الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَ الْمَنْزِلِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: صِبْغَةَ اللَّهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَالتَّقْدِيرُ فِي الْآيَةِ أَدَقُّ مِنْ تَقْدِيرِ بَيْتِ أَبِي تَمَّامٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ عَادَةِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 135] عَلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّعْمِيدِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً إِنْكَارِيٌّ وَمَعْنَاهُ لَا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ فِي شَأْنِ صِبْغَتِهِ، فَانْتَصَبَ (صِبْغَةَ) عَلَى التَّمْيِيزِ، تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ مُحَوَّلٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ ثَانٍ يُقَدَّرُ بَعْدَ (مَنْ) فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ وَالتَّقْدِيرُ وَمَنْ صِبْغَتُهُ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ أَيْ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : وَقُلْ مَا ذَكَرَ النُّحَاةُ فِي التَّمْيِيزِ الْمُحَوَّلِ عَنِ الْمُبْتَدَأِ.
وَقَدْ تَأْتِي بِهَذَا التَّحْوِيلِ فِي التَّمْيِيزِ إِيجَازٌ بَدِيعٌ إِذْ حُذِفَ كَلِمَتَانِ بِدُونِ لَبْسٍ فَإِنَّهُ لَمَّا أُسْنِدَتِ الْأَحْسَنِيَّةُ إِلَى مَنْ جَازَ دُخُولُ مَنِ التَّفْضِيلِيَّةُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِتَقْدِيرِ مُضَافٍ لِأَنَّ
ذَلِكَ التَّحْوِيلَ جَعَلَ مَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ صِبْغَةُ هُوَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِانْتِفَاءِ الْأَحْسَنِيَّةُ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُفَضَّلَ عَلَيْهِ هُوَ الْمُضَافُ الْمُقَدَّرُ أَيْ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ صِبْغَةِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ عَطْفٌ عَلَى آمَنَّا وَفِي تَقْدِيمِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: لَهُ عابِدُونَ إِفَادَةُ قَصْرٍ إِضَافِيٍّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ اصْطَبَغُوا بِالْمَعْمُودِيَّةِ لَكِنَّهُمْ عبدُوا الْمَسِيح.
[139]
[سُورَة الْبَقَرَة (2) : آيَة 139]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) .
اسْتِئْنَافٌ عَنْ قَوْلِهِ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ [الْبَقَرَة: 136] كَمَا تقدم هُنَا لَك، وتُحَاجُّونَنا خِطَابٌ لِأَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ جَوَابُ كَلَامِهُمُ السَّابِقُ وَلِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى [الْبَقَرَة: 140] .
وَالِاسْتِفْهَامُ لِلتَّعَجُّبِ وَالتَّوْبِيخِ، وَمَعْنَى الْمُحَاجَّةُ فِي اللَّهِ الْجِدَال فِي شؤونه بِدَلَالَةِ الِاقْتِضَاءِ إِذْ لَا مُحَاجَّةَ فِي الذَّاتِ بِمَا هِيَ ذَاتٌ وَالْمُرَادُ الشَّأْنُ الَّذِي حَمَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَلَى الْمُحَاجَّةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِ وَهُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ بَعْثَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنَّ اللَّهَ نَسَخَ شَرِيعَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَأَنَّهُ فَضَّلَهُ وَفَضَّلَ أُمَّتَهُ، وَمُحَاجَّتَهُمْ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَسَدِ وَاعْتِقَادِ اخْتِصَاصِهِمْ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَرَامَتِهِ.
فَلِذَلِكَ كَانَ لِقَوْلِهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ مُوقِعٌ فِي تَأْيِيدِ الْإِنْكَارِ أَيْ بَلَغَتْ بِكُمُ الْوَقَاحَةُ إِلَى أَنْ تُحَاجُّونَا فِي إِبْطَالِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ بِلَا دَلِيلٍ سِوَى زَعْمِكُمْ أَنَّ اللَّهَ اخْتَصَّكُمْ بِالْفَضِيلَةِ مَعَ أَنَّ اللَّهَ رَبُّنَا كَمَا هُوَ ربكُم فَلَمَّا ذَا لَا يَمُنُّ عَلَيْنَا بِمَا مَنَّ بِهِ عَلَيْكُمْ؟.
فَجُمْلَةُ وَهُوَ رَبُّنا حَالِيَّةٌ أَيْ كَيْفَ تُحَاجُّونَنَا فِي هَاتِهِ الْحَالَةِ الْمَعْرُوفَةِ الَّتِي لَا تَقْبَلُ الشَّكَّ، وَبِهَذِهِ الْجُمْلَةِ حَصَلَ بَيَانٌ لِمَوْضُوعِ الْمُحَاجَّةِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الْحَالِ ارْتِقَاءً فِي إِبْطَالِ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ بَيَانِ أَنَّ الْمَرْبُوبِيَّةَ تُؤَهِّلُ لِإِنْعَامِهِ كَمَا أَهَّلَتْهُمْ، ارْتقى فَجعل مرج رِضَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَعْمَالَهُمْ فَإِذَا كَانَ قَدْ أَكْرَمَكُمْ لِأَجْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَلَعَلَّهُ أَكْرَمَنَا لِأَجْلِ صَالِحَاتِ أَعْمَالِنَا فَتَعَالَوْا فَانْظُرُوا أَعْمَالَكُمْ وَانْظُرُوا أَعْمَالَنَا تَجِدُوا حَالَنَا أَقْرَبَ إِلَى الصَّلَاحِ مِنْكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي لَنا أَعْمالُنا لِلِاخْتِصَاصِ أَيْ لَنَا أَعْمَالُنَا لَا أَعْمَالُكُمْ فَلَا تُحَاجُّونَا فِي أَنَّكُمْ أَفْضَلُ مِنَّا، وَعَطَفَ وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ احْتِرَاسٌ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ مُشَارِكِينَ لِلْمُخَاطَبِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّ لَنَا أَعْمَالَنَا يُفِيدُ اخْتِصَاصَ الْمُتَكَلِّمِينَ بِمَا عَمِلُوا مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَعْمَالِ الْآخَرِينَ وَهُوَ نَظِيرُ عَطْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِيَ دِينِ عَلَى قَوْلِهِ: لَكُمْ دِينُكُمْ [الْكَافِرُونَ: 6] .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنَ الْكَلَامِ الْمُصَنَّفِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] .
وَجُمْلَةُ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ عَطْفٌ آخَرَ عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ وَهِيَ ارْتِقَاءٌ ثَالِثٌ لِإِظْهَارِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَحَقُّ بِإِفَاضَةِ الْخَيْرِ فَإِنَّهُمْ وَإِنِ اشْتَرَكُوا مَعَ الْآخَرِينَ فِي الْمَرْبُوبِيَّةِ وَفِي الصَّلَاحِيَةِ لِصُدُورِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فَالْمُسْلِمُونَ قَدْ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ وَمُخَالِفُوهُمْ قَدْ خَلَطُوا عِبَادَةَ اللَّهِ بِعِبَادَةِ غَيره، أَي فَلَمَّا ذَا لَا نَكُونُ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَى رِضَى اللَّهِ مِنْكُمْ إِلَيْهِ؟.
وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُفِيدَةُ الدَّوَامِ عَلَى الْإِخْلَاصِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [الْبَقَرَة: 136] .