المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : آية 9] - التحرير والتنوير - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَين يَدي الْكتاب

- ‌[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم مصطفى عاشور:]

- ‌من هُوَ

- ‌سفير الدعْوَة

- ‌آراء ومناصب

- ‌التَّحْرِير والتنوير

- ‌مقاصد الشَّرِيعَة

- ‌محنة التَّجْنِيس

- ‌صدق الله وَكذب بورقيبة

- ‌وَفَاته

- ‌[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم الْمهْدي بن حميدة]

- ‌1- آل عاشور

- ‌2- مولده ونشأته

- ‌3- مسيرته الدراسية والعلمية

- ‌4- شُيُوخه

- ‌5- تأثره بمفكري عصره

- ‌6- إصلاحاته ورؤيته للإصلاح

- ‌ تطور الْعُلُوم

- ‌ المسيرة النضالية

- ‌7- كتاباته ومؤلفاته

- ‌[مَبْحَث عَن التَّحْرِير والتنوير]

- ‌التَّعْرِيف بالتفسير:

- ‌الْمنْهَج الْعَام للتفسير:

- ‌الْمنْهَج التفصيلي للمؤلف:

- ‌أَولا: أَسمَاء السُّور وَعدد الْآيَات وَالْوُقُوف وَبَيَان المناسبات:

- ‌ثَانِيًا: موقفه من العقيدة:

- ‌ثَالِثا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ:

- ‌رَابِعا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالسنةِ:

- ‌خَامِسًا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بأقوال السّلف:

- ‌سادسا: موقفه من السِّيرَة والتاريخ وَذكر الْغَزَوَات:

- ‌سابعا: موقفه من الْإسْرَائِيلِيات:

- ‌ثامنا: موقفه من اللُّغَة:

- ‌تاسعا: موقفه من الْقرَاءَات:

- ‌عاشرا: موقفه من الْفِقْه وَالْأُصُول:

- ‌موقفه من النّسخ:

- ‌حادي عشر: موقفه من الْعُلُوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية:

- ‌ثَانِي عشر: موقفه من المواعظ والآداب:

- ‌جملَة من الانتقادات

- ‌أَولا: ذُو ثِقَة زَائِدَة بِنَفسِهِ أوقعته فِي مزالق:

- ‌ثَانِيًا: صَاحب استطراد وتكلف خرج عَن حد التَّفْسِير جملَة وتفصيلا على الرغم من إهماله التَّفْسِير فِي مَوَاضِع لَا يسْتَغْنى عَن تَفْسِيرهَا:

- ‌ثَالِثا: ذُو ولع شَدِيد بِالنَّقْدِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ مندوحة لترك الانتقاد

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَكَوْنِ التَّفْسِيرِ عِلْمًا

- ‌ الْأَوَّلُ

- ‌وَالثَّانِي

- ‌وَالثَّالِثُ

- ‌الرَّابِعُ

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ

- ‌تَنْبِيهٌ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ وَمَعْنَى التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَنَحْوِهِ

- ‌أَوَّلُهَا:

- ‌ثَانِيهَا:

- ‌ثَالِثُهَا:

- ‌رَابِعُهَا:

- ‌خَامِسُهَا:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ فِيمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ غَرَضَ الْمُفَسِّرِ

- ‌الْأَوَّلُ:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ:

- ‌السَّابِعُ:

- ‌الثَّامِنُ:

- ‌الْأُولَى:

- ‌الثَّانِيَةُ:

- ‌الثَّالِثَةُ:

- ‌الرَّابِعَةُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ

- ‌الْأَوَّلُ:

- ‌وَالثَّانِي:

- ‌وَالثَّالِثُ:

- ‌وَالرَّابِعُ:

- ‌وَالْخَامِسُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ

- ‌أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى:

- ‌وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌مَرَاتِبُ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا

- ‌الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ قَصَصُ الْقُرْآنِ

- ‌الْفَائِدَةُ الْأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنَة:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ:

- ‌أَحَدُهَا:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّامِنَةُ فِي اسْمِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَسُوَرِهِ وَتَرْتِيبِهَا وَأَسْمَائِهَا

- ‌آيَات الْقُرْآن

- ‌تَرْتِيب الْآي

- ‌وقُوف الْقُرْآن

- ‌سور الْقُرْآن

- ‌الْمُقَدِّمَةُ التَّاسِعَةُ فِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ الْقُرْآنِ تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بِهَا

