الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 136]
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
بَدَلٌ مِنْ جُمْلَةِ قُلْ بَلْ مِلَّةَ [الْبَقَرَة: 135] لِتَفْصِيلِ كَيْفِيَّةِ هَاتِهِ الْمِلَّةِ بَعْدَ أَنْ أَجْمَلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً.
وَالْأَمْرُ بِالْقَوْلِ أَمْرٌ بِمَا يَتَضَمَّنُهُ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِالْقَوْلِ إِلَّا لِأَنَّهُ يُطَابِقُ الِاعْتِقَادَ، إِذِ النِّسْبَةُ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِلصِّدْقِ لَا لِلْكَذِبِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِهَذَا الْقَوْلِ الْإِعْلَانُ بِهِ وَالدَّعْوَةُ إِلَيْهِ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْفَضِيلَةِ الظَّاهِرَةِ بِحُصُولِ فَضِيلَةِ سَائِرِ الْأَدْيَانِ لِأَهْلِ هَاتِهِ الْمِلَّةِ وَلِمَا فِيهِ مِنِ الْإِنْصَافِ وَسَلَامَةِ الطَّوِيَّةِ، لِيَرْغَبَ فِي ذَلِكَ الرَّاغِبُونَ وَيَكْمَدَ عِنْدَ سَمَاعِهِ الْمُعَانِدُونَ وَلِيَكُونَ هَذَا كَالِاحْتِرَاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أَيْ نَحْنُ لَا نَطْعَنُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَشَرِيعَةِ عِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيئُونَ وَلَا نُكَذِّبُهُمْ وَلَكُنَّا مُسْلِمُونَ لِلَّهِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي بَقِيَ عَلَى أَسَاسِ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ تَفْصِيلًا لَهَا وَكَمَالًا لِمُرَادِ اللَّهِ مِنْهَا حِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِكْمَالَهَا فَكَانَتِ الشَّرَائِعُ الَّتِي جَاءَتْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمُنْعَرِجَاتِ الطَّرِيقِ سُلِكَ بِالْأُمَمِ فِيهَا لِمَصَالِحٍ نَاسَبَتْ أَحْوَالَهُمْ وَعُصُورَهُمْ بَعْدَ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يُسْلَكُ بِمَنْ أَتْعَبَهُ الْمَسِيرُ طَرِيقٌ مُنْعَرِجٌ لِيَهْدَأَ مَنْ رَكَّزَ السَّيَّارَةَ فِي الْمَحَجَّةِ فَيَحُطَّ رَحْلَهُ وَيَنَامَ ثُمَّ يُرْجَعُ بِهِ بَعْدَ حِينٍ إِلَى الْجَادَّةِ، وَمِنْ مُنَاسَبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى أَنِ ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا، وَاخْتُتِمَ بِقَوْلِهِ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ، وَوُسِّطَ ذِكْرُ مَا أُنْزِلَ عَلَى النَّبِيئِينَ بَيْنَ ذَلِكَ.
وَجُمِعَ الضَّمِيرُ لِيَشْمَلَ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مَأْمُورُونَ بِأَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ. وَجَعْلُهُ بَدَلًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ النَّبِيءُ وَأُمَّتُهُ.
وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي الْكَلَامَيْنِ اللَّذَيْنِ لِلنَّبِيءِ فِيهِمَا مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمُبَاشَرَةِ الرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِإِرْشَادِهِمْ وَزَجْرِهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ إِلَخْ وَقَوْلِهِ الْآتِي: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ [الْبَقَرَة: 139] وَجَمْعُ الضَّمِيرِ فِي الْكَلَامِ الَّذِي لِلْأُمَّةِ فِيهِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِمَضْمُونِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي سِيَاقِ التَّعْلِيمِ أَعْنِي قَوْلَهُ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ إِلَخْ لِأَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ عُلُومُ الرِّسَالَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَخْلُ وَاحِدٌ مِنْ هَاتِهِ الْكَلَامَاتِ، عَنِ الْإِيذَانِ بِشُمُولِ الْأُمَّةِ مَعَ النَّبِيءِ، أَمَّا هُنَا فَظَاهِرٌ بِجَمْعِ الضَّمَائِرِ كُلِّهَا، وَأَمَّا
فِي قَوْلِهِ: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِلَخْ فَلِكَوْنِهِ جَوَابًا مُوَالِيًا لِقَوْلِهِمْ: كُونُوا هُوداً [الْبَقَرَة: 135] بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فَعُلِمَ أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِلِسَانِ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ الْآتِي:
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فَلِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَفْرَدَ قُلْ جَمَعَ الضَّمَائِرَ فِي أَتُحَاجُّونَنا، ورَبُّنا، ولَنا، وأَعْمالُنا، ونَحْنُ، ومُخْلِصُونَ، فَانْظُرْ بَدَائِعَ النَّظْمِ فِي هَاتِهِ الْآيَاتِ وَدَلَائِلَ إِعْجَازِهَا.
