الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الأوّل (ما هو بحاضرة دمشق، ويشتمل ما يكتب به من وظائفها عن الأبواب السلطانية على أربعة أصناف)
الصنف الأوّل (أرباب السيوف، وهم على طبقات)
الطبقة الأولى (من يكتب له تقليد في قطع الثلثين ب «المقرّ العالي» مع الدعاء ب «عزّ الأنصار» : وهو نائب السلطنة بها)
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به عن السلطان الملك العادل «كتبغا» «1» للأمير «سيف الدّين غرلو العادلي» من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ «2» ، وهو:
الحمد لله الّذي جعل لسيف دولتنا على عاتق الملك الأعزّ نجادا، وادّخر لكفالة مملكتنا من الأولياء من تناسب وصفاه اجتهادا في مصالح الإسلام وجهادا، وعدق أمور رعايانا بمن أيقظ لها سيفه وجفنه فامتلأت عيونهم بما وهب وسلب من نومه ونوم العدا رقادا، ورفع ألوية إحساننا على من زاد برفعها ظلّ عدله انبساطا على الرعية وامتدادا، ووطّد قواعد ممالكنا بمن أجلنا الفكر في حسن اختياره انتقاء لمصالح الإسلام وانتقادا، وأدّى لشكر نعم الله الّتي لا يؤدّى شكر بعضها ولو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام أو كان البحر مدادا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت عزائمنا على الأبد منصورة، ومقاصدنا على
مصالح المسلمين مقصورة، وآراءنا تفوّض [زعامة]«1» الجيوش إلى من تصبح فرق الأعداء بفرقه مغزوّة وممالكهم بمهابته محصورة.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا نزال ننشر دعوتها في الآفاق، ونرهف لإقامتها في ممالكنا سيفا يصل [إلّا] ما أمر الله بقطعه ويقطع إلّا الأرزاق، ونرهب من ألحد فيها بكل وليّ لرعبه في القلوب ركض ولرايته في الجوانح خفق ولأسنّته في الصّدور إشراق، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله أشرف من فوّض حكما في أيّامه إلى من اعتمد عليه، وأرأف من استخلف على من بعد عنه من أمّته من يعلم أنّ صلاحهم في يديه، وألطف من عدق شيئا من أمور أهل ملّته بمن أعانه الله وسدّده في دفع عدوّهم وصلاح ما يرفع من أحوالهم إليه؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين ولّوا على الأمّة فعدلوا، وأمروا بما جبله الله عليه من الرأفة والنّعمة والرحمة فامتثلوا، وعلموا أنّ الحق فيما نهج لهم من طرق طريقته المثلى فما مالوا عن ذلك ولا عدلوا، صلاة لا تغرب شمسها،، ولا يعزب أنسها، ولا تعتبر أوقات إقامتها إلا ويقصّر عن يومها في الكثرة أمسها، وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن أولى ما أعملنا إليه ركائب الآراء المؤيّدة، وصرّفنا إليه أزمّة نجائب الأفكار المسدّدة، وأجلنا فيه طرف النظر الّذي لا يشقّ في بلوغ الغاية غباره ولا يدرك، وأحلنا الأمر فيه على التأييد الّذي هو عمدتنا فيما يؤخذ من ثواقب الآراء وما يترك، وقدّمنا فيه مهمّ الاستخارة الّذي يتلوه التوفيق، وعلمنا أنّ ألذّ أسباب الاهتداء إليه سلوك طريق النّصح لله ولرسوله وللإسلام فسلكنا إليه من ذلك الطريق؛ وقصرنا النيّة فيه على مصالح الأمة الّتي هي فرض العين «2» بل عين الفرض، وأطلنا الارتياد فيه لتعيّن من نرجو له ممّن عناهم الله بقوله:
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
