحا، وميزان العدل والإحسان راجحا، ولا زال في كنف من منّ به على الدّين والدنيا وآتاهما صالحا- أن يفوّض إلى فلان نظر الجامع الأمويّ المذكور: لما عرف من أنه الرئيس الّذي ما ساد سدى، والكامل الّذي إذا آنس [سار]«3» نار فكرته وجد على النار هدى، وأنّه باشر نظر هذا الجامع قديما فجمّله، ورصد سناه فكمّله، واستشهد في محضر ديوانه على النّزاهة أقلامه المعدّلة، وتدبيره المعدّ له، وكثرّ أوقافه وكانت قد اضمحلّت، وشيّد عمائره وكانت قد استقلّت، وملأ حواصله وكانت أقلام المكتسبة تنشد:«أسائلها أيّ المواطن حلّت» ، ولما ألف هذا الجامع المعمور من عواطفه، وعرف من عوارفه، وشهد من جلوسه لمصالح وقفه أحسن الله مكافأة جالسه وواقفه، فأثبت في صدر المحافل أنّ الله
تعالى قد رزقه من الفضل جسيما، وكتب له من شرف الاكتساب والانتساب حديثا وقديما، وألقى إلى يده قلم كفاءة وأمانة كان كرمها للآملين حصينا وكان قلمها للخائنين خصيما؛ كم وفّر به المصالح فوفّى، وكم جمع بهمّته المحاولة مالا فجهّز به من جند الدّعاء صفّا، كم سرّ بمناقبه سراة سلف ما منهم إلّا جواد لا يرضى في سبق المكارم بحاتمه، وكاتب يكبر عن قول الواصف: إنّ ياقوتا في فصّ خاتمه، ورئيس هو أجلّ ما أهدت شيراز إلى دمشق من عالي طراز الفضل وعالمه.
فليباشر ما فوّض إليه بعزم لا تفلّ مضاربه، ورأي لا تأفل كواكبه، ومعدن وفاء بالمنصب لا تبرح لجناة الخيانة مهالكه ولجناة الجنان مطالبه، ناظرا في حسن وظيفتها باجتهاد لا يملّ من النّظر، مثمرا لأوقافها بغصن قلمه الّذي لا ينكر لأصله الصّائب أطايب الثّمر، ملاحظا لمباني هذا الجامع بسعادته: وإنّ السّعادة لتلحظ الحجر، صارفا لذوي الاستحقاق مستحقّهم كما عهدوا من إمام براعته المنتظر، مجتهدا على أن يرضي الوظيفة والقوم، معينا عدوى أنامله الخمس على عددها من فريضة اللّيلة واليوم، عالما أنّ الله تعالى قد أحيا هذا الدّيوان فإنّه كما علم أصل في بابه، آمرا بما يقترح لنظام هذا الدّيوان وكتّابه، منتقدا حال من إذا عمّر دواة في وقف كانت سببا لعمرانه أو سببا- والعياذ بالله تعالى- لخرابه، مطالبا من ظنّ أنّ حسابه يهمل في دهر هذه المباشرة «فكان حساب الدّهر غير حسابه» ، متخيرا من الكفاة كلّ مأثور الفضيلة، ومن الأمناء كلّ مأمون الرّذيلة، ومن القوّام كلّ من لا يقعد عن الواجب، ومن الوقّادين كلّ من لا يعاب بطول الفتيلة، جاعلا تقوى الله تعالى، في كلّ ما يأتي ويذر سائقه إلى الفوز ودليله؛ والله تعالى يمدّه بالسداد، ويصل مفاخره بالسّند ويحرس شرف بيته من السّناد، ويجعل كلّ منصب كريم باسمه وقلمه كما قال الأوّل:
وهذه نسخة توقيع بنظر مدرسة الشيخ أبي عمر، من إنشاء ابن نباتة، كتب
به للقاضي «تقيّ الدين» بالجناب العالي؛ وهي:
الحمد لله الّذي عمر عهد التّقى بتقيّه، وأقرّ نظره بمشاهدة أبيض العرض نقيّه، وأخصب منازل الأولياء بمن ينوب تثميره وتدبيره عن الغيث مناب وليّه، ومن إذا شهد مقام الزّهّاد بمعروفه شهد سداد العزم بسريّه.
نحمده على جليّ اللّطف وخفيّه، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة وافي الحقّ وفيّه، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده أكرم بعبده ونبيه، ورسوله وصفيّه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة يمزج أرجها كافور صباح النهار بمسك عشيّه.
وبعد، فخير النظر ما كان به الثّواب مأمولا، والعمل مقبولا، والآخرة للناهض فيه خيرا من الأولى، وتخيّر الأكفاء لمناصبه الدّينية سببا لخير الدّارين موصولا.
