الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَوْضِعَ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ إِمَّا زِيَادَةً عَلَيْهِ حَتَّى أَنْسَتْهُمُ الْأَصْلَ وَإِمَّا تَضْلِيلًا وَهَذَا أَظْهَرُ الْوُجُوهِ.
وَقِيلَ: الْأَمَانِيُّ هُنَا الْأَكَاذِيبُ أَيْ مَا وَضَعَهُ لَهُمُ الَّذِينَ حَرَّفُوا الدِّينَ، وَقَدْ قِيلَ الْأَمَانِيُّ الْقِرَاءَةُ أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا كَلِمَات يحفظوها وَيَدْرُسُونَهَا لَا يَفْقَهُونَ مِنْهَا مَعْنًى كَمَا هُوَ عَادَةُ الْأُمَمِ الضَّالَّةِ إِذْ تَقْتَصِرُ مِنَ الْكُتُبِ عَلَى السَّرْدِ دُونَ فَهْمٍ وَأَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ قَوْلَ حَسَّانٍ فِي رِثَاءِ عُثْمَانَ رضي الله عنه:
تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ
…
وَآخِرَهُ لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ
أَيْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ الَّذِي قُتِلَ فِي آخِرِهِ.
وَعِنْدِي أَنَّ الْأَمَانِيَّ هُنَا التَّمَنِّيَّاتُ وَذَلِكَ نِهَايَةٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْجَهْلِ الْمُرَكَّبِ أَيْ هُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَهُ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ فَلَمَّا لَمْ يَنَالُوا الْعِلْمَ ادَّعَوْهُ بَاطِلا فَإِن غي الْعَالِمِ إِذَا اتُّهِمَ بِمِيسَمِ الْعُلَمَاءِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَتَمَنَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَكَيْفَمَا كَانَ الْمُرَادُ فَالِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ هَاتِهِ الْمَعَانِي لَيْسَ مِنْ علم الْكتاب.
[79]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 79]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الْفَاءُ لِلتَّرْتِيبِ وَالتَّسَبُّبِ فَيَكُونُ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبًا عَلَى مَا قَبْلَهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا بَعْدَهَا مُتَرَتِّبٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 75] الدَّالِّ عَلَى وُقُوعِ تَحْرِيفٍ مِنْهُمْ عَنْ عَمْدٍ فَرُتِّبَ عَلَيْهِ الْإِخْبَارُ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ سُوءَ الْحَالَةِ، أَوْ رُتِّبَ عَلَيْهِ إِنْشَاءُ اسْتِفْظَاعِ حَالِهِمْ، وَأُعِيدَ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مَا أُجْمِلَ فِي الْكَلَامِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إِعَادَةَ تَفْصِيلٍ.
وَمَعْنَى: يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ شَيْئًا لَمْ يَأْتِهِمْ مِنْ رُسُلِهِمْ بَلْ يَضَعُونَهُ وَيَبْتَكِرُونَهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُشْعِرُ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ:
بِأَفْوَاهِهِمْ لَيْسَ مُطَابِقًا لِمَا فِي نفس الْأَمر.
و (ثمَّ) لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ أُدْخِلَ فِي اسْتِحْقَاقِهِمُ الْوَيْلَ مِنْ كِتَابَةِ الْكِتَابُُِ
بِأَيْدِيهِمْ إِذْ هُوَ الْمَقْصُودُ. وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ مُتَرَاخِيًا عَنْ كِتَابَتِهِمْ مَا كَتَبُوهُ فِي الزَّمَانِ بَلْ هُمَا مُتَقَارِنَانِ.
وَالْوَيْلُ لَفْظٌ دَالٌّ عَلَى الشَّرِّ أَوِ الْهَلَاكِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلٌ مِنْ لَفْظِهِ فَلِذَلِكَ قِيلَ هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَقَالَ ابْنُ جِنِّي: هُوَ مَصْدَرٌ امْتَنَعَ الْعَرَبُ مِنَ اسْتِعْمَالِ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَو صرّف لوُجُوب اعْتِلَالُ فَائِهِ وَعَيْنِهِ بِأَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ إِعْلَالَانِ أَيْ فَيكون ثقيلا، والويلة: الْبَلِيَّةُ. وَهِيَ مُؤَنَّثُ الْوَيْلِ قَالَ تَعَالَى: يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا [الْكَهْف: 49] وَقَالَ امْرِئ الْقَيْسِ:
فَقَالَتْ لَكَ الْوَيْلَاتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي وَيُسْتَعْمَلُ الْوَيْلُ بِدُونِ حَرْفِ نِدَاءٍ كَمَا فِي الْآيَةِ وَيُسْتَعْمَلُ بِحَرْفِ النِّدَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ [الْأَنْبِيَاء: 14] كَمَا يُقَالُ يَا حَسْرَتَا.
