الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصنف الرابع (مما يكتب لأرباب الوظائف بالشام- تواقيع مشايخ الخوانق، وهي على ضربين)
الضرب الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق، وهو على ثلاث مراتب)
المرتبة الأولى (ما يفتتح ب «الحمد لله» )
وهو توقيع شيخ الشيوخ بدمشق: وهي مشيخة الخانقاه الصلاحية المعروفة بالشّميصاتية «1» ، وقد تقدّم أنها يكتب بها أيضا من الأبواب السلطانية.
ثم هي تفرد تارة عن كتابة السّر بالشام، وتارة تضاف إليها.
توقيع بمشيخة الشّيوخ بالشام، من إنشاء الشّيخ جمال الدين بن نباتة، كتب به للشيخ «علاء الدين عليّ» مفردة عن كتابة السّرّ؛ وهو:
الحمد لله الّذي جعل شرف أوليائه عليّا، وفضله الجليل جليّا، واتّصال علائهم كاتصال كوكب الشّرف بإيلاء الخيرات مليّا، وحاضر أفقهم كغائبه إذا سطّرت دعواته واستمطرت هباته كان على كلا الحالين وليّا.
نحمده على توالي النّعم الأنيقة، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له شهادة تستمرّ بأصلها فروع الحقيقة، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله أجدر الخلق بكرم الخليقة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا بهداه أحسن طريق وسلكوا في أحسن طريقة، صلاة دائمة لا تزال بها عقائد الإخلاص موثقة وألسنة الذّكر طليقة، وتحيّة إذا بدت في حضرة الادّكار كانت للأعين من النّور نهاره وكانت للأنجم من القدر شقيقه.
أما بعد، فإنّ أولى المراتب الدينية بتقديم العناية، وتفخيم الرعاية، وتكريم التولية ولا سيما إذا كانت منتسبة إلى أهل الولاية- مرتبة مشيخة الشيوخ التي يجمع عباد الله الصالحين نطاقها، ويضمّهم رواقها، وتطلعهم مطالع كواكب الهدى آفاقها المنيرة وأوفاقها.
ولما خلت الآن هذه الرّتبة بالشام المحروس من شيخ تدور هذه الطائفة على قطبه، وتجتمع على مائدة قرباته وقربه، وتمشي على قدمه وتناجي صلاح أحوالها عن قلبه- تعيّن أن نختار لها من كملت بالله أداته، وصفت في مشاهد الحقّ ذاته، وزكت في علمي الإبانة والأمانة شهادته المفصحة ومشاهداته، وأجمع الناس على فوائد تسليكه واسلاك قلمه حيث بدت في وجوه الحسن حسناته، ووجوه الشام شاماته، لما شهر من معرفته وعرفانه، ولما دعي له ببقاء نوح لما فاض في العلم من طوفانه، ولما قام في الأذهان من طبقة قدره الموصوف، ولما سار من رسالة أخباره فإذا قالت الآثار:«هذا السّريّ» قال الإيثار: «وفضله معروف» .
فليباشر هذه المشيخة المباركة بصدر للسّالكين «1» رحيب، وبرّ للسائلين مجيب، وفضل يقول الرائد والمريد بدار إقامته: قفا نبك من ذكرى منزل وحبيب، وبشر وبشرى يملآن عين المجتلي ويد المجتدي، وعطف ولطف إذا قال الذّاكر لمن مضى: راح مالكي! قال المعاين: وجاء سيّدي؛ وليراع أمور الخوانق الشاميّة ما غاب منها وما حضر، وما سمع منها وما نظر، وليهذب قلوب ساكنيها حتّى يعود كإخوان الصّفاء من المودّة قوم كانوا إخوان الصّفا من الحجر، قائما بحقوق الرّتبة قيام مثله من أئمّة العلم والعمل، داعيا لهذه الدّولة العادلة فإنّه أقصى دواعي الأمل، معربا- لأنّ العربيّة من علومه- عن الإيضاح غنيّا عن تفصيل الجمل؛ وهو المسلّك «2» فما يحتاج لتسليك درر الوصايا، المخبوء لمثل
هذه الزّوايا المبرورة: فنعم الزّوايا المحبوّة بنعم الخبايا؛ والله تعالى يعيد على الأمّة بركاته، ويمتّعهم باستسقاء الغيوث: إمّا ببسطها عند برّه، وإمّا ببسطها عند دعواته.