ولمّا كانت المدرسة الصالحية بجبل الصالحية المعروفة بالشيخ العارف أبي عمر: رضي الله عنه وأرضاه، وسقى سبل الغيث آثاره الطاهرة وثراه، مما يتعيّن في مصالحها حسن النّظر، ويتبين في القيام بأمرها فضل الآراء والفكر؛ إذ هي زاوية الخير النافعة، ومدرسة الذكر الجامعة، وعشّ القرآن المترنّمة أطياره بخفقان القلوب الخاشعة، وصفّة «1» الفقراء الذين لا يسألون النّاس إلحافا، والأصفياء من الطّمع الذين لا يتقاضون الدهر إنصافا وإن صافى، ومرتكض سوابق الأعمال والأقوال، ومقرّ القرّاء والقراءة على ممّر الليالي الطوال، ومعدن التّلاوة المأثور غناؤها في ذلك الجبل وما كلّ المعادن ولا كلّ الجبال، والبنية لله وتحتاج من ينظر بنور الله في وقفها، ويحفظ مسالك جمعها وصرفها، وينمّي حال درهمها بتدبيره الوافي: فربّما أبقتها الأحوال منه على نصفها.
وكان فلان ممّن لحظ أمورها على بعد فشغف الملحوظ باللّاحظ، وحفظها على نأي فكأنّما روت بالإجازة عن الحافظ، وأدار عليها من رشفات قلمه نغبة السّاقي، وأنهلها شربة مضى بها ما مضى من تعدّد المال: وفي الجرائد باق يطلب الباقي؛ وسأل أهلها بعد ذلك ملازمته للنّظر فلزموا، ورفعوا قصصهم في طلبه لهذه الوظيفة فجزموا؛ وكيف لا؟ وهو نعم الناظر والإنسان، وفي مصالح القول والعمل ذو اليدين واللّسان، وذو العزائم الّتي تقيّدت في حبّه الرّتب:«ومن وجد الإحسان» ، والمتقدّم فعله ورأيه في العاجل والآجل، والمأمون الّذي يعزى إلى عقيلة نسبة الرشيد ولا عجب أن يعزى المأمون إلى مراجل «1» ؛ كم جرت ألسنة الأوقاف بأوصافه، وكم روى الجامع الصحيح خبرا عن مسلّم عفافه، وكم جدّد لبنائه زخرفا بعد ما كاد نادب الرّسوم يقف على أحقافه؛ كم وفّر على الأيتام ميراث وفرها، وكم قال اختبار الملوك الباقية:
«لأشكرنّك ما حييت» فقال ماضي الملوك ذوي الأوقاف: «ولتشكرنّك أعظمي في قبرها» - فاقتضى الرأي أن يجاب في طلبه المهمّ سؤال القوم، وأن يتّصل أمس الإقبال باليوم، وأن تبلغ هذه الوظيفة أملها فيه بعد ما مضت عليها من الدّهر ملاوة، وهذه المدرسة الّتي لولا تداركه لكانت كما قال الخزاعيّ:
ولذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يراعي مصالح المؤمنين- أن يفوّض إليه النّظر على هذه المدرسة المعمورة، وأوقافها المبرورة، إجابة لسؤال من فيها من جماعة الفقراء ورغبتهم فيه، وارتقابهم لعزمه الّذي إذا نظر حالها الأوّل تلا فيه تلافيه؛ على أن يتّبع في أمرها شرط الواقف برأى غير قاعد، وإن كان لا
يزيد فيها على أربعمائة نفر إلّا أن يزيد ريع الوقف وهو- إن شاء الله- ببركته وهمّته زائد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة من إذا بدأ أعاد، وإذا دعي لمثل هذا الحال الضّعيف طبّ وعاد، ومثمرا لمالها- على عادة غصن قلمه الأخضر- أثمارا، مستخلصا للبواقي من أربابها الّتي تنهب العين وتدّعي لفتراتها انكسارا، قائلا في حال هذه المدرسة بالعطف، مساويا في المواساة بين فقرائها عند الميزان والصّرف، نازلا بنور بشره وودّه بينهم منازل القلب والطّرف، مجهّزا لجيش عسرتهم فإنّهم جمع للتّلاوة والصلوات، متطلّعا لخبرهم فإنّهم أجناد صفوف الأسحار وسلاحهم الدّعوات، وتقوى الله تعالى مشتقّ منها اسمه فلتكن شقيقة نفسه في الخلوات؛ والله تعالى يحفظ عليه حظّا نفيسا، وقدرا للنجوم جليسا، ويحيي به ميّت الوظائف حتّى يقال: أسليمان أنت أم عيسى؟.
وهذه نسخة توقيع بخطابة الجامع الأمويّ، من إنشاء ابن نباتة، كتب به باستمرار القاضي تاج الدين ب «الجناب العالي» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي رفع للمنابر رأسا باستقرار تاجها، وجمع لصدور المحاريب شملا بعوائد ابتهاجها، وزيّن مواقع النّعم بالتّكرار كما تزان لآليء النّظام بازدواجها، وبيّن مطالع الفرج بعد الغمّ: وما الدّهر إلّا ليل غمّة ثم صبح انفراجها.
