الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلًا يَحْصُلُ بِهِ احْتِقَارُهُ أَوْ وَالتَّطْرِيَةُ بِهِ، سَوَاءٌ أَشْعَرَهُ بِذَلِكَ أَمْ أَخْفَاهُ عَنْهُ. وَالْبَاءُ فِيهِ لِلسَّبَبِيَّةِ قِيلَ: لَا يَتَعَدَّى بِغَيْرِ الْبَاءِ وَقِيلَ: يَتَعَدَّى بِمِنْ، وَهُوَ مُرَادِفُ سَخِرَ فِي الْمَعْنَى دُونَ الْمَادَّةِ كَمَا سَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (مُسْتَهْزُونَ) بِدُونِ هَمْزَةٍ وَبِضَمِّ الزَّايِ تَخْفِيفًا وَهُوَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ فِي
المهموز.
[15]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 15]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.
لَمْ تُعْطَفْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّامِعَ لِحِكَايَةِ قَوْلِهِمْ للْمُؤْمِنين آمَنَّا [الْبَقَرَة: 14] وَقَوْلِهِمْ لِشَيَاطِينِهِمْ إِنَّا مَعَكُمْ
[الْبَقَرَة: 14] إِلَخْ. يَقُولُ لَقَدْ رَاجَتْ حِيلَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْغَافِلِينَ عَنْ كَيْدِهِمْ وَهَلْ يَتَفَطَّنُ مُتَفَطِّنٌ فِي الْمُسْلِمِينَ لِأَحْوَالِهِمْ فَيُجَازِيهِمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ، أَوْ هَلْ يَرُدُّ لَهُمْ مَا رَامُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَنِ الَّذِي يَتَوَلَّى مُقَابَلَةَ صُنْعِهِمْ فَكَانَ لِلِاسْتِئْنَافِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ غَايَةُ الْفَخَامَةِ وَالْجَزَالَةِ، وَهُوَ أَيْضًا وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاعْتِرَاضِ وَالْأَكْثَرُ فِي الِاعْتِرَاضِ تَرْكُ الْعَاطِفِ. وَذِكْرُ يَسْتَهْزِئُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ مُجَازَاةٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ.
وَلِأَجَلِ اعْتِبَارِ الِاسْتِئْنَافِ قُدِّمَ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ. وَلم يقل يستهزىء اللَّهُ بِهِمْ لِأَنَّ مِمَّا يَجُولُ فِي خَاطِرِ السَّائِلِ أَنْ يَقُولَ مَنِ الَّذِي يَتَوَلَّى مُقَابَلَةَ سُوءِ صَنِيعِهِمْ فَأُعْلِمَ أَنَّ الَّذِي يَتَوَلَّى ذَلِكَ هُوَ رَبُّ الْعِزَّةِ تَعَالَى، وَفِي ذَلِكَ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِ الْمُنْتَصِرِ لَهُمْ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الْحَج: 38] فَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ هُنَا لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ يُفِيدُ مَعَ ذَلِكَ قَصْرُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ تَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ الْفِعْلِيِّ فِي سِيَاقِ الْإِيجَابِ يَأْتِي لِتَقَوِّي الْحُكْمِ وَيَأْتِي لِلْقَصْرِ عَلَى رَأْيِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَاهِرِ وَصَاحِبِ «الْكَشَّافِ» كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ فِي سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ [20]، كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ قَصْدِ التَّقَوِّي وَقَصْدِ التَّخْصِيصِ جَائِزًا فِي مَقَاصِدِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ وَقَدْ جَوَّزَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً فِي سُورَةِ الْجِنِّ [13] ، لِأَنَّ مَا يُرَاعِيهِ الْبَلِيغُ مِنَ الْخُصُوصِيَّاتِ لَا يَتْرُكُ حَمْلَ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ عَلَيْهِ فَكَيْفَ بِأَبْلَغِ كَلَامٍ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ النُّكَتُ لَا تَتَزَاحَمُ.
كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَغُرُّهُمْ مَا يَرَوْنَ مِنْ صَفْحِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمْ وَإِعْرَاضِ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّنَازُلِ لَهُمْ فَيَحْسَبُونَ رَوَاجَ حِيلَتِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ وَلِذَلِكَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ:
لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المُنَافِقُونَ: 8] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ [المُنَافِقُونَ: 8] فَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِمُجَرَّدِ الِاهْتِمَامِ لَا لِقَصْدِ التَّقَوِّي إِذْ لَا مُقْتَضَى لَهُ.
