المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة البقرة (2) : آية 30] - التحرير والتنوير - جـ ١

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌بَين يَدي الْكتاب

- ‌[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم مصطفى عاشور:]

- ‌من هُوَ

- ‌سفير الدعْوَة

- ‌آراء ومناصب

- ‌التَّحْرِير والتنوير

- ‌مقاصد الشَّرِيعَة

- ‌محنة التَّجْنِيس

- ‌صدق الله وَكذب بورقيبة

- ‌وَفَاته

- ‌[تَرْجَمَة ابْن عاشور، بقلم الْمهْدي بن حميدة]

- ‌1- آل عاشور

- ‌2- مولده ونشأته

- ‌3- مسيرته الدراسية والعلمية

- ‌4- شُيُوخه

- ‌5- تأثره بمفكري عصره

- ‌6- إصلاحاته ورؤيته للإصلاح

- ‌ تطور الْعُلُوم

- ‌ المسيرة النضالية

- ‌7- كتاباته ومؤلفاته

- ‌[مَبْحَث عَن التَّحْرِير والتنوير]

- ‌التَّعْرِيف بالتفسير:

- ‌الْمنْهَج الْعَام للتفسير:

- ‌الْمنْهَج التفصيلي للمؤلف:

- ‌أَولا: أَسمَاء السُّور وَعدد الْآيَات وَالْوُقُوف وَبَيَان المناسبات:

- ‌ثَانِيًا: موقفه من العقيدة:

- ‌ثَالِثا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ:

- ‌رَابِعا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بِالسنةِ:

- ‌خَامِسًا: موقفه من تَفْسِير الْقُرْآن بأقوال السّلف:

- ‌سادسا: موقفه من السِّيرَة والتاريخ وَذكر الْغَزَوَات:

- ‌سابعا: موقفه من الْإسْرَائِيلِيات:

- ‌ثامنا: موقفه من اللُّغَة:

- ‌تاسعا: موقفه من الْقرَاءَات:

- ‌عاشرا: موقفه من الْفِقْه وَالْأُصُول:

- ‌موقفه من النّسخ:

- ‌حادي عشر: موقفه من الْعُلُوم الحديثة والرياضة والفلسفة والمعجزات الكونية:

- ‌ثَانِي عشر: موقفه من المواعظ والآداب:

- ‌جملَة من الانتقادات

- ‌أَولا: ذُو ثِقَة زَائِدَة بِنَفسِهِ أوقعته فِي مزالق:

- ‌ثَانِيًا: صَاحب استطراد وتكلف خرج عَن حد التَّفْسِير جملَة وتفصيلا على الرغم من إهماله التَّفْسِير فِي مَوَاضِع لَا يسْتَغْنى عَن تَفْسِيرهَا:

- ‌ثَالِثا: ذُو ولع شَدِيد بِالنَّقْدِ وَإِن كَانَ هُنَاكَ مندوحة لترك الانتقاد

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى فِي التَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَكَوْنِ التَّفْسِيرِ عِلْمًا

- ‌ الْأَوَّلُ

- ‌وَالثَّانِي

- ‌وَالثَّالِثُ

- ‌الرَّابِعُ

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ فِي اسْتِمْدَادِ عِلْمِ التَّفْسِيرِ

- ‌تَنْبِيهٌ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّالِثَةُ فِي صِحَّةِ التَّفْسِيرِ بِغَيْرِ الْمَأْثُورِ وَمَعْنَى التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَنَحْوِهِ

- ‌أَوَّلُهَا:

- ‌ثَانِيهَا:

- ‌ثَالِثُهَا:

- ‌رَابِعُهَا:

- ‌خَامِسُهَا:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الرَّابِعَةُ فِيمَا يَحِقُّ أَنْ يَكُونَ غَرَضَ الْمُفَسِّرِ

- ‌الْأَوَّلُ:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ:

- ‌السَّابِعُ:

- ‌الثَّامِنُ:

- ‌الْأُولَى:

- ‌الثَّانِيَةُ:

- ‌الثَّالِثَةُ:

- ‌الرَّابِعَةُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْخَامِسَةُ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ

- ‌الْأَوَّلُ:

- ‌وَالثَّانِي:

- ‌وَالثَّالِثُ:

- ‌وَالرَّابِعُ:

- ‌وَالْخَامِسُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ السَّادِسَةُ فِي الْقِرَاءَاتِ

- ‌أَمَّا الْحَالَةُ الْأُولَى:

- ‌وَأَمَّا الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌مَرَاتِبُ الْقِرَاءَاتِ الصَّحِيحَةِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا

- ‌الْمُقَدِّمَةُ السَّابِعَةُ قَصَصُ الْقُرْآنِ

- ‌الْفَائِدَةُ الْأُولَى:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الثَّامِنَة:

- ‌الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:

- ‌الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ:

- ‌أَحَدُهَا:

- ‌الثَّانِي:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الثَّامِنَةُ فِي اسْمِ الْقُرْآنِ وَآيَاتِهِ وَسُوَرِهِ وَتَرْتِيبِهَا وَأَسْمَائِهَا

- ‌آيَات الْقُرْآن

- ‌تَرْتِيب الْآي

- ‌وقُوف الْقُرْآن

- ‌سور الْقُرْآن

- ‌الْمُقَدِّمَةُ التَّاسِعَةُ فِي أَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي تَتَحَمَّلُهَا جُمَلُ الْقُرْآنِ تُعْتَبَرُ مُرَادَةً بِهَا

- ‌الْمُقَدِّمَةُ الْعَاشِرَةُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ

- ‌الْجِهَةُ الْأُولَى:

- ‌الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ:

- ‌الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ:

- ‌مبتكرات الْقُرْآن

- ‌عادات الْقُرْآن

- ‌1- سُورَةُ الْفَاتِحَةِ

- ‌[سُورَة الْفَاتِحَة (1) : الْآيَات 1 الى 7]

- ‌الْكَلَام على الْبَسْمَلَة

- ‌الثَّانِي:

- ‌الدَّلِيلُ الْأَوَّلُ:

- ‌الثَّالِثُ:

- ‌الرَّابِعُ:

- ‌الْخَامِسُ:

- ‌السَّادِسُ

- ‌2- سُورَةُ الْبَقَرَةِ

- ‌محتويات هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 25]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 26 الى 27]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 32]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 35]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 42]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 43]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 44]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 45 إِلَى 46]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 50]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 51 إِلَى 52]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 54]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 55 إِلَى 56]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 57]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 58 إِلَى 59]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 60]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 61]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 62]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 63 إِلَى 64]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 65 إِلَى 66]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 67]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 68]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 69]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 70 الى 71]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 72 إِلَى 73]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 74]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 75]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 76 إِلَى 77]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 78]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 79]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 80 إِلَى 82]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 83]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 84 الى 86]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 87]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 88]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 89]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 90]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 91]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 92 إِلَى 93]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 94 إِلَى 95]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 96]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 97 إِلَى 98]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 99 إِلَى 101]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 102]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 103]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 104]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 105]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 106]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 107]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 108]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 109 إِلَى 110]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 111 إِلَى 112]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 113]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 114]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 115]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 116]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 117]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَةٌ 118]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 119]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 120]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 121]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 122 إِلَى 123]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 124]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 125]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 126]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 127]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 128]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 129]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 130 إِلَى 131]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 132]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 133]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 134]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 135]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 136]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 137]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 138]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 139]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 140]

- ‌[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 141]

الفصل: ‌[سورة البقرة (2) : آية 30]

[30]

[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 30]

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.