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْعَاشِرَةُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ

- ‌الْجِهَةُ الْأُولَى:

- ‌الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌مبتكرات الْقُرْآن

- ‌عادات الْقُرْآن

- ‌1- سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

- ‌[سُورَة الْفَاتِحَة (1) : الْآيَات 1 الى 7]

- ‌الْكَلَام على الْبَسْمَلَة

- ‌الثَّانِي:

- ‌الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ

- ‌2- سُورَةُ الْبَقَرَةِ

- ‌محتويات هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 25]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 26 الى 27]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 45 إِلَى 46]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 51 إِلَى 52]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 57]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 58 إِلَى 59]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 60]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 61]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 63 إِلَى 64]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 65 إِلَى 66]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 70 الى 71]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 72 إِلَى 73]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 74]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 76 إِلَى 77]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 78]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 79]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 80 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 83]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 84 الى 86]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 87]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 88]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 89]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 90]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 91]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 92 إِلَى 93]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 94 إِلَى 95]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 96]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 97 إِلَى 98]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 99 إِلَى 101]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 102]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 103]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 104]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 105]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 106]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 107]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 108]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 109 إِلَى 110]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 111 إِلَى 112]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 113]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 114]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 115]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 116]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 117]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَةٌ 118]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 119]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 120]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 121]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 122 إِلَى 123]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 124]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 125]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 126]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 127]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 128]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 129]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 130 إِلَى 131]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 132]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 133]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 134]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 135]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 136]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 137]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 138]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 139]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 140]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 141]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : آية 9]

إِذْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِهَا جَمِيعًا، فَإِذَا وُصِفَ تَارَةً بِجَمِيعِهَا لَمْ يَكُنْ وَصْفُهُ تَارَةً أُخْرَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا دَالًّا عَلَى مُسَاوَاةِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِبَقِيَّتِهَا، فَإِذَا عُرِضَتْ لَنَا أَخْبَارٌ شَرْعِيَّةٌ جَمَعَتْ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ فِي سِيَاقِ التَّحْذِيرِ أَوِ التَّحْرِيضِ لَمْ تَكُنْ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ حَقِيقَةِ أَحَدِهِمَا مُرَكَّبَةً وَمُقَوَّمَةً مِنْ مَجْمُوعِهِمَا فَإِنَّمَا يَحْتَجُّ مُحْتَجٌّ بِسِيَاقِ التَّفْرِقَةِ وَالنَّفْيِ أَوْ بِسِيَاقِ التَّعْلِيمِ وَالتَّبْيِينِ فَلَا يَنْبَغِي لِمُنْتَسِبٍ أَنْ يُجَازِفَ بِقَوْلِهِ سَخِيفَةٌ نَاشِئَةٌ عَنْ قِلَّةِ تَأَمُّلٍ وَإِحَاطَةٍ بِمَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ وَإِغْضَاءٍ عَنْ غَرَضِهَا وَيُؤَوِّلُ إِلَى تَكْفِيرِ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ وَانْتِقَاضِ الْجَامِعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَلْ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى مَوَارِدِ الشَّرِيعَةِ نَظْرَةً مُحِيطَةً حَتَّى لَا يَكُونَ مِمَّنْ غَابَتْ عَنْهُ أَشْيَاءٌ وَحَضَرُهُ

شَيْءٌ، بَلْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ كَحُكْمِ فَتَاةِ الْحَيِّ.

أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَفْوِ عَنِ الْعُصَاةِ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِغَرَضِنَا وَلَيْسَتْ مِنْهُ، وَالْأَشَاعِرَةُ قَدْ تَوَسَّعُوا فِيهَا وَغَيْرُهُمْ ضَيَّقَهَا وَأَمْرُهَا مَوْكُولٌ إِلَى عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا أَنَّ الَّذِي بَلَغَنَا مِنَ الشَّرْعِ هُوَ اعْتِبَارُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَإِلَّا لَكَانَ الزَّوَاجِرُ كَضَرْبٍ فِي بَارِدِ الْحَدِيدِ وَإِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِيهَا هُوَ النَّظَرُ لِدَلِيلِ الْوُجُوبِ أَوِ الْجَوَازِ عَلِمْتُمْ خُرُوجَ الْخِلَافِ فِيهَا مِنَ الْحَقِيقَةِ إِلَى الْمَجَازِ وَلَا عَجَبَ أَعْجَبَ مِنْ مُرُورِ الْأَزْمَانِ عَلَى مِثْلِ قَوْلَةِ الْخَوَارِجِ وَالْإِبَاضِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَلَا يَنْبَرِي مِنْ حُذَّاقِ عُلَمَائِهِمْ مَنْ يُهَذِّبُ الْمُرَادَ أَوْ يُؤَوِّلُ قَوْلَ قُدَمَائِهِ ذَلِكَ التَّأْوِيلَ الْمُعْتَادَ، وَكَأَنِّي بِوَمِيضِ فَطِنَةِ نُبَهَائِهِمْ أَخَذَ يَلُوحُ مِنْ خلل الرماد.

[9]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 9]

يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَاّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)

جُمْلَةُ: يُخادِعُونَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ: يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 8] وَمَا مَعَهَا لِأَنَّ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى الْمُخَادَعَةِ. وَالْخِدَاعُ مَصْدَرُ خَادَعَ الدَّالُّ عَلَى مَعْنَى مُفَاعَلَةِ الْخَدْعِ، وَالْخَدْعُ هُوَ فِعْلٌ أَوْ قَوْلٌ مَعَهُ مَا يُوهِمُ أَنَّ فَاعِلَهُ يُرِيدُ بِمَدْلُولِهِ نَفْعَ غَيْرِهِ وَهُوَ إِنَّمَا يُرِيدُ خِلَافَ ذَلِكَ وَيَتَكَلَّفُ تَرْوِيجَهُ عَلَى غَيْرِهِ لِيُغَيِّرَهُ عَنْ حَالَةٍ هُوَ فِيهَا أَوْ يَصْرِفَهُ عَنْ أَمْرٍ يُوشِكُ أَنْ يَفْعَلَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: خَدَعَ الضَّبُّ إِذَا أَوْهَمَ حَارِشَهُ أَنَّهُ يُحَاوِلُ الْخُرُوجَ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَدْخَلَ فِيهَا الْحَارِشُ يَدَهُ حَتَّى لَا يَرْقُبَهُ الْحَارِشُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ آخِذُهُ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يَخْرُجُ الضَّبُّ مِنَ النَّافِقَاءِ.

وَالْخِدَاعُ فِعْلٌ مَذْمُومٌ إِلَّا فِي الْحَرْبِ وَالِانْخِدَاعُ تَمْشِي حِيلَةُ الْمُخَادِعِ عَلَى الْمَخْدُوعِ وَهُوَ مَذْمُومٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِنَ الْبَلَهِ وَأَمَّا إِظْهَارُ الِانْخِدَاعِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِلْحِيلَةِ إِذَا كَانَتْ غَيْرَ مُضِرَّةٍ

ص: 274

فَذَلِكَ مِنَ الْكَرَمِ وَالْحِلْمِ قَالَ الْفَرَزْدَقُ:

اسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كُلَّ مُنْخَدِعٍ

إِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا خَادَعْتَهُ انخدعا

وَفِي حَدِيث «الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»

أَيْ مِنْ صِفَاتِهِ الصَّفْحُ وَالتَّغَاضِي حَتَّى يُظَنَّ أَنَّهُ غِرٌّ وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ بِكَرِيمٍ لِدَفْعِ الْغَرِيَّةِ الْمُؤْذِنَةِ بِالْبَلَهِ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ الْفِطْنَةَ لِأَنَّ أُصُولَ اعْتِقَادِهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى نَبْذِ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ تَضْلِيلُ الرَّأْيِ وَطَمْسُ الْبَصِيرَةِ أَلَا تَرَى إِلَى

قَوْلِهِ: «وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ»

مَعَ

قَوْلِهِ: «لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ»

، وَكُلُّهَا تُنَادِي عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَلِيقُ بِهِ الْبَلَهُ وَأَمَّا مَعْنَى

«الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ»

فَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَمَّا زَكَتْ نَفْسُهُ عَنْ ضَمَائِرِ