فَأَمَّا مَوْقِعُهُ مِنَ الْإِعْرَابِ فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَفْ أُعْرِبَ إِعْرَابَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْتَدَأِ بِهَا وَأُخْبِرَ عَنْهُ بِلَامِ الْجَرِّ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلُهُ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:
وَيُنْصَبُ فَيُقَالُ: وَيْلًا لِزَيْدٍ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ ذَلِكَ قَبِيحًا وَأَوْجَبَ إِذَا ابْتُدِئَ بِهِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا، وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ فَإِنَّهُ يُضَافُ إِلَى الضَّمِيرِ غَالِبًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ [الْقَصَص: 80] وَقَوْلِهِ: وَيْلَكَ آمِنْ [الْأَحْقَاف: 17] فَيَكُونُ مَنْصُوبًا وَقَدْ يُضَافُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فَيُعْرَبُ إِعْرَابَ غَيْرِ الْمُضَافِ
كَقَوْلِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم لِأَبِي بَصِيرٍ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ» .
وَلَمَّا أَشْبَهَ فِي إِعْرَابِهِ الْمَصَادِرَ الْآتِيَةَ بَدَلًا مِنْ أَفْعَالِهَا نَصْبًا وَرَفْعًا مِثْلَ: حَمْدًا لِلَّهِ وَصَبْرٌ جَمِيلٌ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الْفَاتِحَة: 2] قَالَ أَكْثَرُ أَئِمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ: إِنَّهُ مَصْدَرٌ أُمِيتَ فِعْلُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ اسْمٌ وَجَعَلَ نَصْبَهُ فِي حَالَةِ الْإِضَافَةِ نَصْبًا عَلَى النِّدَاءِ بِحَذْفِ حَرْفِ النِّدَاءِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَأَصْلُ وَيْلَهُ يَا وَيْلَهُ بِدَلِيلِ ظُهُورِ حَرْفِ النِّدَاءِ مَعَهُ فِي كَلَامِهِمْ. وَرُبَّمَا جَعَلُوهُ كَالْمَنْدُوبِ فَقَالُوا: وَيْلَاهُ وَقَدْ أَعْرَبَهُ الزَّجَّاجُ كَذَلِكَ فِي سُورَةِ طه.
وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ إِذَا نُصِبَ فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ، قَالَ الزَّجَّاجُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً [طه: 61] فِي طه يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أَلْزَمَكُمُ اللَّهُ وَيْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ إِنَّ وَيْلٌ كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ وَيْ بِمَعْنَى الْحُزْنِ وَمِنْ مَجْرُورٍ بِاللَّامِ الْمَكْسُورَةِ فَلَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُ اللَّامِ مَعَ وَيْ صَيَّرُوهُمَا حَرْفًا وَاحِدًا فَاخْتَارُوا فَتْحَ اللَّامِ كَمَا قَالُوا يَالَ ضَبَّةَ فَفَتَحُوا اللَّامَ وَهِيَ فِي الْأَصْلِ مَكْسُورَةٌ. وَهُوَ يُسْتَعْمَلُ دُعَاءً وَتَعَجُّبًا وَزَجْرًا مِثْلَ قَوْلِهِمْ: لَا أَبَ لَكَ، وَثَكِلَتْكَ أُمُّكَ. وَمَعْنَى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ
دُعَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِنْشَاءِ الْغَضَبِ وَالزَّجْرِ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ دُعَاءٌ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْعِبَادَ كُلِّمُوا بِكَلَامِهِمْ وَجَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى لُغَتِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ فَهْمِهِمْ أَيْ هَؤُلَاءِ
مِمَّنْ وَجَبَ هَذَا الْقَوْلُ لَهُمْ. وَقَدْ جَاءَ عَلَى مِثَالِ وَيْلٌ أَلْفَاظٌ وَهِيَ وَيْحٌ وَوَيْسٌ وَوَيْبٌ وَوَيْهٌ وَوَيْكَ.
وَذِكْرُ بِأَيْدِيهِمْ تَأْكِيدٌ مِثْلَ نَظَرْتُهُ بِعَيْنَيَّ وَمِثْلَ: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ [آل عمرَان: 167] وَقَوْلُهُ: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] وَالْقَصْدُ مِنْهُ تَحْقِيقُ وُقُوعِ الْكِتَابَةِ وَرَفْعُ الْمَجَازِ عَنْهَا وَأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ عَامِدُونَ قَاصِدُونَ.