«1» ، وندبنا له سيفا لم يزل في صدور الأعداء صدره وفي يد جبّار السموات قائمه، وأردنا لتقدمة الجيوش فيه زعيما طالما ملّ ضوء الصبح مما يغيّره ومل سواد الليل مما يزاحمه، وقدّمنا له من نشأ في حجر ولائنا، وغذّي بلبان برّنا وآلائنا، وشهد الوقائع بين يدينا، وخبرنا من سيرته النّهوض في الرعايا بما كتب الله لهم من الرأفة والرحمة علينا- أمر نيابة سلطنتنا الشريفة بالممالك الشاميّة الّتي نابت فيها مهابتنا، عن الإقامة فيها، وجعلتها عنايتنا، من أشرف ممالكنا التي نخصّها على البعد بدوام الملاحظة ونصفيها؛ وهي واسطة عقد ممالكنا، ومحطّ رحال طرقنا إلى جهاد الأعداء ومسالكنا، وهالة أهلّة سرّى القصد إلى لحظها في أديم الأرض مواقع سنابكنا، ومواطن القربات الّتي نصّت الآثار الصحيحة عليها، ومظانّ العبادات الّتي طالما نصّت ركائب العباد العبّاد إليها، ومقام الأبدال «2» الذين هم أهل دار المقامة، ومستقرّ طائفة الدّين الذين لا يزالون ظاهرين على أعدائهم لا يضرّهم من خذلهم إلى يوم القيامة، وفلك الثغور الّذي تشرق منه كواكب سعودها، وتتصرّف من نوئه إلى من جاورها من العدا خاطفات بروقها وقاصفات رعودها؛ فكم ذي جنود أمّها فهلك وما ملك، وسلك إليها بجيوشه فزلّت وتزلزلت قدمه حيث سلك؛ ولجيشها البأس الّذي وجود الأعداء به عدم، والحدّ الّذي يعرفه أهل السّياق و [إن]«3» أنكرته أعناقهم «فما بالعهد من قدم» .
وأن نفوّض [أمرها]«4» إلى من ينشر بها على الأمة لواء عدلنا، ويبسط فيها
بالرأفة والرحمة رداء فضلنا، ويحيي بها سنن الإحسان الّتي مبدأ أيامها غاية من سلف من قبلنا، ويقيم منار الملك من بأسه على أرفع عماد، وينيم الرعايا من عدله في أوطإ مهاد، ويكفّ أكفّ الظّلم [حتى لا يتجاسر]«1» إلى إعادة يده إليها عاد ومن عاد، ويجرّد إلى العدا من خياله وخيله سرايا تطرد عن موارد جفونهم بقوائمها الرّقاد، وتستعيد عواري أرواحهم من مستودعات أجسادهم فهي بحكم العاريّة «2» غير مستقرّة في الأجساد، ويصون الرّتب عن تطرّق من يفسد أحوالها لعدم أهليته: فإنّه ما سلك أحد في أيامنا طرق الفساد فساد، ويعلم به أنّا جرّدنا على العدا سيفا يسبق إليهم العذل «3» ، ويزاحم على قبض نفوسهم الأجل، وتتحلّى بتقليده الدّول، ويتحقّق بفتكه أنّه لا حاكم بيننا وبينهم إلّا السّيف الّذي إن جار فيهم فقد عدل.
ولذلك لما كان المجلس العالي الفلانيّ: هو الّذي اخترناه لذلك على علم، وقلّدناه أمور الممالك: لما فيه من حدّة بأس وآية حلم، وعجمنا عوده «4» فكان ليّنا على الأولياء فظّا على العدا، وبلونا أوصافه فعلمنا منه السّداد الّذي لا يضع به النّدى في موضع السّيف ولا السّيف في موضع النّدى، وعرضنا سداده على حسن اعتبارنا للأكفاء فكان سميرنا وحمل فزيّن معروضا وراع مسدّدا، وهززناه فكان سيفا ينصل «5» حدّه الخطب إذ أعضل، وأعطيناه أمر الجيوش فلم يختلف أحد في أنّه أفضل من الأفضل.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال يصطفي من الأولياء كلّ كفء كريم- أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشريفة بالممالك الشامية: تفويضا يعلي قدره، ويبسط في مصالح الملك والممالك أمره، ويطلق في مصالح الدولة القاهرة
سيفه وكلمه، ويدرّ على الأولياء إحساننا الّذي إذا جارى الغيث أخجل دوامه ديمه، ويرفع بالعدل منار دوام ملكنا الّذي قرنه الله للأمّة بجودنا، ويضيف باسترفاع الأدعية الصالحة لدولتنا من كل لسان جنود اللّيل «1» إلى جنودنا، وينظر في أمور الممالك الشامية نظرا عامّا، ويعمل في سداد ثغورها وسداد أمورها رأيا ثاقبا وفكرا تامّا، ويأمر النّوّاب من سدّ خللها بما كفايته أدرى به منهم، وينبّههم من مصالحها على ما ظهر لفكره المصيب وخفي عنهم، ويلاحظ أموال ما بعد من البلاد كملاحظته أموال ما دنا، وينظر في تفاصيل أمورها: فإنّها وإن كانت على السّداد فليس بها عن حسن نظره غنى، ويسلك بالرعايا سنن إنصافه الّتي وكلته معرفتنا به إليها، ويجريهم على عوائد الإحسان الّتي كانت من خلقه سجيّة وزدناه تحريضا عليها.
