الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ تَذْكِيرِهِمْ بِالنِّعْمَةِ وَهُوَ مَحَلُّ التَّذْكِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِلَخْ فَالْمَاضِي مُسْتَعْمَلٌ فِي بَابِهِ مِنَ الْإِخْبَارِ وَقَدْ جَاءَ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْمَقَامَ لِلتَّكَلُّمِ فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الْغَيْبَةِ وَرَجَّحَهُ هُنَا سَبْقُ مَعَادِ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي حِكَايَةِ كَلَامِ مُوسَى. وَعُطِفَتِ الْفَاءُ عَلَى مَحْذُوفٍ إِيجَازًا، أَيْ فَفَعَلْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أَوْ فَعَزَمْتُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ، عَلَى حَدِّ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ [الشُّعَرَاء:
63] أَيْ فَضَرَبَ، وَعَطَفَ بِالْفَاءِ إِشَارَةً إِلَى تَعْقِيبِ جُرْمِهِمْ بِتَوْبَتِهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ تَأْخِيرِهَا إِلَى مَا بَعْدَ اسْتِئْصَالِ جَمِيعِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْعِجْلَ بَلْ نَسَخَ ذَلِكَ بِقُرْبِ نُزُولِهِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهِ قَلِيلًا أَوْ دُونَ الْعَمَلِ بِهِ وَفِي ذَلِكَ رَحْمَةٌ عَظِيمَةٌ بِهِمْ إِذْ حَصَلَ الْعَفْوُ عَنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ بِدُونِ تَكْلِيفِهِمْ تَوْبَةً شَاقَّةً بَلِ اكْتِفَاءً بِمُجَرَّدِ نَدَمِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِ لِذَلِكَ.
وَمِنَ الْبَعِيدِ أَنْ يَكُونَ فَتابَ عَلَيْكُمْ مِنْ كَلَامِ مُوسَى لِمَا فِيهِ مِنْ لُزُومِ حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ غَيْرِ وَاضِحِ الْقَرِينَةِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ تَقْدِيرُ شَرْطٍ تَقْدِيرُهُ فَإِنْ فَعَلْتُمْ يَتُبْ عَلَيْكُمْ فَيَكُونُ مُرَادًا مِنْهُ الِاسْتِقْبَالُ وَالْفَاءُ فَصِيحَةٌ، وَلِأَنَّهُ يُعَرِّي هَذِهِ الْآيَةَ عَنْ مَحَلِّ النِّعْمَةِ الْمُذَكَّرِ بِهِ إِلَّا تَضَمُّنًا.
وَجُمْلَةُ: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ خَبَرٌ وَثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ، وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ لِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَشُكُّ فِي حُصُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي عِظَمِ جُرْمِهِمْ حَالُ مَنْ
يَشُكُّ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَمَعَ التَّوَّابَ مَعَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كَانَتْ بِالْعَفْوِ عَنْ زَلَّةِ اتِّخَاذِهِمُ الْعِجْلَ وَهِيَ زَلَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَغْفِرُهَا إِلَّا الْغَفَّارُ، وَبِالنَّسْخِ لِحُكْمِ قَتْلِهِمْ وَذَلِكَ رَحْمَةٌ فَكَانَ لِلرَّحِيمِ مَوْقِعٌ عَظِيمٌ هُنَا وَلَيْسَ هُوَ لمُجَرّد الثَّنَاء.
