الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لِأَنَّهُ قتل بِأحد قبل أَن يتَزَوَّج النَّبِي صلى الله عليه وسلم زَيْنَب بنت جحش، وَلَا جَائِز أَن يكون عبيد الله فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّا، أما فِي سنة خمس أَو فِي سنة سِتّ فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بعده فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْهَا بِأَرْض الْحَبَشَة، وَكَانَ تزوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم بهَا إِمَّا فِي سنة سِتّ أَو سبع على الْخلاف الْمَعْرُوف فِيهِ، وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة كَانَت حِينَئِذٍ صَغِيرَة، وَإِن أمكن أَن تعقل ذَلِك وَهِي صَغِيرَة على بعد فِيهِ، وَلَا جَائِز أَيْضا أَن يكون أَبَا أَحْمد، فَإِنَّهَا توفيت قبله وَتَأَخر بعْدهَا، كَمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَأقرب الِاحْتِمَالَات أَن يكون: عبيد الله، الَّذِي مَاتَ نَصْرَانِيّا على بعد فِيهِ. فَإِن قلت: مثلهَا لَا يحزن على من مَاتَ كَافِرًا فِي بَيت النُّبُوَّة قلت: ذَاك الْحزن بالجبلة والطبع فَتعذر فِيهِ وَلَا تلام بِهِ، وَقد بَكَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما رأى قبر أمه توجعا لَهَا. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أَخا لِزَيْنَب بنت جحش من أمهَا أَو من الرَّضَاع. قَوْله: (فمست بِهِ) أَي: شَيْئا من جَسدهَا، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْعدَد:(فمست مِنْهُ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على وجوب إحداد الْمَرْأَة على الزَّوْج، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات للمنفي، وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْحل على غير الزَّوْج بعد الثَّلَاث، فَيكون الِاسْتِثْنَاء إِثْبَاتًا لحل الْإِحْدَاد لَا لوُجُوبه قلت: أُجِيب بِأَن ظَاهر اللَّفْظ، وَإِن كَانَ هَكَذَا، وَلَكِن حمل على الْوُجُوب لإِجْمَاع الْعلمَاء عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْحسن الْبَصْرِيّ لَا يرى وجوب الْإِحْدَاد؟ قلت: لَا يَصح هَذَا عَن الْحسن، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس، قَالَت:(دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْيَوْم الثَّالِث من قتل جَعْفَر فَقَالَ: لَا تحدي بعد يَوْمك هَذَا. وَفِيه: لَا يجب الْإِحْدَاد بعد الْيَوْم الثَّالِث بل فِيهِ أَنه لَا يجوز لظَاهِر النَّهْي (قلت) هَذَا الحَدِيث مُخَالف الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الأحداد فَهُوَ شَاذ لَا عمل عَلَيْهِ للْإِجْمَاع إِلَى خِلَافه، وَأَيْضًا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب كَانَ قتل شَهِيدا، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فَلذَلِك نهى زَوجته عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِ بعد الثَّلَاث، وَهَذَا الْجَواب فِيهِ نظر لَا يخفى، وَهُوَ أَن الشَّهِيد حَيّ فِي حق الْآخِرَة لَا فِي حق الدُّنْيَا، إِذْ لَو كَانَ حَيا فِي حق الدُّنْيَا لما كَانَ يجوز تزوج نِسَائِهِ، وَلَا كَانَ تقسم تركته. فَإِن قلت: جَعْفَر مَقْطُوع لَهُ بِالشَّهَادَةِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّه رَآهُ يطير فِي الْجنَّة بجناحين، فقطعنا بِأَنَّهُ حَيّ بِخِلَاف عُمُوم من قتل فِي حَرْب الْكفَّار، لقَوْله صلى الله عليه وسلم لَا تَقولُوا: فلَان مَاتَ شَهِيدا، قلت: قد أخبر عَن جمَاعَة بِأَنَّهُم شُهَدَاء وَلم ينْه نِسَاءَهُ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم: كَعبد الله بن حرَام وَالِد جَابر بن عبد الله، وَقَالَ فِي حمزه: إِنَّه سيد الشُّهَدَاء، وَمَعَ هَذَا فَلم ينْقل أَنه نهى نِسَاءَهُمْ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة لأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الزَّوْجَة الذِّمِّيَّة، لِأَنَّهُ قيد ذَلِك بقوله:(لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه) . وَفِيه: دلَالَة على أَن الْإِحْدَاد لَا يجب على الصبية لِأَنَّهُ لَا تسمى امْرَأَة إلَاّ بعد الْبلُوغ.
