الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ودعا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة) ، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت أخرج هَذَا الحَدِيث فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَترْجم فِي كل مَوضِع بِجُزْء من أَجزَاء الحَدِيث الْمَذْكُور الثَّلَاثَة مَعَ مُغَايرَة فِي السَّنَد، لِأَن شَيْخه فِي الأول: أَبُو نعيم، وَفِي الثَّانِي: مُحَمَّد بن بشار، وَفِي الثَّالِث: عمر بن حَفْص، وَالْكل عَن عبد الله بن مَسْعُود. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي الحَدِيث ذكر النَّهْي من الويل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة مستلزمة للويل، وَلَفظ: لَيْسَ منا، للنَّهْي. وَقَالَ بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا ورد فِي بعض طرقه، فَفِي حَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد ابْن مَاجَه، وَصَححهُ ابْن حبَان:(إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعن الخامشة وَجههَا والشاقة جيبها والداعية بِالْوَيْلِ وَالثُّبُور) . انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْأَوْجه لِأَن ذكر التَّرْجَمَة لحَدِيث لَيْسَ بمذكور فِي كِتَابه وَلَا يعرف أَيْضا هَل هُوَ اطلع عَلَيْهِ أم لَا بعيد عَن السداد.
04 -
(بابُ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حَال من جلس. كلمة: من، مَوْصُولَة، أَي: الَّذِي جلس عِنْد حُلُول الْمُصِيبَة. قَوْله: (يعرف)، على صِيغَة الْمَجْهُول أسْند إِلَى قَوْله:(الْحزن)، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي:(جلس)، وَالضَّمِير الَّذِي فِي:(فِيهِ) يرجع إِلَى قَوْله: (من) وَلم يُصَرح البُخَارِيّ بِحكم هَذِه الْمَسْأَلَة، وَلَكِن يفهم من فعله صلى الله عليه وسلم لِأَن إِظْهَار الْحزن يدل على إِبَاحَته وَلَا يمْنَع من ذَلِك إلَاّ إِذا كَانَ مَعَه شَيْء من اللِّسَان أَو الْيَد.
9921 -
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ، قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى. قَالَ أخبرَتْنِي عَمْرَةُ قالَتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ لَمَّا جاءَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ وَأنَا أنْظُرُ مِنْ صائِرِ البَابِ شَقِّ البَابِ فأتَاهُ رَجُلٌ فقالَ إنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ وذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ فأمَرَهُ أنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ ثُمَّ أتَاهُ الثَّانِيَةَ لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ فأتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَالله غَلَبْنَنَا يَا رسولَ الله فَزَعمَتْ أنَّهُ قَالَ فاحْثُ فِي أفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ فَقُلْتُ أرْغَمَ الله أنْفَكَ لَمْ تَفْعَلْ مَا أمَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولَمْ تَترُكْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ العَنَاءِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جلس يعرف فِيهِ الْحزن) ، والترجمة قِطْعَة من الحَدِيث، غير أَنه زَاد فِيهِ:(عِنْد الْمُصِيبَة) .