نحمده على معاد الآمال ومعاجها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تمشي البصائر إلى الحقّ بسراجها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله القائم على المنابر لمداواة الفهوم وعلاجها، ومداراة الخصوم وحجاجها، القائل له تأديب ربّه: وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ
«1» آية يسري
الفطن على منهاجها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحور النّعم والنّقم عذبها وأجاجها، وبدور مساجد التّقى ومشاهد الوغى عند عجاج ليلها وليل عجاجها، صلاة كصلاتهم آمنة من خداجها «1» ، ما مدّت نفحات الروض إلى مخالطة سيرهم يد احتجاجها، ومازجت معاليهم النّجوم فحسن بكأس الثّريّا شرف امتزاجها.
وبعد، فإنّ أولى الناس باستقرار مناصب الدين العريقة، واستمرار علوّ الدّرجات: إمّا من المراتب مجازا وإمّا من المنابر حقيقة، واستمطار الوظائف بعيادة فضله ولا سيّما أعواد الخطابة، واستبصارها بلفظه ولا سيّما إذا سلّمت الرّاية العباسيّة من نطقه لعرابة- من درج من عشّ فروعها خافقا عليه جناحا علميه، وصعد إلى عرشها مقبّلة بنظرات الجفون المتسامية آثار قدميه، وأعرق نسبه في موطن مكانها المكين، وبلغ مقامه مقام سلفه أربعين سنة في الطّلوع بأفقها المبين، وقال استحقاق ميراثه:«وماذا تدّري الخطباء «2» منّي» «وقد جاوزت» بمقام السّلف «حدّ الأربعين» ، ومن إذا سمعت خطابته قال الحفل:
لا فضّ فوه، ولا عدم البيت ولا بنوه، ومن إذا طلع درج المنبر قال المستجلون لسناه: أهلّ البدر؟ قيل لهم: أخوه، ومن إذا قام فريدا عدّ بألف من فرائد الرجال تنظّم، وإذا أقبل في سواد طيلسانه واحدا قيل: جاء السّواد الأعظم.
ولما كان فلان هو معنى هذه الإشارة، وفحوى هذه العبارة، وصدر هذا التّصدير: ومن سواه أحقّ بصفات الصّدارة؟، ومن إذا ضرب المثل بالخطابة النّباتيّة «1» في حلب قال لخطابته بدمشق:«إيّاك أعني فاسمعي يا جارة» ؛ ومن نشأ في محلّ فخار طيب المعاقد، ومن وضع رجله على المنابر ومدّ عزمه إلى الفراقد، ومن شمّر في أوائل عمره إلى العلياء وحيدا وخلّف دونها من أنداده ألف راقد، ومن إذا صعد للخطابة أنشد الحفدة:
ولمّا رأيت الناس دون محلّه
…
تيقّنت أنّ الدّهر للنّاس ناقد
[وكان]«2» الجامع الأمويّ المعمور بذكر الله تعالى بدمشق المحروسة هو الذي كلّ بنان إلى حسنه يشير؛ وكلّ ذي مذهب إذا عاين تصنيف وضعه قال هذا لفقه المحاسن هو الجامع الكبير، [تعيّن أنه المسلّم ليده]«3» المعلم بطرازي نسبه ورشده، المقدّم ليد نصرته سيف خطابة لا يخرج بيد الاستحقاق عن حدّه، تكاد المنابر تعود للنّشأة الأولى طربا لسجع بيانه، يسهب ويقول الناس ليته لا اختصر، ويودّون لو لبس كلّ يوم سواد أهبته وزيد فيه منهم سواد القلب والبصر، وعارضه من العظماء الكفاة من نوى بدلا فأبى حنوّ الدّولة إلا عطفا، ونازله وارد من القضاء ولكن أنزل الله عليه مع القضاء لطفا.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يستقرّ على عادته في خطابة الجامع المذكور، وما يتعلق بذلك: من تدريس وتصدير، وتقرير وتقدير، وتأثيل وتأثير، ومحكوم بالتفويض إليه ومحكّم، ومرسوم لا يغيّر عليه ما رسم به وما يرسم، وأن يمنع دليل الاعتراض ويدفع، ويكفّ حتّى تتصل العناية بهذا البيت الذي هو من بيوت أذن الله أن ترفع، وحتّى يعلم أنّ قوما أحسنوا صحبة الدّول
فسعدوا، ونبّهوا عهود الخدمة لأعقابهم وهجدوا، وحتّى يقول هذا النّجل الظافر بعد آبائه وأخيه: ليت أشياخي ببدر شهدوا.