وهو يعلم أن الله تعالى قد أقامنا من الجهاد في أعدائه بسنّته وفرضه، ومكّن لنا في الأرض: لإقامة دعوته وإعلاء كلمته وتطهير أرضه، وعضّدنا بتأييده لنصرة الإسلام، وأمدّنا من عدد نصره بكلّ سيف تروّع الأعداء به اليقظة وتسلّه عليهم الأحلام، وبثّ سرايا جيوشنا برّا وبحرا: فهي إمّا سوار في البرّ تمرّ مرّ السّحاب أو جوار منشآت في البحر كالأعلام، ويتعاهد أحوال الجيوش الشاميّة كلّ يوم بنفسه، ويعدهم في غده بإعادة ما اعتبره من عرضهم في أمسه، ويرتّب أمر كلّ إقليم وحاله، ويتفقّد من يباشر بالتقدمة تقدّمه إلى الأطراف وارتحاله، ويأمرهم كل يوم بالتأهّب للعرض الّذي يباشره غدا بين يدينا، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به للأمير «جمال الدين أقوش الأشرفيّ» «2» في جمادى الأولى، سنة إحدى عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ شهاب الدين محمود الحلبيّ رحمه الله تعالى، وهي:
الحمد لله الّذي جعل الدّين في أيامنا الزّاهرة زاهيا بجماله، ساميا بتقديم من إذا أرهف في الذّبّ عنه بسيف عزمه غدت الجنّة تحت ظلاله، حاليا بتفويض زعامة جيوشه إلى من لو فاخر به البدور تعجّبت من نقصانها وكماله، عاليا بإيالة من تتولّد معاني النصر والظفر بين الكاملين: من رويّة رأيه وارتجاله، راقيا على هام الكفر بعزائم من لا يزال تصبّح مهابته العدا بطلائع خيله وتبيّتهم بطوارق خياله، ناميا بإسناد الحكم فيه إلى من يقطع إنصافه بين المبطل ورجائه ويصل العدل [منه]«1» بين المحقّ وبين آماله.
نحمده على نعمه الّتي أنامت الرّعايا من معدلتنا في أوطإ مهاد، وأدامت الدّعاء الصالح لأيامنا بإعلاء كلمتي العدل والجهاد، وأقامت الإيالة في أسنى ممالكنا بمن هو أجرى من الغيوث، وأجرأ من اللّيوث، في مصالح البلاد والعباد.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال الألسن لإقامتها مديمة، والضمائر على إدامتها مقيمة، والقلوب تعقد من كلمة إخلاصها وإخلاص كلمتها في جيد الإيمان تميمة، والتوحيد يظهر أنوارها في الوجوه الوسيمة، بمأمن مطالع القلوب السليمة.
ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي جبله على خلق عظيم، وجعله وإن تأخّر عصره من مقام النبوّة في أعلى رتب التقديم، ومنّ على الأمّة بإرساله إليهم من أنفسهم وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين دعوا إلى طاعته وأجابوا، وحكموا بسنّته وأصابوا، وجاهدوا المعرضين عن
ملّته حتّى رجعوا إلى الهدى وأنابوا، صلاة لا تغيب أنواؤها، ولا يفارق وجوه أهلها وقلوبهم رواؤها وإرواؤها، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنه- لما أجرانا الله عليه من عوائد نصره، وأغرانا به من حصد الشّرك وحصره، ومنحنا من بسطة ملك زيّنت بها أسارير البسيطة وأسرّتها، ووهبنا من فواتح فتوح علت على وجوه الكفر مساءتها وبدت على وجه الإسلام مسرّتها- لم نزل نؤدّي شكر نعم الله بالإحسان إلى عباده، ونستزيد منها بتفويض أمورهم إلى من يقوم في الذّبّ عنهم مقام الجيش على انفراده، فلا نقدّم على الرأفة بخلق الله أمرا، ولا نحابي في بسط المعدلة عليهم زيدا ولا عمرا، ولا نعدل بهم عمّن إذا ركب في موكب نيابتنا زانه وجمّله، وإذا جلس على بساط عدلنا زاده وكمّله، وإذا رسم أمرنا أصغت السّيوف إلى مراسمه، وإذا نظر بعين عنايتنا ثغرا أهدى الشّنب «1» إلى مباسمه، وإذا رام في مصالح الإسلام أمرا قرب على رأيه بعيده، وإذا جرّد جيشا إلى أعداء الإسلام جرّت قبل اللّقاء ذيول هزائمها، ورأت الفرار أمنع لها من صوارمها، ونثلت ما في كنائنها من سهام ضعفت عن الطّيران قوى قوادمها.