عَطَفَتِ الْوَاوُ قِصَّةَ خَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ عَلَى قِصَّةِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ انْتِقَالًا بِهِمْ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ وَعَلَى بُطْلَانِ شِرْكِهِمْ وَتَخَلُّصًا مِنْ ذِكْرِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى خَلْقِ النَّوْعِ الَّذِي هُوَ سُلْطَانُ الْأَرْضِ وَالْمُتَصَرِّفُ فِي أَحْوَالِهَا، لِيَجْمَعَ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْأَدِلَّةِ وَبَين مُخْتَلف حوادث تَكْوِينِ الْعَوَالِمِ وَأَصْلِهَا لِيَعْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مَا عَلِمَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي كَانُوا يُبَاهُونَ بِهِ الْعَرَبَ وَهُوَ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَوْقِعَ الدَّلِيلِ بِخَلْقِ آدَمَ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ هُوَ أَنَّ خَلْقَ أَصْلِ النَّوْعِ أَمْرٌ مُدْرَكٌ بِالضَّرُورَةِ لِأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ إِذَا لَفَتَ ذِهْنَهُ إِلَى وُجُودِهِ عَلِمَ أَنَّهُ وُجُودٌ مَسْبُوقٌ بِوُجُودِ أَصْلٍ لَهُ بِمَا يُشَاهِدُ مِنْ نَشْأَةِ الْأَبْنَاءِ عَنِ الْآبَاءِ فَيُوقِنُ أَنَّ لِهَذَا النَّوْعِ أَصْلًا أَوَّلَ يَنْتَهِي إِلَيْهِ نُشُوءُهُ، وَإِذْ قَدْ كَانَتِ الْعِبْرَةُ بِخَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا أُدْمِجَتْ فِيهَا مِنَّةٌ وَهِيَ قَوْله: لَكُمْ [الْبَقَرَة: 29] الْمُقْتَضِيَةُ أَنَّ خَلْقَ مَا فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِهِمْ تَهَيَّأَتْ أَنْفُسُهُمْ لِسَمَاعِ قِصَّةِ إِيجَادِ مَنْشَأِ النَّاسِ الَّذِينَ خُلِقَتِ الْأَرْضُ لِأَجْلِهِمْ لِيُحَاطَ بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ مَعَ عَظِيمِ الْمِنَّةِ وَهِيَ مِنَّةُ الْخَلْقِ الَّتِي نَشَأَتْ عَنْهَا فَضَائِلُ جَمَّةٌ وَمِنَّةُ التَّفْضِيلِ وَمِنَّةُ خِلَافَةِ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ، فَكَانَ خَلْقُ أَصْلِنَا هُوَ أَبْدَعَ مَظَاهِرِ إِحْيَائِنَا الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ فِي خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ لَنَا، فَكَانَتِ الْمُنَاسَبَةُ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى التَّذْكِيرِ بِهِ وَاضِحَةً مَعَ حُسْنِ التَّخَلُّص إِلَى ذكر خَبَرَهُ الْعَجِيبَ، فَإِيرَادُ وَاوِ الْعَطْفِ هُنَا لِأَجْلِ إِظْهَارِ اسْتِقْلَالِ هَذِهِ الْقِصَّةِ فِي حَدِّ ذَاتِهَا فِي عِظَمِ شَأْنِهَا.

ص: 395

وَ (إِذْ) مِنْ أَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُبْهَمَةِ تَدُلُّ عَلَى زَمَانِ نِسْبَةٍ مَاضِيَةٍ وَقَعَتْ فِيهِ نِسْبَةٌ أُخْرَى مَاضِيَةٌ قَارَنَتْهَا، فَ (إِذْ) تَحْتَاجُ إِلَى جُمْلَتَيْنِ جُمْلَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَظْرُوفِ وَتِلْكَ هِيَ الَّتِي تَكُونُ مَعَ جَمِيعِ الظُّرُوفِ، وَجُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الظَّرْفَ مَا هُوَ، لِأَنَّ (إِذْ) لَمَّا كَانَتْ مُبْهَمَةً احْتَاجَتْ لِمَا يُبَيِّنُ زَمَانَهَا عَنْ بَقِيَّةِ الْأَزْمِنَةِ، فَلِذَلِكَ لَزِمَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الْجُمَلِ أَبَدًا، وَالْأَكْثَرُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ إِذْ فِي مَحَلِّ ظَرْفٍ لِزَمَنِ الْفِعْلِ فَتَكُونُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِ فِيهِ، وَقَدْ تَخْرُجُ (إِذْ) عَنِ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ إِلَى الْمَفْعُولِيَّةِ كَأَسْمَاءِ الزَّمَانِ الْمُتَصَرِّفَةِ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ مُخْتَارُ ابْنِ هِشَامٍ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْجُمْهُورِ، فَهِيَ تَصِيرُ ظَرْفًا مُبْهَمًا مُتَصَرِّفًا، وَقَدْ يُضَافُ إِلَيْهَا اسْمُ زَمَانٍ نَحْوَ يَوْمَئِذٍ وَسَاعَتَئِذٍ فَتُجَرُّ بِإِضَافَةٍ صُورِيَّةٍ لِيَكُونَ ذِكْرُهَا وَسِيلَةً إِلَى حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافَةِ هِيَ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّ (إِذْ) مُلَازِمَةٌ لِلْإِضَافَةِ فَإِذَا حُذِفَتْ جُمْلَتُهَا عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ هُنَالِكَ حَذْفًا، فَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْذِفُوا جُمْلَةً مَعَ اسْمِ زَمَانٍ غَيْرِ (إِذْ) خَافُوا أَنْ لَا يَهْتَدِيَ السَّامِعُ لِشَيْءٍ مَحْذُوفٍ حَتَّى يَتَطَلَّبَ دَلِيلَهُ فَجَعَلُوا إِذْ قَرِينَةً عَلَى إِضَافَةٍ وَحَذَفُوا الْجُمْلَةَ لِيُنَبِّهُوا السَّامِعَ فَيَتَطَلَّبُ دَلِيلَ الْمَحْذُوفِ.

وَهِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ ظَرْفًا وَكَذَلِكَ أَعْرَبَهَا الْجُمْهُورُ وَجَعَلُوهَا مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: قالُوا وَهُوَ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْقِصَّةِ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبْرَةِ هُوَ خِطَابُ اللَّهِ لَهُمْ وَهُوَ مَبْدَأُ الْعِبْرَةِ وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ تَشْرِيفِ آدَمَ وَتَعْلِيمِهِ بَعْدَ الِامْتِنَانِ بِإِيجَادِ أَصْلِ نَوْعِ النَّاسِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ الْعِبْرَةِ مِنْ قَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ [الْبَقَرَة: 28] الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِي نَظِيرِهَا وَهُوَ قَوْلُهُ الْآتِي: وَإِذْ قُلْنا

لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

[الْبَقَرَة: 34] إِذْ وُجُودُ فَاءِ التَّعْقِيبِ يَمْنَعُ مِنْ جَعْلِ الظَّرْفِ مُتَعَلِّقًا بِمَدْخُولِهَا، وَلِأَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّ قَوْلَهُ: قالُوا حِكَايَةٌ لِلْمُرَاجَعَةِ وَالْمُحَاوَرَةِ عَلَى طَرِيقَةِ أَمْثَالِهِ كَمَا سَنُحَقِّقُهُ. فَالَّذِي يَنْسَاقُ إِلَيْهِ أُسْلُوبُ النَّظْمِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْعَطْفُ عَلَى جُمْلَةِ:

خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [الْبَقَرَة: 29] أَيْ خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقُ أَصْلِ الْإِنْسَانِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذِكْرَ خَلْقِ مَا فِي الْأَرْضِ وَكَونه لأجلنا يهيىء السَّامِعَ لِتَرَقُّبِ ذِكْرِ شَأْنِنَا بَعْدَ ذِكْرِ شَأْنِ مَا خُلِقَ لِأَجْلِنَا مِنْ سَمَاءٍ وَأَرْضٍ، وَتَكُونُ (إِذْ) عَلَى هَذَا مَزِيدَةً لِلتَّأْكِيدِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى وَأَنْشَدَ قَوْلَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:

فَإِذْ وَذَلِكَ لَا مَهَاهَ لِذِكْرِهِ

وَالدَّهْرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بِفَسَادِ

ص: 396

(هَكَذَا رَوَاهُ فَإِذْ عَلَى أَنْ يَكُونَ فِي الْبَيْتِ زِحَافُ الطَّيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ فَإِذَا فَلَا زِحَافَ، وَالْمَهَاهُ بِهَاءَيْنِ الْحُسْنُ وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَأْنَ الزِّيَادَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْحُرُوفِ لِأَنَّ إِذْ وَإِذا وَنَحْو هما عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ الْحُرُوفِ) ، أَوْ أَنْ يَكُونَ عَطْفُ الْقِصَّةِ عَلَى الْقِصَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهَا تُبْتَدَأُ بِهَا الْقِصَصُ الْعَجِيبَةُ الدَّالَّةُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى أَنَّهَا ذُكِرَتْ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وَلَمْ تُذْكَرْ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَتَكُونُ (إِذْ) اسْمَ زَمَانٍ مَفْعُولًا بِهِ بِتَقْدِيرِ اذْكُرْ، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَعْلِيقِ الذِّكْرِ وَالْقِصَّةِ بِالزَّمَانِ إِنَّمَا هُوَ مَا حَصَلَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ مِنَ الْأَحْوَالِ. وَتَخْصِيصُ اسْمِ الزَّمَانِ دُونَ اسْمِ الْمَكَانِ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إِسْنَادَ الْحَوَادِثِ التَّارِيخِيَّةِ وَالْقِصَصِ إِلَى أَزْمَانِ وُقُوعِهَا.

وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ أُطْلِقَ عَلَى مَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ إِرَادَتَهُ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَلَامٌ سَمِعُوهُ فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِسْنَادُهُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِدُونِ وَسِيلَةٍ مُعْتَادَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ دَالٌّ آخَرُ عَلَى الْإِرَادَةِ، فَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَيْهِ مَجَازٌ لِأَنَّهُ دَلَالَةٌ لِلْعُقَلَاءِ وَالْمَجَازُ فِيهِ أَقْوَى مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي فِي نَحْوِ

قَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا»

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ: «إِذْ قَالَتِ الْآطَالُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ» ، وَلَا طَائِلَ فِي الْبَحْثِ عَنْ تَعَيُّنِ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ.

وَالْمَلَائِكَةُ جَمْعُ مَلَكٍ وَأَصْلُ صِيغَةِ الْجمع مَلَائِكَة وَالتَّاءُ لِتَأْكِيدِ الْجَمْعِيَّةِ لِمَا فِي التَّاءِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَأْنِيثَ مَلَائِكَةٍ سَرَى إِلَى لُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ كَلَامِ الْمُتَنَصِّرِينَ مِنْهُمْ إِذْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَنَاتُ اللَّهِ وَاعْتَقَدَهُ الْعَرَبُ أَيْضًا قَالَ تَعَالَى:

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ [النَّحْل: 57] فَمَلَائِكُ جَمْعُ مَلْأَكٍ كَشَمَائِلَ وَشَمْأَلٍ، وَمِمَّا يَدُلُّ

عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ بَعْضِ شُعَرَاءِ عَبْدِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ:

وَلَسْتَ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلْأَكٍ

تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ (1)

ثُمَّ قَالُوا مَلَكٌ تَخْفِيفًا.

وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ مَفْعَلٌ مِنْ لَأَكَ بِمَعْنَىُُ

(1) قَالَ أَبُو عُبَيْدَة الْبَيْت لشاعر جاهلي من عبد الْقَيْس يمدح بعض الْمُلُوك كَمَا فِي «الصِّحَاح» ، وَقيل:

الممدوح النُّعْمَان، وَقَالَ ابْن السيرافي: الْبَيْت لأبي وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. قلت ذكر ابْن السيرافي فِي «شرح أَبْيَات صَلَاح الْمنطق» الْقَوْلَيْنِ وَلم يقْتَصر على مَا نسبه إِلَيْهِ «شَارِح الْقَامُوس» ، وأنشده الْكسَائي لعلقمة بن عَبدة يمدح الْحَارِث بن جبلة بن أبي شمر.

ص: 397

أَرْسَلَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْأَمْرِ بِتَبْلِيغِ رِسَالَةِ أَلِكْنِي أَلِيهِ أَيْ كُنْ رَسُولِي إِلَيْهِ وَأَصْلُ أَلِكْنِي أَلْإِكْنِي وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لَهُ فِعْلٌ. وَإِنَّمَا اشْتُقَّ اسْمُ الْمَلَكِ مِنَ الْإِرْسَالِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ رُسُلُ اللَّهِ إِمَّا بِتَبْلِيغٍ أَوْ تَكْوِينٍ كَمَا

فِي الْحَدِيثِ: «ثُمَّ يُرْسِلُ إِلَيْهِ (أَيْ لِلْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ) الْمَلَكَ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ»

، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ هُوَ مَقْلُوبٌ وَوَزْنُهُ الْآنَ مَعْفُلٌ وَأَصْلُهُ مَأْلَكٌ مِنَ الْأَلُوكِ وَالْأَلُوكَةُ وَهِيَ الرِّسَالَةُ وَيُقَالُ مَأْلَكٌ وَمَأْلَكَةٌ (بِفَتْحِ اللَّامِ وَضَمِّهَا) فَقَلَبُوا فِيهِ قَلْبًا مَكَانِيًّا فَقَالُوا مَلْأَكٌ فَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمَلْكِ (بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ) وَالْمَلْكُ بِمَعْنَى الْقُوَّةِ قَالَ تَعَالَى: عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ [التَّحْرِيم: 6] وَالْهَمْزَةُ مَزِيدَةٌ فَوَزْنُهُ فَعْأَلٌ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَشَمْأَلٍ، وَرُدَّ بِأَنَّ دَعْوَى زِيَادَةِ حَرْفٍ بِلَا فَائِدَةٍ دَعْوَى بَعِيدَةٌ، وَرُدَّ مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ بِأَنَّ الْقَلْبَ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَرُجِّحَ مَذْهَبُ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَنَقَلَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ أَنَّهُ قَالَ لَا اشْتِقَاقَ لِلْمَلَكِ عِنْدَ الْعَرَبِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ عَرَّبُوهُ مِنَ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ التَّوْرَاةَ سَمَّتِ الْمَلَكَ مَلَاكًا بِالتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ وُجُودُ كَلِمَةٍ مُتَقَارِبَةِ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى فِي لُغَتَيْنِ بِدَالٍّ عَلَى أَنَّهَا مَنْقُولَةٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى إِلَّا بِأَدِلَّةٍ أُخْرَى.

وَالْمَلَائِكَةُ مَخْلُوقَاتٌ نُورَانِيَّةٌ سَمَاوِيَّةٌ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْخَيْرِ قَادِرَةٌ عَلَى التَّشَكُّلِ فِي خَرْقِ الْعَادَةِ لِأَنَّ النُّورَ قَابِلٌ لِلتَّشَكُّلِ فِي كَيْفِيَّاتٍ وَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ لَا تَتَزَاحَمُ وَنُورُهَا لَا شُعَاعَ لَهُ فَلِذَلِكَ لَا تُضِيءُ إِذَا اتَّصَلَتْ بِالْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ وَإِنَّمَا تَتَشَكَّلُ إِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَظْهَرَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ. وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا قُوَّةَ التَّوَجُّهِ إِلَى الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرِيدُ اللَّهُ تَكْوِينَهَا فَتَتَوَلَّى التَّدْبِيرَ لَهَا وَلِهَذِهِ التَّوَجُّهَاتِ الْمَلَكِيَّةِ حَيْثِيَّاتٌ وَمَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ تَتَعَذَّرُ الْإِحَاطَةُ بِهَا وَهِيَ مُضَادَّةٌ لِتَوَجُّهَاتِ الشَّيَاطِينِ، فَالْخَوَاطِرُ الْخَيْرِيَّةُ مِنْ تَوَجُّهَاتِ

الْمَلَائِكَةِ وَعَلَاقَتِهَا بِالنُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ وَبِعَكْسِهَا خَوَاطِرُ الشَّرِّ.

وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَخْلُفُ غَيْرَهُ أَوْ يَكُونُ بَدَلًا عَنْهُ فِي عَمَلٍ يَعْمَلُهُ، فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْوَصْفِ كَالْعَلَامَةِ. وَالْمُرَادُ مِنَ الْخَلِيفَةِ هُنَا إِمَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى عَمَلًا يُرِيدُهُ الْمُسْتَخْلَفُ مِثْلَ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ، أَيْ جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ مُدَبِّرًا يَعْمَلُ مَا نُرِيدُهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ اسْتِعَارَةٌ أَوْ مَجَازٌ مُرْسَلٌ وَلَيْسَ بِحَقِيقَةٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ حَالًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا عَامِلًا فِيهَا الْعَمَلَ الَّذِي أَوْدَعَهُ فِي الْإِنْسَانِ وَهُوَ السَّلْطَنَةُ عَلَى مَوْجُودَاتِ الْأَرْضِ،

ص: 398

وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَتْرُكْ عَمَلًا كَانَ يَعْمَلُهُ فَوَكَلَهُ إِلَى الْإِنْسَانِ بَلِ التَّدْبِيرُ الْأَعْظَمُ لَمْ يَزَلْ لِلَّهِ تَعَالَى فَالْإِنْسَانُ هُوَ الْمَوْجُودُ الْوَحِيدُ الَّذِي اسْتَطَاعَ بِمَا أَوْدَعَ اللَّهُ فِي خِلْقَتِهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِ بِوُجُوهٍ عَظِيمَةٍ لَا تَنْتَهِي خِلَافَ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ مِنَ الْخَلِيفَةِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ إِذَا صَحَّ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً مِنْ قَبْلُ بِطَائِفَةٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ يُسَمَّوْنَ الْحِنَّ وَالْبِنَّ- بِحَاءٍ مُهْمِلَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الْأَوَّلِ، وَبِمُوَحَّدَةٍ مَكْسُورَةٍ وَنُونٍ فِي الثَّانِي- وَقِيلَ اسْمُهُمُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ- بِفَتْحِ أَوَّلِهِمَا-، وَأَحْسَبُهُ مِنَ الْمَزَاعِمِ، وَأَنَّ وَضْعَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مِنْ بَابِ قَوْلِ النَّاسِ: هَيَّانُ بْنُ بَيَّانٍ إِشَارَةً إِلَى غَيْرِ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرِ مَعْرُوفٍ. وَلَعَلَّ هَذَا أَنْجَزُ لِأَهْلِ الْقَصَصِ مِنْ خُرَافَاتِ الْفُرْسِ أَوِ الْيُونَانِ فَإِنَّ الْفُرْسَ زَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ جِنْسٌ اسْمُهُ الطَّمُّ وَالرَّمُّ كَانَ الْيُونَانُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ مَعْمُورَةً بِمَخْلُوقَاتٍ تُدْعَى التِيتَانَ وَأَنَّ زُفَسَ وَهُوَ الْمُشْتَرِي كَبِيرُ الْأَرْبَابِ فِي اعْتِقَادِهِمْ جَلَّاهُمْ مِنَ الْأَرْضِ لِفَسَادِهِمْ. وَكُلُّ هَذَا يُنَافِيهِ سِيَاقُ الْآيَةِ فَإِنَّ تَعْقِيبَ ذِكْرِ خَلْقِ الْأَرْضِ ثُمَّ السَّمَاوَاتِ بِذِكْرِ إِرَادَتِهِ تَعَالَى جَعْلَ الْخَلِيفَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَعْلَ الْخَلِيفَةِ كَانَ أَوَّلَ الْأَحْوَالِ عَلَى الْأَرْضِ بَعْدَ خَلْقِهَا فَالْخَلِيفَةُ هُنَا الَّذِي يَخْلُفُ صَاحِبَ الشَّيْءِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَمْلُوكَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُ أَن يكون المخلوف مُسْتَقِرًّا فِي الْمَكَانِ مِنْ قَبْلُ، فَالْخَلِيفَةُ آدَمُ وَخَلَفِيَّتُهُ قِيَامُهُ بِتَنْفِيذِ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ بِالْإِلْهَامِ أَوْ بِالْوَحْيِ وَتَلْقِينِ ذُرِّيَّتِهِ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ هَذَا الْعَالَمِ الْأَرْضِيِّ، وَمِمَّا يَشْمَلُهُ هَذَا التَّصَرُّفُ تَصَرُّفُ آدَمَ بِسَنِّ النِّظَامِ لِأَهْلِهِ وَأَهَالِيهِمْ عَلَى حَسَبِ وَفْرَةِ عَدَدِهِمْ وَاتِّسَاعِ تَصَرُّفَاتِهِمْ، فَكَانَتِ الْآيَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ إِيمَاءً إِلَى حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى إِقَامَةِ خَلِيفَةٍ لِتَنْفِيذِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُنَازَعَاتِهِمْ إِذْ لَا يَسْتَقِيمُ نِظَامٌ يَجْمَعُ الْبَشَرَ بِدُونِ ذَلِكَ، وَقَدْ بَعَثَ اللَّهُ الرُّسُلَ وَبَيَّنَ الشَّرَائِعَ فَرُبَّمَا اجْتَمَعَتِ الرِّسَالَةُ وَالْخِلَافَةُ وَرُبَّمَا انْفَصَلَتَا بِحَسَبِ مَا أَرَادَ اللَّهُ مِنْ شَرَائِعِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ فَجَمَعَ الرِّسَالَةَ وَالْخِلَافَةَ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ غَايَةُ مُرَادِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الشَّرَائِعِ وَهُوَ الشَّرِيعَةُ الْخَاتِمَةُ وَلِأَنَّ امْتِزَاجَ الدِّينِ وَالْمُلْكِ هُوَ أَكْمَلُ مَظَاهِرِ الْخُطَّتَيْنِ قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ

إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ

[النِّسَاء: 64] وَلِهَذَا أَجْمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامَةِ الْخَلِيفَةِ لِحِفْظِ نِظَامِ الْأُمَّةِ وَتَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ وَلَمْ يُنَازِعْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الْخَاصَّةِ وَلَا مِنَ الْعَامَّةِ إِلَّا الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى، مِنْ جُفَاةِ الْأَعْرَابِ وَدُعَاةِ الْفِتْنَةِ فَالْمُنَاظَرَةُ مَعَ أَمْثَالِهِمْ سُدًى.

ص: 399

وَلِلْخَلِيفَةِ شُرُوطٌ مَحَلُّ بَيَانِهَا كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ، وَسَتَجِيءُ مُنَاسَبَتُهَا فِي آيَاتٍ آتِيَةٍ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّ خِطَابَهُ تَعَالَى هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ كَانَ عِنْدَ إِتْمَامِ خَلْقِ آدَمَ عِنْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَوْ قَبْلَ النَّفْخِ وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْمُخْبَرِ عَنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً هُوَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ كَمَا يَقُولُ الَّذِي كَتَبَ كِتَابًا بِحَضْرَةِ جَلِيسٍ إِنِّي مُرْسِلٌ كِتَابًا إِلَى فُلَانٍ فَإِنَّ السَّامِعَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي هُوَ بِصَدَدِ كِتَابَتِهِ كِتَابٌ لِفُلَانٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِطَابُهُمْ بِذَلِكَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ، وَعَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا يَكُونُ اسْمُ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ: جاعِلٌ لِلزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ وَصْفَ الْخَلِيفَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِآدَمَ سَاعَتَئِذٍ.