[55، 56]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 55 إِلَى 56]
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى نَشَأَتْ بَعْدَ عِقَابٍ عَلَى جَفَاءِ طَبْعِ فَمَحَلُّ الْمِنَّةِ وَالنِّعْمَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
ثُمَّ بَعَثْناكُمْ، وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَأْسِيسٌ لِبِنَائِهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الْبَقَرَة: 51] الْآيَةَ. وَالْقَائِلُونَ هُمْ أَسْلَافُ الْمُخَاطَبِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِمُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْ عِبَادَتِهِمُ الْعِجْلَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْآيَاتِ، رَوَى ذَلِكَ الْبَغَوِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ سَأَلُوهُ عِنْدَ مُنَاجَاتِهِ وَإِنَّ السَّائِلِينَ هُمُ السَبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى لِلْمِيقَاتِ وَهُمُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ فِي التَّوْرَاةِ بِالْكَهَنَةِ وَبِشُيُوخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ جَمْعٌ مِنْ عَامَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ نَحْوَ الْعَشَرَةِ الْآلَافِ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَكَاهُمَا فِي «الْكَشَّافِ» وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ مَا هُوَ صَرِيحٌ لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَلَا مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ هَذَا السُّؤَالِ وَلَكِنْ ظَاهِرُ مَا فِي سِفْرِ التَّثْنِيَةِ مِنْهَا مَا يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا الِاقْتِرَاحَ قَدْ صَدَرَ وَأَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْأَوَّلِ لِمُوسَى لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَتْ تَذْكِيرَ مُوسَى فِي مُخَاطَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ذَكَرَتْ مَا يُغَايِرُ كَيْفِيَّةَ الْمُنَاجَاةِ الْأُولَى إِذْ قَالَ (1) : فَلَمَّا سَمِعْتُمُ الصَّوْتَ مِنْ وَسَطِ الظَّلَامِ وَالْجَبَلُ يَشْتَعِلُ بِالنَّارِ تَقَدَّمَ إِلَيَّ جَمِيعُ رُؤَسَاءِ أَسْبَاطِكُمْ وَشُيُوخِكُمْ وَقُلْتُمْ هُوَ ذَا الرَّبُّ إِلَهُنَا قَدْ أَرَانَا مَجْدَهُ وَعَظَمَتَهُ وَسَمِعْنَا صَوْتَهُ مِنْ وَسَطِ النَّار
…
إِن عِنْد مَا نَسْمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ إِلَهَنَا أَيْضًا نَمُوتُ
…
تَقَدَّمْ أَنْتَ وَاسْمَعْ كُلَّ مَا يَقُولُ لَكَ الرَّبُّ إِلَهُنَا وَكَلِّمْنَا بِكُلِّ مَا يُكَلِّمُكَ بِهِ الرَّبُّ إِلْخَ. فَهَذَا يُؤْذِنُ أَنَّ هُنَالِكَ تَرَقُّبًا كَانَ مِنْهُمْ لِرُؤْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُمْ أَصَابَهُمْ مَا بَلَغَ بِهِمْ مَبْلَغَ الْمَوْتِ، وَبَعْدُ فَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مصر.
وَمعنى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ تَوَقَّعُوا الْكُفْرَ إِنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ تَعَالَى أَيْ أَنَّهُمْ
يَرْتَدُّونَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَنْ إِيمَانِهِمُ الَّذِي اتَّصَفُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الَّذِي دَلِيلُهُ الْمُشَاهَدَةُ أَيْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الْإِيمَانَيْنِ يَنْتَفِي إِنْ لَمْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً لِأَنَّ لَنْ لِنَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ قَالَ سِيبَوَيْهِ:«لَا لِنَفْيِ يَفْعَلُ وَلَنْ لِنَفْيِ سَيَفْعَلُ» وَكَمَا أَنَّ قَوْلَكَ سَيَقُومُ لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ قَائِمٍ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا حِينَ قَوْلِهِمْ هَذَا وَلَكِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى عَجْرَفَتِهِمْ وَقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ بِمَا أُوتُوا مِنَ النِّعَمِ وَمَا شَاهَدُوا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ حَتَّى رَامُوا أَنْ يَرَوُا اللَّهَ جَهْرَةً وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ دَخَلَهُمُ الشَّكُّ فِي صِدْقِ مُوسَى وَهَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ إِنْ كَانَ كَذَا فَأَنَا كَافِرٌ. وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي غَيْرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ عَنْ كُفْرٍ.
وَإِنَّمَا عَدَّى نُؤْمِنَ بِاللَّامِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَلَنْ نُقِرَّ لَكَ بِالصِّدْقِ وَالَّذِي دَلَّ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ هُوَ اللَّامُ وَهِيَ طَرِيقَةُ التَّضْمِينِ.
(1) انْظُر سفر التَّثْنِيَة الإصحاح 5.
وَالْجَهْرَةُ مَصْدَرٌ بِوَزْنِ فَعْلَةٍ مِنَ الْجَهْرِ وَهُوَ الظُّهُورُ الْوَاضِحُ فَيُسْتَعْمَلُ فِي ظُهُورِ الذَّوَاتِ وَالْأَصْوَاتِ حَقِيقَةً عَلَى قَوْلِ الرَّاغِبِ إِذْ قَالَ: «الْجَهْرُ ظُهُورُ الشَّيْءِ بِإِفْرَاطٍ إِمَّا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ نَحْوَ رَأَيْتُهُ جِهَارًا وَمِنْهُ جَهَرَ الْبِئْرَ إِذَا أَظْهَرَ مَاءَهَا، وَإِمَّا بِحَاسَّةِ السَّمْعِ نَحْوَ:
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ [طه: 7] » وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» مُؤْذِنٌ بِأَنَّ الْجَهْرَ مَجَازٌ فِي الرُّؤْيَةِ بِتَشْبِيهِ الَّذِي يَرَى بِالْعَيْنِ بِالْجَاهِرِ بِالصَّوْتِ وَالَّذِي يَرَى بِالْقَلْبِ بِالْمُخَافِتِ، وَكَانَ الَّذِي حَدَاهُ عَلَى ذَلِكَ اشْتِهَارُ اسْتِعْمَالِ الْجَهْرِ فِي الصَّوْتِ وَفِي هَذَا كُلِّهِ بُعْدٌ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّ جَهْرَةَ الصَّوْتِ هِيَ الْحَقِيقَةُ وَلَا سَبِيلَ إِلَى دَعْوَى الِاشْتِهَارِ فِي جَهْرَةِ الصَّوْتِ حَتَّى يَقُولَ قَائِلٌ إِنَّ الِاشْتِهَارَ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ عَلَى أَنَّ الِاشْتِهَارَ إِنَّمَا يُعْرَفُ بِهِ الْمَجَازُ الْقَلِيلُ الِاسْتِعْمَالِ، وَأَمَّا الْأَشْهَرِيَّةُ فَلَيْسَتْ مِنْ عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا نُكْتَةَ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ وَلَا غَرَضَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُشَبَّهِ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ فَإِنَّ ظُهُورَ الذَّوَاتِ أَوْضَحُ مِنْ ظُهُورِ الْأَصْوَاتِ.