ولما كان الجناب العالي الفلانيّ هو معنى هذه الفرائد، وسرّ هذه الأوصاف الّتي للشّرك منها مصائب هي عند الإسلام فوائد، وفارس هذه الحلبة، التي أحرز [قصب]«2» سبقها، وكفء هذه الرّتبة، التي أخذها دون الأكفاء بحقّها؛ لا تأخذه في الحقّ لومة لائم، ولا يأخذ أمر الجهاد إلا بجدّه «وما ليل المجدّ بنائم» يسري إلى قلوب الأعداء رعبه وهو في مكانه، وتؤدّي مهابته في نكاية الكفر فرض الجهاد قبل إمكانه، ويشفع «3» العدل في الرعايا بالإحسان
إليهم ويجمع بين إرهاب المعتدين وشدّة الوطأة عليهم، ويقف في أحكامه مع الشريعة الّتي أعلى الله تعالى منارها، ويستضيء بأحكامها الّتي هي لأبصار النّظّار تعير أنوارها.
وكانت المملكة الشامية المحروسة من الممالك الإسلامية بمنزلة القوّة في اليمين، والواسطة في العقد الثّمين، والإدراك في الصّدور، والإشراق في البدور، وبها الأرض المقدّسة، والحصون التي هي على نكاية الأعداء مؤسّسة، ولها الجيوش الّتي ألفت في الجهاد السّرى «1» وأنفت لسيوفها في الجفون الكرى، ومرّت على مقاتل العدا أسنّتها، وصرّفت في مسالك الحرب أعنّتها، وراعت ملوك أهل الكفر سمعة أمرائها، وحاطتها أمداد النّصر في حروبها من بين يديها ومن ورائها؛ وفيها من الأئمة العلماء الأعيان من يعدل دم الشهداء مداد أقلامهم، ومن الأتقياء الصّلحاء من لا تطيش دون مقاتل أهل الكفر مواقع سهامهم- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نمتّع هذه الرتبة السنيّة بجمالها، وأن نبلّغ هذه الدرجة السريّة بمن حوى هذه الأوصاف الفاخرة غاية آمالها، ليصبح بها لواء عدلنا، مرفوع الذوائب، ومنهل فضلنا، مدفوع الشوائب، وكلمة جهادنا، نافذة في المشارق والمغارب، وقبضة بأسنا، آخذة من أعداء الدين بالذّرا والغوارب «2» ، وطليعة كتائبنا مؤتمّة بمن توقن الطّير أنّ فريقه إذا ما التقى الجمعان أوّل غالب.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زالت صوارمه للشّرك قامعة، ومراسمه لمصالح الدين والدنيا جامعة- أن تفوّض إليه تفويضا يرفع علمه، ويمضي في مصالح الإسلام سيفه وقلمه، وينشر في آفاق الممالك الشامية عدله، ويبسط على رعايا تلك الأقاليم المحروسة فضله وظلّه، فيطلع في أفق المواكب هالة أهلّتها، وطراز حلّتها، وطلعة لوائها، وواسطة عقود مقدّمها وآرائها، وزينة
تسييرها ووقوفها، وحلية طلائعها وصفوفها، ويجلس في مواطن الجلوس صادعا بالحق في حكمه، آمرا بإدامة التأنيب للعدوّ في أيام سلمه، معطيا منصب النيابة الشريفة حقّه من الجلالة، موفيا رتبتها المنيفة ما يجب لها من أبّهة المهابة وكفاءة الكفالة، ولا يزال لمصالح الجيوش المنصورة ملاحظا، وعلى إزاحة أعذارهم محافظا، وإلى حركات عدوّ الإسلام وسكناته متطلّعا، وإلى ما يتعين من إبطال مكايده متسرّعا، ولبواطن أحوالهم بحسن الاطلاع محقّقا، ولجموعهم بيمن الاجتماع للقائهم مفرّقا، فلا يضمرون مكيدة إلّا وعلمها عنده قبل ظهورها لديهم، ولا يسرّون غارة إلا ورايتا خيله المغيرة أسبق منها إليهم.
وليكن لمنار الشّرع الشريف معليا، ولأقدار أربابه مغليا، ولرتب العلماء رافعا، ولأقوالهم في الأحكام الشرعية سامعا، ولذوي البيوت القديمة مكرما، ولأهل الورع والصّلاح معظّما، وعلى يد الظالم ضاربا، وفي اقتناء الأدعية الصاّلحة لدولتنا القاهرة راغبا، ولجميل النّظر في عمارة البلاد مديما، وبحسن الفكر في أمور الأموال معملا رأيا بمصالحها عليما، ولجهات البرّ بجليل العناية والإعانة عامرا، وعن كل ما لا يجب اعتماده ناهيا وبكل ما يتعين فعله آمرا. وفي كمال خلاله، وأدوات جماله، ما يغني عن الوصايا إلّا على سبيل الذّكرى الّتي تنفع المؤمنين، وترفع المتقين؛ وملاكها تقوى الله تعالى وهي من خصائص نفسه الكريمة، وعوائد سيرته الحديثة والقديمة؛ والله تعالى يسدّده في القول والعمل، ويؤيّده وقد فعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب بها للأمير «سيف الدين تنكز الناصريّ» «1» في ربيع الأوّل سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، من إنشاء الشيخ
شهاب الدين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله مفوض أسنى الممالك في أيامنا الزاهرة إلى من تزهو بتقليده، ومشيّد قواعد أسمى الأقاليم في دولتنا القاهرة بمن يعلو بإيالته ما يلقى إليه معاقد مقاليده، ومسدّد الآراء في تصريف أعنّة جيوشنا المنصورة بتقديم من تغدو سيوفه من عنق كلّ متوّج من العدا قلادة جيده، وناشر لواء العدل في رعايانا وإن بعدوا بمن تنيم كلّا منهم في مهد الأمن والدّعة يد مهابته وتمهيده، ومعلي منار الجهاد في سبيله بمن إذا جرّد سيفه في وغى تهلّلت نواجذ أفواه المنايا الضواحك بين تجريبه وتجريده.
نحمده على نعمه الّتي أيّدت آراءنا بوضع كلّ شيء في مستحقّه، وقلّدت سيف النّصر من أوليائنا من يأخذه في مصالح الإسلام بحقّه، وجدّدت آلاءنا لمن إذا جارت الحتوف سيوفه إلى مقاتل العدا فاتها وفاقها بمزيّتي كفايته وسبقه.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا تزال ألسنتنا ترفع منارها، وسيوفنا تصلي من جحدها قبل نارها، وآراؤنا تفوّض مصالح جملتها إلى من إذا رجته لنصرة أنالها وإذا أسدى معدلة أنارها.
ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أيّده الله بنصره، وجعله سابق من تقدّم من الرّسل على عصره، وآتاه من الفضائل ما يضيق النّطق عن إحصائه ومن المعجزات ما يحول الحصر دون حصره؛ صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين تمسّكوا بهداه، وهجروا في طاعته من عاداه، ونهضوا في رضا الله تعالى ورضاه إلى مظانّ الجهاد وإن بعد مداه، صلاة يشفعها التسليم، ونبتغي إقامتها عند الله والله عنده أجر عظيم، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإنّ أولى ما أعملنا في مصالحه الفكر، وتدبّرنا أحواله بكل رأي يسدّده الحزم المروّى ويؤيده الإلهام المبتكر، وقدّمنا فيه الاستخارة على ما جزم اليقين بأنّ الخيرة للإسلام والمسلمين في اعتماده، وتمسّكنا فيه بحبل التوفيق الذّي ما زال تتكفّل لنا في كلّ أمر بسداده وفي كلّ ثغر بسداده- أمر الممالك
الشامية الّتي هي واسطة عقد الممالك، ومجتمع ما يفضي إلى مواطن النّصر من المسالك، ومركز فلك الأقاليم الّذي تنتظم عليه بروج ثغورها، ونقطة دائرة الحصون الّتي منها مادّتها وعليها مدار أمورها، وغيل «1» ليوث الحرب الّتي كم أنشبت أظفار أسنتها في طرّة ظفر، ومواطن فرسان الوغى الّتي كم أسفر عن إطلاق أعنّتها إلى غايات النّصر وجه سفر، وأن نرتاد لكفالة أمورها، وكفاية جمهورها، وحماية معاقلها المصونة وثغورها، وزعامة جيوشها، وإرغام طارقي أطرافها من أعداء الدين وثلّ عروشها، من جرّده الدّين فكان سيفا على أعدائه، وانتقاه حسن نظرنا للمسلمين فكان التوفيق الإلهيّ متولّي جميل انتقاده وانتقائه، وعجمنا عود أوصافه فوجدناه قويّا في دينه، متمكّنا في طاعته بإخلاص تقواه وصحّة يقينه، متيقّظا لمصالح الإسلام والمسلمين في حالتي حركته وسكونه، آخذا عنان الحزم بيسر يسراه وسنان العزم بيمن يمينه، واقفا مع الحق لذاته، مقدّما مشاقّ الجهاد على سائر مآربه ولذّاته؛ ماضيا كسيفه إلّا أنه [لا]«2» يألف كالسيف الجفون «3» ، راضيا في راحة الآخرة بمتاعب الدّنيا ومصاعبها فلا يرعى في مواطن الجهاد إذا حلّها أكناف الهوينا ولا روض الهدون «4» ، مانعا حمى الإسلام لا «حمى الوقبى بضرب» يفرّق بين أسباب الحياة و «
يؤلّف بين أشتات المنون
» «5»
ولما كان فلان هو الّذي تشوّفت هذه الرتبة إلى أن تتجمّل به مواكبها، وتتكمل به مراتبها، وتنتظم على دسته هالة أمرائها كما تنتظم على هالة بدر السماء كواكبها؛ فإذا طلع في أفق موكب أعشت الأعداء جلالته، وأعدت الأولياء بسالته، وسرى إلى قلوب أهل الكفر رعبه، وفعل فيهم سلمه ما يفعل من غيره حربه، وإذا جلس على بساط عدل خرس الباطل، وأنجز ما في ذمّته الماطل، وتكلّم الحقّ بملء فيه، وتبرّأ الباطل حتّى ممن يسرّه ويخفيه، وإن نظر في مصالح البلاد أعان الغيث على ريّها برفقه، وأعاد رونق عمارتها بكفّ أكفّ الظلم ووصول كلّ ذي حقّ إلى حقّه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نجعل فنون أفنانه بيمن إيالته دانية القطوف، وأن نصير جنّتها تحت ظلال سيفه: فإن «الجنة تحت ظلال السّيوف» .
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال زمن عصره، موّرّخا بالفتوح، وسيف نصره، على من كفر دعوة نوح- أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس: تفويضا يحسن به المناب في تلك الممالك عنّا، وينشر فيها من العدل والإحسان ما يلقّاه منّا، ويلبسها من حلل المهابة ما يضاعف به أمن سربها، وتصبح به السّيوف المجرّدة أحفظ لها من قربها، ويطلع في أفق مواكبها الجليلة طلوع الشّمس الّتي يعمّ نفعها، ويعشي النّواظر لمعها، ويجلس في دست نيابتنا حاكما فيها بأمرنا، جازما بحكم الشرع الشريف الّذي قد علم أنه حلية سرّنا وجهرنا، ناشرا من مهابة الملك ما ترجف له القلوب من العدا، وتصبّحهم به سرايا رعبه على بعد المدى، ملزما من قبله من الجيوش المنصورة بمضاعفة إعداد القوّة، وإدامة التّأهّب الّذي لا تبرح بسمعته بلاد أهل الكفر مغزوّة، مطّلعا على أحوال العدا بلطف مقاصده، ونكاية مكايده، وحسن مصادره في التدبير وموارده؛ فلا يبرمون أمرا إلا وقد سبقهم إلى نقض مبرمه، ولا يقدّمون رجلا إلا وقد أخّرها بوثبات إقدامه وثبات قدمه. وليعظّم منار الشرع الشريف بتكريم حكّامه، والوقوف مع أحكامه، ويرفع أقدار حملة العلم بترفيه أسرارهم، وتسهيل مآربهم وأوطارهم، وليعمّ الرعايا بعدله وإنصافه، ويسترفع
لنا أدعية الأولياء والصّلحاء بإسعاده وإسعافه. وفي خصائص أوصافه الكريمة، وسجاياه الّتي هي لمصالح الإسلام مستديمة، ما يغني عن تشّدد في القول والعمل، والله تعالى يؤيده وقد فعل، ويجعله من أوليائه المتقين وقد جعل، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام، كتب به للأمير «يلبغا الكامليّ» «1» بعد نيابته بحلب وحماة، من إنشاء المقرّ الشّهابيّ «2» بن فضل الله، وهي:
الحمد لله مجري الأقدار، برفعة الأقدار، ومثري آمال من حسنت له في خدمتنا الآثار، بمواهب العطايا والإيثار، وممري غروس نعم أوليائنا الّتي رعى عهدها عهاد سحب جودنا الغزار، جاعل أصفياء مملكتنا الشريفة كلّ حين في ازدياد، ومانح المخلصين في خدمتنا مزيد الإسعاف والإسعاد، وفاتح أبواب التأييد بسيوف أنصارنا الّتي لا تهجع في الأغماد.