وَقَوْلُهُ: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا هُوَ كَقَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [الْبَقَرَة:
41] وَالثَّمَنُ الْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ إِرْضَاءُ الْعَامَّةِ بِأَنْ غَيَّرُوا لَهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ عَلَى مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ أَوِ انْتِحَالُ الْعِلْمِ لِأَنْفُسِهِمْ مَعَ أَنَّهُمْ جَاهِلُونَ فَوَضَعُوا كُتُبًا تَافِهَةً مِنَ الْقَصَصِ والمعلومات الْبَسِيطَةِ لِيَتَفَيْهَقُوا بِهَا فِي الْمَجَامِعِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ تَصِلْ عُقُولُهُمْ إِلَى الْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَكَانُوا قَدْ طَمِعُوا فِي التَّصَدُّرِ وَالرِّئَاسَةِ الْكَاذِبَةِ لَفَّقُوا نُتَفًا سَطْحِيَّةً وَجَمَعُوا مَوْضُوعَاتٍ وَفَرَاغَاتٍ لَا تَثْبُتُ عَلَى مَحَكِّ الْعِلْمِ الصَّحِيحِ ثُمَّ أَشَاعُوهَا وَنَسَبُوهَا إِلَى اللَّهِ وَدِينِهِ وَهَذِهِ شَنْشَنَةُ الْجَهَلَةِ الْمُتَطَلِّعِينَ إِلَى الرِّئَاسَة عَن غَيْرِ أَهْلِيَّةٍ لِيَظْهَرُوا فِي صُوَرِ الْعُلَمَاءِ لَدَى أَنْظَارِ الْعَامَّةِ وَمَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّحْمِ وَالْوَرَمِ.
وَقَوْلُهُ: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ تَفْصِيلٌ لِجِنْسِ الْوَيْلِ إِلَى وَيْلَيْنِ وَهُمَا مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنَ الشَّرِّ لِأَجْلِ مَا وَضَعُوهُ وَمَا يَحْصُلُ لَهُمْ لِأَجْلِ مَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ جَرَّاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَزَاءٌ بِالشَّرِّ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَعَلَى الْمَقْصِدِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ثَلَاثُ وَيْلَاتٍ كَمَا قَدْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ.
وَكَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى مَا كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَلَاشِي التَّوْرَاةِ بَعْدَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ بُخْتُنَصَّرْ ثُمَّ فِي زَمَنِ طِيطَسَ الْقَائِدِ الرُّومَانِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ التَّوْرَاةَ الَّتِي كَتَبَهَا مُوسَى عليه السلام قَدْ أَمَرَ بِوَضْعِهَا فِي تَابُوتِ الْعَهْدِ حَسْبَمَا ذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ وَكَانَ هَذَا التَّابُوتُ قَدْ وَضَعَهُ مُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ وَضَعَهُ سُلَيْمَانُ فِي الْهَيْكَلِ فَلَمَّا غَزَاهُمْ بُخْتَنَصَّرْ سَنَةَ 588 قَبْلَ الْمَسِيحِ أَحْرَقَ الْهَيْكَلَ وَالْمَدِينَةَ كُلَّهَا بِالنَّارِ وَأَخَذَ مُعْظَمَ الْيَهُودِ فَبَاعَهُمْ عَبِيدًا فِي بَلَدِهِ وَتَرَكَ فِئَةً قَلِيلَةً بِأُورْشَلِيمَ قَصَرَهُمْ عَلَى الْغِرَاسَةِ وَالزِّرَاعَةِ ثُمَّ ثَارُوا عَلَى بُخْتُنَصَّرْ وَقَتَلُوا نَائِبَهُ وَهَرَبُوا إِلَى مِصْرَ وَمَعَهُمْ أَرْمِيَا فَخَرِبَتْ مَمْلَكَةُ الْيَهُودِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا
يَوْمَئِذٍ يَسْتَطِيعُونَ إِنْقَاذَ التَّوْرَاةِ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ حَفَظَتِهَا لِأَنَّ شَرِيعَتَهُمْ جَعَلَتِ التَّوْرَاةَ أَمَانَةً بِأَيْدِي اللَّاوِيِّينَ كَمَا تَضَمَّنَهُ سِفْرُ التَّثْنِيَةِ وَأَمَرَ مُوسَى الْقَوْمَ بِنَشْرِ التَّوْرَاةِ لَهُمْ بَعْدَ كُلِّ سَبْعِ سِنِينَ تَمْضِي وَقَالَ مُوسَى ضَعُوا هَذَا الْكِتَابَ عِنْدَ تَابُوتِ الْعَهْدِ