فليعد حديث منصبه القديم، وليقم إلى تشّنيف الأسماع من نثير لفظه بأبهى من العقد النظيم، وليفكّ أسرى القلوب برواتب إشارته: فإنّه «الفاضل عبد الرحيم» ؛ وليبك العيون بوعظه وإن أقرّها بمشاهدته؛ وليحرص على فخر الدولة الشريفة به كما فخر سيف الدّولة بابن نباتته «1» ووصايا هذه الرّتبة متشعّبة وهو على كلّ حال أدرب وأدرى بها، وما استقرّت على قبض سيوفها يده إلّا ورجعت الحقوق إلى نصابها؛ وكذلك ما هو معدوق بوظائفه: من مدارس علوم، ومجالس نظر طالما نظر في كتبها وهو الصحيح نظرة في النّجوم- لا يحتاج فيها إلى مطالعة الوصايا فإنّه من كلّ أبوابها دخل، ولا يمرّ بها على أذنه فم المبلّغ فإنّها من فمه أحلى ومن تسويغ فمه أحلّ؛ ولكنّ التّذكار بتقوى الله تعالى فيما يأتي ويذر أسّ جليل، ووجه تتفاضل وجوه الألفاظ من ذكره على لفظ جميل، وألفاظ الخطيب المتّقي إذا وصلت من القلب إلى القلب وفت بريّ الغليل؛ والله تعالى يمدّه بألطافه، ويجريه على عوائد إسعاده وإسعافه، ويروي بصواب كلمه الأسماع وبصوب الغمام عهود أسلافه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة المسرورية بدمشق، من إنشاء الشّيخ صلاح الدين الصّفديّ «2» ، كتب به للشيخ «تقيّ الدين السّبكي» «3»
ب «المقرّ الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي جعل تقيّ الدّين عليّا، وأوجده فردا في هذا الملإ فكان بكلّ علم مليّا، وأظهر فضله الجليل فكان كالصّباح جليّا.
نحمده على نعمه الّتي تكاثرت فأخجلت الغمائم، وتوفّرت الألسنة على حمده فتعلّمت أسجاعها الحمائم، وتأثّرت بموافقها الأحوال فأخملت زهر الخمائل في الكمائم، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة لا شبهة تعكّر ما صفا من لجّتها، ولا ريبة توعّر ما تسهل من محجّتها، ولا ظلمة باطل تكدّر ما أنار من حجتها. ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي جمعت فيه مكارم الأخلاق، وتفرّد بمزايا منها أنّه حبيب الخلّاق، وشارك الأنبياء في معجزاتهم وزاد عليهم بما أتيح له من خمس لم يعطهنّ غيره منهم على الإطلاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي تفقّهوا في الدّين، وحازوا الأجور لمّا جروا إلى جزّ الغلاصم من الملحدين، وأنزلوا لمّا نازلوا أبطال الباطل والمعتلين من المعتدين، صلاة يفوح نسيم ريّاها المتأرّج، ويلوح وسيم محيّاها المتضرّج، ما فرّج العلماء مضايق الجدال في الدّروس، وقبلت ثغور الأقلام وجنات الطّروس، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ المدارس- عمرها الله تعالى بالعلماء- لواقفيها شروط، ولأهلها همم أنزلها بالنجوم منوط؛ يغوصون بحور البحوث في طلب اللّآلي، ويقطعون ظلل الظّلام بالسّهر في حبّ المعالي؛ سيّما المدرسة المسروريّة:
فإنّ واقفها- أثابه الله تعالى- شرط في المدرّس بها شروطا قلّ من يقلّها، أو يتحلّى بعقودها أو يحلّها؛ وكان مفرقها قد تحلّى بتاج تجوهر، ومغلقها قد ضمّ منه فاضلا تمهّدت به قواعد المذهب لمّا تمهّر، فأعرض عنها، ونفض يده منها،
رغبة في الإقبال على شانه، وانقطاعا إلى مالك الأمر وديّانه، فخلا ربعها من أنسه، وكادت تكون طللّا بعد درسه.
وكان فلان- أسبغ الله ظلّه- قد وافق بعض ما فيه شرط الواقف، وشهد بنشر علومه البادي والعاكف، وطاف بكعبة فوائده كلّ طائف، ينصرف عنه باللّطائف؛ أمّا «التّفسير» فإنّه فيه آية، وأمّا «الحديث» فإنّه الرّحلة في الرّواية والدّراية، وأما «الأصول» فإنّه زأر ب «الرازيّ» حتّى اختفى، وأمّا «الفقه» فلو شاء أملى في كلّ مسألة منه مصنّفا، وأمّا «الخلاف» فقد وقع الاتّفاق على أنّه شيخ المذاهب، وأمّا «العربية» ف «الفارسيّ» «1» يعترف له فيها بالغرائب؛ إلى غير ذلك من العلوم الّتي هو لها حامل الرّاية، وله بالتّدقيق فيها أتمّ عناية، وإذا كان أهل كلّ علم في المبادي كان هو في الغاية.