وهذه نسخة توقيع بمشيخة الشيوخ بالشام أيضا، مضافة إلى كتابة السّرّ به، كتب بها للقاضي ناصر الدين «محمد بن أبي الطّيّب» كاتب السّرّ بالشام ب «المقرّ الشريف» ؛ وهي:
الحمد لله الّذي شرح صدور أوليائه بمعرفة الحقّ واتّباعه، وجعلهم خواصّه الذين غدوا من أتباع الحبيب وأشياعه، ورفع ذكرهم على رؤوس الأشهاد وآواهم إلى مقام الأنس في محلّ القرب بالتّسليك المحمّديّ الّذي أوصل إليه مزيده بانقطاعه، وخصّهم ببركات من حضّهم على الأعمال الصالحة بقصده الجميل وعلمه الغزير واتّضاعه، ومنحهم بمن أوضح لهم الطّريق المستقيم بإبدائه الحقّ وإبدار إبداعه، وغذاهم بالحكمة فنشأوا بالمعرفة وصار لهم العقل السّليم بالتّحفّظ من الأهوية الرّديّة فسلمت لهم الطّيبة على قانون الصّحّة بحسن تركيبه وأوضاعه، وأفاض عليهم من بحر علمه ما نالوا به الرّشد فصاروا أولياء بملازمة أوراده ومتابعة أوزاعه.
نحمده على ما ألهمنا من وضع الشّيء في محلّه، وإيصال الحقّ إلى أهله، وإجابة سؤال الفقراء وإعانتهم بمن أغناهم عن السّؤال بفضائله وفضله، حمدا يعيد كشّاف الكرب على مريديه وطلبته، ويرفع مقام من قام بشعار الدّين بتعظيم قدره وعلوّ درجته، ونشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له الّذي من تقرّب منه ذراعا، تقرّب منه باعا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة وإذا تقرّب إليه عبده
بالنوافل أحبّه، وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ
«1» ، ونشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله الّذي أضاءت الأكوان من نور هديه فاهتدت به أصحاب المعارف المسلّمون لموجدهم الأمر والإرادة، ومن هو روح الوجود الّذي أحيا كلّ موجود وسلّك طريق سنّته الموصّلة إلى عالم الغيب والشّهادة، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين صفت قلوبهم من الأكدار وإلى التّقوى سبقوا، وصدقوا في المحبّة فاستحقوا ثناء مولاهم: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا
«2» ؛ فمنهم من شمّت من فيه رائحة كبد مشويّة من خشية الله، ومنهم من حدّث بما شاهده ببصره وبصيرته على البعد ورآه، ومنهم من أحيا ليله واستحيت منه ملائكة السماء، ومنهم من اتّخذه أخا إذ هو باب مدينة العلم وركن العلماء، صلاة دائمة تطيّب أوقات المحبّين، وتطرب بسماعها قلوب المتّقين أهل اليقين؛ وسلّم تسليما.
أمّا بعد، فإنّ أولى من قدّمناه إلى أهل الصلاح، ورفعناه إلى محلّ القرب وروح الأرواح، وحكّمناه على أهل الخير، ومكّنّاه في حزب الله الّذي غلب لمّا اجتهدوا على إخراج حزب الشّيطان من قلوبهم وزحفوا على قراره بجيش التّقوى وسمتهم الزّهد وحسن السّير، وولّيناه أجلّ المناصب الّذي تجتمع فيه قلوب الأولياء على الطّاعة، وأحللناه أرفع المراتب الّذي خطبه منهم خيار الجمع لجلوة عروس الجمال في الخلوة بعقد ميثاق سنّة المحبّة وشهادة قلوب الجماعة- من جمّله صورة ومعنى، وافتخر به أحاد ومثنى، وباشره على أحسن الوجوه، وبلّغ كلّا من مريديه وطلبته من فضائله وفضله ما يؤمّله ويرجوه، ومدّ موائد علومه المحتوية على أنواع الفضائل المغذّية للقلوب، وجلس في حلل الرّضا فكسا القوم الذين لا يشقى بهم الجليس ملابس التّقوى المطهرة من العيوب،
وظهر في محفلهم للهداية كالبدر وهم حوله هالة، وكان دليلهم إلى الحقّ فغدوا بتسليكه من مشايخ الرّسالة، وجاهد في بيان معاني القرآن العظيم حتّى قيل لمّا فسّره: هذا «مجاهد» ، واستدلّ على تنزيه من تكلم به- سبحانه- عن التشبيه والتعليل «وفي كلّ شيء له آية تدلّ على أنّه واحد» ، ونقل الحديث المحمّديّ الذي هو «موطّأ» لتفهيم «الغريب» منه وميز «صحيحه» لكّل «مسلم» فأطرب بسماعه الوفود، وأفاد العباد «تنبيه الغافلين» فقاموا في الخدمة فأصبحوا تعرفهم بسيماهم: سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ
«1» ، وخفض جناحه الّذي عبر به الشّعرى العبور والنّسر الطائر «2» ، وسار إحسانه إلى طوائف الفقراء فصار مثلا فحبّذا «المثل السّائر» .
