الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : الْآيَات 38 إِلَى 39]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
كُرِّرَتْ جُمْلَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا فَاحْتَمَلَ تَكْرِيرُهَا أَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ رَبْطِ النَّظْمِ فِي الْآيَةِ الْقُرْآنِيَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى تَكْرِيرِ مَعْنَاهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ آدَمُ فَيَكُونُ هَذَا التَّكْرِيرُ لِمُجَرَّدِ اتِّصَالِ مَا تَعَلَّقَ بِمَدْلُولِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا [الْبَقَرَة: 36] وَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الْبَقَرَة: 36] وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً. إِذْ قَدْ فَصَلَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ مَا اعْتَرَضَ بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [الْبَقَرَة: 37] فَإِنَّهُ لَوْ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً لَمْ يَرْتَبِطْ كَمَالَ الِارْتِبَاطِ وَلَتَوَهَّمَ السَّامِعُ أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ فَلِدَفْعِ ذَلِكَ أُعِيدَ قَوْلُهُ: قُلْنَا اهْبِطُوا فَهُوَ قَوْلٌ وَاحِدٌ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ لِرَبْطِ الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعْطِفُ قُلْنَا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا شِبْهَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ لِتَنَزُّلِ قَوْلِهِ: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً مِنْ قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ مَنْزِلَةَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ وَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا بُنِيَ عَلَى قَوْلِهِ: وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لِيَحْصُلَ شَيْءٌ مِنْ تَجَدُّدِ فَائِدَةٍ فِي الْكَلَامِ لِكَيْ لَا يَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا مُجَرَّدَ تَوْكِيدٍ وَيُسَمَّى هَذَا الْأُسْلُوبُ فِي عِلْمِ الْبَدِيعِ بِالتَّرْدِيدِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ [آل عمرَان: 188] وَإِفَادَتُهُ التَّأْكِيدَ حَاصِلَةٌ بِمُجَرَّدِ إِعَادَةِ اللَّفْظِ (1) .
وَقِيلَ هُوَ أَمر ثَانِي بِالْهُبُوطِ بِأَنْ أُهْبِطَ آدَمُ مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أُهْبِطَ مِنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا إِلَى الْأَرْضِ فَتَكُونُ إِعَادَةُ قُلْنَا اهْبِطُوا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اخْتِلَافِ زَمَنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْهُبُوطِ وَهُوَ تَأْوِيلٌ يُفِيدُ أَنَّ الْمَرَاحِلَ وَالْمَسَافَاتِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَ الْمُسَافِرِ وَلِأَنَّ ضَمِيرَ مِنْها الْمُتَعَيَّنَ لِلْعَوْدِ إِلَى الْجنَّة لتنسق الضَّمَائِرِ فِي قَوْلِهِ: وَكُلا مِنْها رَغَداً [الْبَقَرَة:
35]