فلذلك رسم بالأمر العالي- أعلاه الله تعالى- أن يفوّض إليه كذا وكذا:
وضعا للشّيء في محلّه، ومنعا لتاريخ ولاية غيره أن يفجأ في غير مستهلّه؛ فالآن أمسى الواقف مسرورا على الحقيقة، والآن جرى الخلاف فيها على أحسن طريقة؛ وهو- أسبغ الله تعالى ظلّه- أجلّ خطرا من أن يذكّر بشيء من الوصايا، وأعظم قدرا من أن تدلّ ألمعيّته على نكتها الخفايا، لأنّه بركة الإسلام، وعلّامة الأعلام، وأوحد المجتهدين والسّلام؛ والله تعالى يمتّع المسلمين ببقائه، ويعلي درجات ارتقائه؛ والخطّ الكريم أعلاه الله تعالى أعلاه، حجة في ثبوت العمل بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة الناصرية الجوّانية، من إنشاء الصّلاح الصّفدي أيضا، كتب به للقاضي ناصر الدين «محمد بن يعقوب» كاتب السّرّ
يومئذ بالشام، حين عاد إلى تدريسها بعد انفصاله عنها، ب «المقرّ الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي بدأ النّعم وأعادها، وأفاء المنن وأفادها، وزان المناصب السّنيّة بمن يليها وزادها، وشاد عماد المعالي بأربابها وصانها عمّا دهى.
نحمده على نعمه الّتي بدأت بالمعروف وتمّمت، وخصّصت بالإحسان وعمّمت، وبرّأت من النّقائص وسلمّت، وفلّت بالألطاف الخفية صوارم الحوادث وثلّمت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تضيء بها الحنادس «1» ، وتزكو بأنوائها منابت الإيمان والمغارس، وتسمو باقتنائها إلى علّيين النفوس النّفائس، ويرغم المؤمنون بإعلائها من الكفار المعاطس، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي تمّم للناس مكارم الأخلاق، وأخجل بجود كفّه الفيّاض صوب الغيث الدّفاق، وفضح البدر اللّياح في الدّجى بنور جبينه البرّاق، وتقدّم النّبيين والمرسلين في حلبة الشّرف على جواد فضله السّبّاق، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أعلى من نصبوا للهدى أعلاما، وأرقى من أصبح العلم لفضلهم الباهر رقّاما، وأحلى من كان الزمان بوجودهم وجودهم للعفاة أحلاما، وأقوى من كان الإيمان بهم إذا استنجد على الكفر أقواما، صلاة لا ينفد لها أمد، ولا يفنى لها مدد، ما شبّ بارق وخمد، وشفى الغمام طرف زهر من الرّمد، وسلّم تسليما كثيرا إلى يوم الدّين.
وبعد، فإنّ مدارس العلم الشريف لها الذكر الخالد، والشّرف الطّارف والتّالد، بها تتبيّن فوارس الجلاد في مضايق الجدال، وتتجلّى بدور الكلام في مطالع الكمال، وتبدو شموس الجمال فيما لها من فسيح المجال؛ والمدرسة الناصرية- أثاب الله تعالى واقفها- هي الواسطة في عقودها، والدّرّة الثمينة بلا كفء لها بين قيم نقودها، قد تدبّج فيها البناء، وتأرجّ عليها الثّناء، وتخرّج عنها الحسن فإنّ له بها مزيد اعتناء.
وكان المقرّ الفلانيّ قد نفض يده من عنانها، ورفض عن اختيار بهاء جنانها، وثنى طلبته عن محاورتها، ورمى أمنيّته من مجاورتها، فساء من بها من أهل العلم فراقه، وأوحشهم وجهه الّذي أخجل البدور رونقه والبحر اندفاقه، وفقدوا مكارمه الّتي ما سمع «السّمعانيّ» بمثلها ولا وصلت إلى «الصّوليّ» ولا ضمّتها أوراقه «1» فلذلك رسم بالأمر العالي أن يعاد إلى تدريسها: لأنّ العود أمدح وأحمد، والرّجوع إلى الحقّ أسعف وأسعد.
فليباشر ما فوّض إليه مباشرة ألفت من كمال أدواته، وعرفت من جمال ذاته، ناشرا أعلام علومه المتنوّعة، وفضائله الّتي تقصر عن الثّناء عليها أنفاس الرّياض المتضوّعة؛ فلو عاصره «ابن عطيّة» أمسك عنه في «2» تفسيره، أو «صاحب الكشّاف» «3» لغطّى رأسه من تقصيره، أو «الرّافعيّ» «4» لأصبحت راية رأيه في الفقه خافضة رافعة، أو «النّوويّ» «5» رحمه الله لاستعار منه زهرات روضته اليانعة، أو «الآمديّ» «6» لما امتدّت له معه في أصوله خطوة، أو «ابن
الحاجب» «1» لما كان له مع ابن الحاجب حظوة، أو «ابن يعيش» «2» لمات ذكره في النحو فكان فقيدا، أو «ابن مالك» «3» لأمسى «تسهيله» تعقيدا، أو «الشّبليّ» «4» لعلم أنّه ما شبّ له في التّصرّف مثل شبله، أو «ابن عربيّ» «5» لأعرب عن عجمة وما تمسّك صوفيّ بحبله؛ إلى غير ذلك من إنشاء إنشاء ساد في العبدين «6» :«عبد الحميد» و «عبد الرّحيم» ، ونظم كلّما نظمأ إلى رشفه طافت علينا قوافيه بكأس مزاجها من تسنيم «7» ؛ وعلى الجملة فتفصيل معارفه يضيق عن فضّها فضاء هذا التّوقيع الكريم، وسرد محاسنه لا تتّسع له حواشيّ هذا البرد الرّقيم؛ ولكن أشارت أنملة القلم منها إلى نبذة، وعلمنا أنّ القلوب تشتاق إلى أوصافه ففلذنا لها من ذلك فلذة.
