الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النيابة الثانية (من نيابات البلاد الشامية- نيابة حلب. ووظائفها الّتي يكتب بها من الأبواب السلطانية على نوعين)
النوع الأوّل (من بحاضرة حلب، وهم على أصناف)
الصنف الأوّل (منهم أرباب السّيوف، وهم على طبقتين)
الطّبقة الأولى (من يكتب له تقليد، وهو نائب السّلطنة بها؛ وتقليده في قطع الثّلثين ب «الجناب الكريم» )
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة السلطنة بحلب، كتب به للأمير أستدمر «1» من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله حافظ ثغور الإسلام في أيّامنا الزاهرة، بمن يفترّ عن شنب النّصر سيفه، وناظم نطاق الحصون في دولتنا القاهرة، على همم من لم يزل يغزو عدوّ الدّين قبل طلوع طلائعه طيفه، وناشر لواء العدل في أسنى ممالكنا بيد من لا يؤمن في الحق فوته ولا يرهب في الحكم حيفه، ومدّخر [أجر]«2» الرّباط في سبيله لمن لم يبت ليلة إلا والتأييد نزيله والنّصر سميره والظّفر ضيفه، الذي جعل الجهاد في أطراف الممالك المحروسة سورا لعواصمها،
والصّعاد «1» في مقاتل أعداء الدّين شجنا في صدورها وشجى في غلاصمها، والسّيوف الحداد تزهى بمشاركتها لاسم من بليت منه أجساد أهل الكفر بقاسمها، ورميت منه أعمارهم بقاصمها، وأرهف لهذا الأمر من أوليائنا سيفا تتحلّى الشّهباء «2» بجواهر فرنده، وتتوقّع الأعداء مواقع فتكاته قبل تألق برقه من سحب غمده، ويعرف أهل الكفر مضاربه الّتي لا تطيق مقاتلهم جحدها، وتتفرّق عصب الضلال فرقا من مهابته الّتي طالما أغارت على جيوشهم المتعدّدة وحدها.
نحمده على نعمه الّتي جعلت النّصر لأجياد ممالكنا عقودا، والكفر للهب صوارمنا وقودا، والتّأييد من نتائج سيوفنا الّتي تأنف أن ترى في مضاجع الغمود رقودا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تعلي منار الهدى، وتطفيء أنوار العدا، وتخلي أجساد أهل الكفر من قوى أرواحهم فتغدو كديارهم الّتي لا يجيب فيها إلا الصّدى، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أعلى الله بناء الإيمان بتأذينه، وأيّدنا في الذّب عن ملّته، بكل وليّ يتلقّى راية النّصر بيمينه، وأعاننا على مصالح أمّته، بكلّ سيف تتألّق نار الأجل من زنده ويترقرق ماء الحياة من معينه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وسمت أسنّتهم من وجوه الكفر أغفالا، وكانت سيوفهم لمعاقل أهل الشّرك مفاتح فلمّا فتحت غدت لها أقفالا؛ فمنهم من فاز بمزيّة السّبق إلى تصديقه، ومنهم من كان الشيطان ينكّب عن طريقه، ومنهم من أمر بإغماد سيف الانتصار لدمه عن مريقه، ومنهم من حاز رتبة أختانه وصهره دون أسرته الكرام وفريقه، صلاة دائمة الخلود، مستمرّة الإقامة في التّهائم والنّجود، وسلّم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أولى من حلّيت التقاليد بلآليء أوصافه، وملئت الأقاليم
بمواقع مهابته وإنصافه، وريعت قلوب العدا بطروق خياله قبل خيله، وخاف الكفر كلّ شيء أشبه ظباه من توقّد شموس نهاره أو حكى أسنّته من تألّق نجوم ليله، ومدّ على الممالك من عزماته سور مصفّح بصفاحه، مشرّف بأسنّة رماحه، سامية على منطقة الجوزاء منطقة بروجه، نائية على أمانيّ العدا مسافة رفعته فلا يقدر أمل باغ على ارتقائه ولا رجاء طاغ على ولوجه- من تمهّدت بسداد تدبيره الدّول، وشهدت بسير محاسنه السّير الأول، وتوطّدت الممالك على أسنّته فحقّقت أنّ أعلى الممالك ما يبنى على الأسل، وسارت في الآفاق سمعته فكانت أسرى من الأحلام وأسبق من الأوهام وأسير من المثل، وصانت الثّغور صوارمه فلم يشم برقها إلا أسير أو كسير، أو من إذا رجع إليها بصره انقلب إليه البصر خاسئا وهو حسير، وزانت الأقاليم معدلته فلا ظلم يغشى ظلامه، ولا جور يخشى إلمامه، ولا حقّ تدحض حجّته ولا باطل يعلو كلامه؛ فالبلاد حيث حلّ بعدله معمورة، وبإيالته مغمورة، وسيوف ذوي الأقلام وأقلامهم بأوامره في مصالح البلاد والعباد منهيّة ومأمورة.
ولما كان الجناب العالي هو الّذي عانق الملك الأعزّ نجاده، واللّيث الّذي لم يزل في سبيل الله إغارته وإنجاده، والكميّ الّذي كم له في جهاد أعداء الله من موقف صدق يضلّ فيه الوهم وتزلّ فيه القدم، والهمام الّذي إن أنكرت أعناق العدا مواقع سيوفه «فما بالعهد من قدم» ، والمقدام الّذي لا ننكر مشاهده في إرغام الكفر ولا تكفر، والزعيم الّذي حمت مهابته السّواحل فخاف البحر:
وهو العدوّ الأزرق، من بأسه الأحمر، على بني الأصفر، والمقدّم الّذي كم ضاقت بسرايا شيعته الفجاج،! وكم أشرقت نجوم أسنّته من أفق النّصر في ظلم العجاج،! وكم حمى العذب الفرات على البعد بسيوفه وهي مجاورة للملح الأجاج!!، مع سطوة أنامت الرّعايا في مهاد أمنها، ورأفة عمرت البرايا بعاطفة إقبالها ويمنها، ورفق تكفّل لسهل البلاد وحزنها بإعانة مزنها، وشجاعة أعدّت الجيوش الّتي قبله فغدت آحادها ألوفا، وفتكات عوّدت الطّير الشّبع من وقائعه فباتت على راياته عكوفا، ومعدلة عمّت من في إيالته فأضحى الضّعيف في
الحقّ قويّا عنده والقويّ في الباطل ضعيفا.
وكانت البلاد الحلبيّة المحروسة هي المملكة الّتي لا تجارى شهباؤها في حلبة فخار، والرّتبة الّتي لا يؤهّل لها من خواصّ الأولياء الأعزّة إلّا من استخرنا الله تعالى في تقليد جيد مفاخره بلآليء كفالتها فخار؛ فهي سور الممالك الّذي لا تتسوّره الخطوب، وأمّ الثّغور الّتي ما برح يسفر بابتسامها عن شنب النّصر وجه الزمن القطوب، وموطن الرّباط الّذي كلّ يوم وليلة [فيه]«1» خير من الدّنيا وما فيها، وعقيلة الأقاليم الّتي كم أشجى قلوب الملوك الأكابر صدودها وأسهر عيون العظماء الأكاسرة تجافيها؛ بل هي عقد درّه حصونه، وروض سيوف الكماة جداوله ورماح الحماة غصونه، وحمّى لم تزل عيون عنايتنا بعون الله تحفّه وأيدي تأييدنا بقوّة الله تصونه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نرهف بحمايتها هذا السّيف الّذي تسابق الأجل مضاربه، وتبطل الحيل تجاربه، ويتقدّم خبر عزائمه خبرها فلا يدرى: هل ريح الجنوب أسرى وأسرع أم جنائبه «2» ، وتبثّ مهابته أمام سراياه إلى العدا سرايا رعب تفلّ جمعهم، وتسبق إلى التّحرز من بأسه بصرهم وسمعهم، وتسفر بكل أفق عن [شيعة]«3» مغيرة، أو كتيبة تجعلها لمعالي النصر الكامنة مثيرة.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف العالي- لا زالت أوامره مبسوطة في البسيطة، وممالكه محوطة بمهابته الشّاملة ومعدلته المحيطة- أن تفوّض إليه نيابة السّلطنة الشّريفة بالمملكة الحلبيّة: تفويضا يعوّذها من عيون العدا بآيات عزائمه، ويعوّدها اجتناء ثمر المنى والأمن من ودق صوارمه، وينظم دراريّ الأسنّة من أجياد حصونها في مكان القلائد، ويجعل كماة أعدائها لخوفه أضعف من الولدان وأجبن من الولائد، ويجرّد إلى مجاوريها من همّته طلائع تحصرهم في
الفضاء المتّسع، وتسدّ عليهم مجال الأرض الفسيحة فيغدو لهم حزنها «1» الحزن الشّامل وسهلها السّهل الممتنع.