وَقَوْلُ اللَّهِ هَذَا مُوَجَّهٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ لِيَسُوقَهُمْ إِلَى مَعْرِفَةِ فَضْلِ الْجِنْسِ الْإِنْسَانِيِّ عَلَى وَجْهٍ يُزِيلُ مَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ بِهَذَا الْجِنْسِ، وَلِيَكُونَ كَالِاسْتِشَارَةٍ لَهُمْ تَكْرِيمًا لَهُمْ فَيَكُونُ تَعْلِيمًا فِي قَالَبِ تَكْرِيمٍ مِثْلَ إِلْقَاءِ الْمُعَلِّمِ فَائِدَةً لِلتِّلْمِيذِ فِي صُورَةِ سُؤَالٍ وَجَوَابٍ وَلِيَسُنَّ الِاسْتِشَارَةَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَنْبِيهِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى مَا دَقَّ وَخَفِيَ مِنْ حِكْمَةِ خَلْقِ آدَمَ كَذَا ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ.

وَعِنْدِي أَنْ هَاتِهِ الِاسْتِشَارَةَ جُعِلَتْ لِتَكُونَ حَقِيقَةً مُقَارَنَةً فِي الْوُجُودِ لِخَلْقِ أَوَّلِ الْبَشَرِ حَتَّى تَكُونَ نَامُوسًا أُشْرِبَتْهُ نُفُوسُ ذُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ مُقَارَنَةَ شَيْءٍ مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمَعَانِي لِتَكْوِينِ شَيْءٍ مَا، تُؤْثِرُ تَآلُفًا بَيْنَ ذَلِكَ الْكَائِنِ وَبَيْنَ الْمُقَارَنِ. وَلَعَلَّ هَذَا الِاقْتِرَانَ يَقُومُ فِي الْمَعَانِي الَّتِي لَا تُوجَدُ إِلَّا تَبَعًا لِذَوَاتِ مَقَامِ أَمْرِ التَّكْوِينِ فِي الذَّوَاتِ فَكَمَا أَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَيْ إِنْشَاءَ ذَاتٍ أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، كَذَلِكَ أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ اقْتِرَانَ مَعْنًى بِذَاتٍ أَوْ جِنْسٍ أَنْ يُقَدَّرَ حُصُولَ مَبْدَأِ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِنْدَ تَكْوِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَوْ عِنْدَ تَكْوِينِ الذَّاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ قَبُولُ الْعِلْمِ مِنْ خَصَائِصِ الْإِنْسَانِ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاء عِنْد مَا خَلَقَهُ.

وَهَذَا هُوَ وَجْهُ مَشْرُوعِيَّةِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأَفْعَالِ لِيَكُونَ اقْتِرَانُ ابْتِدَائِهَا بِلَفْظِ اسْمِهِ تَعَالَى مُفِيضًا لِلْبَرَكَةِ عَلَى جَمِيعِ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَلِهَذَا أَيْضًا طَلَبَتْ مِنَّا الشَّرِيعَةُ تَخَيُّرَ أَكْمَلِ الْحَالَاتِ وَأَفْضَلِ الْأَوْقَاتِ لِلشُّرُوعِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمُهِمَّاتِ الْمُطَالِبِ، وَتَقَدَّمَ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ، وَسَنَذْكُرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشُّورَى عِنْدَ قَوْلِهِ

تَعَالَى: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

ص: 400

وَأُسْنِدَتْ حِكَايَةُ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ لِأَنَّهُ قَول منبىء عَنْ تَدْبِيرٍ عَظِيمٍ فِي جَعْلِ الْخَلِيفَةِ فِي الْأَرْضِ، فَفِي ذَلِكَ الْجَعْلِ نِعْمَةُ تَدْبِيرٍ مَشُوبٍ بِلُطْفٍ وَصَلَاحٍ وَذَلِكَ مِنْ مَعَانِي الرُّبُوبِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الْفَاتِحَة: 2] ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ شَامِلَةً لِجَمِيعِ النَّوْعِ أُضِيفَ وَصْفُ الرَّبِّ إِلَى ضَمِيرِ أَشْرَفِ أَفْرَادِ النَّوْعِ وَهُوَ النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مَعَ تَكْرِيمِهِ بِشَرَفِ حُضُورِ الْمُخَاطَبَةِ.

قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ.

هَذَا جَوَابُ الْمَلَائِكَةِ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ لَهُمْ: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً فَالتَّقْدِيرُ فَقَالُوا عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [الْبَقَرَة: 34] وَفَصَلَ الْجَوَابَ وَلَمْ يَعْطِفْ بِالْفَاءِ أَوِ الْوَاوِ جَرْيًا بِهِ عَلَى طَرِيقَةٍ مُتَّبَعَةٍ فِي الْقُرْآنِ فِي حِكَايَةِ الْمُحَاوَرَاتِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ عَرَبِيَّةٌ قَالَ زُهَيْرٌ:

قِيلَ لَهُمْ أَلَا ارْكَبُوا أَلَاتَا

قَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ آلَافَا

أَيْ فَارْكَبُوا وَلَمْ يَقُلْ فَقَالُوا. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:

قَالَتْ بَنَاتُ الْعَمِّ يَا سَلْمَى وَإِنْ

كَانَ فَقِيرًا مُعْدَمًا قَالَتْ وَإِنْ

وَإِنَّمَا حَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي أَمْثَالِهِ كَرَاهِيَةَ تَكْرِيرِ الْعَاطِفِ بِتَكْرِيرِ أَفْعَالِ الْقَوْلِ فَإِنَّ الْمُحَاوَرَةَ تَقْتَضِي الْإِعَادَةَ فِي الْغَالِبِ فَطَرَدُوا الْبَابَ فَحَذَفُوا الْعَاطِفَ فِي الْجَمِيعِ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي التَّنْزِيلِ وَرُبَّمَا عَطَفُوا ذَلِكَ بِالْفَاءِ لِنُكْتَةٍ تَقْتَضِي مُخَالَفَةَ الِاسْتِعْمَالِ وَإِنْ كَانَ الْعَطْفُ بِالْفَاءِ هُوَ الظَّاهِرُ وَالْأَصْلُ، وَهَذَا مِمَّا لَمْ أُسْبَقْ إِلَى كَشْفِهِ مِنْ أَسَالِيبِ الِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِيِّ.

وَمِمَّا عُطِفَ بِالْفَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقالَ الْمَلَأُ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [23، 24] وَقَدْ يُعْطَفُ بِالْوَاوِ أَيْضًا كَمَا فِي قَوْلِهِ:

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنُونَ [32، 33] وَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ حِكَايَةَ التَّحَاوُرِ بَلْ قَصْدُ الْإِخْبَارِ عَنْ أَقْوَالٍ جَرَتْ أَوْ كَانَتِ الْأَقْوَالُ الْمَحْكِيَّةُ مِمَّا جَرَى فِي أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ أَمْكِنَةٍ مُتَفَرِّقَةٍ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ لَكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [غَافِر: 25] إِلَى قَوْلِهِ: وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى [26] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ [27] ثُمَّ قَالَ: وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ [28]

الْآيَةَ فِي سُورَةِ غَافِرٍ، وَلَيْسَ قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ جَوَابا لإذ عَامِلًا فِيهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا مِنْ أَنَّهُ يُفْضِي إِلَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها هُوَ الْمَقْصُودَ مِنَ الْقِصَّةِ وَأَنْ تَصِيرَ جُمْلَةُ (إِذْ) تَابِعَةً لَهُ إِذِ الظَّرْفُ تَابِعٌ لِلْمَظْرُوفِ.