الشَّرِّ وَخُطُورِهَا بِبَالِهِ وَحَمْلِ أَحْوَالِ النَّاسِ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ فَعَرَضَتْ لَهُ حَالَةُ اسْتِئْمَانٍ تُشْبِهُ الْغِرِّيَّةَ قَالَ ذُو الرُّمَّةِ:

تِلْكَ الْفَتَاةُ الَّتِي عَلِقْتُهَا عَرْضًا

إِنَّ الْحَلِيمَ وَذَا الْإِسْلَامِ يَخْتَلِبُ

فَاعْتَذَرَ عَنْ سُرْعَةِ تَعَلُّقِهِ بِهَا وَاخْتِلَابِهَا عَقْلِهِ بِكَرَمِ عَقْلِهِ وَصِحَّةِ إِسْلَامِهِ فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ جَوْدَةِ الرَّأْيِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ سَرِيعَ التَّأَثُّرِ مِنْهَا.

وَمَعْنَى صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ظَاهِرٌ، وَأَمَّا مُخَادَعَتُهُمُ اللَّهَ تَعَالَى الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ قَصَدُوا التَّمْوِيهَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْصِدُهُ عَاقِلٌ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى الضَّمَائِرِ وَالْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ اللَّهَ يُعَامِلُهُمْ بِخِدَاعٍ، وَكَذَلِكَ صُدُورُ الْخِدَاعِ مِنْ جَانِبِ الْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَذْمُومِ الْفِعْلِ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِعْلُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ وَلَا قَصْدُ الْمُنَافِقِينَ تَعَلُّقِهِ بِمُعَامَلَتِهِمْ لِلَّهِ كُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ تَأْوِيلًا فِي مَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ الدَّالُّ عَلَيْهِ صِيغَةُ يُخادِعُونَ أَوْ فِي فَاعِلِهِ الْمُقَدَّرِ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْمُصَرَّحُ بِهِ.

فَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي يُخادِعُونَ فَعَلَى وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّ مَفْعُولَ خَادَعَ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودًا لِلْمُخَادِعِ- بِالْكَسْرِ- إِذْ قَدْ يَقْصِدُ خِدَاعَ أَحَدٍ فَيُصَادِفُ غَيْرَهُ كَمَا يُخَادِعُ أَحَدٌ وَكِيلَ أَحَدٍ فِي مَالٍ فَيُقَالُ لَهُ أَنْتَ تُخَادِعُ فُلَانًا وَفُلَانًا تَعْنِي الْوَكِيلَ وَمُوَكِّلَهُ، فَهُمْ قَصَدُوا خِدَاعَ الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَلَمَّا كَانَتْ مُخَادَعَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ الدِّينِ كَانَ خِدَاعُهُمْ رَاجِعًا لِشَارِعِ ذَلِكَ الدِّينِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُ مَعْنَى خِدَاعِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فَهُوَ إِغْضَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ بِوَادِرِهِمْ وَفَلَتَاتِ أَلْسُنِهِمْ وَكَبَوَاتِ أَفْعَالِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمُ الدَّالُّ جَمِيعُهَا عَلَى نِفَاقِهِمْ حَتَّى لَمْ يَزَالُوا يُعَامِلُونَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمَّا كَانَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِإِذْنِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَقَدْ نَهَى

ص: 275

مَنِ اسْتَأْذَنَهُ فِي أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيِّ ابْن سَلُولٍ، كَانَ ذَلِكَ الصَّنِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ فَكَانَ مَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [142] ، كَمَا رَجَعَ إِلَيْهِ خِدَاعُهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي الْمُخَادَعَةِ مِنْ جَانِبَيْهَا، كُلٌّ بِمَا يُلَائِمُهُ.

الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَنَّ يُخادِعُونَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَشْبِيهًا لِلْهَيْئَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلِدِينِ اللَّهِ، وَمِنْ مُعَامَلَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي الْإِمْلَاءِ لَهُمْ وَالْإِبْقَاءِ

عَلَيْهِمْ، وَمُعَامَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ فِي إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، بِهَيْئَةِ فِعْلِ الْمُتَخَادِعِينَ.

الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَادَعَ بِمَعْنَى خَدَعَ أَيْ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِهِ حُصُولُ الْفِعْلِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ بَلْ قَصْدُ الْمُبَالَغَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الْخَلِيلِ: يُقَالُ خَادَعَ مِنْ وَاحِدٍ لِأَنَّ فِي الْمُخَادَعَةِ مُهْلَةً كَمَا يُقَالُ عَالَجْتُ الْمَرِيضَ لِمَكَانِ الْمُهْلَةِ، قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَأَنَّهُ يَرُدُّ فَاعَلَ إِلَى اثْنَيْنِ وَلَا بُدَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّ فِيهِ مُهْلَةً وَمُدَافَعَةً وَمُمَاطَلَةً فَكَأَنَّهُ يُقَاوِمُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَجِيءُ فِيهِ فَاعَلَ اهـ. وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى جَعْلِ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ مُسْتَعَارَةً لِمَعْنَى الْمُبَالَغَةِ بِتَشْبِيهِ الْفِعْلِ الْقَوِيِّ بِالْفِعْلِ الْحَاصِلِ مِنْ فَاعِلَيْنِ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلُ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَمَنْ مَعَهُ:(يَخْدَعُونَ اللَّهَ) . وَهَذَا إِنَّمَا يَدْفَعُ الْإِشْكَالَ عَنْ إِسْنَادِ صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنَ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَنْزِيهِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَنْهُ، وَلَا يَدْفَعُ إِشْكَالَ صُدُورِ الْخِدَاعِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ لِلَّهِ.

وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فِي فَاعِلِ يُخادِعُونَ الْمُقَدَّرِ وَهُوَ الْمَفْعُولُ أَيْضًا فَبِأَنْ يُجْعَلَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ فَالْإِسْنَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ لِأَجْلِ الْمُلَابَسَةِ بَيْنَ الرَّسُولِ وَمُرْسِلِهِ وَإِمَّا مَجَازٌ بِالْحَذْفِ لِلْمُضَافِ، فَلَا يَكُونُ مُرَادُهُمْ خِدَاعَ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَيَبْقَى أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ مَخْدُوعًا مِنْهُمْ وَمُخَادِعًا لَهُمْ، وَأَمَّا تَجْوِيزُ مُخَادَعَةِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لِلْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهَا جَزَاءٌ لَهُمْ عَلَى خِدَاعِهِمْ فَذَلِكَ غَيْرُ لَائِقٍ.

وَقَوله: يُخادِعُونَ اللَّهَ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَخَلَفٌ (يُخَادِعُونَ) بِأَلِفٍ بَعْدَ الْخَاءِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ (يَخْدَعُونَ) بِفَتْحِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْخَاءِ.

وَجُمْلَةُ وَمَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يُخَادِعُونَ الْأَوَّلَ أَيْ يُخَادِعُونَ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ لَا يُخَادِعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ أَيْ خِدَاعُهُمْ مَقْصُورٌ عَنْ ذَوَاتِهِمْ لَا يَرْجِعُ شَيْءٌ مِنْهُ إِلَى

ص: 276

اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّ الْخِدَاعَ فِي قَوْلِهِ وَمَا يُخَادِعُونَ عَيْنُ الْخِدَاعِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ فَيَرِدُ إِشْكَالُ صِحَّةِ قَصْرِ الْخِدَاعِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مَعَ إِثْبَاتِ مُخَادَعَتِهِمُ اللَّهَ تَعَالَى وَالْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أَجَابَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ الثَّانِيَةَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي لَازِمِ مَعْنَى الْمُخَادَعَةِ الْأُولَى وَهُوَ الضُّرُّ فَإِنَّهَا قَدِ اسْتُعْمِلَتْ أَوَّلًا فِي مُطْلَقِ الْمُعَامَلَةِ الشَّبِيهَةِ بِالْخِدَاعِ وَهِيَ مُعَامَلَةُ الْمَاكِرِ الْمُسْتَخِفِّ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا لَفْظُ الْمُخَادَعَةِ اسْتِعَارَةً ثُمَّ أُطْلِقَتْ ثَانِيًا وَأُرِيدَ مِنْهَا لَازِمُ مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ وَهُوَ الضُّرُّ لِأَنَّ الَّذِي يُعَامَلُ بِالْمَكْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ يَتَصَدَّى لِلِانْتِقَامِ مِنْ مُعَامِلِهِ فَقَدْ يَجِدُ قُدْرَةً مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غِرَّةً مِنْ صَاحِبِهِ