وكان فلان- أعاد الله تعالى من بركاته وأسبغ ظلاله- هو الّذي أقامه الله تعالى لهذه الطائفة المباركة مرّة بعد مرّة، وذكرت صفاته الجميلة فكان مثله للعيون قرّة، واتّصف بهذه الصّفات الّتي ملأت الأفواه والمسامع كما ملأت مرءآته المقل، وحصل البشر بمعروفه الذي تتبعه السريّ «أبو يزيد» «3» فجرى على عادة القوم الكرام ووصل، ونبعت عناصر فضائله فكانت شراب الذين صفت قلوبهم من كدرها، وأمطرت سحائب علومه الإلهيّة الدارّة من سماء الحقيقة فسالت أودية بقدرها، وظهرت لمعة أنوار شمس معارفه عند التّجلّي على المريد، وساق نفوس القائمين لمّا عزّ مطلبهم بأصله الّذي شرح طلاسم قلب الفاني بذكر الباقي فغرقوا في بحار المحبّة وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ
«4» .
فلذلك رسم بالأمر العالي- لا زال يرفع أهل العلم والعمل إلى أعلى مقام، ويبني لهم في جنّات القرب قصور الرّضا: لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها
«1» ومزيدهم الإكرام- أن تفوّض إليه مشيخة الشيوخ بالشام المحروس: وظيفته التي خرجت عنه، المرسوم الآن إعادتها عليه، عوضا عمّن كانت بيده، بمعلومي النّظر والمشيخة الشاهد بهما ديوان الوقف المبرور إلى آخر وقت، على أجمل العوائد، وأكمل القواعد، تفويضا نظمت بالقبول عقوده، ودامت في دار السعادة سعوده، وفي درج المعالي صعوده.
فليتلقّ ذلك بالقبول، وليبلّغ الفقراء من إقباله الجمّ الّذي ألجم عدوّه المنى والسّول، وليعامل المريدين بالشّفقة المعروفة من رحمة دينه وإفضاله، وليشمل كلّا منهم بعنايته ولطفه فإنّ الخلق عيال الله وأحبّهم إليه أشفقهم على عياله، وليأمرهم بملازمة إقامة الصّلاة طرفي النهار وزلفا «2» من اللّيل، وإذا مالوا- والعياذ بالله تعالى- يوما إلى منافسة بينهم فليقل: اتّقوا الله ما استطعتم وكونوا عباد الله إخوانا ولا تميلوا كلّ الميل، وليفسح لهم حرم الخير الّذي وقفوا فيه تجاه قصر تعبّده الّذي علا بالجوهر الفرد وقوّة الإخلاص، وليدخلهم منه جنّة إقبال فوائده التي فيها من أبكار معانيه حور مقصورات في خيام أداته لم يطمثهنّ إنس قبلهم ولا جانّ وأعجز قصره العالي وجوهره الغالي كلّ بنّاء وغوّاص، وليجعلهم له على جبل اعتماده ومروة مروءته إخوان الصّفا، وليقمهم في ركن مقام المناجاة إذا زمزم مطرب حيّهم تلقاء أهل الوفا، وليقدّم السابقين بمعرفة حقّهم ونجدتهم بالورع الّذي يغلبون به الشيطان فإنّ حزب الله هم الغالبون، وليداو قلوبهم المرضى بشراب المحبّة وتركيب أدوية الامتلاء من الدنيا ليغتذوا وقت السّحر [بحديث]«3» (هل من تائب) ، ولا يسقهم كاسات تضعف عنها قوّتهم