ص: 401

وَالِاسْتِفْهَامُ الْمَحْكِيُّ عَنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى التَّعَجُّبِ وَالِاسْتِبْعَادِ مِنْ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْحِكْمَةُ بِذَلِكَ فَدَلَالَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى ذَلِكَ هُنَا بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ مَعَ تَطَلُّبِ مَا يُزِيلُ إِنْكَارَهُمْ وَاسْتِبْعَادَهُمْ فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ بَقَاءُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَقِيقَتِهِ خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ الِاسْتِفْهَامَ هُنَا لِمُجَرَّدِ التَّعَجُّبِ، وَالَّذِي أَقْدَمَ الْمَلَائِكَةَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَرَادَ مِنْهُمْ إِظْهَارَ عِلْمِهِمْ تُجَاهَ هَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُمْ مَفْطُورُونَ عَلَى الصِّدْقِ وَالنَّزَاهَةِ مِنْ كُلِّ مُؤَارَبَةٍ فَلَمَّا نَشَأَ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ أَفْصَحَتْ عَنْهُ دَلَالَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ يَعْلَمُهَا اللَّهُ تَعَالَى من أَحْوَالهم لَا سِيمَا إِذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الِاسْتِشَارَةِ أَنْ يُبْدِيَ الْمُسْتَشَارُ مَا يَرَاهُ نُصْحًا

وَفِي الْحَدِيثِ: «الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ وَهُوَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»

يَعْنِي إِذَا تَكَلَّمَ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ أَمَانَةِ النَّصِيحَةِ.

وَعَبَّرَ بِالْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْكَلَامِ وَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ وَالتَّعَجُّبُ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ الْفَسَادُ وَالسَّفْكُ لَا يَصْلُحُ لِلتَّعْمِيرِ لِأَنَّهُ إِذَا عُمِّرَ نَقْضَ مَا عَمَّرَهُ. وَعَطْفُ سَفْكِ الدِّمَاءِ عَلَى الْإِفْسَادِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ. وَتَكْرِيرُ ضَمِيرِ (الْأَرْضِ) لِلِاهْتِمَامِ بِهَا وَالتَّذْكِيرِ بِشَأْنِ عُمْرَانِهَا وَحِفْظِ نِظَامِهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ أَدْخَلَ فِي التَّعَجُّبِ مِنِ اسْتِخْلَافِ آدَمَ وَفِي صَرْفِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ إِنْ كَانَ فِي الِاسْتِشَارَةِ ائْتِمَارٌ.

وَالْإِفْسَادُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ [الْبَقَرَة: 12] .

وَالسَّفْكُ الْإِرَاقَةُ وَقَدْ غَلَبَ فِي كَلَامِهِمْ تَعْدِيَتُهُ إِلَى الدِّمَاءِ وَأَمَّا إِرَاقَةُ غَيْرِ الدَّمِ فَهِيَ سَفْحٌ بِالْحَاءِ. وَفِي الْمَجِيءِ بِالصِّلَةِ جُمْلَةً فِعْلِيَّةً دَلَالَةٌ عَلَى تَوَقُّعِ أَنْ يَتَكَرَّرَ الْإِفْسَادُ وَالسَّفْكُ مِنْ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَإِنَّمَا ظَنُّوا هَذَا الظَّنَّ بِهَذَا الْمَخْلُوقِ مِنْ جِهَةِ مَا اسْتَشْعَرُوهُ مِنْ صِفَاتِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْمُسْتَخْلَفِ بِإِدْرَاكِهِمُ النُّورَانِيِّ لِهَيْئَةِ تَكْوِينِهِ الْجَسَدِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ وَالنُّطْقِيَّةِ إِمَّا بِوَصْفِ اللَّهِ لَهُمْ هَذَا الْخَلِيفَةَ أَوْ بِرُؤْيَتِهِمْ صُورَةَ تَرْكِيبِهِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَبَعْدَهُ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُمْ رَأَوْهُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ فَعَلِمُوا أَنَّهُ تَرْكِيبٌ يَسْتَطِيعُ صَاحِبُهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنِ الْجِبِلَّةِ إِلَى الِاكْتِسَابِ وَعَنِ الِامْتِثَالِ إِلَى الْعِصْيَانِ فَإِنَّ الْعَقْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى شَاهِيَةٍ وَغَاضِبَةٍ وَعَاقِلَةٍ وَمِنْ مَجْمُوعِهَا وَمَجْمُوعِ بَعْضِهَا تَحْصُلُ تَرَاكِيبُ مِنَ التَّفْكِيرِ نَافِعَةٌ وَضَارَّةٌ، ثُمَّ إِنَّ الْقُدْرَةَ الَّتِي فِي الْجَوَارِحِ تَسْتَطِيعُ تَنْفِيذَ كُلِّ مَا يَخْطُرُ لِلْعَقْلِ وَقُوَاهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ثُمَّ إِنَّ النُّطْقَ يَسْتَطِيعُ إِظْهَارَ

خِلَافِ الْوَاقِعِ وَتَرْوِيجَ الْبَاطِلِ، فَيَكُونُ مِنْ أَحْوَالِ ذَلِكَ فَسَادٌ كَبِيرٌ وَمِنْ أَحْوَالِهِ أَيْضًا صَلَاحٌ عَظِيمٌ وَإِنَّ طَبِيعَةَ اسْتِخْدَامِ ذِي الْقُوَّةِ لِقُوَاهُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّهُ سَيَأْتِي بِكُلِّ مَا تَصْلُحُ لَهُ هَذِهِ الْقُوَى خَيْرُهَا وَشَرُّهَا فَيَحْصُلُ فِعْلٌ مُخْتَلَطٌ مِنْ

ص: 402

صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمُجَرَّدُ مُشَاهَدَةِ الْمَلَائِكَةِ لِهَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ الْمُرَادِ جَعْلُهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ كَافٍ فِي إِحَاطَتِهِمْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ عَجَائِبِ الصِّفَاتِ عَلَى نَحْوِ مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْخَارِجِ لِأَنَّ مَدَارِكَهُمْ غَايَةٌ فِي السُّمُوِّ لِسَلَامَتِهَا مِنْ كُدْرَاتِ الْمَادَّةِ، وَإِذَا كَانَ أَفْرَادُ الْبَشَرِ يَتَفَاوَتُونَ فِي الشُّعُورِ بِالْخَفِيَّاتِ، وَفِي تَوَجُّهِ نُورَانِيَّةِ النُّفُوسِ إِلَى الْمَعْلُومَاتِ، وَفِي التَّوَسُّمِ وَالتَّفَرُّسِ فِي الذَّوَاتِ بِمِقْدَارِ تَفَاوُتِهِمْ فِي صِفَاتِ النَّفْسِ جِبِلِّيَّةً وَاكْتِسَابِيَّةً وَلَدُنِّيَّةً الَّتِي أَعْلَاهَا النُّبُوَّةُ، فَمَا ظَنُّكَ بِالنُّفُوسِ الْمَلَكِيَّةِ الْبَحْتَةِ؟

وَفِي هَذَا مَا يُغْنِيكَ عَمَّا تَكَلَّفَ لَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ وَجْهِ اطِّلَاعِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صِفَاتِ الْإِنْسَانِ قَبْلَ بُدُوِّهَا مِنْهُ مِنْ تَوْقِيفٍ وَاطِّلَاعٍ عَلَى مَا فِي اللَّوْحِ أَيْ عِلْمِ اللَّهِ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ وَانْقَرَضَتْ، أَوْ قِيَاسٍ عَلَى الْوُحُوشِ الْمُفْتَرِسَةِ إِذْ كَانَتْ قَدْ وُجِدَتْ عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ كَمَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ مِنَ التَّوْرَاةِ. وَبِهِ أَيْضًا تَعْلَمُ أَنَّ حُكْمَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا عَلَى مَا يَتَوَقَّعُ هَذَا الْخَلْقُ مِنَ الْبَشَرِ لَمْ يُلَاحَظْ فِيهِ وَاحِدٌ دُونَ آخَرَ، لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَيْهِمْ قَبْلَ صُدُورِ الْأَفْعَالِ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ بِمَا يَصْلُحُونَ لَهُ بِالْقُوَّةِ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ هَذَا عَلَى بَنِي آدَمَ دُونَ آدَمَ حَيْثُ لَمْ يُفْسِدُ، لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَةً عَمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْبَيَانِ.