فَيَضُرُّهُ ضُرًّا فَصَارَ حُصُولُ الضُّرِّ لِلْمُعَامَلِ أَمْرًا عُرْفِيًّا لَازِمًا لِمُعَامِلِهِ، وَبِذَلِكَ صَحَّ اسْتِعْمَالُ يُخَادِعُ فِي هَذَا الْمَعْنَى مَجَازًا أَوْ كِنَايَةً وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ الْمَجَازِ عَلَى الْمَجَازِ لِأَنَّ الْمُخَادَعَةَ أُطْلِقَتْ أَوَّلًا اسْتِعَارَةً ثُمَّ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْحَقِيقَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ مَجَازًا فِي لَازِمِ الْمَعْنَى الْمُسْتَعَارِ لَهُ، فَالْمَعْنَى وَمَا يَضُرُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فَيَجْرِي فِيهِ الْوُجُوهُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِإِطْلَاقِ مَادَّةِ الْخِدَاعِ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَيَجِيءُ تَأْوِيلُ مَعْنَى جَعْلِ أَنْفُسِهِمْ شِقًّا ثَانِيًا لِلْمُخَادَعَةِ مَعَ أَنَّ الْأَنْفُسَ هِيَ عَيْنُهُمْ فَيَكُونُ الْخِدَاعُ اسْتِعَارَةً لِلْمُعَامَلَةِ الشَّبِيهَةِ بِفِعْلِ الْجَانِبَيْنِ الْمُتَخَادِعَيْنِ بِنَاءً عَلَى مَا شَاعَ فِي وِجْدَانِ النَّاسِ مِنَ الْإِحْسَاسِ بِأَنَّ الْخَوَاطِرَ الَّتِي تَدْعُو إِلَى ارْتِكَابِ مَا تَسُوءُ عَوَاقِبُهُ أَنَّهَا فِعْلُ نَفْسٍ هِيَ مُغَايِرَةٌ لِلْعَقْلِ وَهِيَ الَّتِي تُسَوِّلُ لِلْإِنْسَانِ الْخَيْرَ مَرَّةً وَالشَّرَّ أُخْرَى وَهُوَ تَخَيُّلٌ بُنِيَ عَلَى خَطَابَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ لِإِحْدَاثِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ خَوَاطِرِهِ الشِّرِّيرَةِ بِجَعْلِهَا وَارِدَةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ غَيْرِ ذَاتِهِ بَلْ مِنَ النَّفْسِ حَتَّى يَتَأَهَّبَ لِمُقَارَعَتِهَا وَعِصْيَانِ أَمْرِهَا وَلَوِ انْتَسَبَتْ إِلَيْهِ لَمَا رَأَى مِنْ سَبِيلٍ إِلَى مُدَافَعَتِهَا، قَالَ عَمْرو بن معديكرب:

فَجَاشَتْ عَلَيَّ أَوَّلَ مَرَّةٍ

فَرُدَّتْ عَلَى مَكْرُوهِهَا فَاسْتَقَرَّتِ

وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ الْفَارِسِيَّ أَنْشَدَ لِبَعْضِ الْأَعْرَابِ:

لَمْ تَدْرِ مَا (لَا) وَلَسْتَ قَائِلَهَا

عُمْرَكَ مَا عِشْتَ آخِرَ الْأَبَدِ

وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِيًا

فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَكَدِ

يُرِيدُ بِأُخْتِهَا كَلِمَةَ (نَعَمْ) وَهِيَ أُخْتُ (لَا) وَالْمُرَادُ أَنَّهَا أُخْتٌ فِي اللِّسَانِ. وَقُلْتُ وَمِنْهُ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ أُذَيْنَةَ:

وَإِذَا وَجَدْتُ لَهَا وَسَاوِسَ سَلْوَةً

شَفَعَ الْفُؤَادُ إِلَى الضَّمِيرِ فَسَلَّهَا

فَكَأَنَّهُمْ لَمَّا عَصَوْا نُفُوسَهُمُ الَّتِي تَدْعُوهُمْ لِلْإِيمَانِ عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ إِذْ لَا تَخْلُو

ص: 277