وأما الوصايا فمثله لا يذكّر بشيء منها، ولا يقال له: دع هذه الودعة وهذه الدّرّة صنها؛ لأنّ الأمر والنّهي له في ذلك، وإذا أطلع بدور وصيّة ضوّأ أحوال الدّياجي الحوالك؛ ولكن تقوى الله عز وجل ذكرها في كلّ توقيع طرازه
المعلم، ونكتته الّتي طودها لا يثلّ وحدّها لا يثلم، فليكن مستصحب حالها الحالي، مستصعب فراقها الّذي يهوّنه البال البالي؛ والله تعالى لا يخلي ربوع العلم من أنسه، ويجعل سعده في غد زائدا كما زاد في يومه على أمسه؛ والخط الكريم أعلاه، حجّة في ثبوت العمل بمقتضاه.
وهذه نسخة توقيع بتدريس المدرسة النّوريّة «1» ، من إنشاء الشيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به لقاضي القضاة «نجم الدين الحنفيّ» بنزول والده عنها ب «الجناب الكريم» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي أنمى أهلّة العلم فأبدرت، وفروعه فأثمرت، ونجومه فاستقلّت مطالعها النّوريّة وتنّورت، ولالئه في بحار اللّفظ والفضل فتجوهرت، وأنهاره الّتي أخذت في المدّ ماخذ تلك البحار فاسترحبت واستبحرت.
نحمده على نعمه الّتي قرّت وقرت، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة إذا خصّلها اليقين وفرت، وإذا نصّلها «2» الإخلاص مضت في أوداج الباطل وفرت «3» ، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الحاكم في فصل الأقضية لمّا شجرت «4» ، والنّاظم درر الإيمان حتّى زهت في أعناق العقائد وزهرت، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه فئة الحقّ الّتي ظهرت وطهرت، وعصابة الإسلام الّتي سرت خلفها سرايا الدّين فهاجرت في الله ونصرت،
صلاة طيبة تحلو إذا تكرّرت، وتحيّة باقية تشرق شمسها إذا الشّمس كورت، وتعبق نفحات نشرها إذا الصّحف نشرت.
أما بعد، فإنّ منازل العلم من خير ما أبقى الآباء للأعقاب، وأكمل ما ذخر لنجباء الأبناء على مدى الأحقاب، وأعدل ما شهد بلسان حاله المتمثّل أنّ وكر العقاب لابن العقاب؛ وكانت المدرسة النّوريّة الكبرى بدمشق المحروسة هي الواسطة والمدارس درر، والصّبح وأوطان العلم غرر، ومنزلة الحكم الأمنع، وبيت القضاء الّذي أذن الله لقدره أن يرفع، ومكان ذي اليد الماضي سيف حكمه إذا قرعت العصا لذي الإصبع، وذات العماد الّتي ادّخرها لنجله، وأعدّ فضلها في العباد والبلاد لفضله؛ وكان ذلك «1» قد نزل لولده فلان عن الحكم على هذا الحكم، ونطق بمزيّة الاستحقاق وقلوب بعض الأعداء صمّ بكم، ورغب- أجلّه الله- فيما يرغب فيه من الانقطاع ذو السّن «2» العالي، والقدر الغالي، وانتظم تقليده الشريف فكان أجود حلية على أحسن جيد حالي، ثم التوقيع بتدريس هذه المدرسة الّتي زكيّ في أهل الفضل شهيدها «3» ، ونظرها الذي خلف في حكمه وليّ عهده عن أبيه: فلله أمين هذه الخلافة ورشيدها.
ولذلك رسم بالأمر الشريف أن يفوّض إلى فلان تدريس المدرسة النّوريّة ونظرها: لاستحقاقه لها بشفعة منصب الحكم العزيز، ومنشإ الفضل الحريز، ووجيز النزول المكتتب، وقبول هبة والده الّذي يعتاد أن يهب الجليل لمن يهب، وتشريفه بإنعامها النّفيس، وإجلاسه بها على مرتبة حكم وبساط نظر وسجادة تدريس، وعلما بأنّ نجم ذلك النّيّر أولى بهذه المنازل، وشبل ذلك الأسد أحقّ بهذا الغاب الماثل، وأنّه كوكب هذا المذهب المنير، وإمام جامعيه المعروفين: كبير وصغير، وصاحب شبيبة العزم المقتبل، والرّأي الموفي على
قياس الأمل، وتجنيس الجود والإجادة، وتكميل بحري العلم والبرّ واجتهاد الزّيادة؛ وأنّه ممّن آتاه الله رفعة في القدر والاسم، وزاده بسطة في العلم والجسم، وأحكم بديهة علمه فما تستوقف الاسماع رويّته، وأعلاه وعظّمه فما هو النّجم الّذي تستصغر الأبصار رؤيته.