وَأُوثِرَ التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: مَنْ يُفْسِدُ وَيَسْفِكُ لِأَنَّ الْمُضَارِعَ يَدُلُّ عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ دُونَ الدَّوَامِ أَيْ مَنْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْفَسَادُ تَارَةً وَسَفْكُ الدِّمَاءِ تَارَةً لِأَنَّ الْفَسَادَ وَالسَّفْكَ لَيْسَا بِمُسْتَمِرَّيْنِ مِنَ الْبَشَرِ.

وَقَوْلُهُمْ: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مُرَادَ اللَّهِ مِنْ خَلْقِ الْأَرْضِ هُوَ صَلَاحُهَا وَانْتِظَامُ أَمْرِهَا وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِلِاسْتِفْهَامِ الْمَشُوبِ بِالتَّعَجُّبِ مَوْقِعٌ وَهُمْ عَلِمُوا مُرَادَ اللَّهِ ذَلِكَ مِنْ تَلَقِّيهِمْ عَنْهُ سُبْحَانَهُ أَوْ مِنْ مُقْتَضَى حَقِيقَةِ الْخِلَافَةِ أَوْ مِنْ قَرَائِنِ أَحْوَالِ الِاعْتِنَاءِ بِخَلْقِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا عَلَى نُظُمٍ تَقْتَضِي إِرَادَةَ بَقَائِهَا إِلَى أَمَدٍ، وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى أَنَّ إِصْلَاحَ الْعَالِمِ مَقْصِدٌ لِلشَّارِعِ قَالَ تَعَالَى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ [مُحَمَّد: 22، 23] وَقَالَ:

وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: 205] .

وَلَا يَرِدُ هُنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غِيبَةٌ وَهُمْ مُنَزَّهُونَ عَنْهَا لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَالَمَ لَيْسَ عَالَمَ تَكْلِيفٍ وَلِأَنَّهُ لَا غِيبَةَ فِي مَشُورَةٍ وَنَحْوِهَا كَالْخِطْبَةِ وَالتَّجْرِيحِ لِتَوَقُّفِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى ذِكْرِ مَا فِي الْمُسْتَشَارِ

ص: 403

فِي شَأْنِهِ مِنَ النَّقَائِصِ، وَرُجْحَانِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ عَلَى مَفْسَدَةِ ذِكْرِ أَحَدٍ بِمَا يَكْرَهُ، وَلِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِذَلِكَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ إِذِ الْحَكُمُ عَلَى النَّوْعِ، فَانْتَفَى جَمِيعُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْغِيبَةِ مِنَ الْمَفَاسِدِ فِي وَاقِعَةِ الْحَالِ فَلِذَلِكَ لَمْ يُحْجِمْ عَنْهَا الْمَلَائِكَةُ.

ونُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ.

الْوَاوُ مُتَعَيِّنَةٌ لِلْحَالِيَّةِ إِذْ لَا مَوْقِعَ لِلْعَطْفِ هُنَا وَإِنْ كَانَ مَا بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ مِقْوَلِهِمْ وَمَحْكِيًّا عَنْهُمْ لَكِنَّ الْوَاوَ مِنَ الْمَحْكِيِّ وَلَيْسَتْ مِنَ الْحِكَايَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْهُ تَفْوِيضَ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّهَامَ عِلْمِهِمْ فِيمَا أَشَارُوا بِهِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُسْتَشَارُ مَعَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَسَدُّ مِنْهُ رَأْيًا وَأَرْجَحُ عَقْلًا فَيُشِيرُ ثُمَّ يُفَوِّضُ كَمَا قَالَ أَهْلُ مَشُورَةِ بِلْقِيسَ إِذْ قَالَتْ: أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ- أَيِ الرَّأْيُ أَنْ نُحَارِبَهُ وَنَصُدَّهُ عَمَّا يُرِيدُ مِنْ قَوْلِهِ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النَّمْل: 31]- وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تأمرين [النَّمْل: 32، 33] ، وَكَمَا يَفْعَلُ التِّلْمِيذُ مَعَ الْأُسْتَاذِ فِي بَحْثِهِ مَعَهُ ثُمَّ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ مَبْلَغُ عِلْمِهِ، وَأَنَّ الْقَوْلَ الْفَصْلَ لِلْأُسْتَاذِ، أَوْ هُوَ إِعْلَانٌ بِالتَّنْزِيهِ لِلْخَالِقِ عَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ مَا بَدَا لَهُمْ مِنْ مَانِعِ اسْتِخْلَافِ آدَمَ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ شَائِبَةِ الِاعْتِرَاضِ، وَاللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَرَاءَتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ جَرَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْبِيرِ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِعْلَامِ الْغَيْرِ، أَوْ لِأَنَّ فِي نَفْسِ هَذَا التَّصْرِيحِ تَبَرُّكًا وَعِبَادَةً، أَوْ إِعْلَانٌ لِأَهْلِ الْمَلَأِ الْأَعْلَى بِذَلِكَ.

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْعَطف غير جَائِز لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَحْكِيَّةَ بِالْقَوْلِ إِذَا عُطِفَتْ عَلَيْهَا جُمْلَةٌ أُخْرَى مِنَ الْقَوْلِ فَالشَّأْنُ أَنْ لَا يُقْصَدَ الْعَطْفُ عَلَى تَقْدِيرِ عَامِلِ الْقَوْلِ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَوْلَانِ فِي وَقْتَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمرَان: 173] عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ فِي عَطْفِ جُمْلَةِ نِعْمَ الْوَكِيلُ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَوْنَ صِحَّةَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ صِحَّةَ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْخَبَرِ وَعَكْسِهِ وَأَنَّهُ لَا يُنَافِي حُسْنَ الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَظٌّ لِلْعَطْفِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ إِذَا حَكَوْا حَادِثًا مُلِمًّا أَوْ مُصَابًا جَمًّا أَعَقَبُوهُ بِنَحْوِ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ أَوْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ (1) وَلَا يَعْطِفُونَ

مِثْلَ ذَلِكَ فَكَانَتِ الْوَاوُ وَاوَ الْحَالِ لِلْإِشَارَةِ

(1) مثل قَول الفرزدق:

أتعدل أحسابا كراما حماتها

بأحسابكم إنّي إِلَى الله رَاجع

ص: 404

إِلَى أَنَّ هَذَا أَمْرٌ مُسْتَحْضَرٌ لَهُمْ فِي حَالِ قَوْلِهِمْ:

أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ وَلَيْسَ شَيْئًا خَطَرَ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ تَوَغَّلُوا فِي الِاسْتِبْعَادِ وَالِاسْتِغْرَابِ.

الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْغَرَضُ مِنْ قَوْلِهِمْ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ التَّعْرِيضَ بِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ لِأَنَّ الْجُمْلَةَ الْإِسْمِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى الدَّوَامِ وَجُمْلَةُ مَنْ يُفْسِدُ فِيها دَلَّتْ عَلَى تَوَقُّعِ الْفَسَادِ وَالسَّفْكِ فَكَانَ الْمُرَادُ أَنَّ اسْتِخْلَافَهُ يَقَعُ مِنْهُ صَلَاحٌ وَفَسَادٌ وَالَّذِينَ لَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ عِصْيَانُ مُرَادِ اللَّهِ هُمْ أَوْلَى بِالِاسْتِخْلَافِ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْفَسَادُ فَتَكُونُ حَالًا مُقَرِّرَةً لِمَدْلُولِ جُمْلَةِ أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ تَكْمِلَةً لِلِاسْتِغْرَابِ، وَعَامِلُهَا هُوَ تَجْعَلُ وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ تَمْثِيلُ «الْكَشَّافِ» . وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ هُوَ الِاسْتِفْهَامُ لِأَنَّهُ مِمَّا تَضَمَّنَ معنى الْفِعْل لَا سِيمَا إِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعَجُّبَ أَيْضًا إِذْ تَقْدِيرُ أَتَجْعَلُ فِيها إِلَخْ نَتَعَجَّبُ مِنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً.