فليتقلّد هذه الرتبة الّتي بمثلها تزهى الأجياد، وبتقلّدها يظهر حسن الانتقاء لجواهر الأولياء والانتقاد، وبتفويضها إلى مثله يعلم حسن الارتياد لمصالح البلاد والعباد، وليزد جيوشها المنصورة إرهابا لعدوّهم، وإرهافا لصوارم الجهاد في رواحهم وغدوّهم، وإدامة للنّفير «2» الذي حبّبه الله إليهم، وقوّة على مجاوريهم من أهل النّفاق الذين يحسبون كلّ صيحة عليهم «3» ، فإنّهم فرسان الجلاد الذين ألفوا الوقائع، وأسوار الفرات الذين عرفوا في الذّبّ عن ملّتهم بحفظ الشّرائع، وكشّافة الكرب الذين لا يزال لهم في سائر بلاد العدا سرايا وعلى جميع مطالع ديار الكفر طلائع؛ وهم بتقدمته تتضاعف شجاعتهم، وتزيد استطاعتهم وطاعتهم؛ وليأخذهم بمضاعفة الأهب وإدامة السّعي في حفظ البلاد والذّب، والتشبّه بأسود الغابات الّتي همّها في المسلوب لا السّلب؛ وليهتمّ بكشف أحوال عدوّ الإسلام ليبرح «4» آمنا على الأطراف من حيفهم، متيقّظا لمكايدهم في رحلتي شتائهم وصيفهم، مفاجئا في كلّ منزل بسير يروّع سربهم، ويكدّر شربهم، ويجعل روح كلّ منهم من خوف قدومه نافرة عن الجسد، ويسلبهم بتوقّع مفاجأته القرار «ولا قرار على زأر من الأسد» ، ولا تزال قصّاده بأسرار قلوب الأعداء مناجية [ولا تبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية]«5» وليحتفل بتدريج الحمام الّتي هي رسل أعنّته، وإقامة الدّيادب الذين إذا دعوا همهمة بألسنة النّيران لبّتهم ألسنة أسنّته؛ وليمت قلوب أعدائه بوجل
لقائه قبل الأجل، وليزد في الحزم على ابن مزيد الّذي لم ير في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدّهر أن يدعى على عجل» «1» ، وليجعل أحوال القلاع المحروسة دائما بمرأى منه ومسمع، ويشيّدها من ملاحظته باحتفال لا يدع لشائم برقها وحمول أموالها [مطمعا]«2» فقد استكمل حسن النّظر في مصالحها أجمع، وليقم منار الشّرع الشّريف بمعاضدة حكّامه، والانقياد إلى أحكامه، والوقوف مع نقضه وإبرامه:
فليجعل حكم الشريعة المطهّرة أمامه وإمامه، وليقم أمر الله فيمن اقتاده الشرع إلى حكمه فجاذب زمامه، وليعظّم حملة العلم الّذي أعلى الله مناره، وأفاض على الأمّة أنواره، وحفظ بهم على الملّة سنّة نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثاره، وليكن لأقدارهم رافعا، ولمضارّهم دافعا، ولأوقافهم بجميل الاحتفال عامرا، وفي مصالحهم بتحلية الأحوال آمرا، ولينشر لواء العدل الّذي أمر الله بنشره، ويشفعه بالإحسان الّذي هو مألوف من سجاياه ومعروف من طلاقة بشره، ويمدّ على الرّعايا ظلّ رأفته الّذي يضفي في النّعم لباسهم، ويديم إلفهم بالرّفاهية واستئناسهم، ويقم حكم سياسته على من لم يستقم، ويقف مع رضا الله تعالى في كلّ أمر: فإذا رحم فلله فليرحم وإذا انتقم فلغير الله لا ينتقم، وليعتن بعمارة البلاد ببسط العدل الّذي ما احتمى به ملك إلّا صانه، والرّفق الّذي لم يكن في شيء إلّا زانه، وتوخّي الحقّ الّذي من جعله نصب عينيه وفّقه الله له وأعانه. وكذلك أمر الأموال: فإنّها ذخيرة الملك وعتاده، ومادّة الجيش الّذي إذا صرفت إلى مصالحهم هممه لم يخش عليه انقطاعه ولا نفاده؛ وجميع الوصايا قد ألفنا من سيرته فيها فوق ما نقترح، وخبرنا من مقاصده فيها ما يقول للسان قلمها: قد عرفت ما أومأت إليه من مقاصدك فاسترح؛ وملاكها تقوى الله تعالى
ورضانا، وهو المألوف من عدله وإنصافه؛ والله تعالى يديمها بتأييده وقد فعل، ويجعله من أركان الإسلام وأعلام المسلمين وقد جعل، بمنّه وكرمه؛ والاعتماد
…
«1» . إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة تقليد شريف بنيابة حلب أيضا، كتب بها عن السلطان الملك النّاصر «محمد بن قلاوون» للأمير شمس الدّين «قراسنقر» «2» باعادته إليها، من إنشاء الشيخ شهاب الدّين محمود الحلبيّ، وهي:
الحمد لله الّذي جعل العواصم بإقامة فرض الجهاد في أيّامنا الشريفة معتصمة، والثّغور بما تفترّ عنه من شنب النّصر في دولتنا القاهرة مبتسمة، والصّوارم المرهفة في أطراف الممالك بأيدي أوليائنا لأرواح من قرب أو بعد عنها من الأعداء مقتسمة، والحصون المصفّحة بصفاحنا بأعلام النّصر معلمة وبسيما الظّفر متّسمة، معلي قدر من أحسن في مصالح الإسلام عملا، ورافع ذكر من يبسط إلى عزّ طاعة الله ورسوله وطاعتنا أملا، ومجدّد سعد من تلبس الأقلام من أوصافه أفخر الحلل إذا خلعت من المحامد على أوصافه حللا، ومفوّض زعامة الجيوش بمواطن الرّباط في سبيله إلى من إذا فلّلت مقاتل العدا سيوف الجلاد كانت عزائمه من السيوف المرهفة بدلا.