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، وَيحيى هُوَ ابْن سعيد الْأنْصَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن حَوْشَب وَفِي الْمَغَازِي عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن الْمثنى وَعَن ابْن أبي عَمْرو وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي الطَّاهِر عَن ابْن وهب وَعَن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَن ابْن وهب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما جَاءَ النَّبِي) انتصاب: النَّبِي، بِأَنَّهُ مفعول. وَقَوله:(قتل ابْن حَارِثَة) بِالرَّفْع فَاعله، وَابْن حَارِثَة: هُوَ زيد بن حَارِثَة بن شرَاحِيل بن كَعْب بن عبد الْعزي بن امرىء الْقَيْس الْكَلْبِيّ الْقُضَاعِي، مولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَذَلِكَ أَن أمه ذهبت تزور أَهلهَا فَأَغَارَ عَلَيْهِم خيل من بني الْقَيْس، فَاشْتَرَاهُ حَكِيم بن حزَام لِعَمَّتِهِ خَدِيجَة بنت خويلد فَوَهَبته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، ثمَّ وُجد أَبوهُ فَاخْتَارَ الْمقَام عِنْد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأعْتقهُ وتبناه فَكَانَ يُقَال: زيد بن مُحَمَّد، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُحِبهُ حبا شَدِيدا. وَقَالَ السُّهيْلي: باعوا زيدا بسوق حُبَاشَة، وَهُوَ من أسواق الْعَرَب، وَزيد يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَانِيَة أَعْوَام وَأعْتقهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه مولاته أم أَيمن وَاسْمهَا بركَة، فَولدت لَهُ أُسَامَة بن زيد، وَعَن عَائِشَة كَانَت تَقول: مَا بعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حَارِثَة فِي سَرِيَّة إلَاّ أمره عَلَيْهِم، وَلَو بَقِي بعده لاستخلفه. رَوَاهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَابْن أبي شيبَة: جيد قوي على شَرط الصَّحِيح وَهُوَ غَرِيب جدا. قَوْله: (وجعفر) ، هُوَ ابْن أبي طَالب عَم النَّبِي صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ أكبر من أَخِيه عَليّ بِعشر سِنِين، أسلم جَعْفَر قَدِيما وَهَاجَر إِلَى الْحَبَشَة وَقد أخبر عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ شَهِيد، فَهُوَ مِمَّن
يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ. قَوْله: (وَابْن رَوَاحَة) ، هُوَ عبد الله بن رَوَاحَة بن ثَعْلَبَة بن امريء الْقَيْس بن عمر، وَأَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال أَبُو رَوَاحَة، أسلم قَدِيما وَشهد الْعقبَة وبدرا وأحدا وَالْخَنْدَق وَالْحُدَيْبِيَة وخيبر، وَقد شهد لَهُ رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، بِالشَّهَادَةِ فَهُوَ مِمَّن يقطع لَهُ بِالْجنَّةِ، وقصة قَتلهمْ: أَن رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، أرسلهم فِي نَحْو من ثَلَاثَة آلَاف إِلَى أَرض البلقاء من أَطْرَاف الشَّام فِي جماد الأولى من سنة ثَمَان، وَاسْتعْمل عَلَيْهِم زيدا وَقَالَ: إِن أُصِيب زيد فجعفر على النَّاس، فَإِن أُصِيب جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة على النَّاس، فَخَرجُوا وَخرج رَسُول الله، صلى الله عليه وسلم، يشيعهم فَمَضَوْا حَتَّى نزلُوا معَان من أَرض البلقاء، فَبَلغهُمْ أَن هِرقل قد نزل مآب من أَرض البلقاء فِي مائَة ألف من الرّوم، وانضم إِلَيْهِم من لخم وجذام والقين وبهراء ويلي مائَة ألف، وانحاز الْمُسلمُونَ إِلَى قَرْيَة يُقَال لَهَا: مُؤْتَة، بِضَم الْمِيم وبالهمز، وَقيل: بِلَا همز، ثمَّ تلاقوا فَاقْتَتلُوا، فقاتل زيد براية رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى قتل، فَأَخذهَا جَعْفَر فقاتل حَتَّى قتل، وَأَخذهَا عبد الله بن رَوَاحَة. قَالَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نعي الثَّلَاثَة وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ، ثمَّ قَالَ: أَخذ الرَّايَة سيف من سيوف الله تَعَالَى حَتَّى فتح الله عَلَيْهِم، وَهُوَ خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن خَالِد: لقد انْقَطَعت فِي يَدي يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياق فَمَا بَقِي فِي