وَالتَّسْبِيحُ قَوْلٌ أَوْ مَجْمُوعُ قَوْلٍ مَعَ عَمَلٍ يَدُلُّ عَلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ذِكْرُ اللَّهِ تَسْبِيحًا، وَالصَّلَاةُ سُبْحَةً وَيُطْلَقُ التَّسْبِيحُ عَلَى قَوْلِ سُبْحَانَ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ مِنَ التَّنْزِيهِ وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّ التَّسْبِيحَ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّبْحِ وَهُوَ الذَّهَابُ السَّرِيعُ فِي الْمَاءِ إِذْ قَدْ تُوُسِّعَ فِي مَعْنَاهُ إِذْ أُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى مَرِّ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] وَعَلَى جَرْيِ الْفَرَسِ قَالُوا فَلَعَلَّ التَّسْبِيحَ لُوحِظَ فِيهِ مَعْنَى سُرْعَةِ الْمُرُورِ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَظْهَرُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ سَبَّحَ بِمَعْنَى نَسَبَ لِلسَّبَحِ أَيِ الْبُعْدِ وَأُرِيدُ الْبُعْدُ الِاعْتِبَارِيُّ وَهُوَ الرِّفْعَةُ أَيِ التَّنْزِيهُ عَنْ أَحْوَالِ النَّقَائِصِ وَقِيلَ سُمِعَ سَبَحَ مُخَفَّفًا غَيْرَ مُضَاعَفٍ بِمَعْنَى نَزَّهَ، ذَكَرَهُ فِي «الْقَامُوسِ» .

وَعِنْدِي أَنَّ كَوْنَ التَّسْبِيحِ مَأْخُوذًا مِنَ السَّبْحِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ بِعِيدٌ وَالْوَجْهُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ كَلِمَةِ سُبْحَانَ وَلِهَذَا الْتَزَمُوا فِي هَذَا أَن يكون لوزن فَعَّلَ الْمُضَاعَفِ فَلَمْ يُسْمَعْ مُخَفَّفًا.

وَإِذَا كَانَ التَّسْبِيحُ كَمَا قُلْنَا هُوَ قَوْلٌ أَوْ قَوْلٌ وَعَمَلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّعْظِيمِ فَتَعَلُّقُ قَوْلِهِ بِحَمْدِكَ بِهِ هُنَا وَفِي أَكْثَرِ الْمَوَاضِعِ فِي الْقُرْآنِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْقَوْلَ يَشْتَمِلُ عَلَى حَمَدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَمْجِيدِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ أَيْ نُسَبِّحُ تَسْبِيحًا مَصْحُوبًا بِالْحَمْدِ لَكَ وَبِذَلِكَ تَنْمَحِي جَمِيعُ التَّكَلُّفَاتِ الَّتِي فَسَّرُوا بِهَا هُنَا.

وَالتَّقْدِيسُ التَّنْزِيهُ وَالتَّطْهِيرُ وَهُوَ إِمَّا بِالْفِعْلِ كَمَا أُطْلِقَ الْمُقَدَّسُ عَلَى الرَّاهِبِ فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ يَصِفُ تَعَلُّقَ الْكِلَابِ بِالثَّوْرِ الْوَحْشِيِّ:

ص: 405

فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنَّسَا

كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدَّسِ (1)

وَإِمَّا بِالِاعْتِقَادِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِضَعِيفِهَا مِنْ قَوِيِّهَا» أَيْ لَا نَزَّهَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَطَهَّرَهَا مِنَ الْأَرْجَاسِ الشَّيْطَانِيَّةِ.

وَفِعْلُ قَدَّسَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ بِاللَّامِ مَعَ مَفْعُولِهِ فِي الْآيَةِ لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ حُصُولِ الْفِعْلِ نَحْوُ شَكَرْتُ لَكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَفِي الْحَدِيثِ عِنْدَ ذِكْرِ الَّذِي وَجَدَ كَلْبَا يَلْهَثُ مِنَ الْعَطَشِ «فَأَخَذَ خُفَّهُ فَأَدْلَاهُ فِي الرَّكِيَّةِ فَسَقَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ» أَيْ شَكَرَهُ مُبَالَغَةً فِي الشُّكْرِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ ضَعْفُ ذَلِكَ الشُّكْرِ مِنْ أَنَّهُ عَنْ عَمَلِ حَسَنَةٍ مَعَ دَابَّةٍ فَدَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِالتَّأْكِيدِ بِاللَّامِ وَهَذَا مِنْ أَفْصَحِ الْكَلَامِ، فَلَا تَذْهَبْ مَعَ الَّذِينَ جَعَلُوا قَوْلَهُ: لَكَ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ حَامِدِينَ أَوْ هُوَ مُتَعَلق بنسبح وَاللَّامُ بِمَعْنَى لِأَجْلِكَ عَلَى مَعْنَى حَذْفِ مَفْعُولِ نُسَبِّحُ أَيْ نُسَبِّحُ أَنْفُسَنَا أَيْ نُنَزِّهُهَا عَنِ النَّقَائِصِ لِأَجْلِكَ أَيْ لِطَاعَتِكَ فَذَلِكَ عُدُولٌ عَنْ فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ اللَّامَ لَامَ التَّبْيِينِ الَّتِي سَنَتَعَرَّضُ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَة: 152] .

فَمَعْنَى وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ نَحْنُ نُعَظِّمُكَ وَنُنَزِّهُكَ وَالْأَوَّلُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالثَّانِي بِاعْتِقَادِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْمُنَاسِبَةِ لِلذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، فَلَا يُتَوَهَّمُ التَّكْرَارُ بَين (نُسَبِّح) و (نقدس) .

وَأُوثِرَتِ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ لِإِفَادَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ أَيْ هُوَ وَصْفُهُمُ الْمُلَازِمُ لِجِبِلَّتِهِمْ، وَتَقْدِيمُ الْمُسْنِدِ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ دُونَ حَرْفِ النَّفْيِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّخْصِيصِ بِحَاصِلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ الْإِسْمِيَّةُ مِنَ الدَّوَامِ أَيْ نَحْنُ الدَّائِمُونَ عَلَى التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ دُونَ هَذَا الْمَخْلُوقِ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ التَّقْدِيمَ لِمُجَرَّدِ التَّقْوَى نَحْوُ هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ.

قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ.

جَوَابٌ لِكَلَامِهِمْ فَهُوَ جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْمُقَاوَلَةِ فِي الْمُحَاوَرَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَعْلَمُ مَا فِي الْبَشَرِ مِنْ صِفَاتِ الصَّلَاحِ وَمِنْ صِفَاتِ الْفَسَادِ.

وَأَعْلَمُ أَنَّ صَلَاحَهُ يَحْصُلُ مِنْهُ الْمَقْصِدُ مِنْ تَعْمِيرِ الْأَرْضِ وَأَنَّ فَسَادَهُ لَا يَأْتِي عَلَى الْمَقْصِدِ بِالْإِبْطَالِ وَأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَصَالِحَ عَظِيمَةً وَمَظَاهِرَُُ

(1) شبرق: مزق أَي يَأْخُذُونَ من ثَوْبه تبركا بِهِ. وَقيل أَرَادَ من الْمُقَدّس الَّذِي رَجَعَ من زِيَارَة بَيت الْمُقَدّس.

ص: 406