نحمده على مواهب نصره، ونشكره على إدراك المآرب من جوده الّذي يعجز لسان القلم عن حصره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تؤيد قائلها في مواقفه، وتجمع له من خير الدّنيا بين تالده وطارفه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي هدى الله به هذه الأمة من الضّلال، وفضّل به المجاهدين حيث جعل الجنّة تحت ما لسيوفهم من ظلال، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاة لا انفصام لعروتها ولا انفصال، ولا انقضاء لأسبابها ولا زوال، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن أولى من انتدب لحفظ ممالك الإسلام، وأتمن على صونها بعزمه الّذي لا يسامى ولا يسام، وأسند إليه من أمور الرعايا بأجلّ الممالك ما يقضي بمزيد التكريم، واعتمد على صيانته وديانته لمّا شهد الاختبار بأنه أهل للتقديم، وجرّبت الدول مخالصته، وتحقّق اهتمامه الّذي بلّغه من العزّ غايته، وأثنت على حسن سيرته وسريرته سوابق خدمه، وشكر اهتمامه في المخالصة التي أعربت عن عزمه، ففاق أشباها وأنظارا، وكفل الممالك الشريفة الحلبيّة والحمويّة فأيّدها أعوانا وأنصارا، وبسط فيها من العدل والإنصاف ما أعلى له شأنا ورفع له مقدارا، وسلك فيها مسلكا شنّف أسماعا وشرّف أبصارا.
ولما كان المقرّ الكريم (إلى آخره) هو صاحب هذه المناقب، وفارس هذه المقانب «1» ، ونيّر هذه الكواكب، كم أبهج النفوس بما له من عزم مشكور، وحزم مأثور، ووصف بالجميل موفور.
فلذلك رسم بالأمر الشريف- لا زال لسيف أوليائه مرهفا، ولا برح لأخصائه مسعدا ومسعفا- أن تفوّض إلى المشار إليه نيابة السّلطنة الشريفة بالشام المحروس، على أجمل عوائد من تقدّمه في ذلك وأكمل قواعده. فليتناول هذا التقليد الشريف بيد لم يزل لها في الولاء الباع المديد الطويل، ويتلقّ هذا الإحسان بالشّكر الّذي هو بدوام النعمة خير كفيل، ويضاعف ما هو عليه من اهتمام لم يزل منه مألوفا، واعتزام إذا لاقى غيره مهمّا واحدا لاقى هو ألوفا، ويمعن النظر في مصالح هذه المملكة الشامية المحروسة، ويعتمد من حسن تدبيره ما تغدو ربوعها بحسن ملاحظته عامرة مأنوسة. وهو يعلم أن العدل من شيم دولتنا الشريفة، وسجيّة أيامنا الّتي هي على هام الجوزاء منيفة؛ فليسلك سننه، ويتبع فرضه وسننه، ويعلم أنّ عدل سنة خير من عبادة ستين سنة، ولينشر على الرعايا ملابسه الحسنة، ويعظم الشّرع الشريف وحكّامه، ويعيّن الإقطاعات لمن يستحقها من الأيتام أو يوجب الاستحقاق إكرامه؛ والله تعالى
يجعل السّعد خلفه وأمامه، ويؤيّده تأييدا يبلّغه مراده من النّصر ومرامه، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد بكفالة السلطنة بالشام:
الحمد لله الّذي طهّر الشّام وقدّسه، وصانه وحرسه، وجعل لسلطاننا فيه قواعد بالنّصر مؤسّسة، وأنوارا للهدى مقتبسة، وكفله بمن إذا صفّ له العدوّ افترسه، وأذلّه وأركسه «1» ، وأرغم معطسه، وقطف بسيفه أرؤسه، ومن يعطى النّصر إذا امتطى فرسه، ومن كرّم الله نفسه، وكثّر أنسه، وعطّر نفسه، ومن ينصف المظلوم من ظالمه ويبلّغ السائل ملتمسه، ومن لبس ثوب العفاف والتّقى فكان خير ثوب لبسه.