يَدي إلَاّ صفيحة يَمَانِية، وَسَيَجِيءُ ذَلِك كُله فِي الْكتاب، وَجَمِيع من قتل من الْمُسلمين يَوْمئِذٍ اثْنَي عشر رجلا، وَهَذَا أَمر عَظِيم جدا أَن يُقَاتل جيشان متعاديان فِي الدّين أَحدهمَا الفئة الَّتِي تقَاتل فِي سَبِيل الله تَعَالَى عدتهَا ثَلَاثَة آلَاف، وَأُخْرَى كَافِرَة عدتهَا مِائَتَا ألف مائَة ألف من الرّوم وَمِائَة ألف من نَصَارَى الْعَرَب. قَوْله:(جلس) جَوَاب: لما، وَزَاد أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته:(جلس فِي الْمَسْجِد) . قَوْله: (يعرف فِيهِ الْحزن) جملَة حَالية. قَالَ الطَّيِّبِيّ: كَأَنَّهُ كظم الْحزن كظما فَظهر مِنْهُ مَا لَا بُد لجبلة البشرية مِنْهُ. قَوْله: (وَأَنا أنظر) ، جملَة حَالية أَيْضا، وقائلها عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله:(من صائر الْبَاب) ، بالصَّاد الْمُهْملَة والهمزة بعد الْألف وَفِي آخِره رَاء، وَقد فسره فِي الحَدِيث بقوله:(شقّ الْبَاب)، وَهُوَ بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة أَي: الْموضع الَّذِي ينظر مِنْهُ، وَلم يرد بِكَسْر الشين أَي: النَّاحِيَة لِأَنَّهَا لَيست بمرادة هُنَا، قَالَه ابْن التِّين. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِفَتْح الشين وَكسرهَا. وَقَالَ الْمَازِني: كَذَا وَقع فِي (الصَّحِيحَيْنِ) هُنَا: صائر الْبَاب، وَالصَّوَاب: صيراي، بِكَسْر الصَّاد وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الشق. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والخطابي: صائر وصير بِمَعْنى وَاحِد. فَإِن قلت: هَذَا التَّفْسِير مِمَّن؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون من عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون مِمَّن بعْدهَا، وَلَكِن الظَّاهِر هُوَ الأول. قَوْله:(فَأَتَاهُ رجل) أَي: أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم رجل، وَلم يُوقف على اسْمه، وَيحْتَمل أَن عَائِشَة لم تصرح باسمه لانحرافها عَلَيْهِ. قَوْله:(إِن نسَاء جَعْفَر) أَي: امْرَأَته أَسمَاء بنت عُمَيْس الخثعمية وَمن حضر عِنْدهَا من أقاربها وأقارب جَعْفَر، وَخبر: إِن، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن نسَاء جَعْفَر يبْكين، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: وَقد حذفت رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا خبر: إِن، من القَوْل المحكي عَن جَعْفَر بِدلَالَة الْحَال، يَعْنِي قَالَ ذَلِك الرجل: إِن نسَاء جَعْفَر فعلن كَذَا وَكَذَا، مِمَّا حظره الشَّرْع من الْبكاء الشنيع والنياحة الفظيعة إِلَى غير ذَلِك. قَوْله:(وَذكر بكاءهن)، حَال من الْمُسْتَتر فِي: قَالَ. قَوْله: (لم يطعنه) حِكَايَة لِمَعْنى قَول الرجل أَي: فَذهب ونهاهن ثمَّ أَتَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نَهَيْتُهُنَّ فَلم يطعنني، يدل عَلَيْهِ قَوْله فِي الْمرة الثَّالِثَة:(وَالله غلبننا)، قَوْله:(ثمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَة لم يطعنه) أَي: أَتَى النَّبِي، صلى الله عليه وسلم، الْمرة الثَّانِيَة فَقَالَ: إنَّهُنَّ لم يطعنه. وَوَقع فِي رِوَايَة أبي عوَانَة: فَذكر أَنَّهُنَّ لم يطعنه. قَوْله: (الثَّالِثَة) أَي: الْمرة الثَّالِثَة. قَوْله: (وَالله غلبننا) بِلَفْظ جمع الْمُؤَنَّث الغائبة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:(غلبتنا)، بِلَفْظ الْمُفْرد الْمُؤَنَّث الغائبة. قَوْله:(فَزَعَمت) أَي: عَائِشَة، وَهُوَ مقول عمْرَة، وَمعنى: زعمت: قَالَت. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: أَي ظَنَنْت قلت: الزَّعْم يُطلق على القَوْل الْمُحَقق وعَلى الْكَذِب والمشكوك فِيهِ، وَينزل فِي كل مَوضِع على مَا يَلِيق بِهِ قَوْله:(فأحث) ، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، أَمر من: حثا يحثو، وبكسرها أَيْضا من حثى يحثي. قَوْله:(التُّرَاب) مفعول: (أحث)، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى تَأتي:(من التُّرَاب)، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا يدل على أَنَّهُنَّ رفعن أصواتهن بالبكاء، فَلَمَّا لم ينتهين أمره أَن يسد أفواههن بِالتُّرَابِ، وَخص الأفواه بذلك لِأَنَّهَا مَحل النوح. انْتهى. وَقَالَ عِيَاض: هُوَ بِمَعْنى التَّعْجِيز، أَي: أَنَّهُنَّ لَا يسكتن إلَاّ بسد أفواههن، وَلَا تسدها إلَاّ بِأَن تملأ بِالتُّرَابِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَنَّهُنَّ لم يطعن الناهي لكَونه لم يُصَرح لَهُنَّ بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فحملن ذَلِك على أَنه مرشد إِلَى الْمصلحَة من قبل نَفسه، أَو علِمْنَ لَكِن غلب عَلَيْهِنَّ شدَّة الْحزن لحرارة الْمُصِيبَة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه حسن، وَهُوَ اللَّائِق فِي حق الصحابيات، لِأَنَّهُ يبعد أَن يتمادين بعد تكْرَار نهيهن على محرم، وَيُقَال
إِن كَانَ بكاؤهن مُجَردا يكون النَّهْي عَنهُ للتنزيه خشيَة أَن يسترسلن فِيهِ فيفضي بِهن إِلَى الْأَمر الْمحرم لضعف صبرهن، وَلَا يكون النَّهْي للتَّحْرِيم، فَلِذَا أصررن عَلَيْهِ متأولات. وَقيل: كَانَ بكاؤهن بنياح وَلذَا تَأَكد النَّهْي، وَلَو كَانَ مُجَرّد دمع الْعين لم ينْه عَنهُ لِأَنَّهُ رَحْمَة وَلَيْسَ بِحرَام. قلت: إِن كَانَ الْأَمر كَمَا ذكر يحمل حالهن على أَن الرجل لم يسند النَّهْي إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَلهَذَا لم يطعنه. قَوْله:(فَقلت)، مقول عَائِشَة. قَوْله:(أرْغم الله أَنْفك) بالراء والغين الْمُعْجَمَة أَي: ألصق الله أَنْفك بالرغام، بِفَتْح الرَّاء، وَهُوَ التُّرَاب. دعت عَلَيْهِ حَيْثُ لم يفعل مَا أمره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِهِ، وَهُوَ أَن ينهاهن وَحَيْثُ لم يتْركهُ على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْحزن بإخبارك ببكائهن وإصررهن عَلَيْهِ وتكرارك ذَلِك. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هُوَ فعل مَا أمره بِهِ ولكنهن لم يطعنه؟ قلت: حَيْثُ لم يَتَرَتَّب على فعله الِامْتِثَال، فَكَأَنَّهُ لم يَفْعَله، أَو هُوَ لم يفعل الحثو. وَقَالَ بَعضهم: لَفْظَة: لم يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَقَوْلها ذَلِك وَقع قبل أَن يتَوَجَّه، فَمن أَيْن علمت أَنه لم يفعل؟ فَالظَّاهِر أَنَّهَا قَامَت عِنْدهَا قرينَة بِأَنَّهُ لَا يفعل، فعبرت عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي مُبَالغَة فِي نفي ذَلِك عَنهُ. انْتهى. قلت: لَا يُقَال: لَفْظَة: لم، يعبر بهَا عَن الْمَاضِي، وَإِنَّمَا يُقَال: حرف: لم، حرف جزم لنفي الْمُضَارع، وَقَلبه مَاضِيا، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَه أهل الْعَرَبيَّة. وَقَوله: فعبرت عَنهُ بِلَفْظ الْمَاضِي، لَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ غير مَاض بل هُوَ مضارع وَلَكِن صَار مَعْنَاهُ معنى الْمَاضِي بِدُخُول: لم، عَلَيْهِ. قَوْله:(من العناء)، بِفَتْح الْعين المهمة بعْدهَا النُّون وبالمد وَهُوَ: الْمَشَقَّة والتعب. وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (من العي)، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف. قيل: وَقع فِي رِوَايَة العذري من الغي، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة: ضد الرشد. قَالَ القَاضِي عِيَاض: وَلَا وَجه لَهُ هُنَا، ورد عَلَيْهِ بِأَن لَهُ وَجها، وَلَكِن الأول أليق لموافقته لرِوَايَة العناء الَّتِي هِيَ رِوَايَة الْأَكْثَرين {وَقَالَ النَّوَوِيّ: مَعْنَاهُ أَنَّك قَاصِر لَا تقوم بِمَا أمرت بِهِ، من الْإِنْكَار لنقصك وتقصيرك وَلَا تخبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقصورك عَن ذَلِك حَتَّى يُرْسل غَيْرك فيستريح من العناء.