لِيَكُونَ هُنَاكَ شَاهِدًا عَلَيْكُمْ لِأَنِّي أَعْرِفُ تَمَرُّدَكُمْ وَقَدْ صِرْتُمْ تُقَاوِمُونَ رَبَّكُمْ وَأَنَا حَيٌّ فَأَحْرَى أَنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِي وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ نَبَذُوا الدِّيَانَةَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَعَبَدُوا الْأَصْنَامَ فِي عَهْدِ رَحْبَعَامَ بْنِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ يَهُوذَا وَفِي عَهْدِ يُورْبَعَامَ غُلَامِ سُلَيْمَانَ مَلِكِ إِسْرَائِيلَ قَبْلَ تَخْرِيبِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِتَنَاسِي الدِّينِ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ التَّخْرِيبُ الْمَشْهُورُ ثُمَّ أَعْقَبَهُ التَّخْرِيبُ الرُّومَانِيُّ فِي زَمَنِ طِيطَسَ سَنَةَ 40 لِلْمَسِيحِ ثُمَّ فِي زَمَنِ أَدْرِيَانَ الَّذِي تَمَّ عَلَى يَدِهِ تَخْرِيبُ بَلَدِ أُورْشَلِيمَ بِحَيْثُ صَيَّرَهَا مَزْرَعَةً وَتَفَرَّقَ مَنْ أَبْقَاهُ السَّيْفُ مِنَ الْيَهُودِ فِي جِهَاتِ الْعَالَمِ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ الْمُحَقِّقُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْبَاحِثِينَ عَنْ تَارِيخِ الدِّينِ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ دَخَلَهَا التَّحْرِيفُ وَالزِّيَادَةُ وَالتَّلَاشِي وَأَنَّهُمْ لَمَّا جَمَعُوا أَمْرَهُمْ عَقِبَ بَعْضِ مَصَائِبِهِمُ الْكُبْرَى افْتَقَدُوا التَّوْرَاةَ فَأَرَادُوا أَنْ يَجْمَعُوهَا مِنْ مُتَفَرِّقِ أَوْرَاقِهِمْ وَبَقَايَا مَكَاتِبِهِمْ. وَقَدْ قَالَ: (لِنْجَرْكُ) أَحَدُ اللَّاهُوتِيِّينَ مِنْ عُلَمَاءِ الْإِفْرَنْجِ أَنَّ سِفْرَ التَّثْنِيَةِ كَتَبَهُ يَهُودِيٌّ كَانَ مُقِيمًا بِمِصْرَ فِي عَهْدِ الْمَلِكِ يُوشِيَا مَلِكِ الْيَهُودِ وَقَالَ غَيْرُهُ: إِنَّ الْكُتُبَ الْخَمْسَةَ الَّتِي هِيَ مَجْمُوعُ التَّوْرَاةِ قَدْ دَخَلَ فِيهَا تَحْرِيفٌ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ صَمُوئِيلَ أَوْ عُزَيْرٍ (عِزْرَا) . وَيَذْكُرُ عُلَمَاؤُنَا أَنَّ الْيَهُودَ إِنَّمَا قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ ظَفِرَ بِالتَّوْرَاةِ. وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ تَلَاشَتْ وَتَمَزَّقَتْ وَالْمَوْجُودُ فِي سِفْرِ الْمُلُوكِ الثَّانِي مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الْإِصْحَاحِ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ أَنَّهُمْ بَيْنَمَا كَانُوا بِصَدَدِ تَرْمِيمِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي زَمَنِ يُوشِيَا مَلِكِ يَهُوذَا ادَّعَى حَلْقِيَا الْكَاهِنُ أَنَّهُ وَجَدَ سِفْرَ الشَّرِيعَةِ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَسَلَّمَهُ الْكَاهِنُ لِكَاتِبِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَرَأَهُ الْكَاتِبُ عَلَى الْمَلِكِ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَتَابَ مِنَ ارْتِدَادِهِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَأَمَرَ الْكَهَنَةَ بِإِقَامَةِ كَلَامِ الشَّرِيعَةِ الْمَكْتُوبِ فِي السِّفْرِ الَّذِي وَجَدَهُ حَلْقِيَا الْكَاهِنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ اهـ. فَهَذَا دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّوْرَاةَ كَانَتْ مَجْهُولَةً عِنْدَهُمْ مُنْذُ زمَان.