(1) أردْت بِهَذَا أَن أنبه على أَن مَا وَقع فِي «الْكَشَّاف» أَن اهبطوا الثَّانِي تَأْكِيد أَرَادَ بِهِ مَا يُقَارب التَّأْكِيد وَهُوَ أَنه يحصل من مُجَرّد إِعَادَة اللَّفْظ. تَقْرِير لمدلوله فِي الذِّهْن وَإِن لم يكن الْمَقْصُود من ذكره
وَقَوْلِهِ: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها [الْبَقَرَة: 36] مَانِعٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اهْبِطُوا مِنَ السَّمَاءِ جَمِيعًا إِذْ لَمْ يَسْبِقْ مَعَادٌ لِلسَّمَاءِ فَالْوَجْهُ عِنْدِي عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ تَكُونَ إِعَادَةُ اهْبِطُوا الثَّانِي لِغَيْرِ رَبْطِ نَظْمِ الْكَلَامِ أَنْ تَكُونَ لِحِكَايَةِ أَمْرٍ ثَانٍ لِآدَمَ بِالْهُبُوطِ كَيْلَا يَظُنَّ أَنَّ تَوْبَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ عِنْدَ مُبَادَرَتِهِ بِالتَّوْبَةِ عَقِبَ الْأَمْرِ بِالْهُبُوطِ قَدْ أَوْجَبَتِ الْعَفْوَ عَنْهُ مِنَ الْهُبُوطِ مِنَ الْجَنَّةِ فَأَعَادَ لَهُ الْأَمْرَ بِالْهُبُوطِ بَعْدَ قَبُولِ تَوْبَتِهِ لِيَعْلَمَ أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى وَطَوْرٌ مِنَ الْأَطْوَارِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَعْلِهِ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ وَهُوَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْمَلَائِكَةَ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْعَفْوَ يَكُونُ مِنَ التَّائِبِ فِي الزَّوَاجِرِ وَالْعُقُوبَاتِ. وَأَمَّا تَحْقِيقُ آثَارِ الْمُخَالِفَةِ وَهُوَ الْعُقُوبَةُ التَّأْدِيبِيَّةُ فَإِنَّ الْعَفْوَ عَنْهَا فَسَادٌ فِي الْعَالَمِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْمُخَالَفَةِ إِذَا لَمْ يَرَ أَثَرَ فَعْلِهِ لَمْ يَتَأَدَّبْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَالتَّسَامُحُ مَعَهُ فِي ذَلِكَ تَفْوِيتٌ لِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ، فَإِنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَوَّثَ مَوْضِعًا وَغَضِبَ عَلَيْهِ مُرَبِّيهِ ثُمَّ تَابَ فَعَفَا عَنْهُ فَالْعَفْوُ يَتَعَلَّقُ بِالْعِقَابِ وَأَمَّا تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُزِيلَ بِيَدِهِ التَّلْوِيثَ الَّذِي لَوَّثَ بِهِ الْمَوْضِعَ فَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ التَّسَامُحُ فِيهِ وَلِذَا لَمَّا تَابَ اللَّهُ عَلَى آدَمَ رَضِيَ عَنْهُ وَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِعُقُوبَةٍ وَلَا بِزَاجِرٍ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصْفَحْ عَنْهُ فِي تَحَقُّقِ أَثَرِ مُخَالَفَتِهِ وَهُوَ الْهُبُوطُ مِنَ الْجَنَّةِ لِيَرَى أَثَرَ حِرْصِهِ وَسُوءِ ظَنِّهِ، هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّوْجِيهُ إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنِ اهْبِطُوا الثَّانِي حِكَايَةَ أَمْرٍ ثَانٍ بِالْهُبُوطِ خُوطِبَ بِهِ آدَمُ.