نحمده على أصل جود غرسه، وعارض سوء حبسه، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أزالت الشّرك ومحت نجسه، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله الّذي أنبع الله من أصابعه عينا منبجسة، واخضرّ العود اليابس لمّا لمسه، وأضعف الوساوس المختلسة، وانتزع الحقّ ممن بخسه، وحماه الله من الشيطان لما ولد فما نخسه، ونوّر القلب الّذي خيم عليه الضلال وطمسه، وكان الشّرك قد انبثّ في الأرض فطواه دينه وكبسه، ومحاه ودرسه، وجاء بالقرآن فطوبى لمن تلاه ودرسه، وأنزل عليه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
«2» صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أولج الله اللّيل في النهار وغمسه، وميّز بنصف العدد من الثلث سدسه، وسلّم تسليما كثيرا.
أما بعد، فإن الشّام هو عقد النّظام، وأجل ممالك الإسلام، ومعدن النّصر الذي بروقه تشام، ومستقرّ البركات الوسام، وعسكره أفضل عسكر في حسن
الاعتزاء والاعتزام، لا يرهبون الحمام، ويخوضون لجج المنون بالحسام، ونيابة السلطنة الشريفة به من أجلّ النيابات مقدارا، وأكرمها آثارا، وأعزّها أنصارا؛ إذ هو تلقاء أوامرنا الشريفة المنطوية عليها أسرار البريد، ومن عنده تتفرّع المهمات للقريب والبعيد، وعنه يصدر البريد، وإليه يرد بكل ثناء جديد، ومنه يأتي إلى مسامعنا الشريفة بما نريد، فلا يحلّ دار سعادتها إلا من هو منصور سعيد، وذو رأي سديد، وحزم حديد، وقد اخترنا لها بحمد الله كفأها المعيد.
ولما كان فلان هو الضّاري على العدا، والغيث المتوالي النّدى، والهمام الذي جرّد سيف عزمه أبدا فلا يرى مغمدا، واتّصف بحسن الصفات فما ساد سدى، قد تجملت الممالك بآرائه وراياته، وثباته ووثباته، وروض تدبيره وطيب نباته، وحسن اعتماده في خدمة ملكنا الشريف ومهمّاته؛ إن ذكرت الموالاة الصادقة كان راوي مسندها، وحاوي جيدها، والآوي إلى ظلّها المديد وطيب موردها؛ وإن ذكرت الشجاعة كان زعيم كتائبها، ومظهر عجائبها، وليث مضاربها، ومجرّد قواضبها، وفارس جنائبها «1» ، ومطلب أطلابها ومنجح مطالبها، ومجلّي غياهبها- اقتضى حسن الرأي الشريف أن يعقد عليه لواء الاحتشام، في الشام، وأن يخصّ بالبركات، المخلّصة من الدّركات.
فلذلك رسم بالأمر الشريف أن تفوّض إليه نيابة السلطنة الشريفة بالشام المحروس، على عادة من تقدّمه وقاعدته، وأن يكون داخلا في نيابته الشريفة ما هو مضاف إلى الشام المحروس: من ممالك وقلاع، ومدن وضياع، وثغور ومواني، وسواحل في أقاص وأداني، تفويضا اتّسقت درره، وأشرقت غرره، وتليت آياته وسوره.
فليمهّد بالعدل أكناف البلاد، ولينظر بعين الرعاية والسّداد، ولينشر لواء