فليباشر تدريس هذه المدرسة ونظرها بعزمه الباهر وصفا، التّالي بلسان الحمد: وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى
«1» جاريا على أعراق نسبه المشهور، فائض اللّفظ والفضل فإنّه بحر من البحور، مظهرا من مباحثه الّتي تقلّد العقول بأبهى مما تقلّد النّحور، مهتديا من رأيه ومن بركة الواقف- رضي الله عنه بنور على نور؛ والله تعالى يزين بنجمه أفق السّيادة، ويزيد فيما وهبه من الفضل إن كان التّمام يقبل زيادة.
توقيع بتدريس المدرسة الرّيحانية الحنفيّة، من إنشاء ابن نباتة، كتب به للقاضي «عماد الدين الحنفي» ب «الجناب الكريم» ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جمّل مدارس العلم بذات عمادها، وصاحب نفلها واجتهادها، ومنشر عهدها ومنشيء عهادها، وواصل مناسبها الّتي لو ادّعاها دونه زيد لكانت دعوى زيادها، ومفصح فتاويها على منبر قلم اهتز عوده ونفح وأطرب: فناهيك بثلاثة أعوادها!.
نحمده على نعمه الّتي قضى الحمد بازديادها، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تعدّها النفس لمعادها، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله هادي الأمّة إلى سبيل رشادها، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه بحار العلم وأطوادها، ما قامت الطّروس والسّطور لعيون الألفاظ مقام بياضها وسوادها.
أمّا بعد، فإنّ لمذاهب العلم رجالا يوضّحون طرقها، ويمدّون في
المباحث طلقها، ويعمّرون مدارسها: فيا لها من ذات دروس يكون العمران معتلقها ومعتنقها!.
ولمّا كانت المدرسة الرّيحانية بدمشق في أيدي العلماء نخبة ريحانيّة، وشقيقة نفس نعمانيّة، مأهولة المنازه والمنازل بكّل ذي فضل جليّ، وعلم مليّ، ووصف كريم، ونفس نفيس يتلّقاه منها روح وريحان وجنّة نعيم؛ وخلت الآن من إمام كرمت خلاله، وعظمت خصاله، ومضى وتمضّى وما يبقى إلّا الله جلّ عن الحوادث جلاله- فتعيّن أن نختار لتدريس مكانها من يفتخر به المكان والزّمان، ويتشيد بزيادة علمه لصاحب مذهبها أضعاف ما شاده زياد للنّعمان، من شيّد الشريعة الشريفة مقاله ومقامه، وعلا عماده إلى عقود الشّهب فلله مراده ومرامه، من لو عاصره «ابن الحسين» «1» لحسن أن يعترف بقدره الجليل، وقال عند محاضرة بحثه كما قال «أبو يوسف» «2» : فصبر جميل، واستزاد «شمس الشريعة» فكيف «السراج» من لمعه البريقة، وقال «ابن الساعاتي» «3» : ما رأيت أرفع من هذا القدر درجة ولا أبدع من هذا الذّهن دقيقه.
ولذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال عاليا بأمره كلّ عماد، زاهيا بمحامد ملكه كلّ ناطق وجماد، أن يفوّض لفلان......... لأنّه المعنيّ بما تقدّم من الأوصاف الحلوة إذا تكرّرت، والمقصود بألفاظها إذا تعنونت الأفهام وتيسّرت، والمعوّذة فرائد مباحثه المفرّقة ب إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ
«4» ، وإمام المذهب الحنفيّ والحكم الأحنفيّ، وحصاة القلب الّتي
تنسف بإشارتها جبال «النّسفيّ» «1» ، ولسان النّظر الّذي أشرف على بعده فاختفى في قربه المشرفيّ، وصاحب الفنون وما وسقت، وأفنان الحكم والحكم وما بسقت، ونعوت الفضل والفضائل وما عطفت من البيان ونسقت.