نحمده على نعمه الّتي جعلت طاعتنا من آكد أسباب العلوّ، وخدمتنا من أنجح أبواب الرّفعة بحسب المبالغة في الخدمة والغلوّ، ونعمنا شاملة للأولياء بما يربي على طوامح الآمال في البعد والدّنوّ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تستنزل بها موادّ النّصر والظّفر، وتستجزل بها ذخائر التأييد الّتي كم أسفر عنها وجه سفر، وترهف بها سيوف الجهاد الّتي كم آلفت من آمن
وكفت من كفر، ونشهد أنّ محمدا عبده ورسوله الّذي أنزل سكينته عليه، وزويت «1» له الأرض فرأى منها ما يبلغ ملك أمّته إليه، وعرضت عليه كنوز الدّنيا فأعرض عمّا وضع من مقاليدها بيديه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين رضي الله عنهم، ونهضوا بما أمروا به من طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر منهم، صلاة دائمة الظّلال، آمنة شمس دوامها من الزّوال، وسلّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد، فإن أولى من طوّقت أجياد الممالك بفرائد أوصافه، وفوّقت إلى مقاتل العدا سهام مهابته الّتي تحول منهم بين كلّ قلب وشغافه، وخصّت به أمّ الثّغور الّتي درّ لها حلبها، ومدّت عليها أفياء النّصر الممدودة ذوابلها وقضبها، وأهدى أرج التّبلّج افترارها وشنبها- من تقوم مهابته مقام الألوف، وتجتني سمعته من ذوابل العزائم ثمر النّصر المألوف، ويسبق خياله سرايا خيله الّتي هي أسرى من هوج الرّياح إلى هزم الجموع وتفريق الصّفوف، وتنظم أسنّة رماحه في الوغى قلوب العدا نظم السّطور وتنثر صفاحه رؤوسهم نثر الحروف، وتحيط بنطاق الممالك المتطرّفة صوارمه إحاطة الأسوار بالحصون، والخمائل بالغصون، والهالات بالأقمار، والجوانح بالأسرار، ولا تبيت ملوك العدا منه إلّا على وجل، ولا يرى في الأمن إلا في درع مضاعفة «لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل» «2» ، ولا يخفى عن ألمعيّته ما يضمر الأعداء من الحركات قبل إظهارها، ولا ببعد على عزماته ما هي مليّة به من بدارها أعداء الدّين بدارها، وإذا جلس لنشر المعدلة تبرّأ الظلم من فكر [جواز]«3» البغي والجور على إنسان، وشفع ما تصدّى من ذلك بما أمر الله به من العدل والإحسان.
ولما كان الجناب العالي الفلانيّ هو الّذي ملئت قلوب العدا برعبه،
وانطوت قلوب الرعايا على حبّه، وتهلّلت وجوه المنى في سلمه واستهلّت سحب المنايا في حربه، وجمع بين حدّة البأس ولطف التّقى فكان هو الكميّ الذي شفع الشّجاعة بالخضوع لربّه، وحاط ما وليه من الأقاليم بسوري بأسه وعدله فبات كل أحد وادعا في مهاده آمنا في سربه، وأغارت سرايا مهابته قبل طلوع طلائعه فأصبح كلّ من العدا أسير الذّعر قبل إمساكه، قتيل الخوف قبل ضربه؛ مع احتفال بعمارة البلاد، أعان السّحب على ريّها، واشتمال على مصالح العباد، قام في تيسير أرزاقهم مقام وسميّ الغمائم «1» ووليها، وتيقّظ لمصالح الثّغور أنام عنها عيون الخطوب، وإشراق في أفق المواكب كسا وجه الدّين نور البشر ووجه الكفر ظلام القطوب.