13 -
(بابُ زِيَارَةِ القُبُورِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم زِيَارَة الْقُبُور، وَلم يُصَرح بالحكم لما فِيهِ من الْخلاف بَين الْعلمَاء، وَيَأْتِي بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
3821 -
حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مرَّ النبيُّ بامْرَأةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فقالَ اتَّقِي الله واصْبِرِي قالَتْ إلَيْكَ عَنِّي فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إنَّهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم فَأتَتْ بابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فقَالَتْ لَمْ أعْرِفْكَ فَقَالَ إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأوُلَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عليه وسلم لم ينْه الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة عَن زيارتها قبر ميتها، وَإِنَّمَا أمرهَا بِالصبرِ، فَدلَّ على الْجَوَاز من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فلعدم التَّصْرِيح بِهِ لم يُصَرح البُخَارِيّ أَيْضا بالحكم. وَقد مر هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي: بَاب قَول الرجل للْمَرْأَة عِنْد الْقَبْر: (اصْبِرِي)، غير أَن هُنَا زِيَادَة من قَوْله:(قَالَت إِلَيْك عني. .) إِلَى آخِره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَعَن أبي مُوسَى وَعَن عقبَة بن مكرم وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن غنْدر بِهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِامْرَأَة)، لم يُوقف على اسْمهَا. قَوْله:(عِنْد قبر)، وَلَفظ مُسلم:(أَتَى على امْرَأَة تبْكي على صبي لَهَا فَقَالَ لَهَا: اتقِي الله واصبري، فَقَالَت: وَمَا تبالي؟ مصيبتي. فَلَمَّا ذهب قيل لَهَا: إِنَّه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَخذهَا مثل الْمَوْت فَأَتَت بَابه فَلم تَجِد على بَابه بوابين، فَقَالَت: يَا رَسُول الله لم أعرفك، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد أول صدمة. أَو قَالَ: عِنْد أول الصدمة) . وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (قد أُصِيبَت بِوَلَدِهَا) . قَوْله: اتقِي الله) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الظَّاهِر أَنَّهَا كَانَت تنوح وَهِي تبْكي، فَلهَذَا أمرهَا بالتقوى، وَهُوَ الْخَوْف من الله تَعَالَى، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ:(اتقِي الله) تَوْطِئَة لقَوْله: (واصبري) كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: خافي غضب الله إِن لم تصبري وَلَا تجزعي ليحصل لَك الثَّوَاب، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) :(فَقَالَ: يَا أمة الله اتقِي الله) . قَوْله: (إِلَيْك) من أَسمَاء الْأَفْعَال وَمَعْنَاهَا: تَنَح عني وَأبْعد. قَوْله: (فَإنَّك لم تصب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن شُعْبَة:(فَإنَّك خلو من مصيبتي)، والخلو بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام. وَفِي لفظ لمُسلم:(مَا تبالي مصيبتي) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى الْموصِلِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا قَالَت: (يَا عبد الله أَنا الحراء الثكلاء، وَلَو كنت مصابا عذرتني)، وَفِي بعض النّسخ بعد قَوْله:(فَإنَّك لم تصب بمصيبتي، وَلم تعرفه) . الْوَاو فِيهِ للْحَال أَي: قَالَت للنَّبِي صلى الله عليه وسلم هَذَا القَوْل وَالْحَال أَنَّهَا لم تعرف النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ لَو عَرفته لما خاطبته بِهَذَا الْخطاب. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: للْمَرْأَة الْمَذْكُورَة، فَكَأَن الْقَائِل لَهَا وَاحِد مِمَّن كَانَ هُنَاكَ، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام:(فَمر بهَا رجل فَقَالَ لَهَا: إِنَّه رَسُول الله) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى: (قَالَ: فَهَل تعرفينه؟ قَالَت: لَا) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق عَطِيَّة عَن أنس أَن الَّذِي سَأَلَهَا هُوَ الْفضل بن عَبَّاس، وَقد مر فِي رِوَايَة مُسلم:(فَأَخذهَا مثل الْمَوْت) أَي: من شدَّة الكرب الَّذِي أَصَابَهَا لما عرفت أَنه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خجلاً مِنْهُ ومهابة. قَوْله: (فَلم تَجِد عِنْده) أَي: لم تَجِد هَذِه الْمَرْأَة عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم (بوابين) يمْنَعُونَ النَّاس، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام:(بوابا) بِالْإِفْرَادِ. قَالَ الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة أَنه لما قيل لَهَا: إِنَّه النَّبِي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفًا وهيبة فِي نَفسهَا، فتصورت أَنه مثل الْمُلُوك لَهُ صَاحب أَو بواب يمْنَع النَّاس من الْوُصُول إِلَيْهِ، فَوجدت الْأَمر بِخِلَاف مَا تصورته. قَوْله:(فَقَالَت: لم أعرفك)، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة (فَقَالَت: وَالله مَا عرفتك) . قَوْله: (إِنَّمَا الصَّبْر) أَي: إِنَّمَا الصَّبْر الْكَامِل، ليَصِح معنى الْحصْر على الصدمة الأولى، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام:(عِنْد أول صدمة) . وأصل الصدم لُغَة: الضَّرْب فِي الشَّيْء الصلب، ثمَّ استعير لكل أَمر مَكْرُوه، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الصَّبْر الَّذِي يكون عِنْد الصدمة الأولى هُوَ الَّذِي يكون صبرا على الْحَقِيقَة، وَأما السّكُون بعد فَوَات الْمُصِيبَة رُبمَا لَا يكون صبرا، بل قد يكون سلواه، كَمَا يَقع لكثير من أهل المصائب، بِخِلَاف أول وُقُوع الْمُصِيبَة، فَإِنَّهُ يصدم الْقلب بَغْتَة فَلَا يكون السّكُون عِنْد ذَلِك، والرضى بالمقدور إلَاّ صبرا على الْحَقِيقَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الصَّبْر الَّذِي يحمد عَلَيْهِ صَاحبه مَا كَانَ عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة، بِخِلَاف مَا بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ على الْأَيَّام يسلو. وَقيل: إِن الْمَرْء لَا يُؤجر على الْمُصِيبَة لِأَنَّهَا لَيست من صنعه، وَإِنَّمَا يُؤجر على حسن نِيَّته وَجَمِيل صبره، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ أَن لَا يجْتَمع عَلَيْهَا مُصِيبَة الْهَلَاك وفقد الْأجر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ، صلى الله عليه وسلم، من التَّوَاضُع والرفق بالجاهل، وَترك مُؤَاخذَة الْمُصَاب وَقبُول اعتذاره. وَفِيه: إِن الْحَاكِم لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَّخذ من يَحْجُبهُ عَن حوائج النَّاس. وَفِيه: أَن من أَمر بِمَعْرُوف يَنْبَغِي لَهُ أَن يقبل وَإِن لم يعرف الْآمِر. وَفِيه: أَن الْجزع من المنهيات لأَمره، صلى الله عليه وسلم، لَهَا بالتقوى مَقْرُونا بِالصبرِ. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْأَذَى عِنْد بذل النَّصِيحَة وَنشر الموعظة. وَفِيه: أَن المواجهة بِالْخِطَابِ إِذا لم تصادف الْمَنوِي لَا أثر لَهَا. وَبنى عَلَيْهِ بَعضهم مَا إِذا قَالَ: يَا هِنْد أَنْت طَالِق، فصادف عمْرَة أَن عمْرَة لَا تطلق. وَفِيه: جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الزائر رجلا أَو امْرَأَة، وَسَوَاء كَانَ المزور مُسلما أَو كَافِرًا لعدم الْفَصْل فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وبالجواز قطع الْجُمْهُور، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يجوز زِيَارَة قبر الْكَافِر، مستدلاً بقوله تَعَالَى: وَلَا تقم على قَبره} (التَّوْبَة: 48) . وَهَذَا غلط. وَفِي الِاسْتِدْلَال
بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة نظر لَا يخفى.
وَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَقَالَ الْحَازِمِي: أهل الْعلم قاطبة على الْإِذْن فِي ذَلِك للرِّجَال. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور إِبَاحَة عُمُوم، كَمَا كَانَ النَّهْي عَن زيارتها نهي عُمُوم، ثمَّ ورد النّسخ فِي الْإِبَاحَة على الْعُمُوم، فَجَائِز للرِّجَال وَالنِّسَاء زِيَارَة الْقُبُور، وروى فِي الْإِبَاحَة أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها. .) الحَدِيث، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه:(قد كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها فَإِنَّهَا تذكر بِالآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروا الْقُبُور، فَإِنَّهَا تذكر فِي الدُّنْيَا وتذكر الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ، قَالَ:(نهى رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، عَن زِيَارَة الْقُبُور، ثمَّ قَالَ: زوروها وَلَا تَقولُوا هجرا) يَعْنِي سوأً. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ:(زار النَّبِي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فَبكى وأبكى من حوله، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي أَن اسْتغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي واستأذنته فِي أَن أزورها فَأذن لي، فزوروا الْقُبُور فَإِنَّهَا تذكر الْمَوْت) . وَرَوَاهُ أَيْضا مُخْتَصرا. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا:(أَن رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، رخص فِي زِيَارَة الْقُبُور) . وَمِنْهَا: حَدِيث حَيَّان الْأنْصَارِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْم خَيْبَر. .) الحَدِيث، وَفِيه:(وَأحل لَهُم ثَلَاثَة أَشْيَاء كَانَ ينهاهم عَنْهَا: أحل لَهُم لُحُوم الْأَضَاحِي وزيارة الْقُبُور والأوعية) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي ذَر، أخرجه الْحَاكِم عَنهُ قَالَ:(قَالَ لي رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم: زر الْقُبُور تذكر بهَا الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ:(إِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَحْمد عَنهُ:(مر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بقبور فَأقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم) . وَمِنْهَا: حَدِيث مجمع بن جَارِيَة، أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا:(أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم انْتهى إِلَى الْمقْبرَة، فَقَالَ: السَّلَام على أهل الْقُبُور. .) الحَدِيث، وَفِيه: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش.
وَعَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَنه أَتَى الْمقْبرَة فَسلم عَلَيْهِم، وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يسلم عَلَيْهِم) وَعند ابْن عبد الْبر، بِسَنَد صَحِيح:(مَا من أحد يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَيسلم عَلَيْهِ إلَاّ عرفه ورد عليه السلام . وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث بُرَيْدَة، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم: لَا يرَوْنَ بزيارة الْقُبُور بَأْسا. وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَلما روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: لعن الله زوارات الْقُبُور)، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَقد رأى بعض أهل الْعلم أَن هَذَا كَانَ قبل أَن يرخص النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَلَمَّا رخص دخل فِي رخصته الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا تكره زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء لقلَّة صبرهن وَكَثْرَة جزعهن. وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ:(لعن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زائرات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج) ، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث قوم، فَقَالُوا: إِنَّمَا اقْتَضَت الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور للرِّجَال دون النِّسَاء، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يُمكن أَن يكون هَذَا قبل الْإِبَاحَة. قَالَ: وتوقي ذَلِك للنِّسَاء المتجملات أحب إِلَيّ، وَإِمَّا الشواب فَلَا يُؤمن من الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ وبهن حَيْثُ خرجن، وَلَا شَيْء للْمَرْأَة أحسن من لُزُوم قَعْر بَيتهَا. وَلَقَد كره أَكثر الْعلمَاء خروجهن إِلَى الصَّلَوَات فَكيف إِلَى الْمَقَابِر؟ وَمَا أَظن سُقُوط فرض الْجُمُعَة عَلَيْهِنَّ إلَاّ دَلِيلا على إمساكهن عَن الْخُرُوج فِيمَا عَداهَا. قَالَ: وَاحْتج من أَبَاحَ زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء، بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ فِي (التَّمْهِيد) من رِوَايَة بسطَام بن مُسلم عَن أبي التياح (عَن عبد الله بن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَقبلت ذَات يَوْم من الْمَقَابِر، فَقلت لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، من أَيْن أَقبلت؟ قَالَت: من قبر أخي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقلت لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، ينْهَى عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ قَالَت: نعم، كَانَ ينْهَى عَن زيارتها ثمَّ أَمر بزيارتها) ، وَفرق قوم بَين قَوَاعِد النِّسَاء وَبَين شبابهن، وَبَين أَن ينفردن بالزيارة أَو يخالطن الرِّجَال، فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما الشواب فَحَرَام عَلَيْهِنَّ الْخُرُوج، وَأما الْقَوَاعِد فمباح لَهُنَّ ذَلِك، قَالَ: وَجَائِز ذَلِك لجميعهن إِذا انفردن بِالْخرُوجِ عَن الرِّجَال. قَالَ: وَلَا يخْتَلف فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا: حمل بَعضهم حَدِيث التِّرْمِذِيّ فِي الْمَنْع على من يكثر