وَقَدَّمَ الْإِيمَانَ بِاللَّهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الشَّرَائِعِ الْحَقُّ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ الْإِيمَانَ بِمَا أُنْزِلَ مِنَ الشَّرَائِعِ.
وَالْمُرَادُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا الْقُرْآنُ، وَبِمَا عَطَفَ عَلَيْهِ مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنْ وَحْيٍ وَمَا أُوتُوهُ مِنَ الْكُتُبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا آمَنَّا بِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ تِلْكَ الشَّرَائِعَ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن بَعْضهَا نسح بَعْضًا، وَأَنَّ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا نَسَخَ جَمِيعَهَا فِيمَا خَالَفَهَا فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَدَّمَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ بَعْضِ هَذِهِ الشَّرَائِعِ بِلَفْظِ (أُنْزِلَ) وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ (أُوتِيَ) تَفَنُّنٌ لِتَجَنُّبِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ مِرَارًا، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْرَدْ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ وَلَمْ تُعْطَفْ مُتَعَلَّقَاتُهُ بِدُونِ إِعَادَةِ الْأَفْعَالِ تَجَنُّبًا لِتَتَابُعِ الْمُتَعَلِّقَاتِ فَإِنَّهُ كَتَتَابُعِ الْإِضَافَاتِ فِي مَا نَرَى.
وَالْأَسْبَاطُ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ حَالٌ أَوِ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ كَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِجَمِيعِهِمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ بِحَقٍّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا السُّؤَال الْمُقدر ناشىء عَنْ ضَلَالَةٍ وَتَعَصُّبٍ حَيْثُ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِرَسُولٍ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ الْكُفْرِ بِغَيْرِهِ وَأَنَّ تَزْكِيَةَ أَحَدٍ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالطَّعْنِ فِي غَيْرِهِ، وَهَذِهِ زَلَّةٌ فِي الْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ وَالْأَحْزَابِ وَالْأَخْلَاقِ كَانَتْ شَائِعَةً فِي الْأُمَمِ وَالتَّلَامِذَةِ فَاقْتَلَعَهَا الْإِسْلَامُ، قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا فِي «الْإِشَارَاتِ» رَدًّا عَلَى مَنِ انْتَصَرَ فِي الْفَلْسَفَةِ لِأَرِسْطُو وَتَنَقَّصَ أَفْلَاطُونَ «وَالْمُعَلِّمُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمِقْدَارِ لَا يُخْرِجُنَا الثَّنَاءُ عَلَيْهِ إِلَى الطَّعْنِ فِي أَسَاتِيذِهِ» .
وَهَذَا رَدٌّ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِذَا آمَنُوا بِأَنْبِيَائِهِمْ وَكَفَرُوا بِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، فَالْمَقْصُودُ عَدَمُ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِبَعْضِهِمْ، وَهَذَا لَا يُنَافِي اعْتِقَادَ أَنَّ بَعْضَهُمْ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ.
وَأحد أَصْلُهُ وَحَدٌ بِالْوَاوِ وَمَعْنَاهُ مُنْفَرِدٌ وَهُوَ لُغَةٌ فِي وَاحِدٍ وَمُخَفَّفٌ مِنْهُ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ فَأُبْدِلَتْ وَاوُهُ هَمْزَةً تَخْفِيفًا ثُمَّ صَارَ بِمَعْنَى الْفَرْدِ الْوَاحِدِ فَتَارَةً يَكُونُ بِمَعْنَى مَا لَيْسَ بِمُتَعَدِّدٍ وَذَلِكَ