وَانْتَصَبَ (جَهْرَةً) عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ لِبَيَانِ نَوْعِ فِعْلِ تَرَى لِأَنَّ مِنَ الرُّؤْيَةِ مَا يَكُونُ لَمْحَةً أَوْ مَعَ سَائِرٍ شَفَّافٍ فَلَا تَكُونُ وَاضِحَةً.
وَوَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ عِيَانًا إِلَى قَوْلِهِ (جَهْرَةً) لِأَنَّ جَهْرَةً أَفْصَحُ لَفْظًا لِخِفَّتِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْدُوءٍ بِحَرْفِ حَلْقٍ وَالِابْتِدَاءُ بِحَرْفِ الْحَلْقِ أَتْعَبُ لِلْحَلْقِ مِنْ وُقُوعِهِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ وَلِسَلَامَتِهِ مِنْ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِي الْبُلَغَاءُ بَعْضَ الْأَلْفَاظِ عَلَى بَعْضٍ لِحُسْنِ وَقْعِهَا فِي الْكَلَامِ وَخِفَّتِهَا عَلَى السَّمْعِ وَلِلْقُرْآنِ السَّهْمُ الْمُعَلَّى فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي غَايَةِ الْفَصَاحَةِ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ أَيْ عُقُوبَةً لَهُمْ عَمَّا بَدَا مِنْهُمْ مِنَ الْعَجْرَفَةِ وَقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِالْمُعْجِزَاتِ. وَهَذِهِ عُقُوبَةٌ دُنْيَوِيَّةٌ لَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعَاقَبَ عَلَيْهِ حَرَامٌ أَوْ كُفْرٌ لَا
سِيَّمَا وَقَدْ قُدِّرَ أَنَّ مَوْتَهُمْ بِالصَّاعِقَةِ لَا يَدُومُ إِلَّا قَلِيلًا فَلَمْ تَكُنْ مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ فِي إِصَابَةِ الصَّاعِقَةِ لَهُمْ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّهِ تَعَالَى مُسْتَحِيلَةٌ وَأَنَّ سُؤَالَهَا وَالْإِلْحَاحَ فِيهِ كُفْرٌ كَمَا زَعَمَ الْمُعْتَزِلَةُ وَأَنْ لَا حَاجَةَ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الصَّاعِقَةَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُشَبِّهُ الْأَجْسَامَ فَكَانُوا بِذَلِكَ كَافِرِينَ إِذْ لَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى أَنَّهُمْ كَفَرُوا، كَيْفَ وَقَدْ سَأَلَ الرُّؤْيَةَ مُوسَى عليه السلام.
وَالصَّاعِقَةُ نَارٌ كَهْرَبَائِيَّةٌ مِنَ السَّحَابِ تَحْرِقُ مَنْ أَصَابَتْهُ، وَقَدْ لَا تَظْهَرُ النَّارُ وَلَكِنْ يَصِلُ هَوَاؤُهَا إِلَى الْأَحْيَاءِ فَيَخْتَنِقُونَ بِسَبَبِ مَا يُخَالِطُ الْهَوَاءَ الَّذِي يَتَنَفَّسُونَ فِيهِ مِنَ الْحَوَامِضِ النَّاشِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الْكَهْرَبَائِيَّةِ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ نَارٌ، وَقِيلَ: سَمِعُوا صَعْقَةً فَمَاتُوا.
وَقَوْلُهُ: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فَائِدَةُ التَّقْيِيدِ بِهَذَا الْحَالِ عِنْدَ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» الدِّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الصَّاعِقَةَ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ نَارُ الصَّاعِقَةِ لَا صَوْتُهَا الشَّدِيدُ لِأَنَّ الْحَالَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُمْ مِمَّا يُرَى، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْ وَأَنْتُمْ يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ أَيْ مجتمعون.