فليتولّ تدريس هذه المدرسة المعمورة مؤيّد الولاية، مجدّد البداية لحنيفيّتها والنهاية، ساجدا قلم الفتاوى والفتوّة كلّما تلا كرمه وكلمه آية بعد آية، منفقا من ألفاظه حتّى يستغني عن «الكنز» «2» وصاحبه، ويردّ فرع المقال على الأصل وطالبه، ويعرض عن أعاريض «البسيط» ، ويغرق في أفكار وارده «المحيط» ، ويمدّ سماط العلم الّذي وفى بعد «القدوريّ» «3» وما خان، وتفخر بقاضيها أعظم مدينة فما يضرّها فقد «قاضي خان» «4» ، وتتذكرّ المقدّمية في طلبته فوائد الحلقة، وينتقل الجناب الكريم من تقدمتها إلى ما هو أوفى في الغرض وأوفر في النّفقة؛ والله تعالى يزيد رتب العلم به سرورا، ويجعل له باستطلاعها كتاب حكم وحكم يلقاه منشورا.
وهذه نسخة توقيع بتصدير بالجامع الأمويّ، كتب به لقاضي القضاة «علم
الدين ابن «1» القفصي» قاضي قضاة دمشق ب «المقرّ الشريف» وهي من تلفيق كتّاب الزمان. على أنها بالمدرس أليق منها بالمصدّر؛ وهي:
الحمد لله الّذي أعلى علم أئمّة الدّين إلى أعلى الغرف، وميّزهم بالعلم الشّريف الّذي يسمو شرفه على كلّ شرف، وأوضح بهم منهج الحقّ القويم فعلا بإرشادهم سبيل الهدى وانكشف.
نحمده على ما أفاض من نعمه المتواترة كلّ حين، ونشكره على إحياء معاهد المعابد بمن حذا حذو الأولياء المتّقين، حمدا يظهر الآيات المحمّديّة والبراهين، ويبسط ظلّ من هو عن الحقّ لا يمين. ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ربّ العالمين، الذي علّم الإنسان ما لم يعلم وهو العالم بما تخفي الصّدور ويعلم عباده المؤمنين، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أوتي علم الأولين والآخرين، وكان من دعائه لشيبة «2» :«اللهمّ فقّهه في الدّين» ! صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الّذي عملوا بما علموا فكانوا أئمّة المسلمين، والعمدة على أقوالهم الّتي نقلوها عن خاتم النبيين، على توالي الأيّام والجمع والأشهر والسّنين، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فلمّا كانت أعلام العلماء في الآفاق منشورة، وربوع الفوائد بطريقتهم المثلى معمورة، وصدور المعابد الشّريفة محتاجة إلى صلتها بكفئها الفرد مسرورة، وكان فلان- أسبغ الله تعالى ظلاله، وضاعف جلاله- هو الّذي ملأت مباشرته العيون والأسماع، وانعقدت على تفرّده في عصره كلمة الإجماع، واشتهر ذكره الجميل بأنواع المكرمات وأطاعه من مشكل المذهب ما هو على غيره شديد الامتناع، وأضحت فضائله «المدوّنة» «3» ولفظه الجلّاب،
وكنفه «الموطّأ» «1» للطلبة يغنيهم عن معاهد «عبد الوهاب» ؛ وعزيمته لا يلحق غبارها في المعارك، ولا يظنّ خدّام العلوم الشرعية والأدبية إلا أمّ مالك وابن مالك.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يجمع لمن برع في العلوم من ألوان المناصب المختلفة، ويرفع قدر القوم الذين قلوبهم على التقوى مؤتلفة- أن يستقرّ المشار إليه في وظيفة التّصدير بالجامع الأمويّ بدمشق المحروسة- عمره الله تعالى بذكره- عوضا عن فلان بحكم نزوله عن برضاه، حملا على ما بيده من النّزول الشّرعيّ، بالمعلوم الّذي يشهد به ديوان الوقف المبرور، على أجمل عادة، وصرفه إليه مهنّأ ميسّرا أسوة أمثاله.
فليباشر هذه الوظيفة على عادة مباشراته الّتي حفّت بالعلوم، وافتخرت بحسن المنطوق الدّالّ على المعنى المفهوم، ويمدّ موائد علمه المحتوية على أنواع الفضائل، وليبيّن ما يخفى على الطلبة بأوضح الدلائل، وليؤدّ الفوائد الواصلة إلى الأذهان على أحسن أسلوب، وليقرّر الأصول الّتي امتدّت فروعها بقواعد السّنة المحمّدية وفي ثمرها الجنيّ تقوية القلوب، وليكرم منهم من يضح فضله لديه ويبين، وليبسط هممهم بقوله صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيرا يفقّهه في الدّين» ، وليوضّح طريق إرشاده ليسهل سلوكها عليهم، وليجعل وفود فوائده في كلّ وقت واصلة إليهم، وليتّبع «إمام دار الهجرة» في مذهبه المذهب، وليخلّد من صفاته الجميلة ما يذهب الزّمان ولا يذهب، وليسمح للفقهاء بمواصلة فضله الأعم، فإنّه أن يهدى به واحد خير من حمر النّعم.
والوصيا كثيرة ومنه يطلب بيانها، وبه تقوى أسبابها ويعلو بنيانها؛ ولكن الذّكرى تنفع المؤمنين، ويظهر [بها] سرّ خبرهم ويستبين؛ وتقوى الله تعالى هي