وَفِعْلُ: يَسْتَهْزِئُ الْمُسْنَدُ إِلَى اللَّهِ لَيْسَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مَا يُسَمَّى بِالِاسْتِهْزَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ وَلَمْ يَقَعِ اسْتِهْزَاءٌ حَقِيقِيٌّ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ إِمَّا تَمْثِيلٌ لِمُعَامَلَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِي مُقَابَلَةِ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، بِمَا بشبه فِعْلَ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِمْ وَذَلِكَ بِالْإِمْلَاءِ لَهُمْ حَتَّى يَظُنُّوا أَنَّهُمْ سَلِمُوا مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ فَيَظُنُّوا أَنَّ اللَّهَ رَاضٍ عَنْهُمْ أَوْ أَنَّ أَصْنَامَهُمْ نَفَعُوهُمْ حَتَّى إِذَا نَزَلَ بِهِمْ عَذَابُ الدُّنْيَا مِنَ الْقَتْلِ وَالْفَضْحِ عَلِمُوا خِلَافَ مَا تَوَهَّمُوا فَكَانَ ذَلِكَ كَهَيْئَةِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.
وَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ: يَسْتَهْزِئُ لِزَمَنِ الْحَالِ.
وَلَا يُحْمَلُ عَلَى اتِّصَافِ اللَّهِ بِالِاسْتِهْزَاءِ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنَ اللَّهِ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي الدُّنْيَا، وَيُحَسِّنُ هَذَا التَّمْثِيلَ مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ حَقِيقَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْعِقَابِ فَيَكُونُ الْمُضَارِعُ فِي يَسْتَهْزِئُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى نَحَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ فِي نَقْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهِ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ نَحْوِهِ مِنَ الْإِذْلَالِ وَالتَّحْقِيرِ وَالْمَعْنَى يُذِلُّهُمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ مَجَازًا وَمُشَاكَلَةً، أَوْ مُرَادًا بِهِ مَآلُ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْ رُجُوعِ الْوَبَالِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ جَازَ فَقَدْ عَيَّنَهُ هُنَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَمَا نَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ وَعَيَّنَهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَالْبَيْضَاوِيُّ وَعَيَّنَهُ الْمُعْتَزِلَةُ أَيْضًا لِأَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَلِيقُ إِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ فِعْلٌ قَبِيحٌ يُنَزَّهُ اللَّهَ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُتَعَارَفِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَجِيءَ فِي حِكَايَةِ كَلَامِهِمْ بِالْمُسْنَدِ الِاسْمِيِّ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [الْبَقَرَة:
14] لِإِفَادَةِ كَلَامِهِمْ مَعْنَى دَوَامِ صُدُورِ الِاسْتِهْزَاءِ مِنْهُمْ وَثَبَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يُحَوَّلُونَ عَنْهُ.
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ بِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ أَيْ تَجَدُّدِ إِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ زَمَانًا إِلَى أَنْ يَأْخُذَهُمُ الْعَذَابُ، لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ النِّفَاقِ مِنَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ وَإِنْ طَالَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: 196] .
وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ.