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: جَوَاز الْجُلُوس للعزاء بسكينة ووقار. وَفِيه: الْحَث على الصَّبْر، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: إِن قَالَ الْقَائِل: إِن أَحْوَال النَّاس فِي الصَّبْر مُتَفَاوِتَة فَمنهمْ من يظْهر حزنه على الْمُصِيبَة فِي وَجهه بالتغيير لَهُ، وَفِي عَيْنَيْهِ بانحدار الدُّمُوع وَلَا ينْطق بِشَيْء من القَوْل، وَمِنْهُم من يجمع ذَلِك كُله، وَيزِيد عَلَيْهِ إِظْهَاره فِي مطعمه وملبسه، وَمِنْهُم من يكون حَاله فِي الْمُصِيبَة وَقبلهَا سَوَاء فَأَيهمْ الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر، قد اخْتلف النَّاس فِي ذَلِك فَقَالَ بَعضهم: الْمُسْتَحق لاسم الصَّبْر هُوَ الَّذِي يكون فِي حَاله مثلهَا قبلهَا، وَلَا يظْهر عَلَيْهِ حزن فِي جارحة وَلَا لِسَان، كَمَا زعمت الصُّوفِيَّة، أَن الْوَلِيّ لَا تتمّ لَهُ الْولَايَة إلَاّ إِذا تمّ لَهُ الرضى بِالْقدرِ، وَلَا يحزن على شَيْء، وَالنَّاس فِي هَذَا الْحَال مُخْتَلفُونَ، فَمنهمْ من فِي قلبه الْجلد وَقلة المبالاة بالمصائب، وَمِنْهُم من هُوَ بِخِلَاف ذَلِك، فَالَّذِي يكون طبعه الْجزع وَيملك نَفسه ويستشعر الصَّبْر أعظم أجرا من الَّذِي يتجلد طباعه. قَالَ الطَّبَرِيّ: كَمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه نعى أَخُوهُ عتبَة. قَالَ: لقد كَانَ من أعز النَّاس عَليّ وَمَا يسرني أَنه بَين أظْهركُم الْيَوْم حَيا. قَالُوا: وَكَيف هُوَ من أعز النَّاس عَلَيْك؟ قَالَ: إِنِّي لأوجر فِيهِ أحب إِلَيّ من أَن يُؤجر فِي. وَقَالَ ثَابت: إِن الصَّلْت بن أَشْيَم مَاتَ أَخُوهُ، فجَاء رجل وَهُوَ يطعم، فَقَالَ: يَا أَبَا الصَّهْبَاء إِن أَخَاك مَاتَ} قَالَ: هَلُمَّ فَكل قد نعي إِلَيْنَا، فَكل. قَالَ: وَالله مَا سبقني إِلَيْك أحد مِمَّن نعاه، قَالَ: يَقُول الله عز وجل: {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} (الزمر: 03) . وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ شُرَيْح، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يدْفن جنائزه لَيْلًا، فيغتنم ذَلِك فيأتيه الرجل حِين يصبح فيسأله عَن الْمَرِيض، فَيَقُول: هَذَا لله الشُّكْر وَأَرْجُو أَن يكون مستريحا. وَكَانَ ابْن سِيرِين يكون عِنْد الْمُصِيبَة كَمَا هُوَ قبلهَا يتحدث ويضحك إلَاّ يَوْم مَاتَت حَفْصَة فَإِنَّهُ جعل يكشر، وإنت تعرف فِي وَجهه، وَسُئِلَ ربيعَة: مَا مُنْتَهى الصَّبْر؟ قَالَ: أَن تكون يَوْم تصيبه الْمُصِيبَة مثله قبل أَن تصيبه وَأما جزع الْقلب وحزن النَّفس ودمع الْعين فَإِن ذَلِك لَا يخرج العَبْد من مَعَاني الصابرين إِذا لم يتجاوزه إِلَى مَا لَا يجوز لَهُ فعل، لِأَن نفوس بني آدم مجبولة على الْجزع من المصائب، وَقد مدح الله تَعَالَى الصابرين وَوَعدهمْ جزيل الثَّوَاب عَلَيْهِ، وتغيير الأجساد عَن هيآتها ونقلها عَن طبعها الَّذِي جبلت عَلَيْهِ، لَا يقدر عَلَيْهِ إِلَّا الَّذِي أَنْشَأَهَا. وروى المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، قَالَ:(قَالَ الله تَعَالَى: إِذا ابْتليت عَبدِي الْمُؤمن فَلم يشكني إِلَى عواده أنشطه من عقاله وبدلته لَحْمًا خيرا من لَحْمه ودما خيرا من دَمه، ويستأنف الْعَمَل) . وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمنْهِي عَن الْمُنكر إِن لم ينْتَه عُوقِبَ وأدب إِن أمكن. وَفِيه: جَوَاز نظر النِّسَاء المحتجبات إِلَى الرِّجَال الْأَجَانِب. وَفِيه: جَوَاز التميين لتأكيد الْخَبَر.