وكانت المملكة الحلبية عقيلة المعاقل، وعصمة العواصم، وواسطة عقود [الممالك]«2» وسلك فرائد النّصر الّتي كم أضاءت بها إلى الكفر وجوه المسالك، لا تدرك في مضمار الفخار شهباؤها، ولا ترى إلا كما ترى النجوم في عيون العدا حصباؤها؛ ولها من الحصون المصونة كلّ قلعة يتهيّب الطّيف سلوك عقابها «3» ، ويتقاصر لوح الجوّ عن منال عقابها؛ فهي عزيزة المنال، إلّا على كريم كفاءته، بعيدة مجال الآمال، إلا على ما ألفت من إيالة كفايته، سامية الأفق إلا على شمسه، نابية الطّرف إلا على ما عرفت من سلوكه في أمسه، ظامية الغروس الّتي أنشأها في مصالحها إلى ما اعتادته من سقيا غرسه- اقتضت آراؤنا الشريفة أن نزيدها إشراقا بشمس جلاله، واعتلاء بسيفه الّذي رياض الجنّة تحت ظلاله، وأن نعيد أمرها إلى من طالما حسّن عدله بقعتها، وحصّن بأسه قلعتها، وأطارت مهابته سمعتها، وأطالت سيرته سكون رعاياها في مهاد الأمن وهجعتها، وأعاد وجوده أحوال مجاوريها من العدا إلى العدم، وأباد سيفه أرواح معانديها: فلو أنكرته أعناقهم لم يكن بالعهد من قدم.
فلذلك رسم بالأمر الشّريف- لا زالت شمس عدله، مشرقة في الوجود، وغيث فضله، مستهلّ الجود في التّهائم والنّجود- أن تفوّض إليه.........
…
تفويضا يحدّد ارتفاعها، ويعمّر وهادها وبقاعها، ويؤيّد اندفاع مضارّها وانتفاعها، ويعيد الإشراق إلى مطالعها، والأمور إلى مواقعها من سداد التدبير ومواضعها، والإقدام إلى جيوشها وأبطالها [والشجاعة إلى حماتها ورجالها]«1» فليطلع في أفق مواكبها طلوع نعته الكريم، ويجر في جوانبها ما ألفته من موارد عدله الّذي فارقها غمامه وأثر سيله مقيم، ويعاود مصالح تلك المملكة التي لا تصلح أمورها إلّا عليه، ويراجع عصمة تلك العقيلة الّتي لا تطمع أبصار عواصمها إلّا إليه، ويلق في قلوب مجاوريها ذلك الرّعب الّذي نعى إلى كلّ منهم نفسه وأسلاه عمّاه في يديه، ويثبّت تلك المهابة الّتي جعلت منايا العدا براحته يأمرها فيهم وينهاها، وينشر في الرعايا تلك المعدلة التي هي كالشمس:
لا تبتغي بما صنعت منزلة عندهم ولا جاها، ولتكن أحوال عدوّ الإسلام بمرأى منه على عادته ومسمع، ويكفّ أطماع الكفّار على قاعدته فلا يحدث لهم إلى شيم برق الثّغور مطمح ولا في العلم بشنبها مطمع، وليكن من أرصاده، نهار عدوّ الدّين وليله، ومن أمداده، مجاز الجهاد وحقيقته فلا يبرح يبيّتهم خياله إذا لم تصبّحهم خيله، ولا يبرح له من أعيان عيونه بين العدا فرقة ناجية، وطائفة بأسرار قلوب القوم مناجية، لتكون له مقاتلهم على طول الأبد بادية، وتغدو منازلهم خاوية بين سراياه الرائحة والغادية. وليتعاهد أحوال الجيوش بإدامة عرضها، وإقامة واجبات القوّة وفرضها، وإطالة صيت السّمعة المشهورة لكماتها في طول بلاد العدا وعرضها، وإزاحة أعذارها للرّكوب، وإزالة عوائق ارتيادها للوثوب، وإعداد العدد الّتي لها من أيديهم طلوع و [في]«2» مقاتل أعدائهم غروب، وليتفقد أحوال الحصون المصونة بسداد ثغورها، وسداد أمورها، وإزاحة أعذار