وَعِنْدِي أَيْن مَفْعُولَ تَنْظُرُونَ مَحْذُوفٌ وَأَنَّ (تَنْظُرُونَ) بِمَعْنَى تُحَدِّقُونَ الْأَنْظَارَ عِنْدَ رُؤْيَةِ السَّحَابِ عَلَى جَبَلِ الطُّورِ طَمَعًا أَنْ يَظْهَرَ لَهُمُ اللَّهُ مِنْ خِلَالِهِ لِأَنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّمُ مُوسَى كَلَامًا يَسْمَعُهُ مِنْ خِلَالِ السَّحَابِ كَمَا تَقُولُهُ التَّوْرَاةُ فِي مَوَاضِعَ، فَفَائِدَةُ الْحَالِ إِظْهَارُ أَنَّ الْعُقُوبَةَ أَصَابَتْهُمْ فِي حِينِ الْإِسَاءَةِ وَالْعَجْرَفَةِ إِذْ طَمِعُوا فِيمَا لَمْ يَكُنْ لِيُنَالَ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ إِيجَازٌ بَدِيعٌ، أَيْ فَمُتُّمْ مِنَ الصَّاعِقَةِ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وَهَذَا خارق عهادة جعل اللَّهِ مُعْجِزَةً لِمُوسَى اسْتِجَابَةً لِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ أَوْ كَرَامَةً لَهُمْ مِنْ بَعْدِ تَأْدِيبِهِمْ إِنْ كَانَ السَّائِلُونَ هُمُ السَبْعِينَ فَإِنَّهُمْ مِنْ صَالِحِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَإِنْ قُلْتَ إِذَا كَانَ السَّائِلُونَ هُمُ الصَّالِحِينَ فَكَيْفَ عُوقِبُوا؟
قُلْتُ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عِقَابٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ يَنَالُ الصَّالِحِينَ وَيُسَمَّى عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ بِالْعِتَابِ وَهُوَ لَا يُنَافِي الْكَرَامَةَ، وَنَظِيرُهُ أَنَّ مُوسَى سَأَلَ رُؤْيَةَ رَبِّهِ فَتَجَلَّى الله للجبل فَجعله دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ.
فَإِنْ قُلْتَ إِنَّ الْمَوْتَ يَقْتَضِي انْحِلَالَ التَّرْكِيبِ الْمِزَاجِيِّ فَكَيْفَ يَكُونُ الْبَعْثُ بَعْدَهُ فِي غَيْرِ يَوْمِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ؟
قُلْتُ: الْمَوْتُ هُوَ وُقُوفُ حَرَكَةِ الْقَلْبِ وَتَعْطِيلُ وَظَائِفِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ فَإِذَا حَصَلَ عَنْ فَسَادٍ فِيهَا لَمْ تَعْقُبْهُ حَيَاةٌ إِلَّا فِي يَوْمِ إِعَادَةِ الْخَلْقِ وَهُوَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدُّخان: 56] وَإِذَا حَصَلَ عَنْ حَادِثٍ قَاهِرٍ مَانِعٍ وَظَائِفَ الْقَلْبِ مِنْ عَمَلِهَا كَانَ لِلْجَسَدِ حُكْمُ الْمَوْتِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَكِنَّهُ يَقْبَلُ الرُّجُوعَ إِنْ عَادَتْ إِلَيْهِ أَسْبَابُ الْحَيَاةِ بِزَوَالِ الْمَوَانِعِ الْعَارِضَةِ، وَقَدْ صَارَ الْأَطِبَّاءُ الْيَوْمَ يَعْتَبِرُونَ بَعْضَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تُعَطِّلُ عَمَلَ الْقَلْبِ اعْتِبَارَ الْمَوْتِ وَيُعَالِجُونَ الْقَلْبَ بِأَعْمَالٍ جِرَاحِيَّةٍ تُعِيدُ إِلَيْهِ حَرَكَتَهُ.
وَالْمَوْتُ بِالصَّاعِقَةِ إِذَا كَانَ عَنِ اخْتِنَاقٍ أَوْ قُوَّةِ ضَغْطِ الصَّوْتِ عَلَى الْقَلْبِ قَدْ تَعْقُبُهُ الْحَيَاةُ بِوُصُولِ هَوَاءٍ صَافٍ جَدِيدٍ وَقَدْ يَطُولُ زَمَنُ هَذَا الْمَوْتِ فِي الْعَادَةِ سَاعَاتٍ قَلِيلَةٍ وَلَكِنَّ هَذَا الْحَادِثَ كَانَ خَارِقَ عَادَةٍ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُمْ قَدْ طَالَ يَوْمًا وَلَيْلَةً كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ وَيُمْكِنُ دون ذَلِك.