وجَمِيعاً حَال. وَجَمِيع اسْمٌ لِلْمُجْتَمِعِينَ مِثْلَ لَفْظِ (جَمْعٍ) فَلِذَلِكَ الْتَزَمُوا فِيهِ حَالَةً وَاحِدَةً وَلَيْسَ هُوَ فِي الْأَصْلِ وَصْفًا وَإِلَّا لَقَالُوا جَاءُوا جَمِيعِينَ لِأَنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ وَقَدْ تَأَوَّلُوا قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَلَوْ أَنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَةً
بِأَنَّ التَّاءَ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ وَالْمَعْنَى اهْبِطُوا مُجْتَمِعَيْنِ فِي الْهُبُوطِ مُتَقَارِنَيْنِ فِيهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي اقْتِرَافِ سَبَبِ الْهُبُوطِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ شَرْطٌ عَلَى شَرْطٍ لِأَنَّ (إِمَّا) شَرْطٌ مُرَكَّبٌ مِنْ إِنِ الشَّرْطِيَّةِ وَمَا الزَّائِدَةُ دَالَّةٌ عَلَى تَأْكِيدِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ إِنْ بِمَجَرَّدِهَا دَالَّةٌ عَلَى الشَّرْطِ فَلَمْ يَكُنْ دُخُولُ مَا الزَّائِدَةِ عَلَيْهَا كَدُخُولِهَا عَلَى (مَتَى) وَ (أَيْ) وَ (أَيْنَ) وَ (أَيَّانَ) وَ (مَا) وَ (مِنْ) وَ (مَهْمَا) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ أَصْلَهَا مَامَا لِأَنَّ تِلْكَ كَانَتْ زِيَادَتَهَا لِجَعْلِهَا مُفِيدَةً مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ لَمْ تُوضَعْ لَهُ بِخِلَافِ (إِنْ) وَقَدِ الْتَزَمَتِ الْعَرَبُ تَأْكِيدَ فِعْلِ الشَّرْطِ مَعَ إِمَّا بِنُونِ التَّوْكِيدِ لِزِيَادَةِ تَوْكِيدِ التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ عَلَامَتِهِ عَلَى أَدَاتِهِ وَعَلَى فِعْلِهِ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لَا يُفِيدُ تَحْقِيقَ حُصُولِ الْجَوَابِ لِأَنَّهُ مُنَافٍ لِلتَّعْلِيقِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُؤَكَّدْ جَوَابُ الشَّرْطِ بِالنُّونِ بَلْ يُفِيدُ تَحْقِيقَ الرَّبْطِ أَيْ إِنَّ كَوْنَ
حُصُولِ الْجَوَابِ مُتَوَقِّفًا عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ أَمْرٌ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّ التَّعْلِيقَ مَا هُوَ إِلَّا خَبَرٌ مِنَ الْأَخْبَارِ، إِذْ حَاصِلُهُ الْإِخْبَارُ بِتَوَقُّفِ حُصُولِ الْجَزَاءِ عَلَى حُصُولِ الشَّرْطِ فَلَا جَرَمَ كَانَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْأَخْبَارِ قَابِلًا لِلتَّوْكِيدِ وَقَلَّمَا خَلَا فِعْلُ الشَّرْطِ مَعَ إِمَّا عَنْ نُونِ التَّوْكِيدِ كَقَوْلِ الْأَعْشَى:
إِمَّا تَرَيْنَا حُفَاةً نِعَالَ لَنَا
…
إِنَّا كَذَلِكَ مَا نَحْفَى وَنَنْتَعِلُ
وَهُوَ غَيْرُ حَسَنٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالْفَارِسِيِّ، وَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ هُوَ مَمْنُوعٌ فَجَعَلَا خُلُوَّ الْفِعْلِ عَنْهُ ضَرُورَةً.
وَقَوْلُهُ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ مَنْ شَرْطِيَّةٌ بِدَلِيلِ دُخُولِ الْفَاءِ فِي جَوَابِهَا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْفَاءَ وَإِنْ دَخَلَتْ فِي خَبَرِ الْمَوْصُولِ كَثِيرًا فَذَلِكَ عَلَى مُعَامَلَتِهِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ فَلْتُحْمَلْ هُنَا عَلَى الشُّرْطِيَّةِ اخْتِصَارًا لِلْمَسَافَةِ.
وَأُظْهِرَ لَفْظَ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: هُدايَ وَهُوَ عَيْنُ الْهُدَى فِي قَوْلِهِ: مِنِّي هُدىً فَكَانَ الْمَقَامُ لِلضَّمِيرِ الرَّابِطِ لِلشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْأَوْلَى لَكِنَّهُ أُظْهِرَ اهْتِمَامًا بِالْهُدَى لِيَزِيدَ رُسُوخًا فِي أَذْهَانِ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى حَدِّ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ [المزمل: 15، 16] وَلِتَكُونَ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا لَا تَشْتَمِلُ عَلَى عَائِدٍ يَحْتَاجُ إِلَى ذِكْرِ مُعَادٍ حَتَّى يَتَأَتَّى تَسْيِيرُهَا مَسِيرَ الْمَثَلِ أَوِ النَّصِيحَةِ فَتُلْحَظُ فَتُحْفَظُ وَتَتَذَكَّرُهَا النُّفُوسُ لِتُهَذَّبَ وَتَرْتَاضَ كَمَا أَظْهَرَ فِي قَوْلِهِ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [الْإِسْرَاء: 81] لِتَسِيرَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الْأَخِيرَةُ مَسِيرَ الْمَثَلِ وَمِنْهُ قَوْلُ بَشَّارٍ:
إِذَا بَلَّغَ الرَّأْيُ الْمَشُورَةَ فَاسْتَعِنْ
…
بِرَأْيِ نَصِيحٍ أَوْ نَصِيحَةِ حَازِمِ
وَلَا تَجْعَلِ الشُّورَى عَلَيْكَ غَضَاضَةً
…
مَكَانُ الْخَوَافِي قُوَّةٌ لِلْقَوَادِمِ
وَأَدْنِ إِلَى الشُّورَى الْمُسَدَّدَ رَأْيُهُ
…
وَلَا تُشْهِدِ الشُّورَى امْرَأً غَيْرَ كَاتِمِ
فَكَرَّرَ الشُّورَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي الْبَيْتَيْنِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِيَكُونَ كُلُّ نِصْفٍ سَائِرًا مَسِيرَ الْمَثَلِ وَبِهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ تَعْرِيفِ الْهُدَى الثَّانِي بِالْإِضَافَةِ لِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ دُونَ أَلْ مَعَ أَنَّهَا الْأَصْلُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الضَّمِير الْوَاقِع معاد لِئَلَّا يَفُوتَ هَاتِهِ الْجُمْلَةَ الْمُسْتَقِلَّةَ شَيْءٌ تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الْأُولَى إِذِ الْجُمْلَةُ الْأُولَى تَضَمَّنَتْ وَصْفَ الْهُدَى بِأَنَّهُ آتٍ مِنَ اللَّهِ وَالْإِضَافَةُ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ تُفِيدُ هَذَا الْمُفَادَ.
وَالْإِتْيَانُ (1) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ بِحَرْفِ الشَّرْطِ الدَّالِّ عَلَى عَدَمِ الْجَزْمِ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ إِيذَانٌ بِبَقِيَّةٍ مِنْ عِتَابٍ عَلَى عَدَمِ امْتِثَالِ الْهُدَى الْأَوَّلِ وَتَعْرِيضٌ بِأَنَّ مُحَاوَلَةَ هَدْيِكُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا جَدْوَى لَهَا كَمَا يَقُولُ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ إِذَا لَمْ يَعْمَلْ بِمَا أَوْصَاهُ بِهِ فَغَضِبَ عَلَيْهِ ثُمَّ اعْتَذَرَ لَهُ فَرَضِيَ عَنْهُ: إِنْ أَوْصَيْتُكَ يَوْمًا آخَرَ بِشَيْءٍ فَلَا تَعُدْ لِمِثْلِ فَعْلَتِكَ، يُعَرِّضُ لَهُ بِأَنَّ تَعَلُّقَ الْغَرَضِ بِوَصِيَّتِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَمْرٌ مَشْكُوكٌ فِيهِ إِذْ لَعَلَّهُ قَلِيلُ الْجَدْوَى، وَهَذَا وَجْهٌ بَلِيغٌ فَاتَ صَاحِبَ «الْكَشَّافِ» حَجَبَهُ عَنْهُ تَوْجِيهُ تَكَلُّفِهِ لِإِرْغَامِ الْآيَةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ دَلِيلًا لِقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا بِهُدَى الْعَقْلِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ مَعَ كَوْن هُدَى اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ التَّكَلُّفُ كَثِيرٌ فِي «كِتَابِهِ» وَهُوَ لَا يَلِيقُ بِرُسُوخِ
قَدَمِهِ فِي الْعِلْمِ، فَكَانَ تَقْرِيرُهُ هَذَا كَالِاعْتِذَارِ عَنِ الْقَوْلِ بِعَدَمِ وُجُوبِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ عَلَى أَنَّ الْهُدَى لَا يَخْتَصُّ بِالْإِيمَانِ الَّذِي يُغْنِي فِيهِ الْعَقْلُ عَنِ الرِّسَالَةِ عِنْدَهُمْ بَلْ مُعْظَمُهُ هُدَى التَّكَالِيفِ وَكَثِيرٌ مِنْهَا لَا قِبَلَ لِلْعَقْلِ بِإِدْرَاكِهِ، وَهُوَ عَلَى أُصُولِهِمْ أَيْضًا وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ إِبْلَاغُهُ لِلنَّاسِ فَيَبْقَى الْإِشْكَالُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِحَرْفِ الشَّكِّ هُنَا بِحَالِهِ فَلِذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ أَسْعَدَ بِمَذْهَبِنَا أَيُّهَا الْأَشَاعِرَةَ مِنْ عَدَمِ وُجُوبِ الْهُدَى كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لَوْ شِئْنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ الْبَيْضَاوِيُّ وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا وَارِدَةً لِأَجْلِهِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً الْآيَةَ هُوَ فِي مَعْنَى الْعَهْدِ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى آدَمَ فَلَزِمَ ذُرِّيَّتَهُ أَنْ يَتْبَعُوا كُلَّ هُدًى يَأْتِيهِمْ مِنَ اللَّهِ وَأَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ هُدًى يَأْتِي مِنَ اللَّهِ فَقَدِ اسْتَوْجَبَ الْعَذَابَ
(1) اعْلَم أَن أصل تَكْرِير الْكَلِمَة أَو الْجُمْلَة فِي الْكَلَام أَن يكون مَكْرُوها لما يورثه التكرير من سماجة السَّامع، لِأَن الْمَقْصُود من الْكَلَام تجدّد الْمعَانِي غير أَن تِلْكَ الْكَرَاهَة مُتَفَاوِتَة، فتكرير الْمُفْردَات لَا مندوحة عَنهُ، فَكَانَ اخْتِلَاف الْإِخْبَار عَنْهَا والأوصاف دافعا لكَرَاهَة تكريرها، وَلذَلِك لَا يعد تكريرها عَيْبا إِلَّا إِذا كثر فِي كَلَام غير طَوِيل نَحْو:
لَا أرى الْمَوْت يسْبق الْمَوْت شَيْء
…
نغّص الْمَوْت ذَا الْغنى والفقيرا
وَلذَلِك عدت كَثْرَة التكرير مُنَافِيَة للفصاحة. وَأما تَكْرِير الْجمل فِي الْكَلَام الْقَرِيب فأصله السماجة إِلَّا إِذا حصل من التكرير نُكْتَة بلاغية فَحِينَئِذٍ يغالب النشاط الْحَاصِل من التكرير أَو التأثر والانزعاج تِلْكَ السماجة فيدحضها. وَذَلِكَ كتكرير التهويل فِي «قربا مربط النعامة مني» وتكرير التطريب فِي إِعَادَة اسْم المحبوب فيقصد الْمُتَكَلّم تَجْدِيد ذَلِك التأثر فِي السَّامع حبا فِيهِ أَو نكاية وَذَلِكَ تَابع لحالة السامعين فِي ذَلِك الْمقَام بِحَيْثُ لَا يسأمون من التكرير لأَنهم يتطلبونه ويحمدونه لما يَتَجَدَّد لَهُم عِنْده من الانفعال الْحسن.
فَشَمِلَ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُخَاطَبِ بِهَا طَوَائِفُ النَّاسِ لِوُقُوعِ (هُدًى) نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ وَهُوَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَوْلَى الْهُدَى وَأَجْدَرُهُ بِوُجُوبِ اتِّبَاعِهِ الْهُدَى الَّذِي أَتَى مِنَ اللَّهِ لِسَائِرِ الْبَشَرِ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ بَنِي آدَمَ وَبِذَلِكَ تَهَيَّأَ الْمَوْقِعُ لِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَخْ فَاللَّهُ أَخَذَ الْعَهْدَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَى اتِّبَاعِ الْهُدَى الْعَامِّ كَقَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ [آل عمرَان: 81] الْآيَةَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ الْبَشَرَ بِمَا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الضَّلَالِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَهْدِيهِمْ فَأَمَّا فِي تَفَاصِيلِ الشَّرَائِعِ فَلَا شَكَّ فِي ذَلِكَ وَلَا اخْتِلَافَ وَأَمَّا فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ فَيَجْرِي عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ عُلَمَائِنَا فِي مُؤَاخَذَةِ أَهْلِ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ، وَلَعَلَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهُدَى الْآتِيَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ مِنْ عَهْدِ آدَمَ وَنُوحٍ وَعَرَفَهُ الْبَشَرُ كُلُّهُمْ فَيَكُونُ خِطَابًا ثَابِتًا لَا يَسَعُ الْبَشَرَ ادِّعَاءُ جَهِلِهِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَقِيلَ لَا، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّةِ أَنَّهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ.
وَقَوْلُهُ: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ نَفْيٌ لِجِنْسِ الْخَوْفِ. وخَوْفٌ مَرْفُوعٌ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ مَبْنَيَا عَلَى الْفَتْحِ وَهُمَا وَجْهَانِ فِي اسْمِ (لَا) النَّافِيَةِ لِلْجِنْسِ وَقَدْ رَوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ قَوْلُ الْمَرْأَةِ الرَّابِعَةِ مِنْ نِسَاءِ حَدِيثِ أُمِّ زَرْعٍ «زَوْجِي كَلَيْلِ تِهَامَةَ لَا حَرَّ وَلَا قَرَّ وَلَا مَخَافَةَ وَلَا سَآمَةَ» . وَبِنَاءُ الِاسْمِ عَلَى الْفَتْحِ نَصٌّ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ وَرَفْعُهُ مُحْتَمِلٌ لِنَفْيِ الْجِنْسِ وَلِنَفْيِ فَرْدٍ وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ فَإِذَا انْتَفَى اللَّبْسُ اسْتَوَى الْوَجْهَانِ كَمَا هُنَا إِذِ الْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ فِي نَفْيِ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ لِآدَمَ فَإِكْمَالُ ذِكْرِهِ هُنَا اسْتِيعَابٌ لِأَقْسَامِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَهُوَ يَعُمُّ مَنْ كَذَّبَ
بِالْمُعْجِزَاتِ كُلِّهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا الْقُرْآنُ، عَطْفٌ عَلَى (مَنْ) الشَّرْطِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ إِلَخْ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ إِسْمِيَّةٍ، وَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ غَيْرَ شَرْطِيَّةٍ مَعَ مَا فِي الشَّرْطِيَّةِ مِنْ قُوَّةِ الرَّبْطِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ وَعَدَمِ الِانْفِكَاكِ عَنْهُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّرَتُّبِ وَالتَّسَبُّبِ وَعَدَمَ الِانْفِكَاكِ قَدْ حَصَلَ بِطُرُقٍ أُخْرَى فَحَصَلَ مَعْنَى الشَّرْطِ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِهِ: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ بِشَارَةٌ يُؤْذِنُ مَفْهُومُهَا بِنِذَارَةِ مَنْ لَمْ يَتْبَعْهُ فَهُوَ خَائِفٌ حَزِينٌ فَيَتَرَقَّبُ السَّامِعُ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْخَوْفَ وَالْحُزْنَ فَيَحْصُلُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الْآيَةَ. وَأَمَّا مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَقَدْ حَصَلَ مِنْ تَعْلِيقِ الْخَبَرِ عَلَى الْمَوْصُول وصلته المؤمي إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَعِلَّتِهِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ، وَأَمَّا عَدَمُ الِانْفِكَاكِ
فَقَدِ اقْتَضَاهُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَصْحَابِ النَّارِ الْمُقْتَضِي لِلْمُلَازِمَةِ ثُمَّ التَّصْرِيحُ بِقَوْلِهِ: هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَذْيِيلٌ ذُيِّلَتْ بِهِ قِصَّةُ آدَمَ لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْمُهْتَدِينَ وَلَيْسَ مِنَ الْمَقُولِ لَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا التَّذْيِيلِ تَهْدِيدُ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدُ إِلَى عَرْضِ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الْبَقَرَة: 21] وَقَوْلِهِ: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 28] فَتَكُونُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا اعْتِرَاضِيَّةً وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ وَأَنْكَرُوا أَنْبِيَاءَهُ وَجَحَدُوا عَهْدَهُ كَمَا هُوَ اصْطِلَاحُ الْقُرْآنِ وَالْمَعْنَى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِي وَبِهُدَايَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْمُقَابَلَةُ.
وَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ الشَّيْءُ الدَّالُّ عَلَى أَمْرٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَخْفَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَعْلَامِ الطَّرِيقِ آيَاتٌ لِأَنَّهُمْ وَضَعُوهَا لِلْإِرْشَادِ إِلَى الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ فِي الرِّمَالِ، وَتُسَمَّى الْحُجَّةُ آيَةً لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْحَقَّ الْخَفِيَّ، كَمَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
مَنْ لَنَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ آيَا
…
تٌ ثَلَاثٌ فِي كُلِّهِنَّ الْقَضَاءُ
يَعْنِي ثَلَاثَ حُجَجٍ عَلَى نُصْحِهِمْ وَحُسْنِ بَلَائِهِمْ فِي الْحَرْبِ وَعَلَى اتِّصَالِهِمْ بِالْمَلِكِ عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ. وَسَمَّى اللَّهُ الدَّلَائِلَ عَلَى وُجُودِهِ وَعَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَعَلَى إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الشِّرْكِ آيَاتٍ، فَقَالَ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الْأَنْعَام: 4] وَقَالَ:
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: 97] إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: 99] وَقَالَ:
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها [الْأَنْعَام: 109] وَسَمَّى الْقُرْآنُ آيَةً فَقَالَ: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ- إِلَى قَوْلِهِ- أَوَلَمْ
يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ
فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ [50، 51] . وَسَمَّى أَجْزَاءَهُ آيَاتٍ فَقَالَ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا [الْحَج: 72] وَقَالَ: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرَّعْد: 1] لِأَنَّ كُلَّ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [الْبَقَرَة: 23] ، فَكَانَ دَالًّا عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ فِيمَا جَاءَ بِهِ وَكَانَتْ جُمَلُهُ آيَاتٍ لِأَنَّ بِهَا بَعْضَ الْمِقْدَارِ الْمُعْجِزِ، وَلَمْ تُسَمَّ أَجْزَاءُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الْأُخْرَى آيَاتٍ، وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الرَّجْمِ أَنَّ ابْنَ صُورِيَا حِينَ نَشَرَ التَّوْرَاةَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ فَذَلِكَ عَلَى تَشْبِيهِ الْجُزْءِ مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْجُزْءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ مِنْ تَعْبِيرِ رَاوِي الْحَدِيثِ.
وَأَصْلُ الْآيَةِ عِنْدَ سِيبَوَيْهُُِ
فَعَلَةٌ بِالتَّحْرِيكِ أَيَيَةٌ أَوْ أَوَيَةٌ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهَا وَاوِيَّةٌ أَوْ يَائِيَّةٌ مُشْتَقَّةٌ مِنْ أَيٍّ الِاسْتِفْهَامِيَّةِ أَوْ مِنْ أَوَيَ (1) فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفَا الْعِلَّةِ فِيهَا قُلِبَ أَحَدُهُمَا وَقُلِبَ الْأَوَّلُ تَخْفِيفًا عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ اجْتِمَاعِ حَرْفَيْ عِلَّةٍ صَالِحَيْنِ لِلْإِعْلَالِ أَنْ يُعَلَّ ثَانِيهِمَا إِلَّا مَا قَلَّ مِنْ نَحْوِ آيَةٍ وَقَايَةٍ وَطَايَةٍ وَثَايَةٍ وَرَايَةٍ (2) .
فَالْمُرَادُ بِآيَاتِنَا هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ أَيْ وَكَذَّبُوا بِالْقُرْآنِ أَي بِأَنَّهُ وَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا بَاءٌ يَكْثُرُ دُخُولُهَا عَلَى مُتَعَلَّقِ مَادَّةِ التَّكْذِيبِ مَعَ أَنَّ التَّكْذِيبَ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ أَقِفْ فِي كَلَامِ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ عَلَى خَصَائِصِ لَحَاقِهَا بِهَذِهِ الْمَادَّةِ وَالصِّيغَةِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا لِتَأْكِيدِ اللُّصُوقِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّكْذِيبِ فَتَكُونُ كَالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: 6] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَكَ الْخَيْرُ أَنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَصْلَهَا لِلسَّبَبِيَّةِ وَأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يُقَالَ كَذَّبَ فَلَانًا بِخَبَرِهِ ثُمَّ كَثُرَ ذَلِكَ فَصَارَ كَذَّبَ بِهِ وَكَذَبَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُقَالَ كَذَّبَ فُلَانًا، وَكَذَبَ بِالْخَبَرِ الْفُلَانِيِّ، فَقَوْلُهُ:
بِآياتِنا يَتَنَازَعُهُ فِعْلَا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا. وَقَوْلُهُ: هُمْ فِيها خالِدُونَ بَيَانٌ لِمَضْمُونِ قَوْلِهِ:
أَصْحابُ النَّارِ فَإِنَّ الصَّاحِبَ هُنَا بِمَعْنَى الْمُلَازِمِ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ جُمْلَةُ فِيها خالِدُونَ لِتَنَزُّلِهَا مِنَ الْأُولَى مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ فَبَيْنَهُمَا كَمَال الِاتِّصَال.
[40]
(1) وزن آيَة يَقْتَضِي أَن يكون ألفها منقلبة عَن أصل أَو أَن يكون هُنَا لَك أصل مَحْذُوف وألفها زَائِدَة لِأَن حالتها الظَّاهِرَة لَا تساعد على وزن صرفي، ثمَّ قيل إِن أَصْلهَا مُشْتَقَّة من أَي الاستفهامية كَمَا اشتق الْكمّ من كم الخبرية واللو من كلمة لَو الَّتِي لِلتَّمَنِّي، وَقيل مُشْتَقَّة من أَوَى. وَالْحق أَن الْمُشْتَقّ مِنْهُ آيَة غير مَعْرُوف الأَصْل وَإِنَّمَا ذكرُوا هَذِه الِاحْتِمَالَات على وَجه التَّرَدُّد ثمَّ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَزنهَا فعلة أيية، أَو أويه. وَقَالَ الْفراء وَزنهَا فعلة بِسُكُون الْعين أييه أَو أوية وَكَانَ الْقيَاس حِينَئِذٍ إدغام الْيَاء فِي الْيَاء أَو قلب الْوَاو يَاء وإدغامها، لكِنهمْ لما رَأَوْا الْحَذف أخف عدلوا عَن الْإِدْغَام لِأَن إدغام حرفي عِلّة لَا يَخْلُو من ثقل وَلِئَلَّا يشْتَبه بأية مؤنث أَي نَحْو بأية سنة. وَقَالَ الْكسَائي أَصله آيية بِوَزْن فاعلة فقلبت الْيَاء الأولى همزَة لوقوعها إِثْر ألف فَاعل ثمَّ حذفت الْهمزَة. وفيهَا مَذَاهِب أخر.
(2)
الطاية: السَّطْح الَّذِي يُقَام عَلَيْهِ. والطاية من الْإِبِل: القطيع جمعه طايات وَهُوَ واوي. وَالثَّانيَِة حِجَارَة ترفع يَجْعَلهَا الرُّعَاة عَلامَة على مواقعهم فِي اللَّيْل إِذا رجعُوا.