و (يمد) فِعْلٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَدَدِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ، يُقَالُ مَدَّهُ إِذَا زَادَهُ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي
الِاشْتِقَاقِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْهَمْزَةِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَدَلِيلُهُ أَنَّهُمْ ضَمُّوا الْعَيْنَ فِي الْمُضَارِعِ عَلَى قِيَاسِ الْمُضَاعَفِ الْمُتَعَدِّي، وَقَدْ يَقُولُونَ أَمَدَّهُ بِهَمْزَةِ التَّعْدِيَةِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعَلَهُ ذَا مَدَدٍ ثُمَّ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ مَدَّ فِي الزِّيَادَةِ فِي ذَاتِ الْمَفْعُولِ نَحْوُ مَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ وَمَدَّ الْأَرْضَ أَيْ مَطَّطَهَا وَأَطَالَهَا، وَغَلَبَ اسْتِعْمَالُ أَمَدَّ الْمَهْمُوزِ فِي الزِّيَادَةِ لِلْمَفْعُولِ مِنْ أَشْيَاءَ يَحْتَاجُهَا نَحْوُ أَمَدَّهُ بِجَيْشٍ: أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشُّعَرَاء: 133] . وَإِنَّمَا اسْتُعْمِلَ هَذَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ عَلَى الْأَصْلِ فَلِذَلِكَ قِيلَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِعْمَالِ وَقِيلَ يَخْتَصُّ أَمَدَّ الْمَهْمُوزُ بِالْخَيرِ نَحْو: أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النَّمْل: 36] أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ [الْمُؤْمِنُونَ: 55] ، وَيَخْتَصُّ مَدَّ بِغَيْرِ الْخَيْرِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ فِي كِتَابِ «الْحُجَّةِ» ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ، إِلَّا الْمُعَدَّى بِاللَّامِ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعُمُرِ وَالْإِمْهَالِ فِيهِ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ وَغَيْرِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ اللُّغَوِيِّينَ فَاسْتَغْنَوْا بِذِكْرِ اللَّامِ الْمُؤْذِنَةِ بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّفْعِ وَلِلْأَجَلِ (بِسُكُونِ الْجِيمِ) عَنِ التَّفْرِقَةِ بِالْهَمْزِ رُجُوعًا لِلْأَصْلِ لِئَلَّا يَجْمَعُوا بَيْنَ مَا يَقْتَضِي التَّعْدِيَةَ وَهُوَ الْهَمْزَةُ وَبَيْنَ مَا يَقْتَضِي الْقُصُورَ وَهُوَ لَامُ الْجَرِّ، وَكُلُّ هَذَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى النَّاظِرِينَ وَهِيَ طَرِيقَةٌ لَهُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَفَرَّعُ مَعْنَاهَا الْوَضْعِيُّ إِلَى مَعَانٍ جُزْئِيَّةٍ لَهُ أَوْ مُقَيَّدَةٍ أَوْ مَجَازِيَّةٍ أَنْ يَخُصُّوا بَعْضَ لُغَاتِهِ أَوْ بَعْضَ أَحْوَالِهِ بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَعَانِي جَرْيًا وَرَاءَ التَّنْصِيصِ فِي الْكَلَامِ وَدَفْعِ اللَّبْسِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ. وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ اسْتِعْمَالِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَلَا يُقَالُ إِنَّ دَعْوَى اخْتِصَاصِ بَعْضِ الِاسْتِعْمَالَاتِ بِبَعْضِ الْمَعَانِي هِيَ دَعْوَى اشْتِرَاكٍ أَوْ دَعْوَى مَجَازٍ وَكِلَاهُمَا خِلَافُ الْأَصْلِ كَمَا أَوْرَدَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّخْصِيصَ كَمَا عَلِمْتَ اصْطِلَاحٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا تَعَدُّدُ وَضْعٍ وَلَا اسْتِعْمَالٌ فِي غَيْرِ الْمَعْنَى الْمَوْضُوعِ لَهُ وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فَرَقَ وَفَرَّقَ وَوَعَدَ وَأَوْعَدَ وَنَشَدَ وَأَنْشَدَ وَنَزَّلَ (الْمُضَاعَفُ) وَأَنْزَلَ، وَقَوْلُهُمِ الْعِثَارُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْحَقِيقَةُ، وَالْعُثُورُ مَصْدَرُ عَثَرَ إِذْ أُرِيدَ بِالْفِعْلِ الْمَجَازُ وَهُوَ الِاطِّلَاعُ، وَقَدْ فَرَّقَتِ الْعَرَبُ فِي مَصَادِرِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ وَفِي جُمُوعِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِاخْتِلَافِ الْقُيُودِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ (يَمُدُّ) إِلَى ضَمِيرِهِمُ الدَّالِّ عَلَى أَدَبٍ أَوْ ذَوْقٍ مَعَ أَنَّ الْمَدَّ إِنَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى الطُّغْيَانِ جَاءَتْ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِجْمَالِ الَّذِي يَعْقُبُهُ التَّفْصِيلُ لِيَتَمَكَّنَ التَّفْصِيلُ فِي ذِهْنِ السَّامِعِ مِثْلُ طَرِيقَةِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ وَجَعَلَ الزَّجَّاجُ وَالْوَاحِدِيُّ أَصْلَهُ وَيَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ فَحَذَفَ لَامَ الْجَرِّ وَاتَّصَلَ الْفِعْلُ بِالْمَجْرُورِ عَلَى طَرِيقَةِ نَزْعِ الْخَافِضِ وَلَيْسَ بِذَلِكَ.
وَالطُّغْيَانُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْغُفْرَانِ وَالشُّكْرَانِ، وَهُوَ مُبَالَغَةٌ فِي الطَّغْيِ وَهُوَ الْإِفْرَاطُ فِي
الشَّرِّ وَالْكِبْرِ وَتَعْلِيقُ فِعْلِ يَمُدُّهُمْ هُنَا بِضَمِيرِ الذَّوَاتِ تَعْلِيقٌ إِجْمَالِيٍّ يُفَسِّرُهُ قَوْلُهُ: فِي طُغْيانِهِمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى تَقْدِيرِ لَامٍ مَحْذُوفَةٍ أَيْ يَمُدُّ لَهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ أَيْ يُمْهِلُهُمْ فَيَكُونُ نَحْوَ بَعْضِ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَالْوَاحِدِيِّ وَفِيهِ بُعْدٌ.
وَالْعَمَهُ انْطِمَاسُ الْبَصِيرَةِ وَتَحَيُّرُ الرَّأْيِ وَفِعْلُهُ عَمِهَ فَهُوَ عَامِهٌ وَأَعْمَهُ.
وَإِسْنَادُ الْمَدِّ فِي الطُّغْيَانِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ:
وَيَمُدُّهُمْ إِسْنَادُ خَلْقٍ وَتَكْوِينٍ مَنُوطٍ بِأَسْبَابِ التَّكْوِينِ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُصُولِ الْمُسَبَّبَاتِ عِنْدَ أَسْبَابِهَا. فَالنِّفَاقُ إِذَا دَخَلَ الْقُلُوبَ كَانَ مِنْ آثَارِهِ أَنْ لَا يَنْقَطِعَ عَنْهَا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنِ وَصْفِ النِّفَاقِ أَنْ تُنْمِي عَنْهُ الرَّذَائِلُ الَّتِي قَدَّمْنَا بَيَانهَا كَانَ تكونها فِي نُفُوسِهِمْ مُتَوَلِّدًا مِنْ أَسْبَابٍ شَتَّى فِي طِبَاعِهِمْ مُتَسَلْسِلًا مِنِ ارْتِبَاطِ الْمُسَبَّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا وَهِيَ شَتَّى وَمُتَفَرِّعَةٌ وَذَلِكَ بِخُلُقٍ خَاصٍّ بِهِمْ مُبَاشَرَةً وَلَكِنَّ اللَّهَ حَرَمَهُمْ تَوْفِيقَهُ الَّذِي يَقْلَعُهُمْ عَنْ تِلْكَ الجبلة بمحارية نُفُوسِهِمْ، فَكَانَ حِرْمَانُهُ إِيَّاهُمُ التَّوْفِيقَ مُقْتَضِيًا اسْتِمْرَارَ طُغْيَانِهِمْ وَتَزَايُدَهُ بِالرُّسُوخِ فَإِسْنَادُ ازْدِيَادِهِ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ خَالِقُ النُّظُمِ الَّتِي هِيَ أَسْبَابُ ازْدِيَادِهِ، وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْحَقِيقَةِ الْعَقْلِيَّةِ الشَّائِعَةِ وَلَيْسَ مِنَ الْمَجَازِ لِعَدَمِ مُلَاحَظَةِ خَلْقِ الْأَسْبَابِ بِحَسَبِ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ مِنْ إِسْنَادِ مَا خَفِيَ فَاعِلُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لِلْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ وَالْجَاعِلُ لِنَوَامِيسِهَا بِكَيْفِيَّةٍ لَا يَعْلَمُ النَّاسُ سِرَّهَا وَلَا شَاهَدُوا مَنْ تُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ غَيْرَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ بَنَى الْأَمِير الْمَدِينَة لَا سِيمَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْإِسْنَادِ إِلَيْهِ فِي الْكَلَامِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ لِلْبِنَاءِ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ مَجَالٌ وَهَذَا بِخِلَافِ نَحْوِ: يَزِيدُكَ وَجْهُهُ حُسْنًا وَسَرَّتْنِي رُؤْيَتُكَ لِأَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَاقِعِ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُلْتَفَتٍ إِلَيْهِ فِي الْعُرْفِ فَلِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ: إِنَّهُ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ.